إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنة ستّ في شهر ربيع الأول عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً إلى الغمرة (١) ، وبكّر القوم فهربوا ، وأصاب مائتي بعير لهم ، فساقها إلى المدينة (٢).

وفيها : بعث أبا عبيدة بن الجرّاح إلى القصّة (٣) في أربعين رجلاً ،

__________________

=

توبيخ المؤمنين لعدم مسارعتهم إلى تكذيب الأمر ، مع أنهم كانوا بعيدين عن تلك الواقعة ، عكس ما يقع عليهم في قضية مارية والتي تعيش بين ظهرانيهم صباحاً ومساءً أيام إفتراءالافك.

وإذا ذهبنا إلى أن مصدر التوبيخ يرتكز إلى وجوب الدفاع عن حريم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه أصدق وأوضح في قصة مارية ، فتأمل.

وأخيراً نقول : ان اضفاء صفة القدسية المستوحاة من إشارة الباري عز وجل بكهارتها عفتها وبراءتها أمر لا تجد السياسة الاموية المنرفة خيراً منه لاستثمارها حالة الخلاف الحادة التي كانت تعرف بها عائشة قبال أهل البيت عليهم‌السلام كما ذكرنا سابقاً.

نعم ان اضفاء هذه الاعتبارات المهمة إلى شخصية عائشة يعني الكثير للامويين طالماأن لا أحد منهم يمتلك أي قدر من الاعتبار ، بل على العكس من ذلك فلم ينلهم من الله تعالى ورسوله الا التوهين والاستخفاف وتحذير الاُمة من خطرهم وعدائهم للاسلام وأهله.

ولذا فلا غرابة أن نجد لهاث الامويين وسعيه الدائب لشراء ضمائر بعض الصحابة المعروضة في سوق النخاسة ـ أمثال أبي هريرة الدوسي ، وسمرة بن جندب ـ لمنحهم طرفاً من الاعتبار قبال البناء المقدسس لأهل بيت العصمة عليهم‌السلام.

راجع ما كتب حول قصة الافك ، وبالاخص كتاب حديث الافك للسيد جعفر مرتضىالعاملي ، وانظر الروايات المحددة للواقعة بمارية في : صحيح مسلم ٤ : ٢١٣٩ | ٢٧٧١ ، طبقات ابن سعد ٨ : ٢١٤ ، مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي ٤ : ٣٩ و ٤٠ ، الاصابة ٣ : ٣٣٤ ، الاستيعاب بهامش الاصابة ٤ : ٤١١ ، مجمع الزوائد ٩ : ١١٦ ، اُسد الغابة ٥ : ٥٤٣ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٣١٣ ، السيرة الحلبية ٣ : ٣١٢.

(١) الغمرة : من أعمال المدينة على طريق نجد «معجم البلدان ٤ : ٢١٢».

(٢) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠١ ، المغازي للواقدي ٢ : ٥٥ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦٤٠ ، دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩١ | ٣.

(٣) القصة (ذو القصة) : موضع بين زبالة والشقوق دون الشقوق بميلين ، فيه قُلبٌ لأعراب

=

٢٠١

فأغار عليهم وأعجزهم هرباً في الجبال وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم (١).

وفيها : بعث محمّد بن مسلمة إلى قوم من هوازن فكمن القوم لهم وافلت محمّد وقتل أصحابه (٢).

وفيها : كانت سريّة زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بني سُليم ، فأصابوا نعماً وشاء وأسرى (٣).

وفيها : كانت سريّة زيد بن حارثة إلى العيص (٤) (٥).

وفيها : سريّة بن حارثة إلى الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً ، فهربوا وأصاب منهم عشرين بعيراً (٦).

__________________

=

يدخلها ماء السماء عذباً زلالاً.

وقيل : هو موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلاً «انظر : معجم البلدان ٤ : ٣٦٦».

(١) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠١ ، المغازي للواقدي ٢ : ٥٢٢ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٨٦ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦٤١ ، دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩١ | ٣.

(٢) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠١ ، المغازي للواقدي ٢ : ٥٥١ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٨٥ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦٤١.

(٣) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠١ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٨٦ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦٤١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٢ | ٣.

(٤) العيص : موضع في بني سُليم به ماء يقال له : ذنبان العيص «معجم البلدان ٤ : ١٧٣».

(٥) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠١ ، المغازي للواقدي ٢ : ٥٥٣ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٨٧ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦٤١ ، دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٢ | ٣.

(٦) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ٢ : ٢٠١ ، المغازي للواقدي ٢ : ٥٥٥ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٨٧ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦٤١ ، دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٣٠ : ٢٩٢ | ٣.

٢٠٢

وفيها : كانت غزوة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى بني عبدالله بن سعد من أهل فدك ، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ لهم جمعاً يريدون أن يمدّوا يهود خيبر (١).

وفيها : سريّة عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل (٢) في شعبان ، وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أطاعوا فتزوّج ابنة ملكهم» فأسلم القوم وتزوّج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ ، وكان أبوها رأسهم وملكهم (٣)

وفيها : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في قول الواقدي ـ إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستاقوا الاِبل عشرين فارساً ، فاتي بهم ، فاُمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، وتركوا بالحرّة حتّى ماتوا (٤).

__________________

(١) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٢ ، المغازي للواقدي ٢ : ٥٦٢ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٨٩ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦٤٢ ، دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٣ | ٣.

(٢) دومة الجندل : جاء في حديث الواقدي : دوماء الجندل ، وعدها ابن النقية من أعمال المدينة. سميت بدوم بن إسماعيل بن إبراهيم عليه‌السلام ، وقال الزّجاجي : دومان بن اسماعيل. وقيل : كان لاسماعيل عليه‌السلام ولد اسمه دما ، ولعله مغيّر منه.

وقال الكلبي : دوماء بن إسماعيل ، قال : ولما كثر ولد إسماعيل عليه‌السلام بتهامة خرج دوماء بن إسماعيل حتى نزل موضع دومة ، وبنى به حصناً ، فقيل : دوماء ، ونسب الحصن إليه. وهي على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : سميت دومة الجندل لاَن حصنها مبني بالجندل « انظر : معجم البلدان ٢ : ٤٨٧».

(٣) انظر : المغازي للواقدي ٢ : ٥٦٠ ، والطبقات الكبرى ٢ : ٨٩ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٦٤٢ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٣ | ٣.

(٤) المغازي للواقدي ٢ : ٥٦٩ ، وانظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٢ ، وتاريخ الطبري

=

٢٠٣

وروي عن جابر بن عبدالله : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليهم فقال : «اللهمّ عمّ عليهم الطريق» قال : فعمي عليهم الطريق(١)

وفيها : اُخذت أموال أبي العاص بن الربيع وقد خرج تاجراً إلى الشام ومعه بضائع لقريش ، فلقيته سريّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستاقوا عيره وأفلت ، وقدموا بذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقسّمه بينهم ، وأتى أبو العاص فاستجار بزينب بنت رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم وسألها أن تطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ ماله عليه وما كان معه من أموال الناس ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السريّة وقال : «إنّ هذا الرجل منّا بحيث قد علمتم ، فإن رأيتم أن تردّوا عليه فافعلوا».

فردّوا عليه ما أصابوا ، ثمّ خرج وقدم مكّة ورد على الناس بضائعهم ، ثمّ قال : أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلاّ توقّياً أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم ، وإنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله(٢).

وفيها : كانت غزوة الحديبية في ذي القعدة ، خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس كثير من أصحابه يريد العمرة وساق معه سبعين بدنة ، وبلغ ذلك المشركين من قريش ، فبعثوا خيلا ليصدّوه عن المسجد الحرم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى أنّهم لا يقاتلونه لاَنّه خرج في الشهر الحرام ،

__________________

=

٢ : ٦٤٤ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٧ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٤ | ٣.

(١) انظر : دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٤ | ٣.

(٢) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٢ ، والمغازي للواقدي ٢ : ٥٥٣ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٨٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٤ | ٣.

٢٠٤

وكان من أمر سهيل بن عمرو وأبي جندل ابنه وما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شكّ به من زعم أنّه ما شكّ إلاّ يومئذ في الدين.

وأتى بدليل بن ورقاء إلى قريش فقال لهم : يا معشر قريش خفّضوا عليكم ، فإنّه لم يأت يريد قتالكم وإنّما يريد زيارة هذا البيت.

فقالوا : والله ما نسمع منك ولا تحدّث العرب أنّه دخلها عنوة ، ولا نقبل منه إلاّ أن يرجع عنّا ، ثمّ بعثوا إليه بكر بن حفص وخالد بن الوليد وصدّوا الهدي.

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان بن عفّان إلى أهل مكّة يستأذنهم في أن يدخل مكّة معتمراً ، فأبوا أن يتركوه ، واُحتبس عثمان ، فظنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم قتلوه فقال لاَصحابه : «أتبايعونني على الموت؟» فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفرّوا عنه أبداً.

ثمّ إنّهم بعثوا سهيل بن عمرو فقال : يا أبا القاسم ، إنّ مكّة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك أنّك قد غزوتنا ، ومتى ما تدخل علينا مكّة عنوة يطمع فينا فنتخطّف ، وإنّا نذكرك الرحم ، فإنّ مكّة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

قال : «فما تريد؟».

قال : اُريد أن أكتب بيني وبينك هدنة على أن اُخلّيها لك في قابل فتدخلها ولا تدخلها بخوف ولا فزع ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب ، السيف في القراب والقوس.

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأخذ أديماً احمراً فوضعه على فخذه ثمّ كتب : «بسم الله الرحمن الرحيم.» ـ وسنذكر تمام ذلك في مناقب أمير المؤمنين ـ :

هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله بن عبد المطلب ومن معه من

٢٠٥

المسلمين سهيل بن عمرو ومن معه من أهل مكّة : على أنّ الحرب مكفوفة فلا إغلال ولا إسلال ولا قتال ، وعلى أن لا يستكره أحد على دينه ، وعلى أن يعبد الله بمكة علانية ، وعلى أنّ محمداً ينحر الهدي مكانه ، وعلى أن يخلّيها له في قابل ثلاثة أيّام فيدخلها بسلاح الراكب وتخرج قريش كلّها من مكّة إلاّ رجل واحد من قريش يخلفونه مع محمّد وأصحابه ، ومن لحق محمّداً وأصحابه من قريش فإن محمداً يرده إليهم ، ومن رجع من أصحاب محمّد إلى قريش بمكّة فإنّ قريشاً لا تردّه إلى محمّد ـ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا سمع كلامي ثمّ جاءكم فلا حاجة لي فيه» ـ وأن قريشاً لا تعين على محمّد وأصحابه احداً بنفس ولا سلاح...إلى آخره.

فجاء أبو جندل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جلس إلى جنبه ، فقال أبوه سهيل : ردّه عليّ ، فقال المسلمون : لا نردّه.

فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذ بيده وقال : «اللّهم إن كنت تعلم أنّ أبا جندل لصادقٌ فاجعل له فرجاً ومخرجاً» ثمّ أقبل على الناس وقال : «إنّه ليس عليه بأس ، إنّما يرجع إلى أبيه واُمه ، وإنّي أريد أن اتمّ لقريش شرطها».

ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وأنزل الله في الطريق سورة الفتح (اِنّا فَتَحنا لَكَ فَتحاً مُبيناً)(١).

قال الصادق عليه‌السلام : «فما انقضت تلك المدّة حتّى كاد الاسلام يستولي على أهل مكّة».

__________________

(١) انظر : ارشاد المفيد ١ : ١١٩ ، والمناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٢ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٢ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٤ ، وتاريخ الطبري ٦٢٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٦١ | ١٠.

٢٠٦

ولمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة انفلت أبو بصير بن اُسيد بن جارية (١) الثقفي من المشركين ، وبعث الأخنس بن شريق في أثره رجلين فقتل أحدهما وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلماً مهاجراً فقال [له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : «مسعّر حرب لو كان معه احد» ثمّ قال : «شأنك بسلب صاحبك ، واذهب حيث شئت».

فخرج أبو بصير ومعه خمسة نفر كانوا قدموا معه مسلمين ، حتّى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش مما يلي سيف البحر ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين رجلاً راكباً اسلموا فلحق بأبي بصير ، واجتمع إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة حتّى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون ، لا تمرّ بهم عير لقريش إلاّ أخذوها وقتلوا أصحابها ، فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله يسألونه ويتضرّعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم فيقدموا عليه ، وقالوا : من خرج منّا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه. فعلم الذين كانوا أشاروا على رسول الله أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية (٢) أنّ طاعة رسول الله خير لهم فيما أحبّوا وفيما كرهوا.

وكان أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما هم الذين مرّ بهم أبو العاص بن الربيع من الشام في نفر من قريش فأسروهم وأخذوا ما معهم ولم يقتلوا منهم أحداً لصهر أبي العاص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخلّوا سبيل أبي العاص فقدم المدينة على امرأته وكان أذن لها حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبو العاص هو

__________________

(١) في نسخة «ط» : حارثة.

(٢) في نسخة «م» : القصة.

٢٠٧

ابن اُخت خديجة بنت خويلد(١).

ثمّ كانت غزوة خيبر في ذي الحجّة من سنة ستّ ـ وذكر الواقديّ : أنّها كانت أوّل سنة سبع من الهجرة (٢) ـ وحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضعاً وعشرين ليلة ، وبخيبر أربعة عشر ألف يهوديّ في حصونهم ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفتتحها حصناً حصناً ، وكان من أشدّ حصونهم وأكثرها رجالاً القموص ، فأخذ أبو بكر راية المهاجرين فقاتل بها ثمّ رجع منهزماً ، ثمّ أخذها عمر بن الخطّاب من الغد فرجع منهزماً يجبّن الناس ويجبّنونه حتّى ساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فقال : «لاعطيّن الراية غداً رجلاً كرّاراً غير فرّار ، يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ولا يرجع حتّى يفتح الله على يده».

فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أمّا عليّ فقد كفيتموه فإنّه أرمد لا يبصر موضع قدمه. وقال عليّ عليه‌السلام لمّا سمع مقالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللّهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت».

فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجتمع إليه الناس. قال سعد : جلست نصب عينيه ثمّ جثوت على ركبتي ثمّ قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني ، فقال : «ادعو لي عليّاً» فصاح الناس من كلّ جانب : إنّه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه فقال : «أرسلوا إليه وادعوه».

فاُتي به يقاد ، فوضع رأسه على فخذه ثمّ تفل في عينيه ، فقام وكأنَّ عينيه جزعتان (٣) ، ثمّ أعطاه الراية ودعا له فخرج يهرول هرولة ، فوالله ما بلغت

__________________

(١) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٤ ، دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ١٧٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٦٣.

(٢) المغازي للواقدي ٢ : ٦٣٤.

(٣) الجزع : ضرب من الخرز ، وقيل : هوالخرز اليماني ، وهو الذي فيه بياض وسواد تشبّه به

=

٢٠٨

اُخراهم حتّى دخل الحصن.

قال جابر : فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا ، وصاح سعد : يا أبا الحسن أربع يلحق بك الناس ، فأقبل حتّى ركزها قريباً من الحصن فخرج إليه مرحب في عادية اليهود (١) فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط ، وحمل علي والمسلمون عليهم فانهزموا (٢).

قال أبان : حدّثنى زرارة قال : قال الباقر عليه‌السلام : «انتهى إلى باب الحصن وقد اُغلق في وجهه فاجتذبه اجتذاباً وتترّس به ، ثمّ حمله على ظهره واقتحم الحصن اقتحاماً ، واقتحم المسلمون والباب على ظهره. قال : فوالله ما لقي عليّ عليه‌السلام من الناس تحت الباب أشدّ ممّا لقي من الباب ، ثمّ رمى بالباب رمياً.

وخرج البشير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ عليّاً دخل الحصن ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج عليّ يتلقّاه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد بلغني نبأك المشكور وصنيعك المذكور ، قد رضي الله عنك ورضيت أنا عنك. فبكى عليّ عليه‌السلام ، فقال له : ما يبكيك يا علي؟ فقال : فرحاً بأنّ الله ورسوله عنّي راضيان.

قال : وأخذ عليّ فيمن أخذ صفيّة بنت حييّ ، فدعا بلالاً فدفعها إليه

__________________

=

الأعين. «لسان العرب ٨ : ٤٨».

(١) في نسخة «م» : عادته باليهود.

(٢) انظر : الارشاد للمفيد ١ : ١٢٥ ، والخرائج والجرائح ١ : ١٥٩ | ٢٤٩ ، المغازي للواقدي ٢ : ٦٥٣ ، والطبقات الكبرى ٢ : ١١٠ ـ ١١٢ ، سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩ ، وتاريخ الطبري ٣ : ١١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٢٠٩ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢١٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢١ | ١٧.

٢٠٩

وقال له : لا تضعها إلاّ في يدي رسول الله حتّى يرى فيها رأيه ، فأخرجها بلال ومرّ بها إلى رسول الله على القتلى ، وقد كادت تذهب روحها فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبلال : أنزعت منك الرحمة يا بلال؟! ثمّ اصطفاها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنفسه ، ثمّ اعتقها وتزوّجها».

قال : فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خيبر عقد لواء ثمّ قال : «من يقوم إليه فيأخذه بحقّه؟» وهو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك ، فقام الزبير إليه فقال : أنا ، فقال له : «امط عنه» ثمّ قام إليه سعد ، فقال : «امط عنه» ، ثمّ قال : «يا عليّ قم إليه فخذه» فأخذه فبعث به إلى فدك فصالحهم على أن يحقن دماءهم ، فكانت حوائط فدك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّاً خالصاً. فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : «إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك تؤتي ذا القربى حقّه».

فقال : «يا جبرئيل ومن قرباي وما حقّها؟».

قال : «فاطمة فأعطها حوائط فدك ، وما لله ولرسوله فيها».

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام وكتب لها كتاباً جاءت به بعد موت أبيها إلى أبي بكر وقالت : «هذا كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي ولا بني»(١).

قال ولمّا افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة إلى المدينة ، فقال : «ما

__________________

(١) انظر : سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، وتاريخ الطبري ٣ : ١٣ ـ ١٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٢ | ١٧.

٢١٠

أدري بأيّهما أنا أسرّ ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» (١).

وعن سفيان الثوريّ ، عن أبي الزّبير ، عن جابر قال : لمّا قدم جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام من أرض الحبشة تلقّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا نظر جعفر إلى رسول الله حجل ـ يعني مشى على رجل واحدة ـ إعظاماً لرسول الله ، فقبّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين عينيه (٢).

وروى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا استقبل جعفراً التزمه ثمّ قبّل بين عينيه ، قال : «وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث قبل أن يسير إلى خيبر عمرو بن اُميّة الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة ، ودعاه إلى الإسلام فأسلم ، وكان أمر عمراً أن يتقدم بجعفر وأصحابه ، فجهّز النجاشي جعفراً وأصحابه بجهاز حسن ، وأمر لهم بكسوة ، وحملهم في سفينتين» (٣).

ثمّ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه الزهري ـ عبدالله بن رواحة في ثلاثين راكباً فيهم عبدالله بن أنيس إلى اليسير بن رزام اليهودي ، لمّا بلغه أنّه يجمع غطفان ليغزو بهم. فأتوه فقالوا : أرسلنا إليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستعملك على خيبر ، فلم يزالوا به حتّى تبعهم في ثلاثين رجلاً مع كلّ رجل منهم رديف من المسلمين.

فلمّا ساروا ستّة أميال ندم اليسير فأهوى بيده إلى سيف عبدالله بن

__________________

(١) نوادر الراوندي : ٢٩ ، سيرة ابن هشام ٤ : ٣ ، دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٢٤٦ ، سيرة ابن كثير ٣ : ٣٩٠ و ٤٨٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٣ | ١٧.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٢٤٦ ، سيرة ابن كثير ٣ : ٣٩١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٣ | ١٧.

(٣) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٣ | ١٧.

٢١١

أنيس ، ففطن له عبدالله فزجر بعيره ثمّ اقتحم يسوق بالقوم حتّى إذا استمكن من اليسير ضرب رجله فقطعها ، فاقتحم اليسير وفي يده مخرش (١) من شوحط (٢) فضرب به وجه عبدالله فشجّه مأمومة (٣) ، وانفكأ كلّ المسلمين على رديفه فقتله ، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدّا ، ولم يصب من المسلمين أحد ، وقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبصق في شجّة عبدالله بن أنيس فلم تؤذه حتّى مات (٤).

وبعث غالب بن عبدالله الكلبي إلى أرض بني مرّة فقتل وأسر (٥).

وبعث عيينة بن حصن البدري إلى أرض بني العنبر فقتل وأسر (٦).

ثمّ كانت عمرة القضاء سنة سبع اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين شهدوا معه الحديبية ، ولمّا بلغ قريشاً ذلك خرجوا متبدّدين ، فدخل مكّة وطاف بالبيت على بعيره بيده محجن (٧) يستلم به الحجر ، وعبدالله بن رواحة أخذ بخطامه وهو يقول :

خلّوا بني الكفّار عن سبيلهِ

خلّوا فكلّ الخيرِ في رسولهِ

__________________

(١) المخرش : خشبة يخط بها الخرّاز. «الصحاح ـ خرش ـ ٣ : ١٠٠٤».

(٢) الشوحط : ضرب من شجر الجبال تتخذ منه القسي. «النهاية ٢ : ٥٠٨».

(٣) المأمومة : الشجة التي بلغت اُم الرأس. «لسان العرب ١٢ : ٣٣».

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٢٩٤ ، سيرة ابن كثير ٣ : ٤١٨ ، وانظر : المغازي للواقدي ٢ : ٥٦٦ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٤١.

(٥) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٥ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٢٧١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٢٩٧ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٤١.

(٦) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٥ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٤١.

(٧) المحجن : عصا معقّفة الرأس كالصولجان : «لسان العرب ١٣ : ١٠٨».

٢١٢

قد أنزل الرحمنُ في تنزيله

نضربكم ضرباً على تأويلهِ

كـما ضربناكم على تنزيلهِ

ضربناً يزيلُ الهامَ عن مقيله

يا رب إني مؤمن بقيله

وأقام بمكّة ثلاثة أيّام ، وتزوّج بها ميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، ثمّ خرج فابتنى بها بسرف ، ورجع إلى المدينة فأقام بها حتّى دخلت سنة ثمان(١).

وكانت غزوة مؤتة(٢)في جمادى من سنة ثمان ، بعث جيشاً عظمياً وأمّر عليه‌السلام على الجيش زيد بن حارثة ثمّ قال : «فإن اُصيب زيد فجعفر ، فإن اُصيب جعفر فعبدالله بن رواحة ، فإن اُصيب فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم»(٣).

وفي رواية أبان بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام : أنّه استعمل عليهم جعفراً ، فإن قتل فزيد ، فإن قتل فابن رواحة.

ثمّ خرجوا حتّى نزلوا معان(٤) ، فبلغهم أنّ هرقل قد نزل بمأرب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة(٥).

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٥ ، وانظر : سيرة ابن هشام ٤ : ١٣ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٢٤ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٧ ، وسيرة ابن كثير ٣ : ٤٣١.

(٢) مؤتة : قرية من قرى البلقاء في حدود الشام.

وقيل : مؤتة من مشارف الشرف ، وبها كانت تطبع السيوف ، واليها تُنسب المشرفية من السيوف. «معجم البلدان ٥ : ٢٢٠».

(٣) المغازي للواقدي ٢ : ٧٥٦ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ١٥ ، الطبقات الكبرى ٢ : ١٢٨ ، وصحيح البخاري ٥ : ١٨٢ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٥ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٣٦ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٣٦١ ، وسيرة ابن كثير٣ : ٤٥٥.

(٤) معان : مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء. «معجم البلدان ٥ : ١٥٣».

(٥) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٥ ، وانظر : تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٥ ، ونقله المجلسي في

=

٢١٣

وفي كتاب أبان بن عثمان : بلغهم كثرة عدد الكفّار من العرب والعجم من لخم وجذام وبلّي وقضاعة ، وانحاز المشركون إلى أرض يقال لها : المشارف ، وإنّما سمّيت السيوف المشرفيّة لاَنّها طبعت لسليمان بن داود بها ، فأقوا بمعان يومين فقالوا : نبعث إلى رسول الله فنخبره بكثرة عدوّنا حتّى يرى في ذلك رأيه.

فقال عبدالله بن رواحة : يا هؤلاء إنّا والله ما نقاتل الناس بكثرة وإنّما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فقالوا : صدقت.

فتهيّؤوا ـ وهم ثلاثة آلاف ـ حتّى لقوا جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال لها : شرف ، ثمّ انحاز المسلمون إلى مؤتة ، قرية فوق الأحساء(١).

وعن أنس بن مالك قال : نعى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعفراً وزيد بن حارثة وابن رواحة ، نعاهم قبل أن يجيء خبرهم وعيناه تذرفان. رواه البخاري في الصحيح(٢).

قال أبان : وحدّثني الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «اُصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة ، خمس وعشرون منها في وجهه»(٣).

قال عبدالله بن جعفر : أنا احفظ حين دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اُمّي فنعى لها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهرقان الدموع حتّى تقطر على لحيته ، ثمّ قال : «اللهم إنّ جعفراً

__________________

=

بحار الأنوار ٢١ : ٥٥|٨.

(١) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٥ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ١٩ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٣٧ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٣٦٠ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٥٦.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٨٢ ، وكذا في : دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٣٦٦. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٥٦.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٥٦.

٢١٤

قد قدم إليك إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذرّيّته بأحسن ما خلّفت أحداً من عبادك في ذرّيّة».

ثمّ قال : «يا أسماء ألا اُبشّرك؟».

قالت : بلى بأبي أنت واُمّي يا رسول الله.

قال : «إنّ الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنّة».

قالت : فاعلم الناس ذلك.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتّى رقى المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى والحزن يعرف عليه ، فقال : «إن المرء كثير بأخيه وابن عمّه ، ألا إنّ جعفراً قد استشهد وجُعل له جناحان يطير بهما في الجنّة».

ثمّ نزل عليه‌السلام ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام يصنع لأجلي ، وأرسل إلى أخي فتغذينا عنده غذاء طيّباً مباركاً ، وأقمنا ثلاثة أيّام في بيته ندور معه كلّما صار في بيت إحدى نسائه ، ثمّ رجعنا إلى بيتنا ، فأتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا اُساوم شاة أخ لي فقال : «اللّهم بارك له في صفقته» قال عبدالله : فما بعت شيئاً ولا اشتريت شيئاً إلاّ بورك لي فيه(١).

قال الصادق عليه‌السلام : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة عليها‌السلام : إذهبي فابكي على ابن عمّك ، ولا (٢) تدعي بثكل فما قلت فقد صدقت»(٣).

__________________

(١) المغازي للواقدي ٢ : ٧٦٦ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٣٧١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٥٦.

(٢) في نسخة «م» : فأن لم.

(٣) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٥٧.

٢١٥

وذكر محمّد بن إسحاق عن عروة قال : لمّا أقبل أصحاب مؤتة تلقّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون معه ، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون : يا فرّار ، فررتم في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليسوا بفرّار ولكنّهم الكرّار إن شاء الله»(١).

ثمّ كانت غزوة الفتح في شهر رمضان من سنة ثمان ، وذلك أنّ رسول الله لمّا صالح قريشاً عام الحديبية دخلت خزاعة في حلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهده ، ودخلت كنانة في حلف قريش ، فلمّا مضت سنتان من القضيّة قعد رجل من كنانة يروي ههجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له رجل من خزاعة : لا تذكر هذا ، قال : وما أنت وذاك؟ فقال : لئن أعدت لأكسرنّ فاك.

فأعادها ، فرفع الخزاعي يده فضرب بها فاه ، فاستنصر الكناني قومه ، والخزاعي قومه ، وكانت كنانة أكثر فضربوهم حتّى أدخلوهم الحرم ، وقتلوا منهم ، وأعانتهم قريش بالكراع والسلاح ، فركب عمرو بن سالم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخبّره الخبر وقال أبيات شعر ، منها :

لا هـــمّ أنّي ناشدٌ محمّداً

حلف أبينا وأبيه الأتـلدا

أنّ قـريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وقتلونا ركعاً وسجداً

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حسبك يا عمرو» ثمّ قام فدخل دار ميمونة وقال : «اسكبوا لي ماء» فجعل يغتسل ويقول : «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب».

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٦ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٢٤ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٤٢ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٣٧٤ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٣٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٥٧.

٢١٦

ثمّ اجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المسير إلى مكّة ، وقال : «اللّهمّ خذ العيون عن قريش حتّى نأتيها في بلادها».

فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش : أنّ رسول الله خارج إليكم يوم كذا وكذا. فخرجت وتركت الطريق ثمّ أخذت ذات اليسار في الحرّة ، فنزل جبرئيل فأخبره ، فدعا عليّاً عليه‌السلام والزبير فقال لهما : «أدركاها وخذا منها الكتاب».

فخرج عليّ عليه‌السلام والزبير لا يلقيان أحداً حتّى وردا ذا الحليفة ، وكان النبي عليه‌السلام وضع حرساً على المدينة ، وكان على الحرس حارثة بن النعمان ، فأتيا الحرس فسألاهم فقالوا : ما مرّ بنا أحدٌ ، ثمّ استقبلا حاطباً فسألاه ، فقال : رأيت امرأة سوداء انحدرت من الحرّة. فأدركاها فأخذ عليّ عليه‌السلام منها الكتاب وردّها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فدعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاطباً فقال له : «انظر ما صنعت».

قال : أما والله إنّي لمؤمن بالله ورسوله ما شككت ، ولكنّي رجلٌ ليس لي بمكّة عشيرة ، ولي بها أهل فأردت أن أتّخذ عندهم يداً ليحفظوني فيهم.

فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فوالله لقد نافق.

فقال عليه‌السلام : «إنّه من أهل بدر ، ولعل الله اطّلع عليهم فغفر لهم ، أخرجوه من المسجد».

فجعل الناس يدفعون في ظهره وهو يلتفت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليرق عليه ، فأمر بردّه وقال عليه‌السلام : «قد عفوت عن جرمك فاستغفر ربّك ولا تعد لمثل هذه ما حييت» فأنزل الله سبحانه (يا أيُّها الَّذَينَ

٢١٧

آمَنُوا لا تَتَّخِذوا عَدوي وعَدوكُم أولياءَ)(١)ـ إلى صدر(٢) السورة ـ (٣).

فصل :

قال أبان : وحدثني عيسى بن عبدالله القمي ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : لما انتهى الخبر إلى أبي سفيان ـ وهو بالشام ـ بما صنعت قريش بخزاعة أقبل حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد احقن دم قومك وأجر بين قريش وزدنا في المدة.

قال : «أغدرتم يا أبا سفيان؟».

قال : لا.

قال : «فنحن على ما كنا عليه».

فخرج فلقي أبا بكر فقال : يا أبا بكر أجر بين قريش ، قال : ويحك وأحد يجير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

ثم لقي عمر فقال له مثل ذلك.

ثم خرج فدخل على اُم حبيبة ، فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال : يا بنيّة أرغبةً بهذا الفراش عني؟

قالت : نعم ، هذا فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك.

ثم خرد فدخل على فاطمة فقال : يا بنت سيد العرب تجيرين بين قريش وتزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس؟

__________________

(١) الممتحنة ٦٠ : ١.

(٢) كذا ، ولعل مراده إلى آخر الآيات الواردة في صدر السورة ، والتي نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وهي خمس آيات.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٣٢ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٨ ، وانظر : تاريخ الطبري ٢ : ٤ و ٤٨ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٣٩ ، وسيرة ابن كثير ٣ : ٥٢٦ و ٥٣٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٢٤ |٢٢.

٢١٨

قالت : «جواري في جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

قال : فتأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس؟

قالت : «والله ما يدري ابناي ما يجيران من قريش».

فخرج فلقي عليّاً عليه‌السلام فقال : أنت أمسّ القوم بي رحماً ، وقد اعتسرت عليّ الاُمور ، فاجعل لي منها وجهاً.

قال : «أنت شيخ قريش تقوم على باب المسجد فتجير بين قريش ثمّ تقعد على راحلتك وتلحق بقومك».

قال : وهل ترى ذلك نافعي؟

قال : «لا أدري».

فقال : يا أيّها الناس إنّي قد أجرت بين قريش ، ثمّ ركب بعيره وانطلق فقدم على قريش ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : جئت محمّداً فكلّمته فوالله ما ردّ عليّ شيئاً ، ثمّ جئت ابن أبي قحافة فلم أجد عنده خيراً ، ثمّ جئت إلى ابن الخطّاب فكان كذلك ، ثمّ دخلت على فاطمة فلم تجيبني ، ثمّ لقيت عليّاً فأمرني أن أجير بين الناس ففعلت.

قالوا : هل أجاز ذلك محمد؟

قال : لا أدري.

قالوا : ويحك ، لعب بك الرجل ، أوَأنت تجير بين قريش؟! (١).

فصل

قال : وخرج رسول الله يوم الجمعة حين صلّى العصر لليلتين مضتا من شهر رمضان ، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، ودعا

____________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠٦ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٤٦ ، وسيرة ابن كثير ٣ : ٥٣٠ ، وفي الأخيرين باختلاف يسير ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٢٦.

٢١٩

رئيس كلّ قوم فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم.

قال الباقر عليه‌السلام : «خرج رسول الله في غزوة الفتح فصام وصام الناس حتّى نزل كراع الغميم فأمر بالاِفطار فأفطر الناس ، وصام قوم فسُمّوا العصاة لاَنّهم صاموا. ثمّ سار عليه‌السلام حتّى نزل مرّ الظهران ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ونحو من أربعمائة فارس وقد عميت الأخبار من قريش ، فخرج في تلك الليله أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً ، وقد كان العبّاس بن عبد المطّلب خرج يتلقّى رسول الله ومعه أبو سفيان بن الحارث وعبدالله بن أبي اُميّة وقد تلقّاه بنيق العقاب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبّته ـ وعلى حرسه يومئذ زياد بن اُسيد ـ فاستقبلهم زياد فقال : أمّا أنت يا أباالفضل فامض إلى القبّة ، وأمّا أنتما فارجعا.

فمضى العبّاس حتّى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّم عليه وقال : بأبي أنت واُمّي هذا ابن عمّك قد جاء تائباً وابن عمّتك.

قال : «لا حاجة لي فيهما ، إنّ ابن عمّي انتهك عرضي ، وأمّا ابن عمّتي فهو الذي يقول بمكّة : لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً».

فلمّا خرج العبّاس كلّمته اُمّ سلمة وقالت : بأبي أنت واُمّي ابن عمّك قد جاء تائباً ، لا يكون أشقى الناس بك ، وأخي ابن عمّتك وصهرك فلا يكونّن شقيّاً بك.

ونادى أبو سفيان بن الحارث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن لنا كما قال العبد الصالح : لا تثريب عليكم ، فدعاه وقبل منه ، ودعا عبدالله بن أبي اُميّة فقبل منه.

وقال العبّاس : هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنوة ، قال : فركبت بغلة رسول الله صلّى الله

٢٢٠