إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

وسمع كلامه».

فقال عيسى عليه‌السلام : «يا ربّ وما طوبى؟».

قال : «شجرة في الجنّة إنّما غرستها بيدي ، تظّل الجنان ، أصلها من رضوان ، ماؤها من تسنيم ، برده برد الكافور ، وطعمه طعم الزّنجبيل ، من يشرب من تلك العين شربة لم يظمأ بعدها أبداً».

فقال عيسى عليه‌السلام : «اللّهم اسقني منها».

قال : «حرام يا عيسى على النبيّين أن يشربوا منها حتّى يشرب ذلك النّبي ، وحرامٌ على الاُمم أن يشربوا منها حتّى تشرب اُمّة ذلك النبيّ ، أرفعك إليّ ثم اُهبطك في آخر الزمان لترى من اُمّة ذلك النبيّ العجائب ، ولتعينهم على اللعين الدجّال ، اُهبطك في وقت الصلاة لتصلّي معهم إنّهم اُمّة مرحومة» (١).

ومن ذلك : حديث سلمان الفارسي وأنّه لم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه ، ويبحث عن الاَسرار ، ويستدلّ بالاَخبار ، وينتظر قيام سيّد الاَولين والآخرين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة سنة حتّى بُشّر بولادته ، فلمّا أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي. والخبر في ذلك طويل مذكور في كتاب كمال الدين (٢).

ومن ذلك : حديث تّبع الملك وقوله : سيخرج من هذه ـ يعني مكة ـ نبي يكون مهاجره يثرب ، وأخذ قوماً من اليمن فأنزلهم مع اليهود بيثرب لينصروه إذا خرج ، فهم الاَوس والخزرج.

وفي ذلك يقول تبع :

__________________

(١) كمال الدين : ١٥٩|١٨.

(٢) كمال الدين : ١٦١|٢١.

٦١

شـهـدت عـلــى أحـمـد أنه

رسول مـن الله بارىء الـنـسم

فـــلو مـدّ عـمري إلــى عمره

لكنت وزيـراً له وابــن عــمّ

وكـنت عذابــــاً على المشركين

وأسقيــهم كأس خوف وغـمّ (١)

ومن ذلك : ما رواه أيضاً بإسناده عن عكرمة ، عن ابن عبّاس قال : كان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظّل الكعبة لا يجلس عليه أحد إجلالاً له ، وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج عبد المطلب ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج وهو غلام فيمشي حتّى يجلس على الفراش ، فيعظم ذلك على أعمامه ويأخذونه ليؤخّروه ، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني فوالله إنّ له لشأناً عظيماً ، إنّي أرى أنّه سيأتي عليكم يوم وهو سيّدكم ، إنّي أرى غرّته غرّة تسود النّاس ، ثمّ يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبّله ، ويقول : ما رأيت قُبلة أطيب منه ولا أطهر قطّ ، ثمّ يلتفت إلى أبي طالب ـ وذلك أنّ أبا طالب وعبدالله لاَُم ـ فيقول : يا أباطالب ، إنّ لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به فإنّه فردٌ وحيدٌ ، وكن له كالاُم لا يوصل إليه بشيء يكرهه. ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به اُسبوعاً ، وكان عبد المطلب قد علم أنّه يكره اللات والعزّى فلا يدخله عليهما.

فلمّا تمّت له ستّ سنين ماتت اُمّه آمنة بالاَبواء بين مكّة والمدينة ، وكانت قدمت به أخواله من بني عدي ، فبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتيماً لا أب له ولا اُمّ ، فازداد عبد المطلب له رقّة وحفظاً.

وكانت هذه حاله حتّى أدرك عبد المطّلب الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب فجاءه ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدره وهو في غمرات الموت فصار يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب أنظر أن تكون حافظاً

__________________

(١) كمال الدين : ١٧٠.

٦٢

لذلك الوحيد الّذي لم يشمّ رائحة أبيه ولا ذاق شفقة اُمّه.

أنظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك ، فإنّي قد تركت بنيّ كلّهم ووصيتك به لاَنّك من اُمّ أبيه.

يا أبا طالب إن أدركت أيّامه فاعلم أنّي كنت من أبصر النّاس ومن أعلم الناس به ، وإن استطعت أن تتبعه فافعل ، وانصره بلسناك ويدك ومالك ، فإنّه والله سيسود ويملك ما لم يملك أحدٌ من بني آبائي.

يا أبا طالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ولا اُمّه على حال اُمّه ، فاحفظه لوحدته ، هل قبلت وصيّتي؟

قال : نعم قد قبلت والله على ذلك شاهد.

قال عبد المطّلب : فمدّ يدك إليّ.

فمدّ يده إليه فضرب يده على يده ، ثمّ قال عبد المطلّب : الآن خفّف عليّ الموت ، ثمّ ضمّه إلى صدره ولم يزل يقبّله ويقول : أشهد أنّي لم اُقبّل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً منك. ويتمنّى أن يكون قد بقي حتّى يدرك زمانه. فمات عبد المطلّب وهو ابن ثمان سنين ، فضمّه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه حتّى بلغ ، لا يأتمن عليه أحداً (١).

ومن ذلك : حديث سيف بن ذي يزن ، والرواية بذلك مشهورة ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس قال : لمّا ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة ـ وذلك بعد مولود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنتين ـ وفد العرب وأشرافها إليه وفيهم : عبد المطلب بن هاشم واُميّة بن عبد شمس ، وعبدالله بن جذعان ، وأسد بن خويلد ، ووهب بن عبد مناف ، وغيرهم من وجوه قريش ، فقدموا

__________________

(١) كمال الدين : ١٧١|٢٨.

٦٣

عليه صنعاء فاستأذنوا وهو في قصر ، يُقال له غمدان ، وهو الذي يقول فيه اُميّة بن أبي الصلت :

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً

في رأس غمدان دار منك محلالا

ثمّ ساق الحديث إلى أن قال : فأرسل إلى عبد المطّلب فادنى مجلسه ثمّ قال : يا عبد المطّلب إنّي مفض إليك من سرّ علمي أمراً لو كان غيرك لم أبح به إليه ولكنّي رأيتك معدنه فأطلعتك عليه ، فليكن عندك مطويّاً حتّى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره ، إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لاَنفسنا واُخبرناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، للناس عامّة ولرهطك كافّة ، ولك خاصّة.

فقال عبدالمطلب : مثلك أيّها الملك قد سرّ وبرّ فما هو؟ فداك أهلالوبر زمراً بعد زمر.

فقال : إذ ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامّة كانت له الاِمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.

فقال عبد المطّلب : أبيت اللعن ، لقذ إبْتُ بخير ما آب بمثله وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من أسراره ما أزداد به سروراً.

فقال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد فيه ، اسمه محمد ، يموت أبوه واُمّه ويكفله جدّه وعمّه ، وقد ولد سراراً ، والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منّا أنصاراً ، يعزّ بهم أولياءه ويذلّ بهم أعداءه ، يضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الاَرض ، يكسّر الاَوثان ، ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ، ويدحر الشيطان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله.

فقال عبد المطّلب : أيّها الملك عزّ جدّك ، وعلا كعبك ، ودام ملكك ، وطال عمرك ، فهل الملك سارّي بإفصاح فقد أوضح لي بعض الاِيضاح؟

٦٤

فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات على النصب ، إنّك يا عبد المطّلب لجدّه غير كذب.

قال : فخرّ عبد المطلب ساجداً ، فقال له : إرفع رأسك ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئاً ممّا ذكرته؟

فقال : كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً ، فزوّجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام فسمّيته محمّداً ، مات أبوه وامّه وكفّلته عمّه.

قال ابن ذي يزن : إنّ الذي قلت لك كما قلت لك ، فاحتفظ بابنك ، واحذر عليه اليهود فإنّهم له أعداد ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً ، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرّهط الذي معك فإنّي لست آمن أن تدخلهم النّفاسة من أن تكون له الرّئاسة ، فيطلون له الغوائل وينصبون له الحبائل ، وإنهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شكّ ، ولولا أنّي أعلم أنّ الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتّى أصير بيثرب دار ملكه ، فإنّي أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أنّ يثرب دار ملكه ، فيها استحكام أمره ، وأهل نصرته ، وموضع قبره ، ولولا أنّي أخاف فيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات ، لاَعلنت على حداثة سنّه أمره في هذا الوقت ، ولأوطأت أسنان العرب عقبه ، ولكنّي سأصرف ذلك إليك عن غير تقصير منّي بمن معك.

قال : ثمّ أمر لكلّ رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلّتين من البرود ومائة من الاِبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضّة وكرش مملوءة عنبراً.

قال : وأمر لعبد المطّلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال : إذا حال الحول فائتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول.

قال : فكان عبد المطّلب كثيراً ما يقول : يا معشر قريش لا يغبطني رجل

٦٥

منكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنّه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه ، فإذا قيل : وما هو؟ قال : ستعلمنّ نبأ ما أقول ولو بعد حين (١).

وقد روى هذا الحديث الشّيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب دلائل النبوّة من طريقين (٢).

ومن ذلك : حديث بحيراء الراهب ، فقد أورد محمّد بن إسحاق بن يسار قال : إنّ أباطالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا تهيّأللرحيل وأجمع السير انتصب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال : «يا عمّ إلى من تكلني لا أب لي ولا اُمّ لي؟».

فرقّ له أبو طالب فقال : والله لاَخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا اُفارقه أبداً. فخرج وهو معه.

فلمّا نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيراء في صومعة له ، وكان أعلم أهل النصرانية ، وكان كثيراً ما يمرّون به قبل ذلك لا يكلّمهم ولا يعرض لهم ، فلمّا نزلوا ذلك العام قريباً من صومعته صنع لهم طعاماً ، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظلّه من بين القوم ، ثمّ أقبلوا حتّى نزلوا بظلّ شجرة قريباً منه ، فنظر إلى الغمامة حتّى أظلّت الشجرة ، وتهصّرت (٣) أغصان الشجرة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى استظلّ تحتها ، فلمّا رأى ذلك بحيراء نزل من صومعته ـ وقد أمر بذلك الطعام فصنع ـ ثمّ أرسل إليهم فقال :

__________________

(١) كمال الدين : ١٧٦|٣٤ ، كنز الفوائد ١ : ١٨٧ ، دلائل النبوة للاصبهاني ١ : ١١٤ ، الوفا بأحوال المصطفى ١ : ١٢٥ ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار ١٥ : ١٩١|١١.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٩.

(٣) تهصّرت : أي تدلّت عليه أغصانها. «انظر : النهاية ٥ : ٢٦٤».

٦٦

إنّي صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش وإنّي اُحبّ أن تحضروا كلّكم صغيركم وكبيركم ، وحرّكم وعبدكم.

فقال له رجل منهم : يا بحيراء إنّ لك اليوم لشأناً ، ما كنت تصنع لنا هذا الطعام وقد كنّا نمرّ بك كثيراً ، فما شأنك اليوم؟

فقال له بحيراء : صدقت قد كان ما تقول ، ولكنّكم ضيفٌ ، وقد أحببت أن اُكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلّكم.

فاجتمعوا إليه وتخلّف رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة ، فلمّا رأى بحيراء القوم لم يجد الصفة التي يعرف فقال : يا معشر قريش لا يتخلّف أحد منكم عن طعامي هذا.

قالوا له : ما تخلّف عنّا أحد ينبغي له أن يأتيك إلاّ غلامٌ هو أحدث القوم سنّاً تخلّف في رحالهم.

قال : فلا تفعلوا ، اُدعوه حتّى يحضر هذا الطعام معكم.

فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزّى إنّ هذا اللوم بنا أن يتخلّف ابن عبد المطّلب عن الطعام من بيننا.

قال : ثمّ قام إليه فاحتضنه ثمّ أقبل به حتّى أجلسه مع القوم ، فلمّا رآه بحيراء جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد يجدها عنده في صفته ، حتّى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرّقوا قام بحيراء فقال له : يا غلام أسألك باللات والعزّى إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه ، وإنّما قال ذلك بحيراء لاَنّه سمع قومه يحلفون بهما.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسألني باللات والعزّى ، فوالله ما أبغضت كبغضهما شيئاً قطّ.

فقال بحيراء : فوالله إلاّ أخبرتني عمّا أسألك.

٦٧

فقال : سلني عمّا بدا لك.

فجعل يسأله عن أشياء من حاله من(١)نومه وهيئته واُموره ، فجعل رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيراء من صفته ، ثمّ نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.

قال : لمّا فرغ منه أقبل على عمّه أبي طالب فقال : ما هذا الغلام منك؟

قال : ابني.

قال بحيراء : وما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّاً.

قال : فإنّه ابن أخي.

قال : فما فعل أبوه؟

قال : مات واُمّه حبلى به.

قال : صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت منه ليبغيّنة شرّاً ، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن فاسرع به إلى بلده.

فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتّى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام.

فزعموا أنّ نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمّه أبي طالب أشياء فأرادوه فردّهم عنه بحيراء وذكّرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنّهم إن أجمعوا بما أرادوه لم يخلصوا إليه ، ولم يزل بهم حتّى عرفوا ما قال لهم وصدّقوه بما قال وتركوه وانصرفوا (١).

__________________

(١) سيرة ابن اسحاق : ٧٣ ، وانظر كذلك : كمال الدين : ١٨٣|٣٥ ، الخرائج والجرائح ١ :

=

٦٨

وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدته الدالية ـ أوردها محمّد بن إسحاق بن يسار ـ :

إنّ ابن آمنـــة (الـنـبي) (١) محمّداً

عندي بـمـــثــل منازل الاَولادِ

لمـّا تعـلـّق بالزّمامِ رحـمـتــهُ

والعيشُ قــد (قــلصن) (٢) بالاَزوادِ

(فــارفضِّ) (٣) من عـينيّ دمعٌ ذارفٌ

مثل الجـمانِ مـفرّد الاَفـــــرادِ

راعـــيتُ فـــيه قرابة موصولة

وحفظتُ فـيه وصيـّة الاَجـــدادِ

وأمـرتـه بـالـسيـرِ بـين عمومةٍ

بـيضُ الوجــــوِه مصالت أنجـادِ

ســاروا لاَبـعـد طيــّة معلذومةٍ

ولـقـد تــبـاعد طـيــّة المرتادِ

حـتى إذا مــا الـقوم بُصرى عاينوا

لا قـوا على شرفٍ من الـمـرصـادِ

حـبـراً فـأخـبرهم حديـثاً صادقاً

عنه وردّ مـعـاشـــر الحـسـّادِ

قــوماً يهـوداً قـد رأوا ما قد رأى

ظــلّ (الغمـام وغـرّ ذا الاكبادِ) (٤)

_________________

=٧١|١٣٠ ، سيرة ابن هشام ١ : ١٩١ ، دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٢٧ ، تأريخ الطبري ٢ : ٢٧٧ ، دلائل النبوة للاصبهاني ١ : ٢١١|١٠٨.

(١) كذا في نسخنا ، وفي ديوان شيخ الاباطح ، وكتاب شعر ابي طالب : الامين ، وهي الصواب ، لان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لم يبعث بعد حين قال أبو طالب رحمه‌الله تعالى هذا الشعر.

كما ان هذا البيت برواية ابي هفان ورد هكذا :

ان الامين محمّداً في قومه * عندي يفوق منازل الاولاد

(٢) قلصن : ارتفعن ونهضن للمسير «انظر : لسان العرب ٧ : ٨١».

(٣)ارفضّ : سال وتفرّق. «اُنظر : لسان العرب ٧ : ٨١».

(٤) كذا في نسخنا وفي سيرة ابن اسحاق : وغرّ ذي الاكياد ، إلاّ أن الصواب ما ورد في ديوان شيخ الاباطح ، وشعر أبي طالب لابي هفان حيث ورد بهذا الشكل : ظل الغمامة ناغري الاكباد ، لوضوح العبارة وصحة كلماتها ، فالرواية المعروفة تذكر بان غمامة واحدة كانت تظل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو منطقي ومعقول ، فالفرد الواحد تكفيه غمامة واحدة ، فما جدوى أكثر منها ، ومن تظل.

=

٦٩

( ساروا ) (١) لقتل محمّدٍ فنهاهم

عنه وأجهد أحسن الاجتهاد (٢) (٣)

وأمثال ماذكرناه كثيرة ، لو قصدنا إيراد جميعها لخرجنا من الفرض المقصود بهذا الكتاب.

__________________

=

ثمّ ان باقي الكلام الوارد في العجز اعلاه لا معنى له عكس ما جاء في الديوانين لانه يوفي بالغرض الذي جاء من أجله.

فالنغر شدة الغيظ ، وحيث يقال للرجل الذي يغلي جوفه من الغيظ رجل ناغر «اُنظر : الصحاح ـ نغرـ ٢ : ٨٣٣» أي ان اليهود لعنهم الله تعالى كانوا ينظرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والغمامة تظله واجوافهم تضطرم غيظاً وغضباً.

(١) في الديوانين : ثاروا ، وفي سيرة ابن اسحاق كما في كتابنا.

(٢) في الديوانين : التجهاد ، وفي سيرة ابن اسحاق موافق لما في كتابنا.

(٣) اُنظر : سيرة ابن اسحاق : ٧٦ ، شعر ابن طالب وأخباره : ٦٣ ، ديوان شيخ الاباطح : ٣٣.

٧٠

(فصل)

وأمّا ما ظهر منه صلوات الله عليه وآله عقيب البعث وإظهار النبوّة من الآيات والمعجزات فضربان :

أحدهما : هذا القرآن الذي أنزله الله سبحانه عليه وأيّده به.

والآخر : غيره من المعجزات.

فوجه الاستدلال من القرآن : أنّ كلّ عاقل سمع الاَخبار وخالط أهلها قد علم ظهور نبيّنا عليه وآله السلام وادّعاءه الرسالة من الله إلينا ، وأنّه تحدّى العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يده وادعى انه اختصه الله به ، وان العرب مع تطاول الاَزمان لم يعارضوه ، إذا ثبت ما ذكرناه ، وعلمنا أنهم إنما لم يعارضوه لتعذّر المعارضة عليهم فهذا التعذّر معجز خارق للعادة.

فأمّا الذي يدلّ على أنّه عليه‌السلام تحدّى بالقرآن فهو أنّ المراد بالتحدّي أنّه كان يدّعي أنّ جبرئيل يهبط عليه بذلك ، وأنّ الله سبحانه قد أبانه به ، وهذا معلوم ضرورة وهو غاية التحدّي في المعنى.

وأيضاً : فأنّ آيات القرآن صريحة في التحدّي وهي قوله تعالى : (فأتوا بِعَشرِ سُورٍ مِثِلِه) (١) وفي موضع آخر : (فأتوا بِسورَةٍ مِن مِثِله) (٢)

وأمّا الذي يدلّ على انتفاء المعارضة منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة لوجب ظهورها ونقلها ، فإذا لم تنقل وجب القطع على انتفائها ، وإنّما قلنا ذلك لاَنّ جميع ما يقتضي نقل القرآن من قوّة الدواعي وشدّة الحاجة وقرب العهد ثابتٌ في المعارضة ، بل المعارضة تزيد عليه ، لاَنّها كانت تكون

__________________

(١) هود ١١ : ١٣.

(٢) البقرة ٢ : ٢٣.

٧١

الحجّة والقرآن شبهة ، ونقل الحجّة أولى من نقل الشبهة ، وكيف لا تنقل المعارضة لو كانت وقد نقلوا كلام مسيلمة مع ركاكته وبعده عن الشبهة.

فإنّ ادّعي ان المانع من النقل هو الخوف من أهل الاِسلام وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم.

فجوابه : أنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل على كلّ وجه ، وإنّما يمنع من التظاهر به.

ألا ترى أنّ فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف الشديد من بني اُميّة والرهبة من التظاهر بها ، وكان يجب أن ينقل ذلك أعدادالاِسلام أو يكون نقلاً مكتوماً فيما بينهم.

وأيضاً فإنّ الكثرة في الاِسلام كانت بعد الهجرة ، فكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة ، وإذا نقلت وانتشرت لم تكن قوّة الاِسلام موجبة بعد ذلك لخفائها إلاّ أن يدعى أنّ المعارضة لم تقع في تلك المدّة وإنّما وقعت بعد الهجرة ، وفي ذلك كفاية في إعجاز القرآن وثبوت خرق العادة به.

على أنّ الاِسلام وإن قوي حينئذٍ بالمدينة ، فقد كانت لاَهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة ، ومملكة الفرس كانت ثابتة لم يزل ، وممالك الروم وغيرها من البلاد إلى هذه الغاية عريضة ، فكان يجب ظهور المعارضة في هذه البلاد.

وأمّا الذي يدّل على أنّ انتفاء المعارضة كان للتعذّر إنّا قد علمنا أنّ كلّ فعل يرتفع من فاعله مع توفّر دواعيه إليه وقوّة بواعثه عليه فإنّه يدلّ على تعذّره ، فإذا ثبت ذلك وعلمنا أنّ العرب تُحدّوا بالقرآن ولم يعارضوه مع شدّة حاجتهم إلى المعارضة وقوّة دواعيهم ، علمنا أنّها متعذّرة عليهم ، فإذا انضاف إلى ذلك أنّهم قد تكلّفوا الاُمور الشاقّة من الحرب وغيره ممّا لو بلغوا غاية

٧٢

مرادهم فيه لم يكن لهم بذلك حجّة ، اتّضح الاَمر في أنّهم قد تعذّرت المعارضة عليهم ، هذا وقد دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المعارضة وهم ذوو الأنفة والحميّة ، وطالبهم بالرجوع عن دياناتهم ، والنزول عن رئاستهم ، والبراءة من آبائهم وأسلافهم وأبنائهم ، ومجاهدة من خالف دينه وإن كان من أنسابهم وأقربائهم ، وعلموا أنّ بالمعارضة يزول ذلك كلّه ويبطل ، فأيّ داع أقوى من هذا؟ وكيف لا يكونون مدعوّين إليها وقد تحمّلوا ضروباً من الكلف والمشاقّ كالمحاربة وبذل الاَموال ونظم الهجاء ، مع أنّ كلّ ذلك لا يغني ، فلو تيسّرت لهم المعارضة لبادروا إليها ، إذ كانت أسهل ممّا تكلّفوه وتحمّلوه وأحسم للمادّة من كلّ ما فعلوه.

وأمّا الذي يدلّ على أنّ تعذّر المعارضة كان على وجه الاِعجاز هو أنّ ما يمكن أن يدّعى في ذلك أن يقال أنّه عليه‌السلام كان أفصحهم فتأتّى له ما لم يتأت لهم ، أو يقال : إنّه تعمّل زماناً لم يكن طويلاً فلم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضته ، فإذا بطل هذان الوجهان لم يبق إلا أنّ هذا التعذّر غير معهود ، فهو خارق للعادة.

والذي يدلّ على فساد الوجه الاَول : أنّ المطلوب في المعارضة ما يقارب الفصاحة ، والاَفصح يقاربه في كلامه وفصاحته من هو دون طبقته ، فإذا لم يماثلوه ولم يقاربوه فقد انتقضت العادة ، وأيضاً فإنّ الاَفصح إنّما تمتنع مساواته ومجاراته في جميع كلامه أو أكثره وليس تمتنع مجاراته ومساواته في البعض منه على من هو دون طبقته ، بهذا جرت العادة ، ولهذا فقد ساوت الطبقة المتأخّرة من الشعراء الطبقة المتقدمة منهم في البيت والاَبيات ، وربما زادوا عليهم في القليل ، وإذاكان التحدّي وقع بصورة قصيرة من عرض القرآن فكونه أفصح لا يمنع من مساواته في هذا القدر اليسير ، وأيضاً فليس يظهر من كلامه عليه‌السلام فصارحة تزيد على فصاحة غيره من القوم ، ولو

٧٣

كان أفصحهم وكان القرآن من كلامه لظهرت المزيّة في كلامه على كلّ كلام في الفصاحة كما ظهرت مزيّة القرآن.

وأمّا الذي يدلّ على فساد الوجه الثاني ـ وهو إنّه تعمّل زماناً طويلاً ـ : فهو أنّه كان ينبغي أن يتعمّلوا مثله فيعارضوه به مع امتداد الزّمان ، فإذا ثبت أنّ التعذّر خارق للعادة فلابدّ من أحد أمرين : إمّا أن يكون القرآن نفسه خرف العادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه ، وإمّا أن يكون الله تعالى صرفهمعن معارضته ولولا الصرف لعارضوه ، وأيّ الاَمرين كان ثبتت معه صحّة النبوّة ، لاَنّ الله تعالى لا يصدق كاذباً ، ولا يخرق العادة لمبطل ، ولو ذهبنا نَصِفُ ما سطَّره المتكلّمون في هذا الباب من الكلام وما فيه من السؤال والجواب لطال به الكتاب ، وفيما ذكرنا ههنا مقنع وكفاية لذوي الاَلباب.

***

٧٤

(فصل)

في ذكر بيان بعض

معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وأما المعجزات الباهرة الدلاه على نبوته ـ التي هي سوى القرآن ـ فكثيرة أثبتنا متونها وحذفنا أسانيدها لاشتهارها بين الخاص والعام وتلقي الاَمّة إياها بالقبول التام :

فمنها : مجيء الشجرة إليه ، ذكرها أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته القاصعة قال : «لقد كنت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يا محمّد إنّك قد ادّعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبيّ ورسولُ ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحرٌ كذّاب.

فقال لهم : وما تسألون؟

قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل ذلك بكم أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟

قالوا : نعم.

قال : فإنّي ساُريكم ما تطلبون وإنّي لاَعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح في القليب ومن يحزّاب الأحزاب ، ثمّ قال : أيّتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أنّي رسول الله فانقعلي بعروقك حتّى تقفي بين يدّي بإذن الله.

٧٥

فالذي بعثه بالحقّ ، لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتّى وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفوفة ، وألقت بغصنها الاَعلى على رأس رسول الله وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّاً واستكباراً : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً فكادت تلتف برسول الله.

فقالوا كفراً وعتوّاً : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع.

فقلت أنا : لا إله إلا الله ، إنّي أوّل مؤمن بك يا رسول الله ، وأوّل من آمن بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقاً لنبوّتك وإجلالاً لكلمتك.

فقال القوم : بل ساحرٌ كذّاب ، عجيب السحر ، خفيف فيه ، وهل يصدّقك في أمرك غير هذا؟! يعنونني» (١).

ومنها : خروج الماء من بين أصابعه ، وذلك أنّهم كانوا معه في سفر فشكوا أن لا ماء معهم وأنّهم بعرض التلف وسبيل العطب فقال : «كلاّ إنّ معي ربّي عليه توكّلت» ثمّ دعا بركوة فصبّ فيها ماء ما كان ليروي رجلاً ضعيفاً ، وجعل يده فيها فنبغ الماء من بين أصابعه ، وصيح في الناس فشربوا وسقوا حتّى نهلوا وعلّوا وهم اُلوف وهو يقول : «أشهد أنّي رسول الله حقّاً» (٢)

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ : ١٨٣| ذيل الخطبة ١٨٧ ، ونقلها المجلسي في بحار الاَنوار ١٧ : ٣٨٩ | ٥٩.

(٢) انظر : الخرائج والجرائح ١ : ٢٨ | ١٧ ، وكشف الغمة ١ : ٢٣ ـ ٢٤ ، وصحيح البخاري ٤ : ٢٣٤ ، والاَنوار في شمائل النبي المختار ١ : ١٠٥ ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار ١٨ : ٢٧ | ١٠.

٧٦

ومنها : حنين الجذع الذي كان يخطب عنده صلوات الله عليه ، وذلك أنّه كان في مسجده بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس ، فلمّا كثر الناس اتّخذوا له منبراً ، فلمّا صعده حنّ الجذع حنين الناقة فقدت ولدها ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضمّه إليه ، فكان يئنّ أنين الصبيّ الذي يُسكت (١).

ومنها : حديث شاة اُمّ معبد ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا هاجر من مكّة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبدالله بن ارُيقط اللّيثي ، فمرّوا على اُمّ معبد الخزاعيّة ، وكانت امرأة برزة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة ، فسألوا تمراً ولحماً ليشتروه ، فلم يصيبوا عنده شيئاً من ذلك ، وإذا القوم مرمّلون ، فقالت : لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى ، فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كسر خيمتها فقال : «ما هذه الشاة يا اُمّ معبد»؟

قالت : شاة خلّفها الجهد عن الغنم.

فقال : «هل بها من لبن»؟

قالت : هي أجهد من ذلك.

قال : «أتأذنين في أن أحلبها»؟

قالت : نعم بأبي أنت واُمّي إن رأيت بها حلباً فاحلبها.

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشّاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال : «اللّه بارك في شاتها» فتفاجت (٢) ودرّت ، فدعا رسول الله

__________________

(١) انظر : الخرائج والجرائح ١ : ١٦٥ | ٢٥٥ ، ومناقب ابن شهر آشوب ١ : ٩٠ ، وكشف الغمة ١ : ٢٤ ، وصحيح البخاري ٤ : ٢٣٧ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٥٥٦ و ٥٦١ ، والوفا باحوال المصطفى ١ : ٣٢٢ و ٣٢٣ ، والاَنوار في شمائل النبي المختار ١ : ١٣٤ | ١٤٥.

(٢) تفاجت : أي فتحت ما بين رجليها. انظر «الصحاح ـ فجج ـ ١ : ٣٣٣».

٧٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإناء لها يريض الرهط (١) فحلب فيه ثجّاً (٢) حتّى علته الثمال (٣) ، فسقاها فشربت حتّى رويت ، ثم سقى أصحابه فشربوا حتّى رووا ، فشرب عليه‌السلام آخرهم وقال : «ساقي القوم آخرهم شرباً» فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل حتّى أراضوا ، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء ، فغادوا عندها ثمّ ارتحلوا عنها.

فقلّما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزاً عجافاً هزلى مخهنّ قليل ، فلمّا رأى اللبن قال : من أين لكم هذا والشاة عازب ولا حلوبة في البيت؟

قالت : لا والله ، إلاّ أنّه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. الخبر بطوله (٤).

ومنها : خبر سراقة بن جعشم الذي اشتهر في العرب ، يتقاولون فيه الاَشعار ، ويتفاوضونه في الديار ، أنّه تبعه وهو متوجّه إلى المدينة طالباً لغرتّه ليحظى بذلك عند قريش ، حتّى إذا أمكنته الفرصة في نفسه ، وأيقن ان قد ظفر ببغيته ، ساخت قوائم فرسه ، حتّى تغّيبت بأجمعها في الاَرض ، وهو

__________________

(١) يريض الرهط : قال ابن الاَثير في النهاية (٢ : ٢٧٧) : وفي حديث أم معبد «فدعا بإناء يريض الرهط» أي يرويهم بعض الري ، من أراض الحوض إذا صب فيه من الماء ما يوار أرضه.

(٢) ثجّاً : أي انصب بشدة. انظر : «العين ٦ : ١٣».

(٣) الثمال : بالضم ، جمع ثمالة ، وهي الرغوة ، وقد أثمل اللبن أي كثرت ثمالته. «الصحاح ـ ثمل ـ ٤ : ١٦٤٩».

(٤) كشف الغمة ١ : ٢٤ ، الثاقب في المناقب : ٨٥ | ٦٨ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٣٠ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٩ ، دلائل النبوة للاصفهاني ٢ : ٤٣٦ | ٢٣٨ ، دلائل النبوة للبيهقي ١ : ٢٧٨ ، الوفا بأحوال المصطفى ١ : ٢٤٢ ، صفة الصفوة ١ : ١٣٧ ، البداية والنهاية ٣ : ١٩٢ ، الاصابة ٤ : ٤٩٧ ، ونقله عنه المجلسي في بحار الاَنوار ١٨ : ٤٣|٣٠.

٧٨

بموضع جدب وقاع صفصف (١) ، فعلم أنّ الذي أصابه أمر سماوي ، فنادى : يا محمّد ادع ربك يطلق لي فرسي وذمّة الله عليّ أن لا أدلّ عليك أحداً.

فدعا له فوثب جواده كأنّه أفلت من انشوطة ، وكان رجلاً داهية وعلم بما رأى أنّه سيكون له نبأ ، فقال : اكتب لي أماناً ، فكتب له فانصرف (٢).

قال محمّد بن إسحاق : إنّ أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتاً فأجابه سراقة :

أبا حكم واللات لو كنت شاهـداً

لاَمر جوادي إذ تسـيـخ قوائـمه

عجبت ولم تشكك بأنّ مـحـمداً

نـبـيّ وبرهـان فـمن ذا يكاتمه

عليك بكفّ الناس عنه فإنّنــي

أرى أمره يوماً ستبدو مـعالمه(٣)

وروي : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول لاَبي بكر : «أله الناس عنّي فإنّه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب» فكان أبو بكر إذا سئل : ما أنت؟ قال : باغ. فإذا قيل من الذي معك؟ قال : هاد يهديني(٤).

ومنها : حديث الغار ، وأنّه عليه وآله السلام لمّا أوى إلى غار بقرب مكّة يعتوره النزّال(٥) ويأوي إليه الرعاء متوجهه إلى الهجرة ، فخرج القوم في طلبه ، فعمى الله أثره وهو نصب أعينهم ، وصدّهم عنه وأخذ بأبصارهم دونه وهم

__________________

(١) الصفصف : المستوي من الاَرض «الصحاح ـ صفف ـ ٤ : ١٣٧٨».

(٢) الكافي ٨ : ٢٦٣ | ٣٧٨ ، الخرائج والجرائح ١ : ٢٣ | ١ ، مناقب ابن شهر آشوب ١ : ٧١ ، كشف الغمة ١ : ٢٥ ، دلائل النبوة للاصبهاني ٢ : ٤٢٦ ، اُسد الغابة ٢ : ٢٦٤ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٥ ، البداية والنهاية ٣ : ١٨٥ ، باختلاف في بعضها ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار ١٧ : ٣٨٧|٥٣.

(٣) دلائل النبوة للاصبهاني ٢ : ٤٣٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٤٨٩ ، البداية والنهاية ٣ : ١٨٦ ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار ١٧ : ٣٨٧ | ٥٤.

(٤) كشف الغمة ١ : ٢٦ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٣٤ ، دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٤٨٩.

(٥) يعتوره النزّال : يرتاده المسافرون والمارّون بكثرة ، انظر «العين ٢ : ٢٣٧».

٧٩

دهاة العرب ، وبعث سبحانه العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسترته ، وآيسهم ذلك من الطلب فيه.

وفي ذلك يقول السيّد الحميري في قصيدته المعروفة بالمذهّبة :

حتّى إذا قــصـدوا لباب مغاره

ألفوا عليه نسيج غـزل الـعـنـكب

صـنع الاِله له فقال فـريـقـهم

ما في المغار لـطالب مـن مطلـب

مـيـلوا وصدّهم المليك ومن يرد

عنه الدفاع مـلـيـكـه لا يـعطب

وبعث الله حمامتين وحشيّتين فوقعتا بفم الغار ، فأقبل فتيان قريش من كلّ بطن رجل بعصيّهم وهراواهم وسيوفهم ، حتّى إذا كانوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدر أربعين ذراعاً تعجّل رجل منهم لينظر من في الغار ، فرجع إلى أصحابه فقالوا له : ما لك لا تنظر في الغار؟ فقال : رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد ، وسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال ، فدعا لهنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرض جزاءهنّ فانحدرن في الحرم (١).

ومنها : كلام الذئب ، وذلك أنّ رجلاً كان في غنمه يرعاها ، فأغفلها سويعة من نهاره ، فعرض ذئب فأخذ منها شاة ، فأقبل يعدو خلفه فطرح الذئب الشاة ثم كلّمه بكلام فصيح فقال : تمنعني رزقاً ساقه الله إليّ ، فقال الرجل : يا عجباً الذئب يتكلم! فقال : أنتم أعجب وفي شأنكم للمعتبرين عبرة ، هذا محمّد يدعو إلى الحقّ ببطن مكّة وأنتم عنه لاهون ، فأبصر الرجل رشده وأقبل حتّى أسلم وأبقى لعقبه شرفاً لا تخلقه الاَيّام يفخرون به على العرب والعجم

__________________

(١) انظر : الخرائج والجرائح ١ : ٢٥ | ٥ ، وكشف الغمة ١ : ٢٦ ، والطبقات الكبرى ١ : ٢٢٨ ، ودلائل النبوة للاصبهاني ٢ : ٤١٩ | ٢٢٠ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٤٨٢ ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار ١٧ : ٣٩٢ | ٢.

٨٠