إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أذلّك الله وأقمأك » (١).

وضربه عتبة بن أبي وقّاص بالسيف حتّى أدمى فاه ، ورماه عبدالله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه (٢).

وليس أحد من هؤلاء مات ميتة سويّة ، فأمّا ابن قميئة فأتاه تيس وهو نائم بنجد فوضع قرنه في مراقّه ثم دعسه فجعل ينادي : وا ذلاّه ، حتّى أخرج قرينه من ترقوته.

وكان وحشيّ يقول : قال لي جبير بن مطعم ـ وكنت عبداً له ـ : إنّ علياً قتل عمّي يوم بدر ـ يعني طعيمة ـ فإن قتلت محمّداً فأنت حرّ ، وإن قتلت عمّ محمّد فأنت حرّ ، وإن قتلت ابن عمّ محمّد فأنت حرّ. فخرجت بحربة لي مع قريش إلى اُحد اُريد العتق لا اُريد غيره ولا أطمع في محمّد ، وقلت : لعلّي اُصيب من علي أو حمزة غرّة فأزرقه ، وكنت لا أخطىء في رمي الحراب ، تعلّمته من الحبشة في أرضها ، وكان حمزة يحمل حملاته ثمّ يرجع إلى موقفه (٣).

قال أبو عبدالله عليه‌السلام : «وزرقه وحشيّ ، فوق الثدي ، فسقط وشدّوا عليه فقتلوه ، فأخذ وحشيّ الكبد فشدّ بها إلى هند بنت عتبة ، فأخذتها فطرحتها في فيها فصارت مثل الداغِصة (٤) ، فلفظتها.

__________________

(١) اقمأك : صغرك وأذلك. «انظر : العين ٥ : ٢٣٥».

(٢) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٩٢ ، والمغازي للواقدي ١ : ٢٤٤ ـ ٢٦ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥١٥ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٥٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٩٦ ضمن حديث ٢٨.

(٣) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٩٢ ـ ١٩٣ ، سيرة ابن هشام ٣ : ٧٥ ـ ٧٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٩٦ ضمن حديث ٢٨.

(٤) الداغصة : عظم مدور يديص ويموج فوق رضف الركبة ، وقيل : يتحرك على رأس الركبة. «لسان العرب ٧ : ٣٦».

١٨١

قال وكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان وهو على فرس وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة فقال : يا معشر بني كنانة انظروا إلى من يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الذي قد صار لحماً ـ وأبو سفيان يقول : ذقُ عقق ـ فقال أبو سفيان : صدقت إنّما كانت منّي زلّة اكتمها عليّ.

قال : وقام أبو سفيان فنادىَّ بعض المسلمين : أحيّ ابن أبي كبشة؟ فأمّا ابن أبي طالب فقد رأيناه مكانه. فقال عليّ عليه‌السلام : «إي والذي بعثه بالحقّ إنّه ليسمع كلامك».

قال : إنّه قد كانت في قتلاكم مثلة ، والله ما أمرت ولا نهيت ، إنّ ميعاد ما بيننا وبينكم موسم بدر في قابل هذا الشهر.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قل : نعم».

فقال : «نعم».

فقال أبو سفيان لعليّ عليه‌السلام : إنّ ابن قميئة أخبرني أنّه قتل محمّداً وأنت أصدق عندي وأبّر. ثمّ ولّى إلى أصحابه وقال : اتخذوا الليل جملاً وانصرفوا.

ثمّ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام فقال : «اتُبعهم فانظر أين يريدون ، فإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدونالمدينة ، وإن كانوا ركبوا الإبل وساقوا الخيل فهم متوجّهون إلى مكّة» (١)

وقيل : إنّه بعث لذلك سعد بن أبي وقّاص فرجع وقال : فرأيت خيلهم تضرب بأذنابها مجنوبة مدبرة ، ورأيت القوم قد تجمّلوا سائرين. فطابت أنفس المسلمين بذهاب العدوّ ، فانتشروا يتتبّعون قتلاهم ، فلم يجدوا قتيلاً

__________________

(١) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٩٣ ، المغازي للواقدي ١ : ٢٨٦ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ٩٦ ـ ١٠٠ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٢٧ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٦٠ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٩٦ ضمن حديث ٢٨.

١٨٢

إلاّ وقد مثّلوا به ، إلاّ حنظلة بن أبي عامر ، كان أبوه مع المشركين فتُرك له.

ووجدوا حمزة قد شُقَّتْ بطنه ، وجُدع أنفه ، وقُطعت اُذناه ، واُخذ كبده ، فلمّا انتهى إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خنقه العبرة وقال : «لاُمثّلنّ بسبعين من قريش» فأنزل الله سبحانه (وَان عاقَبتُم فَعاقِبُوا بِمِثلِ ما عُوقِبتُم بِهِ)(١) الآية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بل أصبر».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ذلك الرجل الذي تغسّله الملائكة في سفح الجبل؟».

فسألوا امرأته فقالت : انّه خرج وهو جنب. وهو حنظلة بن أبي عامر الغسيل (٢).

قال أبان : وحدّثني أبو بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ذكر لرسول الله رجلٌ من أصحابه يقال له : قزمان بحسن معونته لاِِخوانه ، وزكّوه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه من أهل النار. فاُتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : إنّ قزمان استشهد ، فقال : يفعل الله ما يشاء. ثمّ اُتي فقيل : إنّه قتل نفسه ، فقال : أشهد أنّي رسول الله.

قال : وكان قزمان قاتل قتالاً شديداً ، وقتل من المشركين ستّة أو سبعة ، فأثبتته الجراح فاحتمل إلى دور بني ظفر ، فقال له المسلمون : أبشر يا قزمان فقد أبليت اليوم ، فقال : بم تبشّروني! فوالله ما قاتلت إلاّ عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت. فلمّا اشتدّت عليه الجراحة جاء إلى كنانته فأخذ منها

__________________

(١) النحل ١٦ : ١٢٦.

(٢) انظر : سيرة ابن هشام ٣ : ٧٩ ـ ١٠١ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٢١ ـ ٥٢٨ ، ولائل النبوة للبيهقي ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٥٨ ـ ١٦١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٩٨ ضمن حديث ٢٨.

١٨٣

مشقصاً (١) فقتل به نفسه» (٢).

قال : وكانت امرأة من بني النجّار قتل أبوها وزوجها وأخوها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدنت من رسول الله والمسلمون قيام على رأسه فقالت لرجل : أحي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : نعم ، قالت : أستطيع أن أنظر إليه؟ قال : نعم ، فأوسعوا لها فدنت منه وقالت : كلّ مصيبة جلل بعدك ، ثمّ انصرفت.

قال : وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة حين دفن القتلى ، فمرّ بدور بني لأشهل وبني ظفر ، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ ، فترقرقت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى ثمّ قال : « لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم». فلمّا سمعها سعد بن معاذ واُسيد بن حضير قالوا : لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة فتسعدها.

فلمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواعية على حمزة وهو عند فاطمة على باب المسجد قال : « ارجعن رحمكّن الله فقد آسيتنّ بأنفسكنّ» (٣).

ثمّ كانت غزوة حمراء الأسد (٤) قال أبان بن عثمان : لمّا كان من الغد من يوم اُحد نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسلمين فأجوبوه ، فخرجوا على علّتهم وعلى ما أصابهم من القرح ، وقدم عليّاً بين يديه براية

__________________

(١) المشقص : سهم له نصل عريض لرمي الوحش. «العين ٥ : ٣٣».

(٢) سيرة ابن هشام ٣ : ٩٣ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٣٥١ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٦٢ ، وفيها باختلاف يسير ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٩٨ ضمن الحديث ٢٨.

(٣) المغازي للواقدي ١ : ٢٩٢ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٣٢ ـ ٥٣٣ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٦٣ ، وفيها بني دينار بدل بني النجار. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٩٨ ضمن حديث ٢٨.

(٤) حمراء الأسد : موضع على ثمانية أميال من المدينة. « معجم البلدان ٢ : ٣٠١».

١٨٤

المهاجرين حتّى انتهى إلى حمراء الأسد ثمّ رجع إلى المدينة ، فهم الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح.

وخرج أبو سفيان حتّى انتهى إلى الروحاء ، فأقام بها وهو يهم بالرجعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : قد قتلنا صناديد القوم فلو رجعنا استأصلناهم. فلقي معبد الخزاعيّ فقال : ما وراءك يا معبد؟

قال : قد والله تركت محمّداً وأصحابه وهم يحرقون عليكم ، وهذا عليّ بن أبي طالب قد أقبل على مقدّمته في الناس ، وقد اجتمع معه من كان تخلّف عنه ، وقد دعاني ذلك إلى أن قلت شعراً.

قال أبو سفيان : وماذا قلت؟

قال : قلت :

كادت تهدّ منَ الأصواتِ راحلتي

إذ سالتِ الأرضُ بالجردِ الأبابيلِ

تردي باُسدٍ كرامٍ لا تنابلةً

عندَ اللقاءِ ولا خرقٍ معازيلِ

ـ الأبيات ـ

فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ، ثمّ مرّ به ركب من عبد القيس يريدون الميرة من المدينة ، فقال لهم : أبلغوا محمّداً أنّي قد أردت الرجعة إلى أصحابه لأستأصلهم وأوقر لكم ركابكم زبيباً إذا وافيتم عكاظ.

فأبلغوا ذلك إليه وهو بحمراء الأسد ، فقال عليه‌السلام والمسلمون معه : «حسبنا الله ونعم الوكيل» (١).

ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حمراء الأسد إلى المدينة يوم الجمعة ، قال : ولمّا غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٩٤ ، وانظر : المغازي للواقدي ١ : ٣٣٨ ، وتاريخ الطبري٢ : ٥٣٥ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٦٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٩٩ ضمن حديث ٢٨.

١٨٥

حمراء الأسد وثبت فاسقة من بني خطمة يقال لها : العصماء اُمّ المنذر بن المنذر تمشي في المجالس الأوس والخزرج وتقول شعراً تحرّض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس في بني خطمة يومئذ مسلم إلاّ واحدٌ يقال له : عمير بن عدّي ، فلمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدا عليهاعمير فقتلها ، ثمّ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي قتلت اُمّ المنذر لما قالته من هجر. فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كتفيه وقال : «هذا رجل نصر الله ورسوله بالغيب ، أما إنّه لا ينتطح فيها (١)عنزان».

قال عمير بن عدّي : فأصبحت فممررت (ببنيها) (٢) وهم يدفنونها فلم يعرض لي أحد منهم ولم يكلّمني(٣).

ثمّ كانت غزوة الرجيع ، بعث رسول الله مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة ، وخالد بن البكير ، وعاصم بن ثابت بن الأفلج ، وخبيب بن عدي ، وزيد بن دثنة ، وعبدالله بن طارق ، وأمير القوم مرثد لمّا قدم عليه رهطٌ من عضل والديش وقالوا : ابعث معنا نفراً من قومك يعلّموننا القرآن ويفقّهوننا في الدين ، فخرجوا مع القوم إلى بطن الرجيع ـ وهو ماء لهذيل. فقتلهم حي من هذيل يقال لهم : بنو لحيان ، واُصيبوا جميعاً (٤).

وذكر ابن اسحاق : أنّ هذيلاً حين قتلت عاصم بن ثابت أرادوا رأسه

__________________

(١) أي لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان ، لأن النطاح من شأن التيوس الكباش لا العنوز.

(٢) في نسخة «م» : ببيتها ، وفي «ق» : غير منقوطة ، واثبتنا ما في نسخة «ط».

(٣) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٠ | ٢٨.

(٤) ورد بتفصيل أوسع في : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٩٤ ، المغازي للواقدي ١ : ٣٥٤ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ١٧٨ ، والطبقات الكبرى ٢ : ٥٥ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٣٨ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٢٧ ـ ٣٢٨ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٦٧.

١٨٦

ليبيعوه من سلافة بنت سعد ، وقد كانت نذرت حين اُصيب ابناها باُحد لئن قدرت على رأسه لتشربنّ في قحفه الخمر فمنعتهم الدَبر (١) ، فلمّا حالت بينهم وبينه قالوا : دعوه حتّى نمسي فتذهب عنه. فبعث الله الودي فاحتمل عاصماً فذهب به ، وقد كان عاصم أعطى الله عهداً أن لا يمسّ مشركاً ولا يمسّه مشرك أبداً في حياته ، فمنعه الله بعد وفاته ممّا امتنع منه في حياته (٢).

ثمّ كانت غزوة بئر معونة على رأس أربعة أشهر من اُحد ، وذلك أنّ أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة قدم على رسول الله بالمدينة فعرض عليه الاِسلام فلم يسلم ، وقال : يا محمّد إن بعثت رجالاً إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال : «أخشى عليهم أهل نجد».

فقال أبو براء : أنا لهم جار.

فبعث رسول الله المنذر بن عمرو في بضعة وعشرين رجلاً ، وقيل : في أربعين رجلاً ، وقيل : في سبعين رجلاً من خيار المسلمين ، منهم : الحارث بن الصمّة ، وحرام بن ملحان ، وعامر بن فهيرة. فساروا حتّى نزلوا بئر معونة ـ وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم ـ فلمّا نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عامر بن الطفيل ، فلمّا أتاه لم ينظر [عامر[ في كتابه حتّى عدا على الرجل فقتله ، فقال : الله أكبر فزت

__________________

(١) الدَبر (بالفتح) : جماعة النحل. قال الاصمعي : لا واحد لها ، ويجمع على دُبورٍ. قال لبيد :

بأبيض من أبكارِ مُزنِ سحابةٍ

وارى دُبورٍ شارهُ النحل عاسلُ

«الصحاح : ـ دبر ـ ٢ : ٦٥٢».

(٢) انظر : المغازي للواقدي ١ : ٣٥٦ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ١٨٠ ، والطبقات الكبرى ٢ : ٥٥ ـ ٥٦ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٣٩ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٢٨ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٦٨.

١٨٧

وربّ الكعبة.

ثمّ دعا بني عامر إلى قتالهم فأبوا أن يجيبوه وقالوا : لانخفر(١) أبا براء ، فاستصرخ قبائل من بني سليم : عصيّة ورعلاً وذكوان ، وهم الذين قنت عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعنهم ، فأجابوه وأحاطوا بالقوم في رحالهم ، فلمّا رأوهم أخذوا أسيافهم وقاتلوا القوم حتّى قتلوا عن آخرهم.

وكان في سرح القوم (٢) عمرو بن اُميّة الضمري ورجل من الأنصار ، فلم يكن ينبئهما بمصاب القوم إلاّ الطير تحوم على العسكر ، فقالا : والله إنّ لهذا الطير لشأناً ، فاقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم ، فقال الأنصاري لعمرو : ما ترى؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنخبره الخبر ، فقال الأنصاري : لكنّي لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، فقاتل القوم حتّى قُتل ، ورجع عمرو إلى المدينة فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارهاً».

فبلغ ذلك أبا براء ، فشقّ عليه إخفار عامر إيّاه وما أصاب من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزل به الموت. فحمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل وطعنه وهو في نادي قومه فأخطأ مقاتله وأصاب فخذه ، فقال عامر : هذا عمل عمّي أبي براء ، إن متّ فدمي لعمّي لا تطلبونه به ، وإن اعشُ فسأرى فيه رأيي (٣).

__________________

(١) اخفرت الرجل : إذا نقضت عهده وغدرت به. «انظر : الصحاح ـ خفر ـ ٢ : ٦٤٩».

(٢) سرح القوم : أي عند ماشيتهم ، فيقال : سرحت الماشية أي اخرجتها بالغداة إلى المرعى.

«انظر : لسان العرب ٢ : ٤٧٨».

(٣) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٩٥ ، المغازي للواقدي ١ : ٣٤٦ ، سيرة ابن هشام ٣ : ١٩٣ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٥١ ، تاريخ الطبري ٢ : ٥٤٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٣٨ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٧١.

١٨٨

ثمّ كانت غزوة بني النضير ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشى إلى كعب بن الأشرف يستقرضه فقال : مرحباً بك يا أبا القاسم وأهلاً. فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وقام كأنّه يصنع لهم طعاماً ، وحدّث نفسه أن يقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام وأخبره بما همّ به القوم من الغدر ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأنّه يقضي حاجة ، وعرف أنّهم لا يقتلون أصحابه وهو حيّ ، فأخذ عليه‌السلام الطريق نحو المدينة ، فاستقبله بعض أصحاب كعب الذين كان أرسل إليهم يستعين بهم على رسول الله ، فأخبر كعباً بذلك ، فسار المسلمون راجعين.

فقال عبدالله بن صورياـ وكان أعلم اليهود ـ : والله إنّ ربّه اطلعه على ما أردتموه من الغدر ، ولا يأتيكم والله أوّل ما يأتيكم إلاّ رسول محمّد يأمركم عنه بالجلاء ، فأطيعوني في خلصلتين لا خير في الثالثة : أن تسلموا فتأمنوا على دياركم وأموالكم ، وإلاّ فإنّه يأتيكم من يقول لكم : اخرجوا من دياركم.

فقالوا : هذه أحبّ إلينا.

قال : أمّا إنّ الاُولى خيرٌ لكم منها ، ولولا أنّي أفضحكم لأسلمت.

ثمّ بعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمّد بن مسلمة إليهم يأمرهم بالرحيل والجلاء عن ديارهم وأموالهم ، وأمره أن يؤجّلهم في الجلاء ثلاث ليال (١).

ثمّ كانت غزوة بني لحيان ، وهي الغزوة التي صلّى فيها صلاة الخوف بعسفان حين أتاه الخبر من السماء بما همّ به المشركون. وقيل : إنّ هذه

____________

(١) انظر : سيرة ابن هشام ٣ : ١٩٩ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٥٧ ، دلائل النبوة للبيهقي ٣ : ١٨٠ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٦٣ | ١.

١٨٩

الغزوة كانت بعد غزوة بني قريظة (١).

ثمّ كانت غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بني النضير بشهرين. قال البخاري : إنّها كانت بعد خيبر ، لقي بها جمعاً من غطفان ، ولم يكن بينهما حرب ، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتّى صلّى رسول الله صلاة الخوف ثمّ انصرف بالناس (٢).

وقيل : إنمّا سمّيت ذات الرقاع لاَنّه جبل فيه بقع حُمرةٍ وسوادٍ وبياضٍ فسمّي ذات الرقاع (٣).

وقيل : إنّما سمّيت بذلك لاَنّ أقدامهم نقبت فيها ، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق (٤).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شفير واد نزل أصحابه على الغدوة الاُخرى من الوادي ، فهم كذلك إذ أقبل سيل ، فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل من المشركين يقال له : غورث ، فقال لقومه : أنا أقتل لكم محمّداً. فأخذ سيفه ونحا نحوه وقال : من ينجيك منّي يا محمّد؟

قال : «ويلك ، ينجيني ربّي».

فسقط على ظهره ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيفه وجلس على صدره ثمّ قال : «من ينجيك منّي يا غورث؟».

قال : جودك وكرمك يا محمّد. فتركه ، فقام وهو يقول : والله لأنت أكرم

__________________

(١) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٩٧ ، والطبقات الكبرى ٢ : ٧٨ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٩٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٦٤. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٧٦ | ١.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٤٥.

(٣) المغازي للواقدي ١ : ٣٩٥ ، تاريخ الطبري ٢ : ٥٥٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٧١.

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٧٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٧٦ | ١.

١٩٠

منّي وخير(١).

ثمّ كانتغزوة بدر الأخيرة في شعبان. خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بدر لميعاد أبي سفيان ، فأقام عليها ثمان ليال ، وخرج أبو سفيان في أهل تهامة ، فلمّا نزل الظهران بدا له في الرجوع ، ووافق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه السوق فاشتروا وباعوا وأصابوا بها ربحاً حسناً (٢).

ثمّ كانت غزوة الخندق ـ وهي الأحزاب ـ في شوّال من سنة أربع من الهجرة. أقبل حييٌ بن أخطب وكنانة بن الربيع وسلاّم بن ابي الحقيق وجماعة من اليهود بقريش وكنانة وغطفان ، وذلك أنّهم قدموا مكّة فصاروا إلى أبي سفيان وغيره من قريش ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا لهم : أيدينا مع أيديكم ، ونحن معكم حتّى نستأصله ، ثم خرجوا إلى غطفان ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخبروهم باتّباع قريش إياهم ، فاجتمعوا معهم.

وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة ، والحارث بن عوف في بني مرّة ، ومسعود بن رخيلة (٣)

__________________

(١) الكافي ٨ : ١٢٧ | ٩٧ ، ونحوه في : الطبقات الكبرى ٢ : ٦٢ ، وصحيح البخاري ٥ : ١٤٧ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٥٧ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٧٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٧٩|٦.

(٢) انظر : المغازي للواقدي ١ : ٣٨٤ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٥٩ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٥٩ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٨٥ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٧٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٢ | ١.

(٣) في نسخة «م» مسعر بن زحيلة ، ولم يرد في نسختي «ق» و «ط» والظاهر ان الصواب ما أثبتناه ، كذا ذكره الواقدي في المغازي ، والطبري في تاريخه ، وابن حجر في الأصابة حيث ترجم له : مسعود بن رخيلة ، كان قائد أشجع يوم الأحزاب ، ثم أحسن فحسن إسلامه.

=

١٩١

بن نويرة بن طريف في قومه من أشجع ، وهم الأحزاب ، وسمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج إليهم ، وذلك بعد أن أشار سلمان الفارسيّ أن يصنع خندقاً (١). وظهر في ذلك من آية النبوّة أشياء :

منها : ما رواه جابر بن عبدالله ، قال : اشتدّ عليهم في حفر الخندق كدية(٢) فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثمّ دعا بما شاء الله أن يدعو ، ثمّ نضح الماء على تلك الكدية فقال من حضرها : فوالذي بعثه بالحقّ لانثالت حتّى عادت كالكندر (٣) ما تردّ فأساً ولا مسحاة (٤).

ومنها : ما رواه جابر من إطعام الخلق الكثير من الطعام القليل. وقد ذكرناه فيما قبل (٥).

ومنها : ما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه ، قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فعطف عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قريب منّي ، فلما رآني أضرب ورأى شدّة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة ، ثمّ ضرب ضربة اُخرى فلمعت تحته برقة اُخرى ، ثمّ ضرب به الثالثة فلمعت برقة اُخرى. فقلت : يا رسول الله بأبي أنت واُمّي ما هذا الذي رأيت؟

__________________

=

إلاّ أنّه في سيرة ابن هشام والكامل لابن الأثير : مسهر بن دخيلة.

(١) انظر : إرشاد المفيد : ٩٤ ، المغازي للواقدي ٢ : ٤٤١ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ٢٢٤ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٦٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٣٩٨ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٧٨.

(٢) الكدية : صلابة في الأرض. «العين ٥ : ٣٩٦».

(٣) كذا ، والكندر اسم العلك ، وفي المصادر : الكثيب ، وهو التراب الدقيق ، ولعله الأنسب.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٢٨ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٤٥١.

(٥) تقدّم في صحفة : ٨٠ ، إلاّ أنّ المؤلّف لم يصرّح باسم جابر فيها.

١٩٢

فقال : «أمّا الأولى فإنّ الله تعالى فتح عليَّ بها اليمن ، وأمّا الثانية فإنّ الله تعالى فتح عليَّ بها الشام والمغرب ، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق» (١)

وأقبلت الأحزاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهال المسلمين أمرهم ، فنزلوا ناحية من الخندق ، وأقاموا بمكانهم بضعاً وعشرين ليلة ، لم يكن بينهم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصى.

ثمّ انتدب فوارس قريش للبراز ، منهم عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطّاب ، تهيؤوا للقتال ، وأقبلوا على خيولهم حتّى وقفوا على الخندق ، فلمّا تأمّلوه قالوا : والله إنّ هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثمّ تيمّموا مكاناً من الخندق فيه ضيق فضربوا خيولهم فاقتحمته ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسَلع (٢) وخرج عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في نفر معه حتّى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها ، فتقدّم عمرو بن عبد ودّ وطلب البراز ، فبرز إليه عليّ عليه‌السلام فقتله ـ وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله ـ فلمّا رأى عكرمة وهبيرة عمراً صريعاً ولّوا منهزمين ، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في أبيات شعر :

«نصر الحجارةَ من سفاهةِ رأيه

ونصرتُ ربَّ محمّدٍ بصوابي

فـــضربـتُهُ وتركتُهُ متجدّلاً

كالجـذعِ بين دكادكٍ وروابي

وعــففتُ عن أثوابهِ ولو أنّني

كنتُ المقطّر بزّني أثوابــي

_________________

(١)سيرة ابن هشام ٣ : ٢٣٠ ، دلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٤١٧ ، وورد نحوه في : تفسيرالقمي ٢ : ١٧٨ ، والمغازي للواقدي ٢ : ٤٥٠ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٧٩.

(٢) سلع : جبل بسوق المدينة ، وقيل : هو موضع بقرب المدينة «انظر : معجم البلدان ٣ : ٢٣٦».

١٩٣

لا تحسبنّ الله خاذلَ دينه

ونبيهِ يا معشرَ الأحزابِ»(١)

ورمى ابن العرقة بسهم فأصاب أكحل سعد بن معاذ وقال : خذها مني وأنا ابن العرقة ، قال : عرّق الله وجهك في النار ، وقال : اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب في قريش شيئاً فأبقني لحربهم ، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ قتالاً من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه من حرمك ، اللهمّ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة. فأباته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فراشه وبات على الأرض(٢).

قال أبان بن عثمان : حدّثني من سمع أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التلّ الذي عليه مسجد الفتح في ليلة ظلماء قرّة ، قال : من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة؟ فلم يقم أحد ثمّ عاد ثانية وثالثة فلم يقم أحد ، فقام حذيفة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انطلق حتّى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم.

فذهب فقال : اللّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، حتّى تردّه إليّ ، وقال : لا تحدث شيئاً حتّى تأتيني.

ولمّا توجّه حذيفة قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي ثمّ نادى بأشجى صوت : يا صريخ المكروبين ، يا مجيب دعوة المضطّرين ، اكشف همّي وكربي ، فقد ترى حالي وحال من معي.

فنزل جبرئيل فقال : يا رسول الله إنّ الله عزّ وجلّ سمع مقالتك

__________________

(١) انظر : تفسير القمي ٢ : ١٨٢ ، ارشاد المفيد ١ : ٩٧ ، المغازي للواقدي ٢ : ٤٧٠ ، سيرة ابن هشام ٣ : ٢٣٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٤٣٦.

(٢) انظر : الطبقات الكبرى ٢ : ٦٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٢ ، ونقلها المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٠٦.

١٩٤

واستجاب دعوتك وكفاك هول من تحزّب عليك وناواك ، فجثا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ركبتيه وبسط يديه وأرسل بالدمع عينيه ، ثمّ نادى : شكراً شكراً كما آويتني وآويت من معي.

ثمّ قال جبرئيل عليه‌السلام : يا رسول الله ، ان الله قد نصرك وبعث عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها الحصى ، وريحاً من السماء الرابعة فيها الجنادل.

قال حذيفة : فخرجت فإذا أنا بنيران القوم قد طفئت وخمدت ، وأقبل جند الله الأوّل ريح شديدة فيها الحصى ، فما ترك لهم ناراً إلاّ أخمدها ، ولا خباء إلاّ طرحها ، ولا رمحاً إلاّ ألقاها ، حتّى جعلوا يتترسون من الحصى ، وكنت أسمع وقع الحصى في الترسة ، وأقبل جند الله الأعظم ، فقام أبو سفيان إلى راحلته ثمّ صاح في قريش : النجاء النجاء ، ثمّ فعل عيينة بن حصن مثلها ، وفعل الحارث بن عوف مثلها ، وذهب الأحزاب.

ورجع حذيفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره الخبر ، وأنزل الله على رسوله (اذكرُوا نعمة الله عَلَيكُم إذْ جاءَتْكُم جنودٌ فأرسَلْنا عَلَيهم رِيحاً وجُنوداً لَم تَروها)(١) إلى ما شاء الله تعالى من السورة (٢).

وأصبح رسول الله بالمسلمين حتّى دخل المدينة ، فضربت ابنته فاطمة غسولاً حتى تغسل رأسه ، إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجراً (٣) بعمامة بيضاء ، عليه قطيفة من استبرق معلّق عليها الدرّ والياقوت ، عليه الغبار ، فقام رسول

__________________

(١) الاحزاب ٣٣ : ٩.

(٢) الكافي ٨ : ٢٧٧ | ٤٢٠ ، تفسير القمي ٢ : ١٨٦ ، وانظر : سيرة ابن هشام ٣ : ٢٤٢ ، والطبقات الكبرى ٢ : ٧٤ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٥٨٠ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٣ : ٤٤٩ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٨٤.

(٣) الاعتجار : لف العمامة دون التلحي «لسان العرب ٤ : ٥٤٤».

١٩٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسح الغبار عن وجهه ، فقال له جبرئيل : «رحمك ربّك ، وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ، ما زلت أتبعهم حتّى بلغت الروحاء»(١) ، ثمّ قال جبرئيل : «انهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب ، فوالله لاَدقنّهم دقّ البيضة على الصخرة».

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام فقال : «قدّم راية المهاجرين إلى بني قريضة ، وقال : «عزمت عليكم أن لا تصلّوا العصر إلاّ في بني قريظة».

فأقبل عليّ عليه‌السلام ومعه المهاجرون وبنو عبد الأشهل وبنو النجّار كلّها ، لم يتخلّف عنه منهم أحد ، وجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسرّب إليه الرجال ، فما صلّى بعضهم العصر إلاّ بعد العشاء.

فأشرفوا عليه وسبّوه ، وقالوا : فعل الله بك وبابن عمّك ، وهو واقف لا يجيبهم ، فلمّا أقبل رسول الله عليه وآله وسلّم والمسلمون حوله تلقّاه أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : «لا تأتهم يا رسول الله جعلني الله فداك ، فإنّ الله سيجزيهم». فعرف رسول الله أنّهم قد شتموه ، فقال : «أما إنّهم لو رأوني ما قالوا شيئاً ممّا سمعت». وأقبل ثمّ قال : «يا إخوة القردة ، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ، يا عباد الطاغوت اخسؤوا أخساكم الله». فصاحوا يميناً وشمالاً : يا أبا القاسم ما كنت فحّاشاً فما بدا لك(٢).

قال الصادق عليه‌السلام : فسقطت العنزة من يده ، وسقط رداءه من

__________________

(١) قال الحموي في معجم بلدانه «٣ : ٧٦» : الروح والراحة من الاستراحة ، ويوم روح أي طيب ، وأظنه قيل للبقعة روحاء أي طيبة ذات راحة ويعضده ما ذكره الكلبي قال : لما رجع تبّع من قتال أهل المدينة يريد مكة نزل بالروحاء فأقام بها وأراح ، فسماها الروحاء.

(٢) انظر : تفسير القمي ٢ : ١٨٩ ، وارشاد المفيد ١ : ١٠٩ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ٢٤٤ ، والطبقات الكبرى ٢ : ٧٤ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٥٨١ ، والكامل في التاريخ ٢ : ١٨٥.

١٩٦

خلفه ، ورجع يمشي إلى ورائه حياء ممّا قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وقسمة الأموال ، وأن يجعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار.

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

فلمّا جيء بالاُسارى حبسوا في دار ، وأمر بعشرة فاُخرجوا فضرب أمير المؤمنين أعناقهم ، ثم أمر بعشرة فاُخرجوا فضرب الزبير أعناقهم ، وقلَّ رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ قتل الرجل والرجلين.

قال : ثمّ انفجرت رمية سعد والدم ينفح حتّى قضى ، ونزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رداءه فمشى في جنازته بغير رداء. ثمّ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدالله بن رواحة إلى خيبر ، فقتل سيربن دارم اليهودي ، وبعث عبدالله بن عتيك إلى خيبر فقتل أبا رافع بن أبي الحقيق»(١).

ثمّ كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة ، ورأسهم الحارث بن أبي الضرار ، وقد تهيؤوا للمسير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي غزوة المُرَيسيع(٢) ، وهو ماء ، وقعت في شعبان سنة خمس ، وقيل : في شعبان سنة ست ، والله أعلم(٣).

قالت جويرية بنت الحارث ـ زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن على المُرَيسيع ،

__________________

(١) انظر : تفسير القمي ٢ : ١٩٠ ، والارشاد للمفيد ١ : ١١٠.

(٢) اسم ماء في ناحية قديد إلى الساحل. «معجم البلدان ٥ : ١١٨».

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠١ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ٣٠٢ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٦٠٤.

١٩٧

فأسمع أبي وهو يقول : أتانا ما لا قبل لنا به ، قالت : وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة ، فلمّا أن أسلمت وتزوّجني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجعنا جعلت أظهر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى ، فعرفت أنّه رعب من الله عزّ وجلّ يلقيه في قلوب المشركين.

قالت : ورأيت قبل قدوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتّى وقع في حجري ، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس ، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا ، فأعتقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتزوّجني(١).

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد ، فما أفلت منهم إنسان ، وقتل عشرة منهم واُسر سائرهم ، وكان شعار المسلمين يومئذ «يا منصور أمت».

وسبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرجال والنساء والذراري والنعم والشياه ، فلمّا بلغ الناس أنّ رسول الله تزوّج جويرية بنت الحارث قالوا : أصهار رسول الله. فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق ، فما عُلم امرأة أعظم بركة على قومها منها(٢).

وفي هذه الغزوة قال عبدالله بن اُبي (لَئن رجَعنا إلى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزّ مِنها الأذَلّ)(٣) ، واُنزلت الآيات.

وفيها كانت قصة إفك عائشة(٤).

__________________

(١) المغازي ١ : ٤٠٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٠ | ٣.

(٢) اُنظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٠١ ، والمغازي للواقدي ١ : ٤١٠ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ٣٠٧ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٦٢ ، والوفا بأحوال المصطفى ١٢ : ٩٦٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٠ | ٣.

(٣) المنافقون ٦٣ : ٨.

(٤) لم يعد بخاف على أحد مدى الدور الخطير الذي لعبته السياسة الأموية المنحرفة في تشويه

=

١٩٨

.......................................

__________________

=

وتطويع الكثير من الحقائق الشرعية والتاريخية خدمة لاغراضها المشبوهة المراد من خلالها توطيد حكمهم وتثبيت قواعده ، والحط من مكانة معارضيهم ومناوئيهم وفي مقدمتهم أهل بيت النبوة عليهم‌السلام.

ولعل الأمر ليس بعسير على أحد ادراكه من خلال استقراء الكثير من تلك الوقائع والأخبار وما تؤدي إليه بالتالي عند اعتقاد المسلمين بها ، والتسليم بصحتها.

وإذا لم نكن هنا بمعرض التحدث عن هذا الموضوع الحساس والمهم ، قدر ما أردنا منه الاشارة العرضية إلى حقيقة خطيرة كانت لها آثار وخيمة في صياغة وبناء الكثير من الآراء والمعتقدات التي يذهب إلى تبنيها البعض.

ولعل حديث الافك المشهور ، والآيات النازلة فيه من تلك الوقائع التي تناولتها سياسة الأمويين بالتحريف والكذب بشكل مدروس انخدع فيه الكثيرون ، وسلموا بحتمية ما قرأوه من تفصيلات متعددة تصب في غرض واحد.

والخبر كما يرويه أصحابنا وغيرهم هو أن المرأة التي رميت بهذا الافك كانت ماريه القبطية اُم ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليست عائشة كما هو مشهور عند الكثرين الذين أخذوا بما سطرته السياسات المنحرفة التي كان يديرها الأمويون من أجل إضفاء صفة القدسية على عائشة التي نقلوا عنها أو نسبوا إليها من الأخبار المنحرفة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، مع ما عرف عنها من موفق حاد ومعارض لاَمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه‌السلام ، كان أوضحه في خروجها عليه في وقعة الجمل المشهورة التي كانت من أعظم الفتن التي ابتليت بها الأمّة الاسلامية المذهولة بما تراه وتسمعه.

والحق يقال : إن استقراء تلك الروايات ـ التي جهد واضعوها ومروّجوها في إخراجها بشكل لا يدعون فيه منفذاً للطعن أو الشك ـ يبيِّن بوضوح جملة واسعة من المؤاخذات والردود التي تذهب إلى نفي صحة هذه النسبة ، والقطع بها.

ولما كان التعرُّض لمناقشة هذا الموضوع يتطلب التوسع الكثير في إيراد تفاصيل تلك الواقعة ، فإن ذلك لا يحول دون الاشارة العابرة إلى بعض تلك الحقائق المهمة.

فمن الحقائق المثيرة للاستغراب كون هذا الخبر إما منقولاً عن عائشة عينها ، أو عن صحابي لم يكن حاضرأً في تلك الواقعة ، أو أنه كان حين الواقعة صغيراً لا يعقل ، أو غير ذلك من العلل المضعفة للحديث ، والنافية لتواتره وصحته.

هذا مع تنافي العديد من الأخبار المنقولة عن هذا الأمر مع سياق الاحداث المصوّرة من

=

١٩٩

.......................................

__________________

=

قبل مروجي هذا الخبر وصانعيه ، والتي تبعد هذه النسبة المصطنعة إلى عائشة دون غيرها من حلائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولعل هذا الفهم لا يكتمل دون التعرض لما رواه الشيعة في كتبهم ، ويعضدهم في ذلك بعض الآخرين ، من القول بأن الافك كان مختصاً بمارية القبطية وولدها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إبراهيم ، حيث طعن البعض في نسبته إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذهب إلى القول بأنه من ابن جريح ، ابن عم مارية ، والذي اُهدي معها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ورغم أن العديد من تلك المصادر تذكر بأن عائشة المشهورة بغيرتها من بعض زوجات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولا سيما مارية التي تذكر انها : ما غارت من امرأة دون ما غارت من مارية لجمالها ، وانجابها ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت مصدر نشأة هذا الخبر (انظر : طبقات ابن سعد ١ : ١٣٧ ، مستدرك الحاكم مع تلخيصه للذهبي٤ : ٣٩ ، البداية والنهاية ٣ : ٣٠٥ ، الدر المنثور ٦ : ٢٤٠) ، إلاّ أنا نريد هنا الاستطراد في هذا الاتجاه عدا التلميح إلى ذلك.

وأي كان قائل ذلك الافك العظيم فإن ترتب جملة الوقائع اللاحقة للافك تتوافق بشكل صريح مع ما ذهبنا إليه من افترائه على مارية دون عائشة.

فالمصادر الحديثية والمتعددة التي تذكر إرسال رسول الله صلى الاله عليه وآله وسلم لعلي عليه‌السلام نحو ابن جريح ـ الرجل المتهم بهذا الأمر ـ وإظهار عجزه عن فعلا لقبيح لكونه ممسوحاً أو مجبوباً ، وليس له ما للرجال أمام الملأ ، جاء متوافقاً مع مزول الآيات القرآنية المباركة فسورة النور ، والتي برأت تلك المرأة الشريفة شرعياً من هذا البهتان العظيم ، فكان هنا براءتان لها : شرعية ، وواقعية ، وهذا لم يلتفت إليه ناسجو وهم حكاية عائشة.

تم ماذا يعني الاستفسار من زينب بنت جحش ، وأم أيمن عن ذلك الأمر طالما انه حدث بعيداً عن الجميع ، وفي عمق الصحراء ، اليس في ذلك تناقض صريح مع واقع الحال ، وظرف الواقعة ، ثم اليس هو أقرب للصواب إذا سلٌمنا بالرأي القائل بأنه مختص بمارية التي هي امام ناظري الجميع ، وبينهم.

هذا يمثٌل أحد أطراف الاستهجان والاستغراب من هذه النسبة الباهتة ، يضاف إليه ما تقرأه من تسلسل الآيات المباركة المتحدٌثة عن أبعاد هذا الافك ، وكيف أنها انتقلت إلى

=

٢٠٠