إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

ابن زرارة قد جاء إلى محلّتنا مع هذا القرشي يفسد شبّاننا ، فأته وانهه عن ذلك.

فجاء اُسيد بن حضير ، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب إنّ هدا رجلٌ شريفٌ ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّ أمرنا فأصدق الله فيه.

فلمّا قرب اُسيد منهم قال : يا أبا أمامة يقول لك خالك : لا تأتنا في نادينا ، ولا تفسد شبّاننا ، وأحذر الأوس على نفسك.

فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمراً ، فإن أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحّينا عنك ما تكرهه.

فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن ، فقال : كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟

قال : نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلّي ركعتين.

فرمى بنفسه ممع ثيابه في البئر ، ثمّ خرج وعصر ثوبه ، ثمّ قال : أعرض عليّ.

فعرض عليه شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فقالها ، ثمّ صلّى ركعتين ، ثمّ قال لأسعد : يا أبا أمامة ، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.

فرجع اُسيد إلى سعد بن معاذ ، فلمّا نظر إليه سعد قال : اُقسم أنّ اُسيد قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا ، وأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب(حمَ تنزيلٌ منَ الرّحمن الرّحيم) فلمّا سمعها ، قال مصعب : والله لقد رأينا الاِسلام في وجهه قبل أن يتكلّم ، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلّى ركعتين ثمّ قام وأخذ بيد مصعب وحوّله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابّن أحداً.

ثمّ جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح : يا بني عمرو بن عوف لا

١٤١

يبقيّن رجلٌ ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبيّ إلاّ خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب.

فلمّا اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم.

قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا ولا نردّ لك أمراً فمرنا بما شئت.

فقال : كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليّ حرام حتّى تشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله ، فالحمد لله الذي أكرمنا بذلك وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به.

فما بقي دارٌ من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلاّ وفيها مسلمٌ أو مسلمة ، وحوّل مصعب بن عمير إليه وقال له : أظهر أمرك وادع الناس علانية.

وشاع الاِسلام بالمدينة وكثر ، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم ، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.

وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام ، وكتب إليه مصعب بذلك ، وكان كلّ من دخل في الاِسلام من قريش ضربة قومه وعذّبوه ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة ، فكانوا يتسلّلون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم.

قال : فلمّا قدمت الأوس والخزرج مكّة جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهم : «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنّة»؟

قالوا : نعم يا رسول الله ، فخذ لنفسك وربّك ما شئت.

فقال : «موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق».

فلمّا حجوا رجعوا إلى منى ، وكان فيه ممّن قد أسلم بشرٌ كثير ، وكان

١٤٢

أكثرهم مشركين على دينهم وعبدالله بن اُبّي فيهم ، فقال لهم رسول الله صلّى الله وآله وسلّم في اليوم الثاني من أيّام التشريق : «فاحضروا دار عبد المطّلب على العقبة ولا تنبّهوا نائماً ، وليتسلّل واحد فواحد».

وكان رسول الله نازلاً في دار عبد المطّلب ، وحمزة وعليّ والعبّاس معه ، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج ، فدخلوا الدار ، فلمّا اجتمعوا قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنّة»؟

فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبدالله بن حرام : نعم يارسول الله ، فاشترط لنفسك ولربّك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم ، وتمنعون أهلي ممّا تمنعون أهليكم وأولادكم».

قالوا : فما لنا على ذلك؟

قال : «الجنّة ، تملكون بها العرب في الدنيا ، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً».

فقالوا : قد رضينا.

فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال : يا معشر الأوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنّما تقدمون على حرب الأبيض والأحمر ، وعلى حرب ملوك الدنيا ، فإن علمتم أنّه إذا اصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغرّوه ، فإنّ رسول الله وإن كان قومه خالفوه فهو في عزّ ومنعة.

فقال له عبدالله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيّهان : مالك وللكلام يا رسول الله؟ بل دمنا بدمك ، وأنفسنا بنفسك ، فاشترط لربّك ولنفسك ما شئت.

١٤٣

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً».

فقالوا : اختر من شئت. فأشار جبرئيل عليه‌السلام إليهم.

فقال : «هذا نقيبٌ ، وهذا نقيبٌ» حتّى اختار تسعة من الخزرج ، وهم : أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، وعبدالله بن حرام أبو جابر بن عبدالله ، ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبدالله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس ، وهم : أبو الهيثم بن التيّهان ـ وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف ـ ، واُسيد بن حضير ، وسعد بن خيثمة.

فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاح بهم إبليس : يا معشر قريش والعرب ، هذا محمّد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم. فأسمع أهل منى ، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح ، وسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النداء فقال للأنصار : «تفرّقوا».

فقالوا : يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.

فقال رسول الله صلّى الله وآله وسلّم : «لم اُومر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم».

فقالوا : يا رسول الله فتخرج معنا.

قال : «أنتظر أمر الله».

فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح ، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلمّا نظروا إلى حمزة قالوا : ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟

١٤٤

قال : ما اجتمعنا ، وما هاهنا أحد ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلاّ ضربته بسيفي.

فرجوا وغدوا إلى عبدالله بن اُبي وقالوا له : قد بلغنا أنّ قومك بايعوا محمّداً على حربنا. فحلف لهم عبدالله أنّهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، وأنّهم لم يطلعوه على أمرهم ، فصدّقوه. وتفرّقت الأنصار ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة (١).

__________________

(١) أنظر : تفسير القمي ١ : ٢٧٢ ، وقصص الأنبياء للراوندي : ٣٣٢ | ٤١٢ ، والسيرة النبوية لابنهشام ٢ : ٧٧ ـ ٨٣ ، والطبقات الكبرى ١ : ٢٢١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٤٣٠ ـ ٤٤٦ ، والوفا بأحوال المصطفى ١ : ٢٢٤ ، والكامل في التأريخ ٢ : ٩٦ ـ ٩٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ٨ | ٥.

١٤٥

(الفصل الثامن)

في ذكر مكر المشركين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم

واجتماعهم في دار الندوة لذلك ، وذكر هجرته

صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وما كان من استقبال

الانصار إيّاه ، ونزوله ما ظهر من آثار النبوّة وآثارهم ،

ومختصر من أخباره إلى أن امر بالقتال

ثمّ اجتمعت قريش في دار الندوة وكانوا أربعين رجلاْ من أشرافهم ، وكان لا يدخلها إلاّ من أتى له أربعون سنة سوى عتبة بن ربيعة فقد كان سنّهدون الأربعين ، فجاء الملعون أبليس في صورة شيخ فقال له البوّاب : من أنت؟

قال : أنا شيخ من نجد.

فاستأذن فاذنوا له ، وقال : بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل ، فجئتكم لاشير عليكم ، فلا يعدمكم منّي رأي صائب.

فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إنّه لم يكن أحدُ من العرب أعزّ منّا ونحن في حرم الله وأمنه تفد إلينا العرب في السنة مرّتين ولا يطمع فينا طامع ، حتّى نشأ فينا محمّد ، فكنّا نسمّيه الأمين لصلاحه وأمانته ، فزعم أنّه رسول الله ، وسبّ آلهتنا ، وسفّه أحلامنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا ، وقد رأيت فيه رأياً ، وهو أن ندسّ إليه رجلاً يقتله ، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات.

فقال إبليس : هذا رأي خبيث ، فإنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على الأرض أبداً ، وتقع بينكم الحروب في حرمكم.

فقال آخر : الرأي أن نأخذه فنحبسه في بيت ونثبته فيه ونلقي إليه قوته

١٤٦

حتّى يموت كما مات زهير والنابغة.

فقال إبليس : إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فإذا جاء موسم العرب اجتمعوا عليكم وأخرجوه فيخدعهم بسحره.

وقال آخر : الرأي أن نخرجه من بلادنا ونطرده فنفرغ نحن لآلهتنا.

فقال إبليس : هذا أخبث من الرأيين المتقدّمين ، لأنّكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً ، وافصح الناس لساناً ، وأسحرهم ، فتخرجوه إلى بوادي العرب فيخدعهم بسحره ولسانه ، فلا يفجأكم إلاّ وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً.

فبقوا حيارى. ثم قالوا للملعون إبليس : فما الرأي عندك فيه؟

قال : ما فيه إلاّ رأي واحد ، أن يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش رجلٌ شريفُ ، ويكون معكم من بني هاشم واحد ، فيأخذون حديدة أو سيفاً ويدخلون عليه فيضربوه كلّهم ضربة واحدة ، فيتفرقّ دمه في قريش كلّها ، فلايستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه ، فما بقي لهم إلاّ أن تعطوهم الدية ، فأعطوهم ثلاث ديات.

قالوا : نعم وعشر ديات.

وقالوا بأجمعهم : الرأي رأي الشيخ النجدي.

فاختاروا خمسة عشر رجلاً فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله فيقتلونه ، فأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله : ( واذ يمكُرُ بك الّذين كفرُوا ليُثبتُوك أو يقتلوك او يُخرجُوك)الآية (١).

ثمّ تفرّقوا على هذا وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمرهم ، فقال أبو لهب : بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

فباتوا حول حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر رسول الله

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٣٠.

١٤٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفرش له ، وقال لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «يا عليّ افدني بنفسك».

قال : «نعم يا رسول الله».

قال : «نم على فراشي والتحف ببردي».

فنام عليه‌السلام على فراش رسول الله والتحف ببردته ، وجاء جبرئيل عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : «اُخرج» والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعليّ عليه‌السلام نائمٌ عليه ، فيتوهّمون أنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم وهو يقرأ «يس» إلى قوله : (فاغشيناهُم فهُم لا يُبصرون) (١) وأخذ تراباً بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى.

فقال له جبرئيل عليه‌السلام : «يا محمّد ، خذ ناحية ثور» وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور ، فمرّ رسول الله وتلقّاه أبو بكر في الطريق ، فأخذ بيده ومرّ به ، فلمّا انتهى إلى ثور دخل الغار.

فلمّا أصبحت قريش واضاء الصبح وثبوا في الحجرة وقصدوا الفراش ، فوثب عليّ عليه‌السلام إليهم وقام في وجوههم فقال لهم : «ما لكم؟».

قالوا : أين ابن عمّك محمّد؟

قال عليّ عليه‌السلام : «جعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم له : اُخرج عنّا ، فقد خرج عنكم ، فما تريدون؟».

فأقبلوا عليه يضربونه ، فمنعهم أبو لهب ، وقالوا : أنت كنت تخدعنا منذ الليلة.

__________________

(١) يس٣٦ : ٩.

١٤٨

فلمّا أصبحوا تفرّقوا في الجبال ، وكان فيهم رجلٌ من خزاعة يقال له : أبو كرز يقفو الآثار ، فقالوا له : يا أبا كرز اليوم اليوم. فما زال يقفو أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى وقف بهم على باب الحجرة ، فقال : هذه قدم محمد ، هي والله اُخت القدم التي في المقام ، وهذه قدم أبي قحافة أو ابنه ، وقال : ههنا عبر ابن أبي قحافة.

فلم يزل بهم حتّى وقفهم إلى باب الغار وقال لهم : ما جازوا هذا المكان ، إما أن يكونوا صعدوا السماء أو دخلوا الأرض.

وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار ـ وقد ذكرناه فيما قبل (١) ـ قال : وجاء فارسٌ من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : «اطلبوه في هذه الشعاب ، فليس ههنا». فأقبلوا يدورون في الشعاب.

وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ثلاثة أيام ، ثمّ أذن الله له في الهجرة وقال : «اُخرج عن مكّة يا محمد فليس لك بها ناصرٌ بعد أبي طالب» فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغار ، وأقبل راع لبعض قريش يقال له : ابن اُريقط فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : «يا ابن اُريقط أءتمنك على دمي؟».

قال : إذاً والله أحرسك وأحفظك ولا أدلّ عليك ، فأين تريد يا محمد؟

قال : «يثرب».

قال : والله لأسكلنّ بك مسلكاً لا يهتدي فيه أحدٌ.

قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ائت عليّاً وبشّره بأنّ الله قد أذن لي في الهجرة فيهيّئ لي زاداً وراحلة».

__________________

(١) تقدم في صفحة : ٧٩.

١٤٩

وقال أبو بكر : ائت أسماء ابنتي وقل لها : أن تهيئ لي زاداً وراحلتين ، وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا ـ وكان من موالي أبي بكر وقد كان أسلم ـ وقل له : ائتنا بالزاد والراحلتين.

فجاء ابن اُريقط إلى علي عليه‌السلام فأخبره بذلك ، فبعث عليّ بن أبي طالب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزاد وراحلة ، وبعث ابن فُهيرة بزاد وراحلتين.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغار ، وأخذ به ابن اُريقط علي طريق نخلة بين الجبال ، فلم يرجعوا إلى الطريق إلاّ بقُديد (١) فنزلوا على اُمّ معبد هناك ، وقد ذكرنا حديث شاة أمّ معبد والمعجزة التي ظهرت فيها فيما قبل (٢) ، وحديث سراقة بن مالك بن جعشم المدلجيّ ورسوخ قوائم فرسه في الأرض (٣) ، فلا وجه لإعادته.

فرجع عنه سراقة ، فلمّا كان من الغد وافته قريش ، فقالوا : يا سراقة ، هل لك علم بمحمّد؟

فقال : قد بلغني أنّه خرج عنكم ، وقد نفضت هذه الناحية لكم ولم أر أحداً ولا أثراً ، فارجعوا فقد كفيتكم ما ههنا.

وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، فكانوا يتوقّعون قدومه ، وكان يخرج الرجال والنساء والصبيان إذا

__________________

(١) قديد : اسم موضع قرب مكة.

قال ابن الكلبي : لما رجع تُبّع من المدينة بعد حرب لأهلها نزل قديداً ، فهبت ريح قد تخيم أصحابه ، فسمي قديداً. «معجم البلدان ٤ : ٣١٣».

(٢) تقدم في صفحة : ٧٦.

(٣) تقدم في صفحة ٧٧ ، فراجع.

١٥٠

أصبحوا إلى طريقه ، فإذا اشتدّ الحرّ رجعوا (١).

وروي عن ابن شهاب الزهري قال : كان بين ليلة العقبة وبين مهاجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أشهر وكانت بيعة الأنصار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة في ذي الحجة ، وقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه في يوم الاثنين.

وكانت الأنصار خرجوا يتوكّفون (٢) أخباره ، فلمّا آيسوا رجعوا إلى منازلهم ، فلمّا رجعوا أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا وافى ذا الحُليفة (٣) سأل عن طريق بني عمرو بن عوف ، فدلّوه فرفعه الآل (٤) ، فنظر رجل من اليهود وهو على اُطم (٥) له إلى ركبان ثلاثة يمرّون على طريق بن يعمرو بن عوف ، فصاح : يا معشر المسلمة هذا صاحبكم قد وافى. فوقعت الصيحة بالمدينة فخرج الرجال والنساء والصبيان مستبشرين لقدومه يتعاودون ، فوافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقصد مسجد قبا ونزل واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف ، وسرّوا به واستبشروا واجتمعوا حوله ، ونزل على كلثوم بن الهدم ، شيخ من بني عمرو ، صالح مكفوف البصر.

____________

(١) انظر : تفسير القمي ١ : ٢٧٣ ، قصص الأنبياء للراوندي : ٣٣٥/١١٤ ــ ١١٥ ، السيرة النبوية لابن هشام ٢ : ١٢٤ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٢٧ ، دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٤٦٧ الوفا بأحوال المصطفى ١ : ٢٢٩ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٠١ ، ونقله المجلسي فيبحار الأنوار ١٩ : ٤٨.

(٢) التوكف : التطلع والتوقع. «انظر : العين ٥ : ٤١٣».

(٣) ذو الحليفة : قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، ومنها ميقات أهل المدينة. «معجم البلدان ٢ : ٢٩٥».

(٤) الآل : السراب. «العين ٨ : ٣٥٩».

(٥) الاُطم (بالضم) : بناء مرتفع ، وجمعه آطام. «النهاية ٥٤ : ١»

١٥١

واجتمعت إليه بطون الأوس ، وكان بين الأوس والخزرج عداوة ، فلميجسروا أن يأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان بينهم من الحروب ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتصفّح الوجوه فلا يرى أحداً من الخزرج ، وقد كان قدم على بني عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسٌ من المهاجرين ، ونزلوا فيهم.

وروي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدم المدينة جاء النساء والصبيان يقلن :

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

وكان سلمان الفرسيّ عبداً لبعض اليهود ، وقد كان خرج من بلاده من فارس يطلب الدين الحنيف الذي كان أهل الكتاب يخبرونه به ، فوقع إلى راهب من رهبان النصارى بالشام فسأله عن ذلك وصحبه فقال : اُطلبه بمكّة فثم مخرجه ، واطلبه بيثرب فثمّ مهاجره.

فقصد يثرب فأخذه بعض الأعراب فسبوه واشتراه رجلٌ من اليهود ، فكان يعمل في نخله ، وكان في ذلك اليوم على النخلة يصرمها (١) ، فدخل على صاحبه رجلٌ من اليهود ، فقال : يا ابا فلان أشعرت أنّ هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيّهم؟

فقال سلمان : جعلت فداك ، ما الذي تقول؟

فقال له صاحبه : مالك وللسؤال عن هذا ، أقبل على عملك.

قال : فنزل وأخذ طبقاً وصيّر عليه من ذلك الرطب فحمله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________

(١) الصرام : جداد النخل ، أي قطع الثمرة واجتناؤها من النخلة. «انظر : لسان العرب ١٢ : ٣٣٦».

١٥٢

«ما هذا».

قال : صدقة تمورنا ، بلغنا أنّكم قومٌ غرباء قدمتم هذه البلاد ، فأحببت أن تأكلوا من صدقاتنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سمّوا وكلوا».

فقال سلمان في نفسه وعقد بإصبعه : هذه واحدة ــ يقولها بالفارسية ــ ثمّ أتاه بطبق آخر ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما هذا؟».

فقال له سلمان : رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هديّة أهديتها أليك.

فقال عليه وآله السلام : «سمّوا وكلوا» وأكل عليه وآله السلام. فعقد سلمان بيده اثنين ، وقال له : هذه اثنتان ــ يقولها بالفارسية ــ.

ثمّ دار خلفه فألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتفه الإزار فنظر سلمان إلى خاتم النبوّة والشامة فأقبل يقبّلها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أنت؟».

قال : أنا رجلٌ من أهل فارس ، قد خرجت من بلادي منذ كذا وكذا.وحدّثه بحديثه وله حديث فيه طول. فأسلم ، وبشّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : « أبشر واصبر ، فإنّ الله سيجعل لك فرجاً من هذا اليهوديّ».

فلمّا أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار ، وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم ، فلمّا صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المغرب والعشاء الآخرة جاءه أسعد بن زرارة مقنّعاً فسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرح بقدومه ، ثمّ قال : يا رسول الله ما ظننتأن أسمع بك في مكان فأقعد عنك ، إلاّ أنّ بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم ، فكرهت أن آتيهم ، فلمّا أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك.

١٥٣

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأوس : «من يجيره منكم؟».

فقالوا : يا رسول الله ، جوارنا في جوارك فأجره.

قال : «لا ، بل يجيره بعضكم».

فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة : نحن نجيره يا رسول الله.

فأجاروه ، وكان يختلف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيتحدّث عنده ويصلّي خلفه ، فبقي رسول الله خمسة عشر يوماً ، فجاءه أبو بكر فقال : يا رسول الله تدخل المدينة؟ فإنّ القوم متشوّقون إلى نزولك عليهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا اريم من هذا المكان حتّى يوافي أخي عليّ».

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بعث إليه : أن أحمل العيال وأقدم ، فقال أبو بكر : ما أحسب عليّاً يوافي ، قال : «بلى ما أسرعه إنشاء الله».

فبقي خمسة عشر يوماً ، فوافى عليّ عليه‌السلام بعياله ، فلمّا وافى كان سعد بن الربيع وعبدالله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج ، وكان كلّ رجل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيّبه ، ولكلّ بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرمونه ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له ، فلمّا قدم الاثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من أطاعهم ، فلمّا قدم السبعون كثر الإسلام وفشا ، وجعلوا يكسرون الأصنام.

قال : وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد قدوم عليّ يوماً أو يومين ثمّ ركب راحلته ، فاجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف ، فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا فإنّا أهل الجدّ والجلد والحلفة والمنعة.

فقال عليه وآله السلام : «خلوا عنها فإنّها مأمورة».

١٥٤

وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلبسوا السّلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته ، لا يمرّ بحيّ من أحياء للأنصار إلاّ وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وتطلّبوا إليه أن ينزل عليهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة» حتّى مرّ ببني سالم.

وكان خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبا يوم الجمعة ، فوافى بني سالم عند زوال الشمس فتعرضت له بنو سالم فقالوا : يا رسول الله هلم إلى الجدّ والجلد والحلفة والمنعة.

فبركت ناقته عند مسجدهم ، وقد كانوا بنوا مسجداً قبل قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزل عليه وآله السلام في مسجدهم وصلّى بهم الظهر وخطبهم ، وكان أوّل مسجد صلّى فيه الجمعة ، وصلّى إلى بيت المقدس ، وكان الذين صلّوا معه في ذلك الوقت مائة رجل.

ثمّ ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناقته وأرخى زمامها ، فانتهى إلى عبدالله بن اُبيّ ، فوقف عليه وهو يقدّر أنّه يعرض عليه النزول عنده ، فقال له عبدالله بن اُبيّ ــ بعد أن ثارت الغبرة وأخذ كمّه ووضعه على أنفه ــ : يا هذا اذهب إلى الذين غرّوك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولا تغشنا في ديارنا. فسلّط الله على دور بني الحبلى الذرّ (١) فخرق دورهم فصاروا نزالاً على غيرهم ، وكان جدّ عبدالله بن اُبّي يقال له : ابن الحبلى.

فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء ، فإنّا كنّا اجتمعنا على أن نملّكه علينا وهو يرى الآن أنّك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه ، فانزل عليّ يا رسول الله ، فإنّه ليس في الخزرج ولافي الأوس أكثر فم بئر منّي ، ونحن أهل الجلد والعزّ ، فلا تجزنا يا رسول الله.

____________

(١) الذر : جمع ذرة ، وهي أصغر النمل. «الصحاح ٢ : ٦٦٣».

١٥٥

فأرخى زمام ناقته ، ومرّت تخبّ (١) به حتّى انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم ، ولم يكن مسجداً إنّما كان مربداً (٢) ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل ، وكانا في حجر أسعد بن زرارة ، فبركت الناقة على باب أبي أيّوب خالد بن زيد ، فنزل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا نزل اجتمع عليه النّاس وسألوه أن ينزل عليهم ، فوثبت اُمّ أبي أيّوب إلى الرحل فحلّته وأدخلته منزلها ، فلمّا أكثروا عليه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أين الرّحل؟».

فقالوا : اُمّ أبي أيّوب قد أدخلته بيتها.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المرء مع رحله».

وأخذ أسعد بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها إلى منزله ، وكان أبو أيّوب لهم نزل أسفل وفوق المنزل غرفة ، فكره أن يعلو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله بأبي أنت واُمّي العلوّ أحبّ إليك أم السفل؟ فإنّي أكره أن أعلو فوقك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « السفل أرفق بنا لمن يأتينا».

قال أبو أيّوب : فكنّا في العلوّ أنا واُميّ ، فكنت إذا استقيت الدلو أخاف أن تقع منه قطرة على رسول الله ، وكنت أصعد واُمّي إلى العلوّ خفيّاً من حيثلا يعلم ولا يحسّ بنا ، ولا نتكلّم إلاّ خفيّاً ، وكان إذا نام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نتحرّك ، وربّما طبخنا في غرفتنا فنجيّف الباب على غرفتنا مخافة أن يصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخان ، ولقد سقط جرّة لنا

____________

(١) الخبب : ضرب من العدو ، وقيل : هو السرعة ، أي جاءت به تعدو مسرعة. انظر : «لسان العرب ١ : ٣٤١».

(٢) المربد : الموضع الذي تحبس فيه الابل والغنم ، وبه سمي مربد المدينة والبصرة. «النهاية ٢ : ١٨٢».

١٥٦

واُهريق الماء فقامت اُمّ أبي أيّوب إلى قطيفة ــ لم يكن لها والله غيرها ــ فألقتها على ذلك الماء تستنشف به مخافة أن يسيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك شيء ، وكان يحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين.

وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يبعث إليه في كلّ يوم غداء وعشاء فيقصعة ثريد عليها عراق (١) ، وكان يأكل معه من حوله حتّى يشبعون ، ثمّ تردّ القصعة كما هي ، وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشّى معه من حضره وتردّ القصعة كما هي ، فكانوا يتناوبون في بعثة الغداء والعشاء إليه : أسعد بن زرارة ، وسعد بن خيثمة ، والمنذر بن عمرو ، وسعد بن الرّبيع ، واُسيد بن حضير.

قال : فطبخ له اُسيد يوماً قدراً ، فلم يجد من يحملها فحملها بنفسه ، وكان رجلاً شريفاً من النقباء ، فوافاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رجع من الصلاة ، فقال : «حملتها بنفسك؟».

قال : نعم يا رسول الله ، لم أجد أحداً يحملها.

فقال : «بارك الله عليكم من أهل بيت» (٢).

وفي كتاب دلائل النبوة : عن أنس بن مالك قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، فلمّا دخلها جاءت الأنصار برجالها ونسائها فقالوا : إلينا يا رسول الله.

__________________

(١) العرق (بالسكون) : العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم ، وجمعه عُراق «النهاية ٣ : ٢٢٠».

(٢) انظر : الخرائج والجرائح ١ : ١٥٠ /٢٤٠ ، وقصص الأنبياء للراوندي : ٣٣٧ ، وسيرة ابن هشام ٢ : ١٣٧ ، والطبقات الكبرى ١ : ٢٣٣ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٤٩٨ ، والوفا بأحوال المصطفى ١ : ٢٤٨ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٠٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ١٠٤ / ١.

١٥٧

فقال : «دعوا الناقة فإنّها مأمورة».

فبركت على باب أبي أيّوب ، فخرجت جوار من بني النجّار يضربن بالدفوف ويقلن :

نجن جوار من بني النجّار

يا حبّذا محمّد من جار

فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «أتحبّوني؟».

فقالوا : إي والله يا رسول الله.

قال : «أنا والله اُحبّكم» ثلاث مرّات (١).

قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم : وجاءته اليهود ــ قريظة والنضير والقينقاع ــ فقالوا : يا محمد إلى ما تدعو؟.

قال : «إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله ، واني رسول الله ، واني الذي تجدوني مكتوباً في التوراة ، والذي أخبركم به علماؤكم أن مخرجي بمكّة ومهاجري في هذه الحرّة ، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام ، فقال : تركت الخمر والخمير ، وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه بمكّة ومهاجره ههنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالكسرة ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، ويضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لا قى ، وهو لضحوك القتّال ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر».

فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ، ولا نتعرض لأحد من أصحابك ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا حتى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك.

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٥٠٨ ، وكذا في : البداية والنهاية ٣ : ١٩٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ١٠٩.

١٥٨

فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك ، وكتب بينهم كتاباً : أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار والله بذلك عليهم شهيد ، فأن فعلوا فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم ، وكتب لكلّ قبيلة منهم كتاباً على حدة.

وكان الذي تولىّ امر بني النّضير حييّ بن أخطب ، فلمّا رجع إلى منزله قال له اخويه جديّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب : ما عندك؟

قال : هو الذي نجده في التوراة ، والذي بشّرنا به علماؤنا ، ولا ازال له عدوّاً ، لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق وصارت في ولد إسماعيل ، ولانكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً.

وكان الذي ولي أمر قريظة كعب بن أسد ، والذي تولّى أمر بني قينقاع مخيريق ، وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنّه النبيّ المبعوث ، فهلم نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين. فلم تجبه قينقاع إلى ذلك (٢).

قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي في المربد بأصحابه ، فقال لأسعد بن زرارة : «اشتر هذا المربد من أصحابنا».

فساوم اليتيمين عليه فقالا : هو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال رسول الله : «لا ، إلاّ بثمن».

__________________

(١) الكراع : اسم لجماعة الخيل خاصة. «مجمع البحرين ٤ : ٣٨٥».(٢) انظر : تفسير القمي ٢ : ١٨٠ ، وقصص الأنبياء للراوندي : ٣٣٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ١١٠.

١٥٩

فاشتراه بعشرة دنانير ، وكان فيه ماء مستنقع ، فأمر به رسول الله فسيل ، وأمر باللبن فضرب ، فبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحفره في الأرض ، ثمّ أمر بالحجارة فنقلت من الحرّة ، وكان المسلمون ينقلونها ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمل حجراً على بطنه ، فاستقبله اُسيد ابن حضير فقال : يا رسول الله أعطني أحمله عنك.

قال : «لا ، اذهب فاحمل غيره».

فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتّى بلغ وجه الأرض ، ثم بناه أوّلاً بالسعيدة لبنةً لبنةً ، ثمّ بناه بالسميط (١) ، وهو لبنة ونصف ، ثمّ بناه بالاُنثى والذكر لبنتين مخالفتين ، ورفع حائطه قامة ، وكان مؤخّره [ذراع] في مائة ، ثمّ اشتدّ عليهم الحرّ فقالوا : يا رسول الله لو أظللت عليه ظلاً ، فرفع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب ، ثمّ ظلّله وألقى عليه سعف النخل ، فعاشوا فيه ، فقالوا : يا رسول الله لو سقفت سقفاً.

قال : «لا ، عريش كعريش موسى ، الأمر أعجل من ذلك».

وابتنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وخطّ لأصحابه خططاً ، فبنوا فيها منازلهم ، وكلّ شرع منه باباً إلى المسجد ، وخطّ لحمزة وشرع بابه إلى المسجد ، وخطّ لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام مثل ما خطّ لهم ، وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد ، فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : «يا محمد إنّ الله يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد يسدّه ، ولا يكون لأحد باب إلىالمسجد إلاّ لك ولعليّ ، ويحلّ لعليّ فيه ما يحلّ لك».

__________________

(١) السميط : الآجر القائم بعضه فوق بعض. «لسان العرب ٧ : ٣٢٤».

١٦٠