إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

فدفعنا إلى الصفوف ، فوجدنا الرايات والأثقال كما هي ، قال : فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال : «يا أخا الأزد ، أتبيّن لك الأمر؟» فقلت : أجليا أمير المؤمنين ، قال : « فشأنّك بعدوّك » فقتلت رجلاً ، ثمّ قتلت آخراَ ، ثمّ اختلفت أنا ورجل آخر أضربه ويضربني فوقعنا جميعاً ، فاحتملني أصحابي ، فأفقت حين أفقت وقد فرغ القوم (١).

فكان كما قال عليه‌السلام.

وأمّا إخباره عليه‌السلام بما يكون بعد وفاته من الحوادث والملاحم والوقائع ، وما ينزل بشيعته من الفجائع ، وما يحدث من الفتن في دولة بني اُميّة والدولة العبّاسيّة وغيرها فأكثر من أن تحصى :

فمن ذلك : قوله عليه‌السلام لأهل الكوفة : «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحب البلعوم ، مندحق (٢) البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّؤوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإسلام والهجرة»(٣).

فكان كما قال عليه‌السلام.

ومن ذلك : أنّه لمّا اخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل فتكلّم فيه الحسن والحسين عليهما‌السلام فخلّى سبيله فقالا له : «يبايعك يا أمير المؤمنين» فقال : «ألم يبايعني بعد قتل عثمان ، لا حاجة لي في بيعته ،

____________

(١) ارشاد المفيد ١ : ٣١٧ ، كشف الغمة ١ : ٢٧٧ ، ونحوه في الكافي ١ : ٢ |٢٨٠ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢١٧ ، وكنز العمال ١١ : ٢٨٩.

(٢) قال ابن الأثير في نهايته (٢ : ١٠٥ ) : وفي حديث علي [ عليه‌السلام ] «سيظهر بعدي عليكم رجل مندحق البطن» أي واسعها ، كأن جوانبها قد بعد بعضها من بعض فاتسعت.

(٣)نهج البلاغة ١ : ١٠١ | خطبة ٥٦.

٣٤١

أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمّة منه ومن ولده موتاً أحمر »(١).

فكان كما قال عليه‌السلام.

ومن ذلك : قوله عليه‌السلام : «أما إنّه سيليكم من بعدي ولاة لايرضون منكم بهذا ، يعذبوكم بالسياط والحديد ، إنّه من عذّب الناس في الدنيا عذّبه الله في الاخرة ، وآية ذلك أنّه يأتيكم صاحب اليمن حتى يحلبين أظهركم ، فيأخذ العمّال ، وعمّال العمّال رجل يقال له : يوسف بن عمر»(٢).

فكان كما قال عليه‌السلام.

ومن ذلك : قوله لجويرية بن مسهر : «ليقتلنّك العتلّ الزنيم ، وليقطعنّ يدك ورجلك ، ثمّ ليصلبنّك تحت جذع كافر».

فلمّا ولي زياد في أيّام معاوية قطع يده ورجله ، وصلبه على جذع ابن معكبر (٣).

ومن ذلك : حديث ميثم التمّار رحمه‌الله ، فقد روى نقلة الاثار : أنّه كان عند امرأة من بني أسد ، فاشتراه أمير المؤمنين عليه‌السلام منها ، فأعتقه وقال له : « ما اسمك؟ » فقال : سالم ، قال : « فأخبرني رسول الله أنّ اسمك الذى سمّاك به أبوك في العجم ميثم » قال : صدق الله ورسوله وصدقت يا أمّير المؤمنين ، قال : « فارجع إلى اسمك الذي سمّاك به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودع سالماً » فرجع إلى ميثم واكتن بأبي سالم.

____________

(١) نهج البلاغة ١ : ١٢٠ | ٧٠ ، وفيه : يوماً ، بدل موتاً.

(٢) ارشاد المفيد ١ : ٣٢٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٣٠٦.

(٣) ارشاد المفيد ١ : ٣٢٣ ، الخرائج والجرائح ١ : ٢٠٢ | ٤٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢٩١.

٣٤٢

فقال له أميرالمؤمنين ذات يوم : «إنّك تؤخذ بعدي فتصلب وتطعن بحربة ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً فتخضّب لحيتك ، فانتظر ذلك الخضاب ، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث ، أنت عاشر عشرة ، أنت اقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة».

وأراه النخلة التي يصلب على جذعها ، وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول : بوركت من نخلة لك خلقت ولي غذّيت ، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت ، وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له : إنّي مجاورك فأحسن جواري. وهو لا يعلم ما يريد.

وحجّ في السنة التي قتل فيها ، فدخل على اُمّ سلمة فقالت : من أنت؟ قال : أنا ميثم. قالت : والله لربّما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوصي بك عليّاً في جوف الليل ، فسألها عن الحسين عليه‌السلام فقالت : هو في حائط له ، قال : فأخبريه إني قد أحببت السلام عليه ، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله تعالى. فدعت بطيب وطيّبت لحيته وقالت له : أما إنّها تخضب بدم.

فقدم الكوفة فاخذه عبيداللهّ بن زياد لعنه الله وقال له : ما أخبر كصاحبك أنّي فاعل بك؟ قال : أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة أنا أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهرة ، قال : لنخالفنّه ، قال : كيف تخالفه و فوالله ما أخبرني إلاّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عليه‌السلام عن اللهّ عزّ تعالى ، فكيف تخالف هؤلاء؟! ولقد عرفت الموضع الذي اُصلب عليه أين هو من الكوفة ، وأنا أوّل خلق الله ألجم في الإسلام.

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيد ، فقال ميثم للمختار : إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا.

فلمّا دعا عبيدالله بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد يأمره بتخلية

٣٤٣

سبيله فخلاّه ، وأمر بميثم أن يصلب فاُخرج فقال له رجل لقيه : ما كان أغناك عن هذا يا ميثم ، فتبسّم وقال وهو يومئ إلى النخلة : لها خلقت ولي غذَيت ، فلمّا رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث قال عمرو : قد كان والله يقول لي : إنّي مجاورك ، فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره ، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم فقيل لابن زياد لعنه اللهّ : قد فضحكم هذا العبد ، فقال : ألجموه.

فكان أوّل خلق الله اُلجم في الإسلام.

وكان مقتل ميثم قبل قدوم الحسين بن علي عليهما‌السلام على العراق بعشرة أيّام ، فلمّا كان اليوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة ، فكبّر ثمّان بعث في آخر النهار أنفه وفمه دماً(١).

ومن ذلك : ما رواه مجاهد ، عن الشعبي ، عن زياد بن النضر الحارثي قال : كنت عند زياد إذ اُتي برشيد الهجري فقال له : ما قال لك صاحبك ـ يعني عليّاً عليه‌السلام ـ إنّا فاعلون بك؟ قال : تقطعون يدي ورجلي وتصلبوني ، فقال زياد : أما والله لاُكذّبنّ حديثه ، خلّوا سبيله.

فلمّا أراد أن يخرج قال زياد : والله ما نجد له شيئاً شرّاً ممّا قال له صاحبه ، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه.

فقال رشيد : هيهات ، قد بقي لكم عندي شيء أخبرني أمير المؤمنين عليه‌السلام به ، قال زياد : اقطعوا لسانه.

فقال رشيد : الآن والله جاء تصديق خبر أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

____________

(١) ارشاد المفيد١ : ٣٢٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢٩١ ، الاصابة ٣ : ٥٠٤ ، ومختصراً في خصائص الرضي : ٥٤ ، ونحوه في الاختصاص : ٧٥ ، رجال الكشي ١ : ٢٩٣ | ١٣٦.

(٢) ارشاد المفيد ١ : ٣٢٥ ، شرح نهح البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢٩٤.

٣٤٤

ومن ذلك : اخباره مولاه قنبر وصاحبه كميل بن زياد بأن الحجاج بن يوسف يقتلهما (١).

فكان كما قال.

ومن ذلك : ما اشتهرت به الرواية أنّه عليه‌السلام خطب فقال فيخطبته : «سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله ما تسألونني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة» فقام إليه رجل فقال : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟

فقال عليه‌السلام : «لقد حدّثني خليلي رسول اللهّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سألت عنه ، وأنّ على كلّ طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك ، وعلى كلّ طاقة شعرفي لحيتك شيطاناً يستفزّك ، وأنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآية ذلك مصداق ما أخبرتك به ، ولولاأنّ الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرت به ، ولكن اية ذلك ما نبّأته عن سخلك الملعون »(٢).

وكان ابنه في ذلك الوقت صغيراً يحبو ، فلمّا كان من أمر الحسين عليه‌السلام ما كان ، تولّى قتله ، فكان كما قال.

____________

(١) انظر : ارشاد المفيد ١ : ٣٢٧ و ٣٢٨ ، الاصابة ٣ : ٣١٨.

(٢) كامل الزيارات : ٧٤ ، أمالي الصدوق : ١١٥ | ١ ، خصائص الرضي : ٦٢ ، ارشاد المفيد١ : ٣٣٠ ، مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٢٦٩ ، الاحتجاج : ٢٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢٨٦ و ١٠ : ١٤.

لقد صح عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قوله « سلوني قبل أن تفقدوني » ونقلت ذلك الكثير من مصادر الفرقين ، بحيث يعسر علينا حصرها هنا. وللاطلاع على ذلك انظر : الغدير ٦ : ١٩٣ ـ ١٩٤ و ٧ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

٣٤٥

ومن ذلك : ما روي عن سويد بن غفلة : أنّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأخبره أنّ خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له ، فقال : « إنّه لم يمت ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب ابن جمّاز».

فقام رجل من تحت المنبر فقال : يا أمير المؤمنين ، والله إنّي لك شيعة ، وإنّي لك محبّ ، وأنا حبيب بن جفّاز.

فقال : «إيّاك أن تحملها ، ولتحملنّها فتدخل من هذا الباب » وأومأ بيده إلى باب الفيل.

فلمّا كان من أمر الحسين عليه‌السلام ما كان بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى الحسين ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته ، وحبيب بن جمّاز صاحب رايته ، فسار بها حتّى دخل المسجد من باب الفيل (١). وهذا الخبر مستفيض في أهل العلم بالآثار من أهل الكوفة.

ومن ذلك : ما رواه إسماعيل بن زياد قال : إنّ عليّاً عليه‌السلام قال للبراء بن عازب : « يا براء ، يُقتل ابني الحسين وأنت حيّ لاتنصره ».

فلمّا قُتل الحسين عليه‌السلام كان البراء يقول : صدق والله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، قُتل الحسين بن عليّ وأنا لم أنصره. ويظهر الندم على ذلك والحسرة (٢).

____________

(١) بصائر الدرجات : ٣١٨ | ١١ ، الهداية الكبرى : ١٦١ ، ارشاد المفيد١ : ٣٢٩ ، الاختصاص : ٠ ٢٨ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٧٤٥ | ٦٣ لابن شهرآشوب ٢ : ٢٧٠ ، الثاقب في المناقب : ٢٦٧ | ٦ ، مقاتل الطالبيين : ٧١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد٢ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٢) ارشاد المفيد ١ : ٣٣١ ، مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٢٧٠ ، كشف الغمة ١ : ٢٧٩ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ و ١٥.

٣٤٦

وهذا الذي ذكرناه ـ من جملة إخباره بالغائبات وإعلامه بالكائنات قبلكونها ـ غيض من فيض ، ويسير من كثير ، ولو لم تكن إلاّ خطبته القاصة ، وخطبة البصرة المستفيضة الشائعة ، وما فيها من الملاحم والحوادث في العباد والبلاد ، وأسامي ملوك بني اُميّة وبني العباس ، وما حلّ من عظائم بليّاتهم بالناس لكفى بهما اُعجوبة لا يعادلها سواها إلاّ ما ساواها في معناها ، وفيما ذكرناه كفاية ومقنع لذوي الألباب.

فصل :

وأمّا الفن الآخر من المعجزات والايات الخارقة للعادات التي هي غير الإخبار بالغائبات فمما لا يدخل تحت الضبط والانحصار ، ونحن نذكر طرفاً منها على شريطة الاختصار :

فمن ذلك : قصة عين راحوما والراهب بأرض كربلاء والصخرة ، والخبر بذلك مشهور بين الخاصّ والعامّ ، وحديثها :

أنّه عليه‌السلام لمّا توجّه إلى صفّين لحق أصحابه عطش ، فأخذوا يميناً وشمالاً يطلبون الماء فلم يجدوه ، فعدل بهم أمير المؤمنين عن الجادّة ، وسار قليلاً ، فلاح لهم دير فسار بهم نحوه ، وأمر من نادى ساكنه بالإطّلاع إليهم ، فنادوه فاطّلع ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «هل قرب قائمك ماء؟» فقال : هيهات ، بينكم وبين الماء فرسخان ، وما بالقرب منّي شيء من الماء. فلوى عليه‌السلام عنق بغلته نحو القبلة وأشار بهم إلى مكان يقرب من الدير فقال : «اكشفوا الأرض في هذا المكان» فكشفوه بالمساحي فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع فقالوا : يا أمير المؤمنين ، ههنا صخرة لا تعمل فيها المساحي ، فقال عليه‌السلام : ، «إنّ هذه الصخرة على الماء ، فاجتهدوا في

٣٤٧

قلعها » (١) فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً واستصعبت عليهم ، فلوى عليه‌السلام رجله عن سرجه حتّى صار إلى الأرض وحسر ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحرّكها ثمّ قلعها بيده ودحا بها أذرعاً كثيرة ، فلمّا زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء فتبادروا إليه فشربوا منه ، فكان أعذب ماءٍ وأبرده وأصفاه ، فقال لهم : «تزوّدوا وارتووا» ففعلوا ذلك.

ثمّ جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت ، وأمر أن يعفى أثرها بالتراب ، والراهب ينظر من فوق ديره ، فلمّا علم ما جرى نادى : يا معشر الناس أنزلوني أنزلوني ، فانزلوه فوقف بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : أنت نبيّ مرسل؟ قال : «لا» ، قال : فملك مقرّب؟ قال : «لا» ، قال : فمن أنت؟ قال : «أنا وصيّ رسول اللهّ محمّد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيّين» قال : ابسط يدك اُسلم للّه على يدك. فبسط عليه‌السلام يده وقال له : «اشهد الشهادتين» فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشِهد أنّ محمّداً رسول الله ، وأشهد أنّك وصيّ رسول اللهّ وأحقّ الناس بالأمر من بعده ، وقال : يا أمير المؤمنين إنّ هذا الدير بُني على طلب قالع هذه الصخرة ومُخرج الماء من تحتها ، وقد مضى عالم كثير قبلي ولم يدركوا ذلك ، وقد رزقنيه الله عزّ وجل ، إنّا نجد في كتاب من كتبنا مآثرعن علمائنا إنّ في هذا الصقع عيناً عليها صخرة لا يعرف مكانها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، وإنّه لا بدّ من وليّ للّه يدعو إلى الحقّ ، آيته معرفة مكان هذه الصخرة وقدرته على قلعها ، وإنّي لمّا رأيتك قد بلغت ذلك تحقّقت ما كنّا ننتظره ، وبلغت الاُمنية منه ، فانا اليوم مسلم على يدك ومؤمن بحقّك ومولاك.

____________

(١) في نسختي «ق» و«ط» : قلبها ، وما أثبتناه من نسخة «م».

٣٤٨

فلمّا سمع بذلك أميرالمؤمنين بكى حتّى اخضلّت لحيته من الدموع وقال : « الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكوراً ، الحمد لله الذي لم أك عنده منسيّاً ] ثمّ دعا الناس وقال : «اسمعوا ما يقوله أخوكم المسلم»[ (١) فسمع الناس مقال له وشكروا الله على ذلك ، وساروا والراهب بين يديه حتى لقي أهل الشام ، فكان الراهب في جملة من استشهد معه ، فتولّى الصلاة عليه ودفنه وأكثر من الاستغفار له ، وكان إذا ذكره يقول : «ذاك مولاي »(٢).

وفي هذا الخبر ضروب من الأيات : أحدها : علم الغيب (٣).

والآخر : القوّة الخارقة للعادة.

والثالث : ثبوت البشارة به في كتب الله الاُولى كما جاء في التنزيل : « ذلِكَ مَثَلُهُم فِي التّوَراة وَمَثَلُهُم فِي الإنجِيلِ » (٤).

وفي ذلك يقول السيّد إسماعيل بن محمد الحميري :

[١] ولَقَد سرى فِي يُسَيِّر ُلَيلة

بَعد العِشاءِ بِكَربَلا فِي مَوكِبِ

[٢] حَتّى أتى مُتَبَتِّلاً في قائِم

ألقى قَواعِدَهُ بقاعٍ مجدبِ

[٣] يأتِيهِ لَيسَ بِحَيثُ يَلفيَ عامراً

غَيرَ الوُحُوش وَغَيرَ أصلَعَ أشيَبِ

[٤] َفدَنا فَصاحَ بِهِ فَاشرفَ ماثلاً

كَالنَّسرِ فوقَ شظيّةٍ مِن مَرقَبِ

____________

(١) ما بين المعقوفين لم يرد في نسخنا وأثبتناه من الارشاد ليستقيم السياق.

(٢) ارشاد المفيد ١ : ٣٣٤ كشف الغمة ١ : ٢٧٩ وباختلاف يسير في خصائص الرضي : ٥٠ ، ووقعة صفين : ١٤٤ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ٢٠٤ ، مختصراً في فضائل ابن شاذان : ١٠٤ ، والخرائج والجرائح ١ : ٢٢٢ | ٦٧ ، ونحوه في أمالي الصدوق : ١٥٥ | ١٤.

(٣) لقد أفرد علماء الطائفة ومفكروها جملة واسعة من الابحاث والدراسات المبينة لابعاد هذا العلم تراجع في مظانها.

(٤) الفتح ٤٨ : ٢٩.

٣٤٩

[٥]هَل قُربَ قائِمِكَ الذِي بُوِّئتَهُ

ماء يُصابُ فَقالَ ما مِن مَشرَبِ

[٦] إلاّ بِغايَةِ فَرسَخَينِ وَمَن لَنا

بالماء ِبَينَ نَقاً وَقيٍّ سَبسبِ

[٧] فَثَنى الأعنَّةَ نَحوَ وَعثٍ فَاجتَلى

مَلساءَ تَرقُ كَاللُّجينِ المُذهبِ

[٨] قالَ اقلبونا إنَّكُم إن تقلِبوا

تَرووُا وَلا تَروونَ إن لَم تُقلبِ

[٩] فَاعصَوصَبوافِي قَلبِها فَتمنّعت

مِنهُم تَمنُّع صَعبَةٍ لَم تُركَبِ

[١٠] حَتّى إذا أعيَتهُمُ أهوى لَها

كَفّاً مَتى تَردِ المُغالبَ تَغلِبِ

[١١] فكأنّها كرَةٌ بِكَفٍّ حَزوَّر

عَبلٍ الذراعِ دَحا بها في مَلعَبِ

[١٢] قالَ اشربُوا مِن تَحتها مُتسَلسِلاً

عَذباَ يَزيدُ عَلَى الألذًّ الأعذبِ

[١٣]حَتّى إذا شَرِبُوا جَميعاً رَدَّها

وَمَضى فَخِلتَ مَكانَها لَم يُقرَب

[١٤] أعنيِ ابنَ فاطِمَةَ الوَصيّ وَمن يَقُل

فِي فَضلِهِ وَفَعالِهِ لا يَكذِبِ (١)

__________________

(١) خصائص الرضي : ٥١ ، ارشاد المفيد ١ : ٣٣٧ كشف الغمة ١ : ٢٨١.

قال السيد المرتضى ـ رضي الله عنه ـ في شرح هذه القصيدة ـ وقد وزعناه على تسلسلالأبيات ـ :

[١] السري : سير الليل كله.

[٢] والمتبتّل : الراهب ، والقائم : صومعته ، والقاع : الأرض الحرّة الطين التي لا حزونةفيها ولا انهباط ، والقاعدة : أساس الجدار وكلّ ما يبنى ، والجدب : ضدّ الخصب.

[٣] ومعنى «يأتيه» : أي يأتي هذا الموضع الذي فيه الراهب ، ومعنى ]ليس بحيث يُلفي[«عامراً» : انه لا مقيم فيه سوى الوحوش ، ويمكن أن يكون ماخوذاً من العمرة التي هي الزيارة ، والأصلع الأشيب : هو الراهب.

[٤] الماثل : المنتصب ، وشبَّه الراهب بالنسر لطول عمره والشظيّة : قطعة من الجبل مفردة ، والمرقب : المكان العالي.

[٦] والنقا : قطعة من الرمل تنقاد محدودبة ، والقيّ : الصحراء الواسعة ، والسبسب : القفر.

[٧] والوعث : الرمل الذي لايسلك فيه ، ومعنى«اجتلى ملساء» نظر إلى صحراء ملساء فتجلًت لعينه ، ومعنى «تبرق» : تلمع ، ووصف اللجين بالمذهّب لأنّه اشدّ لبريقه ولمعانه.

=

٣٥٠

ومن ذلك : ما استفاضت به الأخبار ونظمت فيه الأشعار من رجوع الشمس له عليه‌السلام مرّتين : في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة ، وبعد وفاته اُخرى ، فالأولى قد روتها أسماء بنت عميس ، وأمّ سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجابر بن عبدالله ، وأبو سعيد الخدريّ في جماعةمن الصحابة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ذات يوم في منزله وعليٌّ عليه‌السلام بين يديه إذ جاءه جبرئيل يناجيه عن الله عزّ وجلّ ، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام فلم يرفع رأسه عنه حتّى غابت الشمس وصلّى عليه‌السلام صلاة العصر جالساً بالإيماء ، فلمّا أفاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «ادع الله ليردّ عليك الشمس ، فإنّ الله يجيبك لطاعتك الله ورسوله» فسأل الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين في ردّ الشمس ، فردّت عليه حتّى صارت في موضعها من السماء وقت العصر ، فصلّى أمير المؤمنين الصلاة في وقتها ثمّ غربت ، وقالت أسماء بنت عميس : أما والله لقد سمعنا لها عند غروبها صريراً كصرير المنشار في الخشب(١).

__________________

[٩] ومعنى «اعصوصبوا» : اجتمعوا على قلعها وصاروا عصبة واحدة.

[١٠] ومعنى «اهوى لها» : مدّ إليها ، والمغالب : الرجل المغالب.

[١١] والحزوّر : الغلام المترعرع ، والعبل : الغليظ الممتلئ.

[١٢] والمتسلسل : الماء السلسل في الحلق ، ويقال أنه البارد أيضاً.

[١٤] وابن فاطمة : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام. انتهى كلامه ، رفع الله مقامه. نقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٤١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٦.

(١) ارشاد المفيد ١ : ٣٤٥ ، مناقب ابن شهرآشوب٢ : ٣١٧ ، كشف الغمة ١ : ٢٨٢ ، ودون ذيله في فضائل ابن شاذان ٦٨ ، وارشاد القلوب : ٢٧٧ ، ونحوه في قرب الاسناد : ١٧٥ | ٦٤٤ والكافي ٤ : ٥٦١ | ٧ ، وعلل الشرائع : ٣٥١ | ٣ ، والذرية الطاهرة للدولابي : ١٢٩ | ١٥٦ ، ومشكل الاثار للطحاويَ ٢ : ٨ ـ ٩ و ٤ | ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، والمعجم الكبير للطبراني ٢٤ : ١٤٤ | ٣٨٢ ومناقب ابن المغازلي : ٩٦ | ١٤٠ ـ ١٤١ ، ومناقب الخوارزمي : ٢١٧

٣٥١

وأما الثانية : أنّه لمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابّهم ورحالهم ، وصلّى بنفسه في طائفة معه العصر ، فلم يفرغ الناس من عبورهم حتّى غربت الشمس وفات كثيراً منهم الصلاة ، وفات جمهورهم فضل الجماعة معه ، فتكلّموا في ذلك ، فلمّا سمع كلامهم فيه سأل الله عزّوجلّ ردّ الشمس عليه فاجابه بردّها عليه ، فكانت في الأفق على الحالة التي تكون وقت العصر ، فلمّا سلّم بالقوم غابت فسمع لها وجيب شديد.

وفي ذلك يقول السيد الحميري :

ردت عَلَيهِ الشَّمسُ لمّا فاتَهُ

وَقتُ الصَّلاةِ وَقَد دَنَت للمغربِ

حَتّى تبلَّجَ نورها في وَقتِها

لَلعَصرِ ثُمَّ هوت هَوِيَّ الكَوكَبِ

وَعَليهِ قَد حُبِسَت بِبابلَ مَرّةً

اُخرى وما حُبِست لِخلقٍ مُعرب

إلاّ لَيُوشَعَ أَو لَهُ مِن بَعدهِ

وَلِرَدِّها تَأوِيلُ أمرٍ مُعجب (١)

ومن ذلك : ما رواه نقلة الأخبار من حديث الثعبان ، والأية فيه أنَّه كَان عليه‌السلام يخطب ذات يوم على منبر الكوفة إذ ظهر ثعبان من جانب المنبر ، فجعل يرقى حتى دنا من منبره ، فارتاع لذلك الناس وهمّوا بقصده ودفعه عنه ، فاومأ إليهم بالكفّ عنه ، فلمّا صار إلى المرقاة التي كان أمير المؤمنين عليه‌السلام قائماً عليها انحنى إلى الثعبان وتطاول الثعبان إليه حتّى التَقَمَ اُذنه ، وسكت الناس وتحيّروا لذلك ، فنقّ نقيقاً سمعه كثيرٌ منهم ، ثمّ إنّه زال عن مكانه وأمير المؤمنين عليه‌السلام يحرّك شفتيه والثعبان كالمصغي إليه ، ثمّ

_________

=

وتذكرة الخواص : ٥٥ ، فتح الباري ٦ : ١٦٨ ، وانظر طرقه في تاريخ ابن عساكرـ ترجمة الامام علي (ع ) ـ ٢ : ٢٨٣ ـ ٣٠٥ ، والغدير ٣ : ١٢٧ ـ ١٤١.

(١)ارشاد المفيد ١ : ٣٤٦ ، مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٣١٨ وأورد الأبيات الشعرية في ص ٣١٧ كشف الغمة ١ : ٢٨٢ ، وباختلاف يسير دون ذكر أبيات السيد الحميري في إرشاد القلوب : ٢٢٧ ، ونحوه في إثبات الوصية ١ : ٣٤٦.

٣٥٢

انساب فكأنّ الأرض ابتلعته ، وعاد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى خطبته فتممها ، فلمّا فرغ منها ونزل اجتمع الناس إليه يسألونه عن حال الثعبان ، فقال لهم : «إنّما هو حاكم من حكّام الجنّ التبست عليه قضيّة فصار إليّ يستفتيني عنها ، فافهمته إيّاها ودعا إليَّ بخير وانصرف»(١).

ومن ذلك : حديث الحيتان وكلامهم له في فرات الكوفة ، وذلك أنّ الماء طغى في الفرات حتّى أشفق أهل الكوفة من الغرق ، ففزعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فركب بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرج الناس معه حتّى أتى شاطىء الفرات فنزل عليه‌السلام وأسبغ الوضوء وصلّى ، والناس يرونه ، ودعا الله عزّ وجلّ بدعوات سمعها أكثرهم ، ثمّ تقدّم إلى الفرات متوكّئاً على قضيب بيده حتّى ضرب به صفحة الماء وقال : «انقص بإذن الله ومشيئته» فغاض الماء حتّى بدت الحيتان من قعره ، فنطق كثير منها بالسلام عليه بإمرة المؤمنين ولم ينطق منها اصناف من السمك وهي الجرّيّ والمارماهي ، فتعجّب الناس لذلك ، وسألوه عن علّة نطق ما نطق وصمت ما صمت ، فقال : «أنطق الله لي ما طهر من السمك ، وأصمت عنّي ما نجس وحرم»(٢).

وهذا الخبر مستفيض أيضاً كاستفاضة كلام الذئب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسبيح الحصى في كفّه وأمثال ذلك.

ومن ذلك : ما جاء في الآثار عن ابن عبّاس قال : لمّا خرج النبيّ

_________

(١) ارشاد المفيد ١ : ٣٤٨ ، روضة الواعظين : ١١٩ ونحوه في بصائر الدرجات ١١٧ ، واثبات الوصية : ١٢٩ ، وبشارة المصطفى : ١٦٤ ، والفضائل لابن شاذان : ٧٠.

(٢) ارشاد المفيد١ : ٣٤٧ ، روضة الواعظين : ١١٩ ، مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٣٣٠ ، ومختصراً في خصائص الرضي : ٥٨ ، واثبات الوصية : ١٢٨ ، ونحوه في فضائل ابن شاذان : ١٠٦ ، وكشف الغمة ١ : ٢٧٥.

٣٥٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني المصطلق ونزل بقرب واد وعر ، فلمّا كان آخر الليل هبط عليه جبرئيل عليه‌السلام يخبره عن طائفة من كفّار الجنّ قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشرّ باصحابه ، فدعا أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : «اذهب إلى هذا الوادي فسيعرض لك من أعداء الله الجنّ من يريدك ، فادفعه بالقوّة التي أعطاك الله عزّ وجلّ إيّاها ، وتحصّن منه بأسماء الله التي خصّك بها وبعلمها» وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس وقال لهم : «كونوا معه وامتثلوا أمره».

فتوجّه أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الوادي ، فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير ولا يحدثوا شيئاً حتّى يأذن لهم ، ثمّ تقدّم فوقف على شفير الوادي وتعوّذ باللهّ من أعدائه ، وسمّاه باحسن أسمائه ، وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه ، فقربوا ، وكان بينه وبينهم فرجة مسافتها غلوة ، ثمّ رام الهبوط إلى الوادي فاعترضت ريح عاصف كاد القوم يقعون على وجوههم لشدّتها ، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هو لما لحقهم ، فصاح أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنا عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّه ، اثبتوا إنشئتم» فظهر للقوم أشخاص مثل الزط (١) تخيّل في أيديهم شعل النار ، قد اطمانّوا وأطافوا بجنبات الوادي.

فتوغّل أمير المؤمنين عليه‌السلام بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً ، فما لبثت الأشخاص حتّى صارت كالدخان الأسود ، وكبّر أمير المؤمنين عليه‌السلام ثمّ صعد من حيث هبط ، فقام مع القوم الذين

_________

(١) الزُط (بالضم ) : جيل من الهند معرب جت بالفتح ، الواحد زطي وهو المستوي الوجه.«القاموس المحيط ٢ : ٣٦٢».

٣٥٤

اتّبعوه حتّى أسفر الموضع عمّا اعتراه ، فقال له أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما لقيت يا أبا الحسن ، فقد كدنا نهلك خوفاً وإشفاقاً عليك؟ فقال عليه‌السلام : «لمّا تراءى لي العدو جهرت فيهم باسماء الله فتضاءلوا وعلمت ما حلّ بهم من الجزع ، فتوغّلت الوادي غير خائف منهم ، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم ، وكفى الله كيدهم وكفى المسلمين شرّهم ، وستسبقني بقيّتهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيؤمنوا به».

وانصرف أمير المؤمنين عليه‌السلام بمن معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبره الخبر فسرى عنه ودعا له بخير وقال له : «قد سبقكيا علي إليّ من أخافه الله بك فاسلم وقبلت إسلامه»(١).

ومن ذلك : ما أبانه الله تعالى به من القوّة الخارقة للعادة في قلعِ باب خيبر ودحوه به ، وكان من الثقل بحيث لا يحمله أقلّ من أربعين رجلاّ ، ثمّ حمله إيّاه على ظهره فكان جسراً للناس يعبرون عليه إلى ذلك الجانب ، فكان ذلك علماً معجزاً(٢).

ومن ذلك : إنقضاض الغراب على خفه وقد نزعه ليتوضّأ وضوء الصلاة ، فانساب فيه أسود ، فحمله الغراب حتّى صار به في الجوّ ثمّ ألقاه فوقع منه الأسود ووقاه الله عزّ وجلّ من ذلك (٣).

وفي ذلك يقول الرضي الموسوي رضي الله عنه :

أما في باب خيبر معجزات

تصدّق أو مناجاة الحباب

ــــــــــــــــــ

(١) ارشاد المفيد ١ : ٣٣٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٨ : ٨٤ | ٣.

(٢) انظر : سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩ و ٣٥٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٣ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٦ ، تاريخ الاسلام للذهبي (المغازي) : ٤٤١ و ٤١٢.

(٣) مناقب ابن شهر اشوب ٢ : ٣٥٦.

٣٥٥

أرادت كيده والله يأبى

فجاء النصر من قبل الغراب (١)

ومن ذلك : ما رواه عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر الباقر عليهما‌السلام من قوله عليه‌السلام لجويرية بن مسهر وقد عزم علىالخروج : «أما إنّه سيعرض لك في طريقك الأسد» قال : فما الحيلة له؟ قال : «تقرظ منّي السلام وتخبره أنّي أعطيتك منه الأمان».

فخرج جويرية ، فبينا هو كذلك يسير على دابّته إذ أقبل نحوه أسد لا يريد غيره ، فقال له جويرية : يا أبا الحارث ، إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقرؤك السلام ، وانّه قد آمنني منك ، قال : فولّى الليث عنه مطرقاً برأسه يهمهم حتّى غاب في الأجمة ، فهمهم خمساً ثمّ غاب ، ومضى جويرية في حاجته.

فلمّا انصرف إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وسلّم عليه وقال : كان من الأمر كذا وكذا فقال : «ما قلت للّيث وما قال لك؟».

فقال جويرية : قلت له ما أمرتني به وبذلك انصرف عنّي ، وأمّا ما قال الليث فالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّ رسوله أعلم.

قال : «إنّه ولّى عنك يهمهم ، فاحصيت له خمس همهمات ثمّ انصرف عنك».

قال جويرية : صدقت يا أمير المؤمنين هكذا هو.

فقال عليه‌السلام : «فإنّه قال لك : فاقرأ وصيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منّي السلام» وعقد بيده خمساً(٢).

ولو ذهبنا نجتهد في إيراد أمثال هذه من الأيات والمعجزات لطال به

_________

(١) ديوان الشريف الرضي ١ : ١١٦.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٣٠٤.

٣٥٦

الكتاب ، وفيما أثبتناه من ذلك غنى عمّا سواه ، وبالله نستعين ، وإيّاه نستهدي إلى الهدى والحقّ والصواب.

***

٣٥٧

( الباب الرابع )

في ذكر بعض مناقبه

وفضائله وخصائصه عليه‌السلام

التي أبانه الله سبحانه بها عن غيره

سوى ما تقدّم ذكره في جملة من النصوص على إمامته

والإرهاص لإيجاب طاعته

وذكر مختصر من أخباره وحسن اثاره

٣٥٨

إعلم : أنّ فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ومناقبه وخصائصه كثيرة لايتّسع لها كتاب ولا يحويها خطاب ، وليست الشيعة مختصّة بروايتها وإن اختصّت بكثير منها ، فقد روت العامّة والمخالفون من ذلك ما لا يحصى عدده ، ولا ينقطع مدده ، ولقد قال الأجلّ المرتضى علم الهدى قدّس الله روحه : سمعت شيخاً مقدّماً في الرواية من أصحاب الحديث يقال له : أبو حفص عمر بن شاهين (١) ، يقول : إنّي جمعت من فضائل عليّ عليه‌السلام خاصّة ألف جزء.

وأمّا ما رواه أصحابنا من ذلك فلا تجتمع أطرافه ، ولا تعدّ آلافه ، وأنا اُورد من جملتها اُناسي العيون ونفوس الفصوص ومتخيِّر المتحيّر سالكاً طريقة منصور الفقيه في قوله :

_________

(١) أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد البغدادي الواعظ المعروف بابن شاهين.

ولد في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين ، وأصله مروروذ من كورخراسان.

روي عنه أنه قال : أول ما كتبت الحديث في سنة ثمان وثلاثمائة وكان لي إحدى عشرة سنة ، وصنفت ثلاثمائة مصنّف ، أحدها : «التفسير الكبير» ألف جزء ، و«المسند» ألف وثلاثمائة جزء و«التاريخ» مائة وخمسين جزء و«الزهد» مائة جزء ، وأول ما حدّثت بالبصرة سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.

سمع أبا بكرمحمد بن محمد الباغندي ، وأبا القاسم البغوي ، وأبا خُبيب العباس بن البرتي ، وأبا بكر بن أبي داود ، وغيرهم.

وحدَث عنه : أبا بكر محمد بن إسماعيل الوراق رفيقه ، وأبو سعد المالني ، وأبو بكر البرقاني ، وأحمد بن محمد العتيقي.

وثقه أبو الفتح بن أبي الفوارس ، وأبو بكر الخطيب ، والأمير أبو نصر ، وأبو الوليد الباجي ، وأبو القاسم الأزهري.

توفي في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ، ودفن بباب حرب عند قبر أحمد بن حنبل.

انظر : تاريخ بغداد ١١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٨ ، سير أعلام النبلاء ١٦ : ٤٣١.

٣٥٩

قالوا : خُذِ العَنَ مِن كلّ ، فقلتُ لهم

فِي العَينِ فَضلٌ ، وَلكِن ناظرُ العَينِ

حَرفَينِ مِن ألفِ طُومارٍ مُسوّدة

وَربّما لَم تجدْ فِي الألفِ حَرفينِ

وأثبتها محذوفة الأسانيد تعويلاً في ذلك على إشتهارها بين نقلة الآثار ، واعتماداً على أنّ نقلها من كتب محكومة بالصحّة عند نقّاد الأخبار ، وجعلتها أربعة فصول :

٣٦٠