إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.

وبعد :

فربما كان الخلاف العقائدي في فهم الارتباط العضوي بين استمرار الحكم الالهي في الارض ـ بين الفرق الاسلامية المختلفة ـ وعلله فيها ، هو المحور الاَساس الذي ابتنت عليه الاطروحات المختلفة في كتابة وتدوين التأريخ الاسلامي ، ووضع لبناته الاُولى ، وبالتالي ما ترتّب عليها من نتائج وحلقات تعرّضت جملة منها ـ إن لم يكن أكثرها ـ الى النقد والتجريح والرد ، وبشكل حاد وقاطع.

فالاعتقاد المغلوط الذي وضع وأقام أول أركانه أتباع السقيفة والبيت الاموي من خلال مصادرتهم للحكم الالهي ودفعه قسراً عن أصحابه الشرعيين ، وبالتالي محاولتهم ـ وبترويج من بطانتهم والمقتاتين من فتات موائدهم ـ تركيز مفهومهم المنحرف باقامة بنيان فاسد قبالة البنيان المقدَّس الذي أقامه

٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله تعالى ، كلّ ذلك كان هو المدخل الكبير الذي قامت عليه الاطروحة الهادفة إلى تجريد أهل البيت عليهم‌السلام من درهم الكبير ، وقطبيتهم المركوزة بأمر السماء ، والذاهبة ـ أي تلك الاطروحة ـ ابتداءً الى القول بان استمرار هذا الحكم الالهي في الاَرض مرتبط بوجود واستمرار الاُمّة فحسب ، متجاهلة عمداً الدلائل المقطوع بها ، والقائلة بأنحياة الأُمة وديمومتها ، وبالتي استقامة مناهجها وصواب مسيرتها ، مرتبط بشكل عضوي ومحسوم بالوجود المقدّس لاهل بيت النبوة عليهم‌السلام وقائم بقيامهم (١).

ومن ثم دأبَ أصحاب تلك النظرية وسعوا سعيهم لتضييق هذا المفهوم وحصره في اُضيق حدوده المنظورة ليدور في فلك الحكّام والملوك ، وبالتالي كلّ ما يرتبط بهم ، ويتصل بسياساتهم ، وكأنهم قد أمسوا المراكز الاساسية التي تنطلق من خلالها حقائق الوجود ، ومناهجه الكبرى ، فأغرق كاتبو ذلك التأريخ ما سطّروه من صفحات كتبهم التأريخية بتفاصيل ودقائق واسفافات سقيمة لحياة هؤلاء الحكّام والسلاطين ، متجاوزين أوسع وأعظم الحلقات الكبرى التي تشكّل قطب وجود الاُمم ، ومركز ديموتها ، بالدليلين العقلي والنقلي.

__________________

(١) لا غرو في ذلك ، فان الكثير من الدلائل والشواهد القاطعة التي تعرضت لايضاحها كتب الاصحاب تدل على حقيقة هذا الامر دلالة لا يسع أحد أنكارها أو مناقشتها ، فهم عليهم‌السلام سفينة حطة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، وهم الامان لاهل الارض ، وهم النجوم التي يضل دون الاهتداء بها ، والاسترشاد بنورها ، بل وهم الذين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله امته بان تنزلهم منزلة الرأس من الجسد ، وغير ذلك من الاحاديث والاخبار المنبئة بان مركز الامة وقطبها هم أهل بيت النبوة عليهم‌السلام لا غير ، فتأمل.

٦

نعم ، فاذا أعتبرنا بان كتابه التأريخ واحدة من أجلّ العلوم والمعارف الانسانية التي تعمل على مد الجسور والصلات الحياتية ـ بمفرداتها المختلفة ـ والفكرية ، وربطها بالحاضر المعاش ، وحيث ينبغي ان تكون صورة منعكسة صادقة عن واقع الاحداث الدائرة حول مراكزها الحقيقية ، وأقطابها الحقيقية.

فان الدور الذي لعبته دوائر القرار السياسي الحاكمة إبان ابتناء اللبنات الاولى لقيام هذا البنيان الكبير كان له الاثر الكبير في ترسيخ جملة من المفاهيم والقواعد المغلوطة التي أمست ـ بترويج وتكركيس واقرار تلك المراكز لها ، والفراغ الذي أوجدته سياسة اولئك الحكام وأتباعهم ـ العيون الكبرى ، والنوافذ الواسعة المشرعة على الدهور السالفة ، والقرون الماضية ، والتي لا يسع الباحث إلاّ الاغتراف من بحرها ، والمخر في عبابها ، واقتحام لججها.

ولا غرو في ذلك ، فان من يستقرىء السنوات التي عاصرتها بدايات قيام المناهج التقليدية لكتابة التأريخ ـ بشقيها المتعلّقين بما يسمى بكتب المغازي من جانب ، والتاريخ العام من جانب آخر (١) ـ يجدها قد ولدت بين احضان واحتواءات السياسة الاموية أو العبّاسية ، وبالتالي اتسامها بالمحاذرة اليقظة المتوجّسة من تجاوز الخطوط الحمراء التي كرّستها سياسة تلك الحكومتين ، وما يترتب على ذلك من تأثر ـ موافقاً كان أو مغلوباً على

__________________

(١) أردنا هنا بالتأريخ العام الشكل الاوسع في كتابة التأريخ الاسلامي ، لا ما يعرف عند المؤرّخين من انه ما يشمل تأريخ العالم بأسره ، وحيث يُعد أوّل من كتب فيه اليعقوبي في منتصف القرن الثالث الهجري ، ثم تلاه ابن جرير الطبري المتوفى عام ٣١٠هـ.

٧

أمره ـ لا مناص من الجزم به ، وقع به رواة وقنوات النقل بين حلقات الزمن الغابر من جهة ، وبين الصفحات التي تسطّرها أيدي اولئك الكتّاب الخاضعين للموثّرين السابقين من جهة اخرى ، فكان ما نراه من مؤلّفات وأسفار عجزت من أن تكون صادقة النقل ، وأمينة السرد ، ودقيقة الاستشراف.

نعم ، فان من يتأمّل في حقيقة مناهج الرواد الاوائل ، والحقبة الزمنية التي عاصروها والمتمخّضة عن المتبنيات الفكرية التي نادت بها السلطة الحاكمة ، والتي وافقت أو أقسرت اولئك الرواد على تتبع خطواتها ، وتجنب حدودها ، كل ذلك يظهر بجلاء صواب وحقيقة ما ذهبنا اليه من تركيز المنهج الخاطىء في صياغة الحلقات الاساسية التي ارتكز عليها البناء المعروف للتأريخ الاسلامي بروافده المتكاثرة المتفرعة عنه.

فاذا عرفنا بان المدينة المنورة كانت هي الموطن الاساس الذي اختص بالتأليف في المغازي قبل القرن الثاني للهجرة ، فان جيلاً من المؤلّفين والمصنّفين المشخّصين قد تصدوا لوضع الحجر الاساس في كتابة التأريخ الاسلامي بالكيفية التي أشرنا اليها ، منهم : عروة بن الزبير المتوفّى عام ٩٣ هـ (١).

__________________

(١) لا يخفى على أحد موقف عروة من أهل البيت عليهم‌السلام توافقاً مع موقف أبيه وأخيه عبدلله ، حتى انه نُقل عنه مبادرته للخروج مع أصحاب الجمل لقتال علي عليه‌السلام ولكنه مُنع من ذلك لصغرسنه.

بل وكان أيضاً من أشد المؤيِّدين لخالته عائشة ، والمتحمِّسين لمواقفها من علي وأهل بيته عليهم‌السلام من جانب ، ومن المنحازين إلى جانب الامومين في اُمورهم وأفعالهم من جانب آخر ، وحتّى انه قد نُقل عنه موقفه المؤيِّد لعبدالملك بن مروان في حربه مع أخيه عبدالله ، كما يذكر ذلك المسعودي في مروجه (٣ : ١١٣) حيث يقول : وكان عروة بن الزبير على رأي عمِّه عبدالملك بن مروان ، وكانت كتب

=

٨

وابان بن عثمان بن عفان المتوفى عام ١٠٥ هـ (١).

ومحمّد بن مسلم ، المعروف بابن شهاب الزهري المتوفى عام ١٢٤ هـ(٢) ، والذي عُرف عنه اسلوب المقارنة بين الاحاديث المختلفة لغرض

__________________

=

عبد الملك بن مروان إلى الحجاج متصلة يأمره بتعاهد عروة ، وأن لا يسوءه في نفسه وماله ، فخرج عروة إلى الحجاج ، ورجع إلى أخيه فقال له : هذا خالد بن عبدالله بن خالد بن اُسيد ، وعمرو بن عثمان بن عفان يعطيانك أمان عبدالملك على ما أحدثت أنت ومن معك!!.

وللمرء أن يتصور انصياع هذا الرجل لعبدالملك وحكومته حتى في مخالفته لاخيه واتهامه بالاحداث ، مع ما يُعرف عن عبدالملك من فساد وانحراف وحدة طبع وميل إلى الدماء ، كيف انه لا يكون منقاداً للسياسة الاموية في تحريف التأريخ وكتم الكثير من حقائقه ، وبالذات منها ما كان متعلِّقاً بأهل بيت العصمة عليهم‌السلام أصحاب الحق الذي انتزعه منهم الامومين.

(١) هو ابن الخليفة عثمان ، وموقف أبيه المؤيد لبني اُمية أجلى من الشمس في رابعة النهار ، ولا يحتاج إلى مزيد شرح ، وكثير بيان ، بل تكفي مقولته المشهورة التي أدلى بها في محضر من الصحابة والتي رواها أحمد بن حنبل في مسنده (١ : ٦٢) : لو ان بيدي مفاتيح الجنة لاَعطيتها بني امية حتى يدخلوا من عند آخرهم.

ومن الطبيعي كان لابد ان يترك تعاطف أبيه المفرط مع الامويين ، بالاضافة الى الموقف المقصود والمبالغ به من قبل أركان هذه الاسرة باتهام علي عليه‌السلام وتحميله مسؤولية قتل عثمان ، واتخاذها ذرعة للطعن في خلافته ، أثراً بيّناً في حياة وتوجّهات أبان ، لا سيما وقد عمل والياً على المدينة لعبدالملك بن مروان ، فكان لابد ان يكون منهجه موافقاً للمنهج الذي سار عليه الاَمويون في سياستهم العامة المنحرفة عن أهل البيت عليهم‌السلام.

(٢) عرف عن الزهري اتصاله وميله الشديد للامويون ، وحيث كان صاحب شرطتهم ، ومن الملتصقين بهم حاكماً بعد حاكم ، وممن لم يبخل عليه الامويون بالعطاء والرعاية طيلة حياته. وللمرء ان يتصور ماذا يعني رضا سدنة وحكام هذه الدولة عن مؤرخ يسطّر بقلمه الخطوط العامة للسيرة والتي ينبغي ان تتوافق ومناهجهم وسياستهم المتقدم ذكرها.

واذا كان خالد بن يزيد القسري المعاصر للزهري يخاطبه ـ بعد ان طلب منه كتابة السيرة ، وقول الزهري له : انه يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب ، فأذكره؟ ـ بقوله : لا ، الا ان تراه في قعر الجحيم!! (انظر : ٢٢ : ٢١) ، فان خالد

=

٩

ادماجها في حديث واحد ، حيث فتح الباب على مصراعيه لتسرّب الاَخبار التي يدسّها غير الموثوق بهم من المحدِّثين.

ومحمّد بن اسحقاق بن يسار المتوفى عام ١٥١ هـ (١) وغيرهم (٢).

نعم ، ان هذه البدايات المبكرة في تركيز مبدأ الاعراض عن الحقائق الثابتة والكبرى التي أوصى بها المشرّع المقدّس ، والتعامل معه تعاملاً يتراوح بين الاِعراض تارة ، والتعامل المشوب بالحذر والتتوجّس من الموقف السلطوي والعام المتأثر به تارة اُخرى (٣) كوّنت بالتالي

__________________

=

هذا كان متهماً باعتماد سياسة اللين والرفق مع الشيعة ، وبسبب ذلك عزل عن ولاية العراق ، وولي بدلاً عنه يوسف الثقفي المعروف بحقده وبغضه وعدائه لهم ، فيا ترى ما عمد اليه الآخرون المتفانون في خدمة الدولة الاموية وحكّامها وسياساتها المعارضة لاهل البيت عليهم‌السلام ومنها تحريف الحقائق ، ودس ما يوافق المنهج المخالف لارادة السماء ومشيئتها المقدَّسة؟!.

(١) رغم ان ابن اسحاق عمد في كتابه هذا الى التوسع والتفصيل خلافاً عما كان عليه السابقون من اعتماد تأريخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب ، بل تجاوز ذلك الى تدوين تأريخ النبوة ايضاً ، وما يتصل بها ، وحتى وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم انه عمد أيضاً الى التعرض بشكل واضح وبيّن الى سيرة الامام علي عليه‌السلام ، إلاّ انه تعرّض أولاً للاتهام بكونه شيعياً ، ومن ثم تعرّض مؤلّفه هذا للضياع ، ثم ظهروه بعد ذلك بشكل مختصر ومشوه قام بجمعه عبدالملك بن هشام المتوفى ٢١٨ هـ ، فكان بالتالي موافقاً للمنهج الذي أشرنا اليه آنفاً.

(٢) ليس ثمة شك بان هناك البعض ممّن حاول أن يكتب ولو بعض ما يصح لديه من السيرة النبوية وما يتصل بها ، إلاّ ان ذلك لم يكن بالقدر المؤثّر في وقف التيار العام المندفع بقوة والذي تسيّره سياط الحكّام وأكياس دارهم ، فبقي أثرهم محدوداً ، وكتاباتهم متعثرة ، لا سيما والتلويح بتهمة التشيع وما يترتب عليها كانت تقف أمامهم بالمرصاد ، كحال أبي معشر وابن سعيد الاموي وغيرهما.

(٣) من يتأمّل المنهج الذي سارت عليه الدولة الاموية ـ منذ نزو معاوية بن هند على سدة الحكم وحتى طليلة تلاحق سلسلة الحكّام الامويين ـ يجد الكثير من الشواهد

=

١٠

مدخلاً كبيراً للايذان بفتح الاَبواب مشرعة أمام قيام المدارس التي تنتهج المبدأ السائد والمعروف في كتابة التأريخ بالشكل الذي جعله معرضاً للاَخذ والرد والنقاش ، ولم يوفّق بالتالي في اداء المهمة المقدّسة المتعلّقة به ، والمناطة بكتّابه.

ولا مناص من القول بان هذا المنهج ـ القائل بأنّ استمرار الحكم

__________________

=

والحقائق الدالة على حقيقة هذا التوجه الخبيث الرامي الى دفع حالة الاستقطاب الكبرى لاَهل البيت عليهم‌السلام بواسطة سياسة حرف أنظار التأريخ وعيونه عن اعتمادهم كمراكز وأقطاب مقدّسة ـ يُدرس التأريخ وتقام صروحه من خلال آفاقها الواسعة ، ومعطياتها الكبرى التي أقامها لهم الشارع المقدّس ـ والمرتكزة في أوضح أبوابها على اسلوب الارهاب والقتل والتشريد ، وذلك ليس بخاف على أحد.

نعم ، فاذا كان مصير حجر بن عدي وأصحابه ، ورشيد الهجري ، وعبدالله بن يقطر ، وميثم التمّار ـ الذي أظهر اسلوب قتله حقيقة السياسة الاموية التي أشرنا اليها بأوضح صورها ، وحيث صلب على نخلة ، ثم الجم لما لم يكف عن التحدّث عن فضل أهل البيت عليهم‌السلام ومنزلتهم العظيمة ، وما يعنيه هذا من تركيز حاد لعيون التأريخ عليهم ، وبالتالي ابتناء المنهج الدي تخشاه الدولة الاموية ، ومن تبعهم من العبّاسيين ومن لف لفهم ـ وغيرهم القتل الذريع بايدي أزلام الدولة الاموية ، ومنفذي سياستها الوسخة ، فان زعيم هذه الدولة الفاسدة كان قد أقام لاتباعه اُسس هذا النظام ومناهجه من خلال ما عمّمه في كتابه الشهير الى عمّاله والذي ينص على أن : برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي بعد اشارته الى هذا الكتاب : فقامت الخطباء في كلّ كورة ، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً!! ويبرءون منه!! ويقعون فيه وفي أهل بيته...!!

وأضاف : وكتب معاوية الى عمّاله أن لا يجيزوا لاَحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وأن من قامت عليه البيّنة أنه يحبّ علياً فان اسمه يُمحى من الديوان ، ويُسقط عطاؤه ورزقه ، وأمّا من يُتهم بمولاة أهل هذا البيت فانه يُنكّل به ، وتُهدم داره...

وللقارىء الكريم أن يتأمل في ما تعنيه سياسة تكميم الاَفواه هذه ، وما تشكّله من خطورة في حرف التأريخ ، وصرفه عن الحقائق الكبرى.

١١

الالهي في الاَرض مرتبط بوجود الاُمة واستمرارها ـ قد تضيّق بشكل واضح ، وبدت ملامح ذلك التضييق تظهر بشكل جلي بعد انقضاء الحقبة الاُولى التي أشرنا اليها ـ والتي جهدت في تجاوز الكثير من الحقائق والاشارات المتعرّضة لايضاح مركزية وقطبية أهل البيت عليهم‌السلام في الوجود الفكري والعقائدي الانساني ـ وحيث يرى الباحث والمستقرىء مناهجاً ، وان تفاوتت في بعض مفرداتها ، إلاّ انها تتوافق اجمالاً على تجسيد هذا المنهج غير السليم في كتابة التأريخ ، ودراسة أبعاده المختلفة.

ولا غرابة في ذلك ، إذ ان المؤرّخين الذين مثّلوا الحقبة التالية أو اللاحقة في كتابة التأريخ قد اعتمدوا كثيراً في نصوصهم المروية على ما وصلهم من كتب السير والمغازي التي أشرنا اليها آنفاً ، وأضافوا اليها ما يتوافق والمنهج العام الذي أمسى راسخاً ومتحكّماً في البنيان التأريخي الاسلامي ، لا سيما وان تلاحق الحكومات المعارضة لمنهج أهل البيت عليهم‌السلام هو الحاكم في غالب العصور التي شهدت ظهور تلك الكتابات ونشأتها ، وذلك مما كرّس بشكل أكبر تواصل انحدار عجلات التأريخ كثيراً نحو مواطن الخطأ ، ومناهله المضطربة ، فكان ما نراه من تهافت سقيم يدور في حلقات هامشية تطنب في سرد حياة الملوك والسلاطين ، وليالي مجونهم وصخبهم ، وباعتماد الخطوط العامّة التي سلف أن أقامت مرتكزاتها الاَساسية سياسة الامويين السيئة الذكر ، والتي تحدّثنا عن بعض مفرداتها لاحقاً.

فاذا كان محمّد بن جرير الطبري المتوفى عام ٣١٠ هـ هو صاحب الكتاب التأريخي الذي أمسى المرجع الشهير الذي استقت منه كتب التأريخ اللاحقة موادها وتراجمها المتعددة المختلفة ، فانّا نراه كثيراً ما يعتمد على

١٢

المصادر السالفة في كتابته لتأريخه ، مع اعتماده على جملة مما نقله عن شيوخه ورواة أخباره ، ودون فحص أو تمحيص في صحة الروايات وأسانيدها ، مع وقوعه الواضح تحت تأثير المنهج السالف الذي أشرنا اليه ، حيث يبدو ذلك جليّاً وواضحاً من خلال استقراء بعض المواضيع الحسّاسة والهامة في التأريخ الاسلامي ، والتي يمثّل بعضها الحجر الاَساس في الخلاف الواقع بين أهل البيت عليهم‌السلام من جانب ، ومخالفيهم ـ وعلى رأسهم الامويون ـ من جانب آخر ، كما في أحداث السقيفة ، وما ترتّب عليها من أحداث ونتائج ، حيث نراه قد أعرض عن تقصّي جوانب الاَحداث ، مكتفياً برواية سيف بن عميرة الذي اتفق أصحاب التراجم والسير على كذبه وتدليسه وفساده(١) مع تجاوزه عن ذكر الكثير من مفاسد الامويين ، وأفعالهم النكراء.

ولمّا تكاملت الصورة باعتبار ان هذا التأريخ يمثل أوسع وأشمل التواريخ لما ذكر من انه قد استطاع ان يجمع بين دفتيه ما وصل اليه من الاَخبار المتفرّقة المودعة في الكتب المختلفة ، حديثية كانت أم تفسيرية ،

__________________

(١) ذكر ابن حجر في ترجمته ـ سيف بن عميرة ـ له : قال ابن معين : ضعيف الحديث ، وقال مرة : فليس خير منه ، وقال أبو حاتم : متروك الحديث ، وقال أبو داود : ليس بشيء ، وقال النسائي والدار قطني : ضعف ، وقال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة ، وقال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الاثبات.

وقال أيضاً : وقالوا : انه يضع الحديث ، واتهم بالزندقة ، وقال البرقاني : متروك ، وقال الحاكم : اتهم بالزندقة ، وهو في الرواية ساقط.

والملفت للنظر اعتماد الطبري على هذا الراوي المطعون بوثاقته وفي دينه على أدق الاحداث التي وأعقدها في التأريخ الاسلامي ، وبشكل يدفع فيه القارىء الى الامتعاض والاستهجان عند الوهلة الاولى ، ولكنه عند اخضاعه الى المقياس السالف الذي أشرنا اليه يجده متوافقاً معه بشكل واضح وبيّن.

١٣

بالاضافة الى كتب اللغة والاَدب والسير وغيرها ، ونسّق فيما بينها تنسيقاً لطيفاً ، وعرضها عرضاً جميلاً ، وباسلوب المحدّثين كما هو مشهور عنه (١).

فانه أمسى المرجع الذي اعتمدت على نقولاته وتراجمه معظم المراجع والكتب التي تلته ، كما فعل ابن الاثير ، وابن خلدون ، وابن مسكويه ، والمسعودي ، وغيرهم.

وهكذا نرى بوضوح جلي الامتداد المتصاعد في تركيز القاعدة المفتعلة في بناء هيكلية كتابة التأريخ الاسلامي ، وضمن الاطر التي أقامتها السياسات السالفة نئياً به عن موطنه الحقيقية ، ومصادره السليمة ، فبدا ـ رغم سعته ـ قاصراً عن ترجمة الدور المناط به ، والمتوقع منه باعتماد

__________________

(١) ان ما ذهب اليه الطبري من انه اعتمد اسلوب المحدثين في ايراده للروايات والاخبار مع اسانيدها ، ودون أي بحث أو تمحيص جعله في موضع نقد وتشكيك من قبل الباحثين والدارسين ، لان ايراد هذه الاحداث بهذه الطريقة المغلوطة يثير في الاذهان سريانها على عموم الكتاب ومواده ، ولانها خلاف ما ينبغي ان يكون عليه عمل المؤرخ البصير الذي يتصدى لتأليف مرجع يتعرض فيه الى أهم حلقات التأريخ الاسلامي ، وتفرعاتها المختلفة.

واذ تنصل الطبري من تبعة ما أورده من أخبار ، وحمل ناقليها مسؤولية ذلك ، فانه قد أتي بأسوأ من فعله الاول ، اذ لا يسع عموم القراء ادراك صواب الاخبار من عدمه ، وضعف الراوي من وثاقته ، وكان الاولى به ان يتصدى هو لتحقيق ذلك ، طالما وقد قيل عنه انه كان ممعناً في التثقيف والتدقيق ، ومستجلياً للغوامض ، ومتبحراً في الكثير من العلوم والمذاهب ، حتى قيل انه أفتى الناس ببغداد عشر سنين...فاين هذا من ذاك؟!

بل والاكنى من ذلك ان يأتي من ينقل الكثير من الاخبار ـ صحيحها وموضوعها ـ عن هذا المصدر دون تعرض منه لرواتها وناقليها ، مكتفياً بانه نقلها عن الطبري فحسب ، فتضاف الرواية الى الطبري لا الى الراوي ، ويؤخذ بها على انها من مصدر معتبر موثوق ، لا ان روايها ـ مثلاً ـ متروك مطعون بروايته كما في حال سيف بن عميرة وغيره.

١٤

الوصايا المتكررة للشارع المقدَّس ، وتأكيداته المتكررة ، والمُقرَّة عقلاً ومنطقاً.

ومن هنا فقد كان لابد من أن تُترجم هذه الوصايا والتأكيدات بنتاجات تأريخية تقف ـ رغم شدة التيار المعاكس لها ـ كشواخص حية وصادقة في رسم الصورة الحقيقية التي ينبغي ان يعتمدها المؤرخون في كتابتهم لصفحات التأريخ ، وترجمتهم لوقائعه المختلفة.

ولعل من يستقرئ ـ اجمالاً ـ الاَزمنة التي يفترض لهذه الكتابات أن تعاصرها فانه يجدها في موقف حساس وخطير لا تحسد عليه ، طالما أن الخط العام الحاكم ـ سياسياً كان أم تقليداً فرضه حكم تقادم الاَيام والسنين ـ كان يقف الى حد ما بشكل مغاير لتوجهات ومتبنيات هذا المنهج السليم والصادق في كيفية دراسة التأريخ ، وطبيعة مرتكزاته الاَساسية ، وهذه كانت هي محنة مؤلّفات الشيعة الامامية التأريخية ، ومعوقها الكبير ، وهو ما جعلها تبدو للناظر أول وهلة محدودة النتاجات ، بسيطة الاستشراف والاحاطة بحلقات التأريخ المختلفة.

بيد ان اخضاع هذا التصور المتعجّل للواقع المذكور من جانب ، ومن جانبٍ دراسة مجمل ما كتبه الشيعة الامامية في هذا الميدان المقدّس والكبير ، وكيفية تعامل مؤلّفوها مع وقائع الاَحداث ، وترابطها الموضوعي مع الشريعة الاسلامية المباركة ، كلّ ذلك يدفع الباحث قسراً للاقرار بخلاف ما ذهب اليه ، والى اكبار واجلال تلك الجهود التي ترجمت ـ في رفد حركة البناء التأريخي ـ نواياها الصادقة من خلال جملة من المؤلّفات التأريخية المختلفة ، والتي يُعد الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم نموذجاً واحداً منها ، وأثراً مباركاً من آثارها وثمارها الطيّبة ، حيث أبدع يراع مؤلّفة أمين الاسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي رحمه‌الله في

١٥

كتابته وجمعه وتأليفه ، وستنعرض لايضاح ذلك لاحقاً في مطاوي الصفحات اللاحقة باذن الله تعالى.

مؤلّف الكتاب

أمين الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (١).

يُعد بلا شك من أجلّة علماء الشيعة ومؤلّفيهم ، وممّن لم يختلف مترجموه في الاقرار بفضله وجلالته ، وتبحّره في شتى العلوم ، ووثاقته.

من أعلام القرن السادس الهجري ، ومن كبار مؤلّيفه الذين طبق صيتهم الآفاق ، وخلّفوا الكثير من الآثار المباركة في شتى المعارف والعلوم ، والتي أمست زاداً تقتات من عطائها الاَجيال المتلاحقة بثقة واطمئنان ، بل ومراجعاً كبرى لا غنى للباحثين والدارسين عن ارتيادها والتزوّد من معارفها.

قال عنه الشيخ منتجب الدين الرازي : ثقة فاضل ، ديّن عين (٢).

وقال عنه الشيخ عبّاس القمي في سفينة البحار : العالم الجليل ،

__________________

(١) نسبة الى طبرسان ، وهي بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم من بلاد فارس ، وهي في البلاد المعروفة بمازندران ، والغالب على تلك النواحي الجبال.

وطبر : هو الذي تشقق به الاَحطاب وما شاكل بلغه الفرس ، واستان : الموضع أو الناحية. (انظر : معجم البلدان ٤ : ١٣).

ونسبة الطبرسي تطلق على العديد من العلماء والفضلاء ، ولكنها عند الاطلاق لا تنصرف إلاّ لصاحب الترجمة ، أو لابنه أبي نصر الحسن ، صاحب كتاب مكارم الاخلاق ، وان كانت تطلق في أحبان ما على معاصره أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب ، صاحب كتاب الاحتجاج المعروف.

(٢) فهرست منتجب الدين : ١٤٤ | ٣٣٦.

١٦

والكامل النبيل ، فخر العلماء الاَعلام ، أمين الملّة والاسلام (١).

وفي نقد الرجال قال عنه السيّد التفريشي : فاضل ديّن عين ، من أجلاّء هذه الطائفة ، له تصانيف حسنة (٢).

وأمّا الخونساري فقد ترجم له في روضاته : الشيخ الشهيد السعيد ، الحبر الفقيه الفريد ، الفاضل العالم المفسّر ، المحدّث الجليل ، الثقة الكامل ، النبيل الفاضل ، العالم المفسّر ، المحدّث الجليل ، الثقة الكامل (٣).

وفي المقابس قال عنه الشيخ أسد الله الكاظمي : الشيخ الاَجل الاَوحد ، والاَكمل الاَسعد ، قدوة المفسّرين وعمدة الفضلاء المتبحّرين ، أمين الدين ابي علي (٤).

وترجم له الحر العاملي في أمل الآمل : الشيخ الامام ، أمين الاسلام ، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، ثقة فاضل ، ديّن عين ، له تصانيف. وذكر جملة من تصانيفه (٥).

وقال عند السيّد الاَمين في أعيانه : وبالجملة ففضل الرجل وجلالته وتبحّره في العلوم ووثاقته أمر غني عن البيان (٦).

وأما الزركلي فقد ترجم له في أعلامه بأنه : مفسّر محقّق لغوي ، من اجلاّء الامامية (٧).

__________________

(١) سفينة البحار ٢ : ٨٠.

(٢) نقد الرجال : ٢٦٦.

(٣) روضات الجنات ٥ : ٣٥٧ | ٥٤٤.

(٤) مقابس الانوار : ١٠.

(٥) أمل الآمل ٢ : ٢١٦ | ٦٥٠.

(٦) أعيان الشيعة ٨ : ٣٩٨.

(٧) الاعلام ٥ : ١٤٨.

١٧

ووصفه كحالة في معجمه بأنه : مفسّر ، مشارك في بعض العلوم. وذكر جمله من آثاره (١).

مشايخه

أخذ الشيخ الطبرسي رحمه‌الله وروى عن جملة من العلماء والفضلاء في عصره ، حيث تجد أسماءهم متناثرة في بطون كتبه ومؤلفاته المختلفة ، ولقد تصدى السيّد الامين رحمه‌الله لاستقصاء جملة منهم ، وأورد ذلك في كتابه القيّم أعيان الشيعة ، حيث ذكر :

١ ـ الشيخ أبو علي ابن شيخ الطائفة الطوسي.

٢ ـ الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن علي المقرىء الرازي عن الشيخ الطوسي.

٣ ـ الشيخ الاجل الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمّي الرازي ، جدّ منتجب الدين صاحب الفهرست.

٤ ـ الشيخ الامام موفق الدين ابن الفتح الواعظ البكرآبادي عن أبي علي الطوسي.

٥ ـ السيّد ابو طالب محمّد بن الحسين الحسيني القصبي الجرجاني.

٦ ـ الشيخ الامام السعيد الزاهد أبو الفتح عبدالله بن عبد الكريم بن هوازن القشيري.

٧ ـ الشيخ أبو الحسن عبيدالله محمّد بن الحسين البيهقي.

٨ ـ الشيخ جعفر الدوريستي.

__________________

(١) معجم المؤلفين ٨ : ٦٦.

١٨

تلامذته والراوون عنه

روى عن الشيخ الطبرسي رحمه‌الله جملة من العلماء الاعلام ، والذين يمكننا حصر بعضهم بما يلي :

١ ـ ولده الحسن صاحب كتاب المكارم.

٢ ـ الشيخ منتجب الدين.

٣ ـ الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب.

٤ ـ القطب الراوندي.

٥ ـ الشيخ عبدالله بن جعفر الدوريستي.

٦ ـ الشيخ شاذان بن جبرئيل القمي.

٧ ـ السيّد مهدي بن نزار القائيني.

وغيرهم ممن صرّحوا بكونهم من تلامذته أو ممّن عدّوه من شيوخهم.

مصنّفاته

لقد خلّف الطبرسي رحمه‌الله الكثير من المصنّفات والمؤلّفات القيّمة التي أشاد بقيمتها العلمية العلماء والمفكّرون ، وعدّوها من الآثار التي ازدانت بها المكتبة الاسلامية الكبرى ، ومن الذخائر المهمة التي أمست ـ بجدارة ـ مراجعاً هامة ينهل من عذب مائها الباحثون والدارسون ، ومن تلك الآثار :

١ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن.

٢ ـ الوسيط في التفسير.

٣ ـ الآداب الدينية.

١٩

٤ ـ تاج المواليد.

٥ ـ الوافي في تفسير القرآن.

٦ ـ غنية العابد.

٧ ـ إعلام الورى بأعلام الهدى ، وهو الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم.

٨ ـ النور المبين.

٩ ـ العمدة فى اُصول الدين والفرائض النوافل.

١٠ ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل.

وغير ذلك من المصادر والمؤلّفات المختلفة التي نسبه البعض اليه ، ككتاب عدة السفر وعمدة الحضر ، وكتاب كنوز النجاح وغيرهما.

وفاته

ذهبت معظم المصادر الى ان وفاته رحمه‌الله كانت في مدينة سبزوار عام ٥٤٨ هـ (١) ، وفي ليلة النحر من هذه السنة (٢) ، ثم نقل نعشه الى مدينة مشهد حيث دفن في الموضع الذي يعرف بـ( قتلگاه) (٣) ، وقبره معروف يُزار بالقرب من المشهد المقدّس للامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في مدخل شارع يُعرف باسمه.

__________________

(١) ذكر صاحب كشف الظنون (٣ : ٢٢٣) : ان وفاته كانت عام إحدى وستين وخمسمائة.

(٢) انظر : روضات الجنات ٥ : ٣٥٨ ، نقد الرجال : ٢٦٦ ، أعيان الشيعة ٨ : ٤٠٠.

(٣) أي مكان القتل ، وقيل ان مرجع هذه التسمية هو ما وقع فيها من القتل العام الحادث بأمر عبدالله خان أفغان في أواخر الدولة الصفوية.

٢٠