إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

خالاتك وحواضنك وبنات حواضنك اللاتي أرضعنك ، ولسنا نسألك مالاً ، إنّما نسألكهنّ.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم منهنّ ما شاء الله فلمّا كلّمته أخته قال : «أمّا نصيبي ونصيب بني عبد المطّلب فهو لك ، وأمّا ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم».

فلمّا صلّوا الظهر ، قامت فتكلّمت وتكلّموا فوهب لها الناس أجمعون إلاّ الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، فإنّهما أبيا أن يهبا وقالوا : يا رسول الله إنّ هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا.

فأقرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ثمّ قال : «اللهمّ توّه سهميهما» فأصاب أحدهما خادماً لبني عقيل ، وأصاب الآخر خادماً لبني نمير ، فلمّا رأيا ذلك وهبا ما منعا.

قال : ولولا أنّ نساء وقعن في القسمة لوهبهنّ لها كما وهب ما لم يقع في القسمة ولكنهنّ وقعن في انصباء الناس فلم يأخذ منهم إلاّ بطيبة النفس(١).

وروي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أمسك منكم بحقّه فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل فيء نصيبه ، فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناهم»(٢).

قال : وكلّمته اُخته في مالك بن عوف فقال : «إن جاءني فهو آمن» فأتاه

__________________

(١) انظر : المغازي للواقدي ٢ : ٩٤٩ وسيرة ابن هشام ٤ | ١٣١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٩٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٢.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٢ ، وتأريخ الطبري ٣ : ٨٧ ، والكامل في التأريخ ٢ : ٢٦٩ ، دلائل النبوة للبيهقي ١٩٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٣.

٢٤١

فردّ عليه ماله وأعطاه مائة من الإبل(١)

فصل

روى الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدريّ قال : بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقسّم إذ أتاه ذو الخويصرة ـ رجلٌ من بني تميم ـ فقال : يا رسول الله أعدل.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل ، وقد خبت وخسرت إن أنا لم أعدل».

فقال عمر بن الخطّاب : يا رسول الله ائذن لي فيه اضرب عنقه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الاِسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر إلى رصافه(٢)فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر إلى نصله نضيّه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر في قُذَذه(٣)فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم ، آتيهم رجلٌ أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تَدَردر(٤) ، يخرجون على خير فرقة من الناس».

قال أبو سعيد : فأشهد أنّي سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قاتلهم وأنا معه ، وأمر

__________________

(١) المغازي للواقدي ٣ : ٩٥٤ ، سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٣ ، تأريخ الطبري ٣ : ٨٨ ، الكاملفي التأريخ ٢ : ٢٦٩ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٩٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٣.

(٢) الرصاف : عقب يُلوى على مدخل الفصل فيه «النهاية ٢ : ٢٢٧».

(٣) القذذ : ريش السهم ، واحدتها قُذّة. «النهاية ٢ : ٢٢٧».

(٤) تدردر : أي ترجرج تجيء وتذهب. «النهاية ـ دردر ـ ٢ : ١١٢».

٢٤٢

بذلك الرجل فالتمس فوجد فاُتي به حتّى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي نعت.

رواه البخاريّ في الصحيح(١)

فصل :

قالوا : ثمّ ركب رسول الله وأتبعه الناس يقولون : يا رسول الله أقسم علينا فيئنا ، حتّى ألجؤوه إلى شجرة فانتزع عنه رداءه فقال : «أيّها الناس ردّوا عليّ ردائي ، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجرتها نعماً لقسمته عليكم ، ثمّ ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً».

ثمّ قام إلى جنب بعير وأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه فقال : «يا أيّها الناس والله مالي من فيئكم هذه الوبرة إلاّ الخُمس والخُمس مردود عليكم ، فأدّوا الخياط والمخيط ، فإنّ الغلول عارٌ ونارٌ وشنارٌ على أهله يوم القيامة».

فجاءه رجلٌ من الأنصار بكبّة من خيوط شعر ، فقال : يا رسول الله أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا حقّي منها فلك».

فقال الرجل : أمّا إذا بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي بها ، ورمى بها من يده(٢).

ثمّ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجعرانة في ذي القعدة إلى مكّة فقضى بها عمرته ، ثمّ صدر إلى المدينة وخليفته على أهل مكّة معاذ بن جبل (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٢٤٣ ، وكذا في : صحيح مسلم ٢ : ٧٤٤ | ١٤٨ ، مسند أحمد ٣ : ٥٦ و ٦٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٨٧.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٤ ، تأريخ الطبري ٣ : ٨٩ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٩٥ و ١٩٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٤.

(٣) دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٠٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٤.

٢٤٣

وقال محمّد بن إسحاق : استخلف عتّاب بن اُسيد وخلّف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلّمهم القرآن ، وحجّ بالناس في تلك السنة وهي سنة ثمان عتّاب بن اُسيد ، وأقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب(١).

ثمّ كانت غزوة تبوك : تهيّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجب لغزو الرُوم ، وكتب إلى قبائل العرب ممّن قد دخل في الاِسلام وبعث إليهم الرسل يرغّبهم في الجهاد والغزو ، وكتب إلى تميم وغطفان وطيّ ، وبعث إلى عتّاب بن اُسيد عامله على مكّة يستنفرهم لغزو الروم.

فلمّا تهيّأ للخروج قام خطبياً فحمد الله وأثنى عليه ورغّب في المواساة وتقوية الضعيف والإنفاق ، فكان أوّل من أنفق فيها عثمان بن عفّان جاء بأواني من فضّة فصبّها في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجهّز ناساً من أهل الضعف ، وهو الذي يقال إنّه جهّز جيش العسرة.

وقدم العبّاس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنفق نفقة حسنة وجهّز ، وسارع فيها الأنصار ، وأنفق عبد الرحمن والزبير وطلحة ، وأنفق ناس من المنافقين رياءً وسمعة ، فنزل القرآن بذلك.

وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عسكره فوق ثنيّة الوداع بمن تبعه من المهاجرين وقبائل العرب وبني كنانة وأهل تهامة ومزينة وجهينة وطيّ وتميم ، واستعمل على المدينة عليّاً عليه‌السلام وقال له : «إنّه لابدّ للمدينة منّي أو منك».

واستعمل الزبير على راية المهاجرين ، وطلحة بن عبيدالله على

__________________

(١) المغازي للواقدي ٣ : ٩٥٩ ، سيرة ابن هشام ٤ : ١٤٣ ، تأريخ الطبري ٣ : ٩٤ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٠٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٤.

٢٤٤

الميمنة ، وعبد الرحمن بن عوف على الميسرة.

وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نزل الجرف ، فرجع عبدالله بن اُبيّ بغير إذن فقال عليه‌السلام : «حسبي الله هو الذي أيدني بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم» فلمّا انتهى إلى الجرف لحقه عليّ عليه‌السلام وأخذ بغرز(١) رجله وقال : «يا رسول الله زعمت قريش أنّك انما خلّفتني استثقالاً لي».

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طالما آذت الاُمم أنبياءها ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟».

فقال : «قد رضيت قد رضيت». ثمّ رجع إلى المدينة.

وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبوك في شعبان يوم الثلاثاء فأقام بقيّة شعبان وأيّاماً من شهر رمضان ، وأتاه وهو بتبوك يحنّة بن رؤبة صاحب إيلة(٢) فأعطاه الجزية وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له كتاباً ، والكتاب عندهم ، وكتب أيضاً لاَهل جرباء وأذُرح(٣)كتاباً.

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بتبوك بأبي عبيدة بن الجرّاح إلى جمع من بني جذام مع زنباع بن روح الجذامي فأصاب منهم طرفاً وأصاب منهم سبايا ، وبعث سعد بن عبادة إلى ناس من بني سليم وجموع من بليّ ، فلمّا قارب القوم هربوا.

وبعث خالداً إلى الاُكيدر صاحب دومة الجندل وقال له : «لعل الله يكفيكه بصيد البقر فتأخذه».

__________________

(١) الغرز : ركاب الرحل. «لسان العرب ٥ : ٣٨٦».

(٢) ايلة : مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم ، تعد من بلاد الشام. «معجمالبلدان ١ : ٢٩٢».

(٣) جرباء وأذرح : قريتان بالشام بينهما ثلاث ليال. «النهاية ١ : ٢٥٤».

٢٤٥

فبينا فخالد وأصحابه في ليلة إضحيان إذ أقبلت البقرة تنتطح فجعلت تنطح باب حصن اُكيدر وهو مع امرأتين له يشرب الخمر ، فقام فركب هو وحسّان أخوه وناس من أهله فطلبوها وقد كمن له خالد وأصحابه فتلقّاه اُكيدر وهو يتصيّد البقر فأخذوه وقتلوا أخاه حسّاناً وعليه قباء مخوّص بالذهب ، وأفلت أصحابه فدخلوا الحصن وأغلقوا الباب دونهم ، فأقبل خالد باُكيدر وسار معه أصحابه فسألهم أن يفتحوا له فأبوا فقال : أرسلني فإنّي أفتح الباب ، فأخذ عليه موثقاً وأرسله فدخل وفتح الباب حتّى دخل خالد وأصحابه ، وأعطاه ثمانمائة رأس وألفي بعير وأربعمائة درع وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ، فقبل ذلك منه وأقبل به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية (١).

وفي كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي أحمد البيهقي : أخبرنا أبو عبدالله الحافظ ـ وذكر الاِسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود ـ عن عروة قال : لمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قافلاً من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا أن يسلكوها معه ، فاُخبر رسول ألله خبرهم ، فقال : «من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم».

فأخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلاّ النفر الذين أرادا المكر به استعدّوا وتلثّموا ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا معه مشياً ، وأمر عمّاراً أن

__________________

(١) انظر : ارشاد المفيد ١ : ١٥٤ ، المغازي للواقدي ٣ : ١٠٢٥ ، سيرة ابن هشام ٤ : ١٦٩ ، الطبقات الكبرى ٢ : ١٦٥ ، تأريخ اليعقوبي ٢ : ٦٨ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٥٢ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٢٧٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٤ | ٢٥.

٢٤٦

يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة بسوقها ، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ركزة(١) القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر حذيفة أن يردّهم فرجع ومعه محجن ، فاسقبل وجوه رواحلهم وضربها ضرباً بالمحجن ، وأبصر القوم وهم متلثّمون ، فرعّبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه ، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أدركه قال : «اضرب الراحلة يا حذيفة ، وامش أنت يا عمّار».

فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس ، فقال النبيّ : «يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط ـ أو الركب ـ أحداً؟».

فقال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل علمتم ما شأن الركب وما أرادو؟».

قالا : لا يارسول الله.

قال : «فإنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها».

قالا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟».

قال : «أكره أن يتحدّث الناس ويقولون : إنّ محمّداً قد وضع يده في أصحابه» فسمّاهم لهما وقال : «اُكتماهم» (٢).

وفي كتاب أبان بن عثمان : قال الأعمش : وكانوا اثني عشر ، سبعة من

__________________

(١) الركز : الصوت الخفي ، وقيل : هو الصوت ليس بالشديد. «لسان العرب ٥ : ٣٥٥».

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٥٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٧ | ٢٥.

٢٤٧

قريش(١).

قال : وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وكان إذا قدم من سفر استقبل بالحسن والحسين عليهما‌السلام فاخذهما إليه وحفّ المسلمون به حتّى يدخل على فاطمة عليها‌السلام ويقعدون بالباب ، وإذا خرج مشوا معه ، وإذا دخل منزله تفرّقوا عنه(٢).

وعن أبي حميد الساعدي قال : أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك حتّى إذا أشرفنا على المدينة قال : «هذه طابة ، وهذا اُحد جبل يحبّنا ونحبّه»(٣).

وعن أنس بن مالك : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا دنا من المدينة قال : «إنّ بالمدينة لاَقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلاّ كانوا معكم فيه».

قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟

قال : «نعم ، وهم بالمدينة ، حبسهم العذر»(٤).

وكانت تبوك آخر غزوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومات عبدالله بن اُبيّ بعد رجوع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك (٥).

__________________

(١) انظر : دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٥٩ و ٢٦٠ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٠ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٨ | ٢٥.

(٢) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٨ | ٢٥.

(٣) صحيح البخاري ٦ : ٩ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٦٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار٢١ : ٢٤٨؟ ٢٥.

(٤) صحيح البخاري ٦ : ١٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٢٣؟ ٢٧٦٤ ، مسند أحمد ٣ : ١٠٣ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٦٧ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٨ | ٢٥.

(٥) دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٨٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٨ | ٢٥.

٢٤٨

فصل

ونزلت سورة (بَراءة من الله وَرَسُولهِ )(١) في سنة تسع ، فدفها إلى أبي بكر فسار بها ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : «إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو عليّ».

فبعث عليّاً عليه‌السلام على ناقته العضباء فلحقه فأخذ منه الكتاب ، فقال له أبو بكر : أنزل فيَّ شيِ؟

قال : «لا ولكن لا يؤدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ هو أو أنا».

فسار بها عليّ عليه‌السلام حتّى أذّن بمكّة يوم النحر وأيّام التشريق ، وكان في عهده : أن ينبذ إلى المشركين عهدهم ، وأن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل المسجد مشرك ، ومن كان له عهد فإلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فله أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه ، وذلك قوله تعالى : (فَاذَا انسلَخَ الأشهُرُ الحُرُمُ ـ إلى قوله : ـ كُلَّ مَرصَدٍ)(٢).

قال : ولما دخل مكّة اخترط سيفه وقال : «والله لا يطوف بالبيت عريان إلاّ ضربته بالسيف» حتّى ألبسهم الثياب ، فطافوا وعليهم الثياب. (٣)

__________________

(١) التوبة ٩ : ١.

(٢) التوبة ٩ : ٥.

(٣) انظر : تفسير العياشي ٢ : ٧٣ | ٤ ، ارشاد المفيد ١ : ٦٥ ، سيرة ابن هشام ٤ : ١٩٠ ـ١٩١ ، مسند أحمد ١ : ١٥١ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٧٦ ، خصائص النسائي : ٩٢ | ٧٦ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٢٣ ، تفسير الطبري ١٠ : ٤٦ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٥٢ ، دلائل النبوةللبيهقي ٥ : ٢٩٦ ـ ٢٩٨ ، مناقب الخوارزمي : ١٠٠ و ١٠١ ، كفاية الطالب : ٢٥٤ ، الدرالمنثور ٤ : ١٢٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٧٤ | ٩.

٢٤٩

فصل :

قام : ثمّ قدم على رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم عروة بن مسعود الثقفي مسلماً واستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرجوع إلى قومه فقال : «إنّي أخاف أن يقتلوك».

فقال : إن وجدوني نائماً ما أيقظوني. فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الاِسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه الأذى ، حتّى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذّن وتشهّد ، فرماه رجلٌ بسهم فقتله ، وأقبل بعد قتله من وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا فأكرمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيّاهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر ، وقد كان تعلّم سوراً من القرآن (١).

وقد ورد في الخبر عنه أنّه قال : قلت : يا رسول الله إنّ الشيطان قد حال بين صلاتي وقراءتي.

قال : «ذاك شيطان يقال له : خنزب ، فإذا خشيت فتعوّذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً».

قال : ففعلت فأذهب الله عنّي.

رواه مسلم في الصحيح (٢).

__________________

(١) انظر : سيرة ابن هشام ٤ : ١٨٢ ، الطبقات الكبرى ١ : ٣١٢ ، تاريخ الطبري ٣ : ٩٦ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٩٩ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٢٨٣ ، عيون الأثر ٢ | ٢٢٨ ، تأريخ الاسلام للذهبي (المغازلي) : ٦٦٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٤ | ١.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٧٢٨ | ٢٢٠٣ ، وكذا في : دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣٠٧ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٤ | ١.

٢٥٠

فصل :

فلمّا أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفود العرب فدخلوا في دين الله أفواجاً كما قال الله سبحانه ، فقدم عليه صلى الله وآله وسلّم عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم منهم : الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم ، وعيينة بن حصن الفزاريّ ، وعمرو بن الأهتم ، وكان الأقرع وعيينة شهدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتح مكّة وحنيناً والطائف ، فلمّا قدم وفد تميم دخلا معهم فأجارهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحسن جوارهم (١).

وممّن قدم عليه صلّى وآله وسلّم وقد بني عامر فيهم : عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة لامّه ، وكان عامر قد قال لأربد : إنّي شاغلٌ عنك وجهه فإذا فعلته فأعله بالسيف.

فلمّا قدموا عليه ، قال عامر : يا محمد خالني ، فقال : «لا ، حتّى تؤمن بالله وحده»ـ قالها مرّتين ـ فلمّا أبى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : والله لأملاَنّها عليك خيلاً حمراً ورجالاً ، فلمّا ولّى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل».

فلمّا خرجوا قال عامر لأربد : أين ما كنت أمرتك به؟ قال : والله ما هممت بالذي أمرتني به إلاّ دخلت بيني وبين الرجل ، أفأضربك بالسيف؟

وبعث الله على عامر بن الطفيل في طريقه ذلك الطاعون في عنقه فقتله في

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، تاريخ الطبري ٣ : ١١٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣١٣ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٢٨٧ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٤ | ذيل ح ١.

٢٥١

بيت امرأة من سلول ، وخرج أصحابه حين واروه إلى بلادهم ، وأرسل الله تعالى على أربد وعلى جملة صاعقة فأحرقتهما (١).

وفي كتاب أبان عن عثمان : أنّهما قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد غزوة بني النضير قال : وجعل يقول عامر عند موته : أغدّة كغدّة (٢) البكر وموت في بيت سلوليّة؟

قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في عامر وأربد : «اللّهم أبدلني بهما فارسي العرب» فقدم عليه زين بن مهلهل الطائي ـ وهو زيد الخيل ـ وعمرو بن معدي كرب (٣).

فصل :

وممّن قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفد طيّ فيهم : زيدالخيل ، وعديّ بن حاتم ، فعرض عليهم الاِسلام فأسلموا وحسن إسلامهم ، وسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد الخير ، وقطع له فيداً وأرضين معه وكتب له كتاباً ، فلمّا خرج زيد من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجعاً إلى قومه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن ينج زيد من حمّى المدينة أو من اُمّ ملدم» (٤).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٢١٣ ، والطبقات الكبرى ١ : ٣١٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٤٤ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣١٨ ، والبداية والنهاية ٥ : ٥٦ ، تاريخ الاسلام للذهبي (المغازي) : ٦٧٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٥ | ذيل ح ١.

(٢) الغدة : طاعون الابل وقلّما تسلم منه ، والبكر : الفتى من الابل. «لسان العرب ٣ : ٣٢٣ و ٤ : ٧٩».

(٣) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٥.

(٤) ام ملدم : كنية الحمى ، والعرب تقول : قالت الحمى : أنا اُم آكل اللحم وامص الدم.

«لسان العرب ١٢ : ٥٣٩».

٢٥٢

فلمّا انتهى من بلد نجد إلى ماء يقال له فردة أصابته الحمّى فمات بها ، وعمدت امرأته إلى ما كان معه من الكتب فأحرقتها (١).

وذكر محمّد بن إسحاق : أنّ عديّ بن حاتم فرّ ، وأنّ خيل رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم قد أخذوا اُخته فقدموا بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه منّ عليها وكساها وأعطاها نفقة ، فخرجت مع ركب حتّى قدمت الشام وأشارت على أخيها بالقدوم فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده (٢).

فصل :

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو بن معدي كرب وأسلم ، ثمّ نظر إلى اُبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته وأدناه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهدر الاِسلام ما كان في الجاهليّة».

فانصرف عمرو مرتدّاً وأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ، فأنفذ رسول الله عليّاً عليه‌السلام إلى بني زبيد وأمّره على المهاجرين ، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب وأمره أن يقصد الجعفي فإذا التقيا فأمير الناس عليّ بن أبي طالب.

فسار عليّ عليه‌السلام ، واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٢٤ ، والطبقات الكبرى ١ : ٣٢١ ، تاريخ الطبري ٢ : ١٤٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣٣٧ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٢٩٩ ، عيون الأثر ٢ : ٢٣٦ ، البداية والنهاية ٥ : ٦٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٥.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٢٥ ، الطبقات الكبرى ١ : ٣٢٢ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣٣٨ ، عيون الأثر ٢ : ٢٣٧ ، البداية والنهاية ٥ : ٦٣ ـ ٦٨ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٢٨٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٦ | ١.

٢٥٣

العاص ، فلمّا رأوه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشيّ فأخذ منك الأتارة (١)؟ فقال : سيعلم إن لقيني.

وخرج عمرو وخرج أمير المؤمنين علي عليه‌السلام فصاح به صيحة فانهزم ، وقتل أخوه وابن أخيه ، واُخذت امرأته ركانة ، وسبي منهم نسوان ، وخلّف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض زكواتهم ويؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلماً.

فرجع عمرو واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له فعاد إلى الاِسلام ، وكلّمه في امرأته وولده فوهبهم له ، وكان أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قد اصطفى من السبي جارية ، فبعث خالد بريدة الأسلمي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : تقدّم الجيش إليه فأعلمه ما فعل عليّ من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه ، وقع فيه.

فسار بريدة حتّى دخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه كتاب خالد فجعل يقرأه على رسول الله ووجهه يتغيّر فقال بريدة : إن رخّصت يا رسول الله للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً ، إنّ عليّ بن أبي طالب يحلّ له من الفيء ما يحلّ لي ، إنّ عليّ بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخير من اُخلّف بعدي لكافّة اُمّتي ، يا بريدة أحذر أن تبغض عليّاً فيبغضك الله».

قال بريدة : فتمنّيت أنّ الأرض انشقّت لي فسخت فيها وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله ، يا رسول الله استغفر لي فلن أبغض عليّاً أبداً ولا أقول فيه إلاّ خيراً. فاستغفر له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) الاتارة : الخراج. «العين ٨ : ١٤٧».

٢٥٤

قال بريدة : فصار عليّ أحبّ خلق الله بعد رسوله إليّ (١).

فصل :

وقدم على رسول الله صلّى الله وآله وسلّم وفد نجران فيهم بضعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وثلاثة نفر يتولّون اُمورهم : العاقب وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح ، والسيّد وهو ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة الاُسقف وهو حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم له فيهم شرف ومنزلة ، وكانت ملوك الروم قد بنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم من علمه واجتهاده في دينهم.

فلمّا وجّهوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ له يقال له : كرز ـ أو بشرـ بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة ، فقال كرز : تعس الأبعد ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست.

قال له ولم يا أخ؟

فقال : والله إنّه للنبيّ الذي كنّا نتظر.

فقال كرز : فما يمنعك أن تتّبعه؟

فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ، شرّفونا وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلاّ خلافه ، ولو فعلت نزعوا منّا كلّ ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كرز حتّى أسلم ثمّ مرّ يضرب راحلته ويقول :

__________________

(١) انظر : ارشاد المفيد ١ : ١٥٨ ، كشف الغمة ١ : ٢٢٨ ، عيون الأثر ٢ : ٢٤٠ ، ونقلهالمجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٥٨ | ذيل ح ١.

٢٥٥

إليك تعدو قلقاً وضينها (١)

ترضاً في بطنها جنينها

مخالفاً دين النصارى دينها

فلمّا قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب ، فقال أبو بكر : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله لو لبست حلّتك التي أهداها لك قيصر فرأوك فيها.

قال : ثمّ أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم‌السلام ولم يكلّمهم ، فانطلقوا يتتبّعون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف ـ وكانا معرفة لهم ـ فوجدوهما في مجلس من المهاجرين ، فقالوا : إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا ، فما الرأي؟

فقالا لعليّ بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال : «أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه».

ففعلوا ذلك فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ، ثمّ قال : «والذي بعثني بالحقّ ، لقد أتوني المرّة الاُولى وأنّ إبليس لمعهم». ثمّ سائلوه ودارسوه يومهم ، وقال الاُسقف : ما تقول في السيّد المسيح يا محمّد؟

قال : «هو عبد الله ورسوله».

قال : بل كذا وكذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل هو كذا وكذا ، فترادّا ، فنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صدر سورة آل

__________________

(١) الوظين : بطان منسوج بعضه على بعض ، يشد به الرجل على البعير ، كالحزام للسرج. أرادأنه سريع الحركة ، يصفه بالخفة وقلة الثبات كالحزام إذا كان رخواً ، أو أراد أنها هزلت ودقتللسير عليها. «انظر : النهاية ٥ : ١٩٩».

٢٥٦

عمران نحو من سبعين آية تتبع بعضها بعضاً ، وفيما أنزل الله (إنّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ـ إلى قوله : ـ على الكاذِبينَ) (١).

فقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نباهلك غداً ، وقال أبو حارثة لأصحابه : انظروا فإن كان محمّد غدا بولده وأهل بيته فاخذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه وأتباعه فباهلوه(٢).

قال أبان : حدثني الحسن بن دينار ، عن الحسن البصري قال : غدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذاً بيد الحسن والحسين ، تتبعه فاطمة عليهم‌السلام ، وبين يديه عليّ عليه‌السلام ، وغدا العاقب والسيّد بابنين على أحدهما درّتان كأنّهما بيضتا حمام ، فحفّوا بأبي حارثة ، فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه؟

قالوا : هذا ابن عمّه زوج ابنته ، وهذان ابنا ابنته ، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.

وتقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة : جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة. فكع ولم يقدم على المباهلة ، فقال له السيّد : ادن يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لاَرى رجلاً جريئاً على المباهلة ، وأنا أخاف أن يكون صادقاً فلا يحول والله علينا الحول وفي الدينا نصرانيّ يطعم الماء.

قال : وكان نزل العذاب من السماء لو باهلوه.

فقالوا : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ، ولكن نصالحك. فصالحهم

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٥٩ ـ ٦١.

(٢) انظر : ارشاد المفيد ١ : ١٦٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٢ ، مجمع البيان ١ : ٤٥١ ، سيرة ابن هشام ٢ : ٢٢٢ ، الطبقات الكبرى ١ : ٣٥٧ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣٨٢ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٩٣ ، البداية والنهايه ٥ : ٥٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٣٦ | ٢.

٢٥٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ألفي حلّة من حلل الأواقي قيمة كلّ حلّةأربعون درهماً جياداً ، وكتب لهم بذلك كتاباً. وقال لاَبي حارثة الاُسقف : «لكأنّني بك قد ذهبت إلى ذهبت إلى رحلك وأنت وسنان فجعلت مقدّمه مؤخّره» فلمّا رجع قام يرحل راحلته فجعل رحله مقلوباً فقال : أشهد أن محمّداً رسول الله (١).

فصل :

ثمّ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً إلى اليمن ليدعوهم إلى الاِسلام ـ وقيل : ليخمّس ركازهم(٢) ويعلّمهم الأحكام ، ويبيّن لهم الحلال والحرام ـ وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ، ويقدم عليه بجزيتهم(٣)

وروى الحاكم أبو عبدالله الحافظ بإسناده رفعه إلى عمرو بن شاس الأسلمي قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب في خليه ، فجفاني عليّ بعض الجفاء ، فوجدت عليه وفي نفسي ، فلمّا قدم المدينة اشتكيته عند من لقيته ، فأقبلت يوماً ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في المسجد ، فنظر إليّ حتّى جلست إليه فقال : «يا عمرو بن شاس لقد آذيتني».

فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أعوذ بالله والاِسلام أن اُوذي رسول الله.

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٥١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٣٨.

(٢) الركاز : دفين أهل الجاهلية ، كأنه رُكِزَ في الأرض ركزاً. «الصحاح ٣ : ٨٨٠».

(٣) انظر : ارشاد المفيد ١ : ١٧٠ ، كشف الغمة ١ : ٢٣٥ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٣١ ، دلائل النبوة البيهقي ٥ : ٣٩٤ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٠٠ ، عيون الأثر ٢ : ٢٧١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٠ | ١.

٢٥٨

فقال : «من آذى عليّاً فقد آذاني».

وقد كان بعث قبله رسول الله عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الاِسلام فلم يجيبوه.

قال البراء : فكنت مع عليّ عليه‌السلام ، فلمّا دنونا من القوم خرجوا إلينا ، فصلى بنا عليّ ثمّ صففنا صفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأسلمت همدان كلّها ، فكتب عليّ عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قرأ الكتاب خرّ ساجداً ثمّ رفع رأسه فقال : «السلام على همدان»(١).

أخرجه البخاري في الصحيح(٢).

وروى الأعمش عن عمرو بن مرّة ، عن أبي البختري ، عن عليّ عليه‌السلام قال : «بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن ، قلت : يا رسول الله ، تبعثني وأنا شابٌ اقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟!

قال : فضرب بيده في صدري وقال : اللّهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه ، فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين»(٣).

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٢ ، وانظر كذلك : مسند أحمد ٣ : ٤٨٣ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٣٢ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣٩٤ ، تذكرة الخواص : ٤٨ ، اُسد الغابة ٤ : ١١٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٠ | ١.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٢٠٦ مختصراً من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف ، وكذا ذكر البيهقي عند نقله للرواية أعلاه ، فراجع الهامش السابق.

(٣) ارشاد المفيد ١ : ١٩٤ ، كشف الغمة ١ : ١١٤ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٧ ، سنن ابن ماجه ٢ : ٧٧٤|٢٣١٠ ، الأنساب للبلاذري ٢ : ١٠١ | ٣٣ ، خصائص النسائي ٥٦ | ٣٢ ـ ٣٦ ، مستدرك الحاكم ٣ | ١٣٥ ، سنن البيهقي ١٠ : ٨٦ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٣٩٧ ، الاستيعاب ٣ : ٣٦ ، تاريخ بغداد ١٢ : ٤٤٤ ، مناقب ابن المغازلي : ٢٤٩ | ٢٩٨ ، مناقب الخوازمي : ٤١ ، كفاية الطالب : ١٠٦ ، فرائد السمطين ١ : ١٦٧ ،

=

٢٥٩

فصل :

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة متوّجّهاً إلى الحجّ في السنة العاشرة لخمس بقين من ذي القعدة ، وأذّن في الناس بالحجّ ، فتجهّز الناس للخروج معه ، وحضر المدينة من ضواحيها ومن جوانبها خلق كثير ، فلمّا انتهى إلى ذي الحليفة ولدت هناك أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر ، فأقام تلك الليلة من أجلها ، وأحرم من ذي الحليفة ، وأحرم الناس معه ، وكان قارناً للحجّ بسياق الهدي ساق معه ستّاً وستّين بدنة.

وحجّ علي عليه‌السلام من اليمن وساق معه أربعاً وثلاثين بدنة ، وخرج بمن معه من العسكر الذي صحبه إلى اليمن ومعه الحلل التي أخذها من أهل نجران ، فلمّا قارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة من طريق المدينة قاربها أمير المؤمنين عليه‌السلام من طريق اليمن فتقدّم الجيش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسرّ رسول الله بذلك وقال له : «بم أهللت يا عليّ؟».

فقال : «يا رسول الله إنّك لم تكتب إليّ بإهلالك ، فعقدت نيّتي بنيّتك وقلت : اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك».

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك وعد على جيشك وعجّل بهم إليّ حتّى نجتمع

____________

=

وباختلاف يسير في مسند الطيالسي : ١٦ ، سنن أبي داود ٣ : ٣٠١ | ٣٥٨٢ ، أخبار القضاة ١ : ٨٤ ، مسند أبي يعلى ١ : ٢٥٢ | ٢٩٣ و ٢٦٨ | ٣١٦ و ٣٢٣ | ٤٠١ ، حلية الأولياء ٤ : ٣٨١ ، ذخائر العقبى : ٨٣. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٠ | ١.

٢٦٠