إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

عليه وآله وسلّم البيضاء وخرجت أطلب الحطّابة أو صاحب لبن لعلّي آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأمنون إليه ، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام ، وأبو سفيان يقول لبديل : ما هذه النيران؟ قال : هذه خزاعة.

قال : خزاعة أقلّ وأقلّ من أن تكون هذه نيرانهم ، ولكن لعلّ هذه تميم أو ربيعة.

قال العبّاس : فعرفت صوت أبي سفيان ، فقلت : أبا حنظلة ، قال : لبّيك فمن أنت؟ قلت : أنا العبّاس ، قال : فما هذه النيران فداك أبي واُمّي؟ قلت : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عشرة آلاف من المسلمين ، قال : فما الحيلة؟ قال : تركب في عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فأردفته خلفي ثمّ جئت به ، فكلّما انتهيت إلى نار قاموا إليّ فإذا رأوني قالوا : هذا عمّ رسول الله خلّوا سبيله ، حتّى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال : عدوّ الله الحمد لله الذي أمكن منك ، فركَّضت البغلة حتّى اجتمعنا على باب القبّة ، ودخل عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هذا أبو سفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه.

قال : العبّاس : فجلست عند رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : بأبي أنت واُمّي أبو سفيان وقد أجرته ، قال : «أدخله».

فدخل فقام بين يديه فقال : «ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله؟».

قال : بأبي أنت واُمّي ما أكرمك وأوصلك وأحملك ، أمّا الله لو كان معه إله لاَغنى يوم بدر ويوم أحد ، وأمّا أنّك رسول الله فوالله إنّ في نفسي منها لشيئاً.

٢٢١

قال العبّاس : يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فإنّي أشهد أن لا إلاّ الله وأنّك رسول الله ـ تلجلج بها فوه ـ.

فقال أبو سفيان للعبّاس : فما نصنع باللات والعزّى؟ فقال له عمر : اسلح(١) عليهما.

فقال أبو سفيان : اُفّ لك ما أفحشك ، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمّي؟

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عند من تكون الليلة»؟

قال : عند أبي الفضل.

قال : «فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة واغد به عليّ».

فلمّا أصبح سمع بلالاً يؤذّن ، قال : ما هذا المنادي يا أبا الفضل؟ قال : هذا مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قم فتوضّأ وصلّ ، قال : كيف أتوضّأ؟ فعلّمه.

قال : ونظر أبو سفيان إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتوضّأ وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلاّ مسح بها وجهه ، فقال : بالله إن رأيت كاليوم قطّ كسرى ولا قيصر.

فلمّا صلّى غدا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّي اُحبّ أن تأذن لي [بالذهاب] إلى قومك فاُنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله ، فأذن له ، فقال العبّاس : كيف أقول لهم؟ بيّن لي من ذلك أمراً يطمئنّون إليه.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول لهم : من قال : لا إله إلاّ الله

__________________

(١) السلح : النجو ، وهو ما خرج من البطن من ريح وغيرها. «انظر : العين ٦ : ١٨٦».

٢٢٢

وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً رسول الله ، وكفّ يده فهو آمن ، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن.

فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فلوخصّصه بمعروف.

فقال عليه‌السلام : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

قال أبو سفيان : داري؟! قال : «دارك» ، ثمّ قال : «من أغلق بابه فهو آمن».

ولمّا مضى أبو سفيان قال العبّاس : يارسول الله إنّ أبا سفيان رجلٌ من شأنه الغدر ، وقد رأى من المسلمين تفرّقاً.

قال : «فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتّى يمرّ به جنود الله».

قال : فلحقه العبّاس فقال : أبا حنظلة! قال : أغدراً يا بني هاشم؟

قال : ستعلم أنّ الغدر ليس من شأننا ، ولكن أصبر حتّى تنظر إلى جنود الله.

قال العبّاس : فمرّ خالد بن الوليد فقال أبو سفيان : هذا رسول الله؟ قال : لا ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدّمة ، ثمّ مرّ الزبير في جهينة وأشجع فقال أبو سفيان : يا عبّاس هذا محمّد؟ قال : لا ، هذا الزبير ، فجعلت الجنود تمرّ به حتّى مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأنصار ثمّ انتهى إليه سعد بن عبادة ، بيده راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا حنظلة.

اليوم يوم الملحمه

اليوم تستحلّ (١) الحرمه

يا معشر الأوس والخزرج ثاركم يوم الجبل.

__________________

(١) في نسخة «م» والبحار : تسبى.

٢٢٣

فلمّا سمعها من سعد خلّى العباس وسعى إلى رسول الله وزاحم حتّى مرّ تحت الرماح فأخذ غرزه (١) فقبّلها ، ثمّ قال : بأبي أنت واُمّي أما تسمع ما يقول سعد؟ وذكر ذلك القول ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس ممّا قال سعد شيء» ثمّ قال لعليّ عليه‌السلام : «أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالاً رفيقاً» ، فأخذها علي وأدخلها كما أمر.

قال : وأسلم يومئذ حكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، وجبير بن مطعم.

وأقبل أبو سفيان حتّى دخل مكّة وقد سطع الغبار من فوق الجبال وقريش لا تعلم ، وأقبل أبو سفيان من أسفل الوادي يركض فاستقبلته قريش وقالوا : ما وراءك وما هذا الغبار؟ قال : محمّد في خلق ، ثمّ صاح : ياآل غالب البيوت البيوت ، من دخّل داري فهو آمن ، فعرفت هند فأخذت تطردهم ، ثمّ قالت : اقتلوا الشيخ الخبيث ، لعنه الله من وافد قوم وطليعة قوم.

قال : ويلك إنّي رأيت ذات القرون ، ورأيت فارس أبناء الكرام ، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمن آخر النهار ، ويلك اسكتي فقد والله جاء الحقّ ودنت البليّة»(٢)

فصل :

وكان قد عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكّة إلاّ من قاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبي صلوات الله عليه وآله ، منهم : مقيس بن صبابة ، وعبدالله بن سعد بن أبي

__________________

(١) الغرر : ركاب الرحل. «لسان العرب ٥ : ٣٨٦».

(٢) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٢٧.

٢٢٤

سرح ، وعبدالله بن خطل ، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة».

فاُدرك ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمّار بن ياسر فسبق سعيد عمّاراً فقتله ، وقتل مقيس بن صبابة في السوق ، وقتل علي عليه‌السلام إحدى القينتين وأفلتت الاُخرى ، وقتل عليه‌السلام أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب.

وبلغه أنّ اُمّ هانىء بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بني مخزوم منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب ، فقصد نحو دارها مقنّعاً بالحديد ، فنادى : «أخرجوا من آويتم» فجعلوا يذرقون كما يذرق الحبارى خوفاً منه.

فخرجت إليه اُمّ هانىء ـ وهي لا تعرفه ـ فقالت : يا عبدالله ، أنا اُمّم هانىء بنت عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واُخت عليّ بن أبي طالب ، انصرف عن داري.

فقال علي عليه‌السلام : «أخرجوهم».

فقالت : والله لاَشكونّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتدّ حتّى التزمته ، فقالت : فديتك حلفت لاَشكونّك إلى رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم؟

فقال لها : «فاذهبي فبرّي قسمك ، فإنّه بأعلى الوادي».

قالت اُمّ هانئ : فجئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في قبّة يغتسل ، وفاطمة عليها‌السلام تستره ، فلمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامي قال : «مرحباً بك يا اُمّ هانىء».

قلت : بأبي واُمّي ما لقيت من عليّ اليوم!

فقال عليه‌السلام : «قد أجرت من أجرت».

٢٢٥

فقالت فاطمة عليها‌السلام : «إنّما جئت يا اُمّ هانىء تشكين عليّاً في أنّه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله؟!».

فقلت : احتمليني فديتك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد شكر الله لعليّ سعيه ، وأجرت من أجارت اُمّ هانىء لمكانها من عليّ بن أبي طالب» (١).

قال أبان : وحدثني بشير النبّال ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : «لمّا كان فتح مكّة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عند من المفتاح؟

قالوا : عند اُمّ شيبة.

فدعا شيبة فقال : إذهب إلى اُمّك فقل لها ترسل بالمفتاح.

فقالت : قل له : قتلت مقاتلينا وتريد أن تأخذ منّا مكرمتنا.

فقال : لترسلنّ به أو لاَقتلنّك. فوضعته في يد الغلام فأخذه ودعا عمر فقال له : هذا تأويل رؤياي من قبل.

ثمّ قام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففتحه وستره ، فمن يومئذ يستر ، ثمّ دعا الغلام فبسط رداءه فجعل فيه المفتاح وقال : ردّه إلى اُمّك.

قال : ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيت وأخذ بعضادتي الباب ثمّ قال : لا إله إلاّ الله أنجز وعده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده. ثمّ قال : ما تظنّون وما أنتم قائلون؟

فقال سهيل بن عمرو : نقول خيراً ، ونظنّ خيراً ، أخ كريم وابن عمّ.

قال : فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، ألا إنّ كلّ دم ومال ومأثرة كان في

__________________

(١) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٣١.

٢٢٦

الجاهليّة فإنّه موضوع تحت قدمي ، إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنّهما مردوتان إلى أهليهما ، ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم الله ، لم تحلّ لاَحد كان قبلي ولم تحلّ لي إلاّ ساعة من نهار ، فهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة ، لا يختلي خلاها ، ولا يقطع شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحلّ لقطتها إلاّ لمنشد.

ثمّ قال : ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذبتم وطردتم ، وأخرجتم وفللتم ، ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني ، فاذهبوا فأنتم الطلقاء.

فخرج القوم كأنّما انشروا من القبور ، ودخلوا في الاِسلام.

قال : ودخل رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم مكّة بغير إحرام وعليهم السلاح ، ودخل البيت لم يدخله في حجّ ولا عمرة.

ودخل وقت الظهر فأمر بلال فصعد على الكعبة وأذّن ، فقال عكرمة : والله إن كنت لاَكره أن أسمع صوت ابن رباح ينهق على الكعبة ، وقال خالد بن أسيد : الحمد لله الذي أكرم أبا عتّاب من هذا اليوم من أن يرى ابن رباح قائماً على الكعبة ، قال سهيل : هي كعبة الله وهو يرى ولو شاء لغيّر ـ قال : وكان أقصدهم ـ وقال أبو سفيان : أمّا أنا فلا أقول شيئاً ، والله لو نطقت لظننت أنّ هذه الجدر تخبر به محمّداً.

وبعث صلوات الله عليه وآله إليهم فأخبرهم بما قالوا ، فقال عتّاب : قد والله قلنا يا رسول الله ذلك فنستغفر الله ونتوب إليه ، فأسلم وحسن إسلامه وولاّه رسول الله مكّة.

قال : وكان فتح مكّة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان ، واستشهد

٢٢٧

من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا» (١)

فصل :

وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السرايا فيما حول مكّة يدعون إلى الله عز وجلّ ، ولم يأمرهم بقتال ، فبعث غالب بن عبدالله إلى بني مدلج فقالوا : لسنا عليك ولسنا معك ، فقال الناس : اُغزهم يا رسول الله ، فقال : «إنّ لهم سيّداً أديباً أريباً ، وربّ غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله» (٢).

وبعث عمرو بن اُمّية الضمري إلى بني الدليل فدعاهم إلى الله ورسوله فأبوا أشدّ الإباء ، فقال الناس : اُغزهم يا رسول الله ، فقال : «أتاكم الآن سيّدهم قد أسلم فيقول لهم : أسلموا ، فيقولون : نعم» (٣).

وبعث عبدالله بن سهيل بن عمرو إلى بني محارب بن فهر فأسلموا وجاء معه نفر منهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤)

وبعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر ، وقد كانوا أصابوا في الجاهليّة من بني المغيرة نسوة وقتلوا عمّ خالد ، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا : يا خالد إنّا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ونحن مسلمون ، فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها ، فقال : ضعوا السلاح ، قالوا : إنّا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهليّة وقد أماتها الله ورسوله.

__________________

(١) نقلوا المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٣٢ | ذيل ح ٢٢.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ١ : ٢١٠. نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٤٠ | ضمن ح ٢.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ١ : ٢١٠. نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٤٠ | ضمن ح ٢.

(٤) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٤٠ | ضمن ح ٢.

٢٢٨

فانصرف عنهم بمن معه ، فنزلوا قريباً ثمّ شنّ عليهم الخيل ، فقتل وأسر منهم رجالاً ، ثمّ قال : ليقتل كلّ رجل منكم أسيره ، فقتلوا الأسرى ، وجاء رسولهم إلى رسول الله فأخبره بما فعل خالدٌ بهم ، فرفع عليه‌السلام يده إلى السماء وقال : «اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا فعل خالد» وبكى ثمّ دعا عليّاً عليه‌السلام فقال : «اُخرج إليهم وانظر في أمرهم» وأعطاه سفطاً من ذهب ، ففعل ما أمره وأرضاهم (١)

ثمّ كانت غزوة حنين ، وذلك أنّ هوازن جمعت له جمعاً كثيراً ، فذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ صفوان بن اُميّة عنده مائة درع فسأله ذلك ، فقال : أغصباً يا محمّد؟ قال : «لا ، ولكن عارية مضمونة» قال : لا بأس بهذا. فأعطاه.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألفين ـ من مكّة ـ وعشرة آلاف كانوا معه ، فقال أحد أصحابه : لن نُغلب اليوم من قلّة. فشقّ ذلك على رسول الله فأنزل الله سبحانه (وَيَومَ حُنَينٍ إذ اَعجَبَتكُم) الآية (٢).

وأقبل مالك بن عوف النصريّ فيمن معه من قبائل قيس وثقيف ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدالله بن أبي حدرد عيناً فسمع ابن عوف يقول : يا معشر هوازن إنّكم أحدٌ العرب وأعدّها ، وإنّ هذا الرجل لم يلق قوماً يصدوقونه القتال ، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد. فأتى ابن أبي حدرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فقال عمر : ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال : «قد

__________________

(١) انظر : امالي الصدوق : ١٤٦ | ٧ ، وارشاد المفيد ١ : ١٣٩ ، صحيح البخاري ٥ : ٢٠٣ كتاب المغازي ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٦١ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٧٠ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١١٤ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٥٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٤٠ | ٢.

(٢) التوبة ٩ : ٢٥.

٢٢٩

كنت ضالاً فهداك الله يا عمر وابن أبي حدرد صادق» (١).

قال الصادق عليه‌السلام : «وكان مع هوازن دريد بن الصمّة ، خرجوا به شيخاً كبيراً يتيمّنون برأيه ، فلمّا نزلوا بأوطاس(٢) قال : نعم مجال الخيل لا حزنّ (٣) ضرس(٤) ولا سهل دهس(٥) ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم قال : فأين مالك؟ فدعي مالك له ، فأتاه فقال : يا مالك ، أصبحت رئيس قومك ، وإنّ هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيّام ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير ، وثغاء الشاة؟.

قال : أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.

قال : ويحك لم تصنع شيئاً ، قدّمت بيضة (٦) هوازن في نحور الخيل ، وهل يرد وجه المنهزم شيء؟! إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلاّ رجلٌ بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.

قال : إنّك قد كبرت وكبر عقلك.

فقال دريد : إن كنت قد كبرت فتورث غداً قومك ذلاًّ بتقصير رأيك

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١٠ ، وانظر : المغازي للواقدي ٣ : ٨٩٠ و ٨٩٣ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٨٢ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٢١ و ١٣٠ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٦٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار٢١ : ١٦٤ | ٩.

(٢) أوطاس : واد في ديار هوازن. «معجم البلدان ١ : ٢٨١».

(٣) الحزن : ما غلط من الأرض في ارتفاع. «لسان العرب ١٣ : ١١٤».

(٤) الضرس : الأكمة الخشنة. «الصحاح ـ ضرس ـ ٣ : ٩٤٢».

(٥) الدهس : المكان السهل اللين ، لا يبلغ أن يكون رملاً ، وليس هو بتراب ولا طين ، ولونه الدهسة. «الصحاح ـ دهس ـ ٣ : ٩٣١».

(٦) البيضة : أصل القوم ومجتمعهم. «لسان العرب ٧ : ١٢٧».

٢٣٠

وعقلك ، هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه ، ثمّ قال : حرب عوان(١).

يا ليتني فيها جذع

أخبّ فيها وأضع » (٢)

قال جابر : فسرنا حتّى إذا استقبلنا وادي حنين ، كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه ، فما راعنا إلاّ كتائب الرجال بأيديها السيوف والعمد والقني ، فشدّوا علينا شدّة رجل واحد ، فانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات اليمين ، وأحدق ببغلته تسعة من بني عبدالمطّلب(٣).

وأقبل مالك بن عوف يقول : أروني محمّداً ، فأروه فحمل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكان رجلاً أهوج(٤)ـ فلقيه رجل من المسلمين فالتقيا ، فقتله مالك ـ وقيل : إنه أيمن بن اُم أيمن (٥) ـ ثمّ أقدم فرسه فأبى أن يقدم نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصاح كلدة بن الحنبل ـ وهو أخو صفوان بن اُميّة لاُمّه وصفوان يومئذ مشرك ـ : ألا بطل السحر اليوم ، فقال صفوان : اسكت فضّ الله فاك ، فوالله لاَن يُربني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربني رجل من هوازن(٦).

__________________

(١) حرب عوان : أي حرب قوتل فيها مرة بعد الأخرى. «انظر : لسان العرب ١٣ : ٢٩٩».

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٥ ، المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١٠ ، وانظر : سيرة ابن هشام ٤ : ٨٠ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٧١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٢١ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٦١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٦ | ضمن ح ٩.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١١ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٨٥ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٧٤ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٢٦ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٦٢ ، وفيها باختلاف يسير ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٦ | ضمن ح ٩.

(٤) رجل أهوج : أي طويل وبه تسرّع وحمق. «الصحاح ـ هوج ـ ١ : ٣٥١».

(٥) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٦ / ضمنح ٩.

(٦) المغازي للواقدي ٣ : ٩١٠ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٨٦ ، تاريخ الطبري ٣ : ٧٤ ، ودلائل

=

٢٣١

قال محمّد بن إسحاق : وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبدالدار : اليوم أدرك ثاري ـ وكان أبوه قتل يوم اُحد ـ اليوم أقتل محمّداً ، قال : فأدرت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاَقتله فأقبل شيء حتّى تغشّى فؤادي ، فلم أطلق ذلك ، فعرفت أنّه ممنوع (١).

وروى عكرمة عن شيبة قال : لمّا رأيت رسول الله يوم حنين قد عري ذكرت أبي وعمّي وقتل عليّ وحمزة اياهما ، فقلت : أدرك ثاري اليوم من محمّد ، فذهبت لأجيئه عن يمينه ، فإذا أنا بالعبّاس بن عبد المطّلب قائماً عليه درع بيضاء كأنّها فضّة يكشف عنها العجاج ، فقلت : عمّه ولن يخذله ، ثمّ جئته عن يساره ، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب ، فقلت : ابن عمه ولن يخذله ، ثمّ جئته من خلفه ، فلم يبق إلاّ أنّ أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ(٢) من نار بيني وبينه كأنّه برق ، فخفت أن يمحشني(٣) فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى ، والتفت رسول الله وقال : «يا شيب اُدن منّي ، اللهمّ اذهب عنه الشيطان» قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحبّ إليّ من سمعي وبصري ، وقال : «يا شيب قاتل الكفّار» (٤).

وعن موسى بن عقبة قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

=

النبوة للبيهقي ٥ : ١٢٨ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٢٦٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٦ ضمن ح ٩.

(١) المغازي للواقدي ٣ : ٩٠٩ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٨٧ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٧٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٢٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٦ | ضمن ح ٩.

(٢) الشُواظ والشواظ : اللهب الذي لا دخان له. «الصحاح ـ شوظ ـ ٣ : ٣٥١».

(٣) المَحش : تناولٌ من لهب يحرق الجلد ويبدي العظم. «العين ٣ : ١٠٠».

(٤) المغازي للواقدي ٣ : ٩٠٩ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٤٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٦ | ضمن ح ٩.

٢٣٢

الركابين وهو على البغلة فرفع يديه إلى الله يدعوا ويقول : «اللهم إنّي أنشدك ما وعدتني ، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا» ونادى أصحابه وذمرهم(١) : «يا أصحاب البيعة يوم الحديبية الله الله الكرّة على نبيكّم».

وقيل : إنّه قال : «يا أنصار الله وأنصار رسوله ، يابني الخزرج» وأمر العبّاس ابن عبد المطّلب فنادى في القوم بذلك ، فأقبل إليه أصحابه سراعاً يبتدون.

وروي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الآن حمِيَ الوطيس.

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب»(٢)

قال سلمة بن الأكوع : ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البغلة ثمّ قبض قبضة من تراب ، ثمّ استقبل به وجوهم وقال : «شاهت الوجوه» فما خلي الله منهم إنساناً إلاّ ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة فولّوا مدبرين ، واتبعهم المسلمون فقتلوهم ، وغنّمهم الله نساءهم وذراريهم وشاءهم وأموالهم(٣).

وفرّ مالك بن عوف حتّى دخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومهم ، وأسلم عند ذلك كثير من أهل مكّة حين رأوا نصرالله وإعزاز دينه(٤).

قال أبان : وحدّثني محمّد بن الحسن(٥) بن زياد ، عن أبي عبدالله عليه

__________________

(١) ذمّرهم : لامهم وحضّهم وحثّهم. «لسان العرب ٤ : ٣١١».

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٣١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٧ | ضمن ح ٩.

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٤٠٢ | ٨١ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٤٠ ، ونحوه في : تفسير القمي ١ : ٢٨٧ ، والطبقات الكبرى ٢ : ٥٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٧.

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٣٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٧.

(٥) في نسختي «ق»و«ط» الحسين ، وهو تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، وهو محمّد بن الحسن بن زياد العطّار ، كذلك عنونه النجاشي (٣٦٩ | ١٠٠٢) وقال عنه : كوفي ثقة ، روى أبوه عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، له كتاب.

وكذا ذكره الشيخ الطوسي في الفهرست : (١٤٩) ، وابن داود في القسم الأول من رجاله

=

٢٣٣

السلام قال : «سبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين أربعة آلاف رأس واثني عشر ألف ناقة ، سوى ما لا يُعلم من الغنائم (١) وحلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأنفال والأموال والسبايا بالجعرانة (٢) وافترق المشركون فريقتين ، فأخذت الأعراب ومن تبعهم أوطاس ، وأخذت ثقيف ومن تبعهم الطائف ، وبعث رسول الله أبا عامر الأشعري إلى أوطاس فقاتل حتّى قُتل ، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري ـ وهو ابن عمّه ـ فقاتل بها حتّى فتح عليه» (٣)

ثمّ كانت غزوة الطائف ، سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف في شوّال سنة ثمان فحاصرهم بضع عشر يوماً ، وخرج نافع بن غيلان ابن معتّب في خيل من ثقيف فلقيه عليّ عليه‌السلام في خيله ، فالتقوا ببطن وَجّ (٤) ، فقتله عليّ وانهزم المشركون ، ونزل من حصن الطائف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جماعة من أرقائهم ، منهم أبو بكرة ـ وكان عبداً للحارث بن كلدة المنبعث ، وكان اسمه المضطجع ، فسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبعث ـ ووردان ـ وكان عبداً لعبد الله بن ربيعة ـ

__________________

=

(١٦٩ | ١٣٤٨) ، والعلاّمة الحلي في الخلاصة (١٦٠ | ١٣٩) والمامقاني في تنقيحه (٣ | ١٠١) ، ولعل هذه الرواية وردت في كتابه المذكور. فتأمل.

(١) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٨.

(٢) الجعرانة : ماء بين الطائف ومكة ، وهي إلى مكة أقرب. «معجم البلدان ٢ : ١٤٢».

(٣) انظر : الارشاد للمفيد ١ : ١٥١ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ٩٧ ، والمغازي للواقدي ٣ : ٩١٥ ، وصحيح البخاري ٥ : ١٩٧ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٧٩ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٥٢ ، والكافي في التاريخ ٢ : ٢٦٥.

(٤) وَجَ (بالفتح ثم التشديد) : الطائف ، والوج في اللغة : عيدان يتداوى بها ، قال أبو منصور : وما أراه عربياً محضاً ، والوج يعني : السرعة ، والقطا ، والنعام : «انظر : معجم البلدان ٥ : ٣٦١».

٢٣٤

فأسلموا ، فلمّا قدم وفد الطائف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسلموا قالوا : يا رسول الله ردّ علينا رقيقنا الذين أتوك ، فقال : «لا ، اُولئك عتقاء الله» (١)؟.

وذكر الواقديّ ـ عن شيوخه ـ قال : شاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه في بعض الطائف ، فقال له سلمان الفارسي رحمه‌الله قال : يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعمل المنجنيق ، ويقال : قدّم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودّبابتين ـ ويقال : خالد بن سعيد ـ فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فأحرقت الدبّابة.

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها ، فنادى سفيان بن عبدالله الثقفي : لِمَ تقطع أموالنا ، إمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا وإمّا أن تدعها لله والرحم ، فقال رسول الله عليه‌السلام : «فإنّي أدعها لله والرحم» فتركها (٢).

وأنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام في خيل عند محاصرته أهل الطائف وأمره أن يكسر كلّ صنم وجده ، فخرج فلقيه جمع كثيرٌ من خثعم ، فبرز له رجلٌ من القوم وقال : هل من مبارز ، فلم يقم أحدٌ ، فقام إليه عليّ عليه‌السلام ، فوثب أبو العاص بن الربيع زوج بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : تكفاه أيّها الأمير ، فقال : «لا ، ولكن إن قُتلت فأنت على الناس».

__________________

(١) انظر : المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١١ ـ ٢١٢ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٤ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٥٦ ـ ١٥٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٨.

(٢) المغازي ٣ : ٩٢٧ ، وانظر : الارشاد للمفيد ١ : ٥٣ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٦١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٨.

٢٣٥

فبرز إليه علي عليه‌السلام وهو يقول :

«إنّ على كلّ رئيس حقّا

أن يروي الصعدة (١) أو تدقّا»

ثمّ ضربه فقتله ، ومضى حتّى كسر الأصنام ، وانصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بعد محاصر لاَهل الطائف ينتظره ، فلمّا رآه كبّر وأخذ بيده وخلا به (٢).

فروى جابر بن عبدالله قال : لمّا خلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يوم الطائف أتاه عمر بن الخطّاب فقال : أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا؟ فقال : «يا عمر ، ما أنا انتجيته بل الله انتجاه» قال : فأعرض وهو يقول : هذا كما قلت لنا يوم الحديبية لتدخلّن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين ، فلم ندخله وصددنا عنه. فناداه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لم أقل لكم إنّكم تدخلونه ذلك العام» (٣)

قال : فلمّا قدم عليّ عليه‌السلام فكأنّما كان رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم على وجل فارتحل فنادى سعيد بن عبيدة : ألا ان الحيّ مقيم ، فقال عليه‌السلام : «لا أقمت ولا ظعنت» فسقط فانكسر فخذه (٤).

وعن محمّد بن إسحاق قال : حاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريباً من ذلك ، ثمّ انصرف عنهم ولم يؤذن

____________

(١) الصعدة : القناة المستوية تنبت كذلك ، ومن القصب أيضاً. «العين ١ : ٢٩٠».

(٢) ارشاد المفيد ١ : ١٥٢ ، والمناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٩.

(٣) ارشاد المفيد ١ : ١٥٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٩.

(٤) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٩.

٢٣٦

فيهم ، فجاءه وفده في شهر رمضان فأسلموا (١).

فصل

ثمّ رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجعرانة بمن معه من الناس ، وقسّم بها ما أصاب من الغنائم يوم حنين في المؤلّفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير(٢).

قيل : إنّه جعل للأنصار شيئاً يسيراً ، وأعطى الجمهور للمتألّفين (٣).

قال محمّد بن إسحاق : فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير ، ومعاوية ابنه مائة بعير ، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزّى بن قصي مائة بعير ، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة مائة بعير ، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير ، وأعطى الحارث بن هشام من بني مخزوم مائة ، وجبير بن مطعم من بني نوفل بن عبد مناف مائة ، ومالك بن عوف النصري مائة ، فهؤلاء أصحاب المائة.

وقيل : إنّه أعطى علقمة بن علاثة مائة ، والأقرع بن حابس مائة ، وعيينة بن حصن مائة ، وأعطى العبّاس بن مرداس أربعأً فتسخطها وأنشأ يقول :

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢١٢ ، ودلائل النبوة للبيهقي : ٥ : ١٦٩ ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار ٢١ : ١٦٩..

(٢) انظر : ارشاد المفيد ١ : ١٤٥ ، سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٧٦ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٩.

(٣) ارشاد المفيد ١ : ١٥٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٦٩.

٢٣٧

أتجعل نهبي ونهب العبيـ

ـد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرء منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنتُ في الحرب ذا تدرأ

فلم أعط شيئاً ولم أمنع

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت القائل :

أتجعل نهبي ونهب العبيـ

ـد بين الأقرع وعيينة »

فقال أبو بكر : بأبي أنت واُمّي لست بشاعر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيف قال؟» فأنشده أبو بكر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عليّ قم فاقطع لسانه».

قال عبّاس : فوالله لهذه الكلمة كانت أشدّ عليّ من يوم خثعم ، فأخذ عليّ عليه‌السلام بيدي فانطلق بي فقلت : يا عليّ إنّك لقاطع لساني؟ قال : «إنّي ممض فيك ما اُمرت» حتّى أدخلني الحظائر فقال : «اعقل ما بين أربعة إلى مائة».

قال : قلت : بأبي أنتم واُمي ، ما أكرمكم وأحمكم وأجملكم وأعلمكم.

فقال لي : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين ، فإن شئت فخذها ، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة».

قال : فقلت لعلي عليه‌السلام : أشر أنت علي.

قال : «فإنّي آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى» قال : فإنّي أفعل(١).

__________________

(١) انظر : ارشاد المفيد ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧ ، المغازي للواقدي ٣ : ٩٤٥ ـ ٩٤٧ ، وسيرة ابن هشام٤ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، وتأريخ الطبري ٣ : ٩٠ ـ ٩١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٧٨ ـ ١٨٣ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٠.

٢٣٨

قال : وغضب قوم من الأنصار لذلك وظهر منهم كلام قبيح حتّى قال قائلهم : لقي الرجل أهله وبني عمّه ونحن أصحاب كلّ كريهة ، فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما دخل على الأنصار من ذلك أمرهم أن يقعدوا ولا يقعد معهم غيرهم ، ثمّ أتاهم شبه المغضب يتبعه علي عليه‌السلام ، حتّى جلس وسطهم ، فقال : «ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله منها بي؟».

قالوا : بلى ، ولله ولرسوله المنّ والطول والفضل علينا.

قال : «ألم آتكم وأنتم أعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟».

قالوا : أجل.

ثمّ قال : «ألم آتكم وأنتم قليل فكثّركم الله ربي» وقال ما شاء الله أن يقول ثمّ سكت ، ثمّ قال : «ألا تجيبوني؟».

قالوا : بم نجيبك يا رسول الله ، فداك أبونا واُمّنا ، لك المنّ والفضل والطول.

قال : «بل لو شئتم قلتم : جئتنا طريداً مكذَّبا فآويناك وصدّقناك ، وجئتنا خائفاً فآمنّاك».

فارتفعت أصواتهم ، وقام إليه شيوخهم فقبّلوا يديه ورجليه وركبتيه ، ثم قالوا : رضينا عن الله وعن رسوله ، وهذه أموالنا أيضاً بين يديك فأقسمها بين قومك إن شئت.

فقال : «يا معشر الأنصار ، أوجدتم في أنفسكم إذ قسّمت مالاً أتالّف به قوماً ووكلتكم إلى إيمانكم ، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنعم ورجعتم أنتم ورسول الله في سهمكم؟».

٢٣٩

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأنصار كرشي وعيبتي(١)لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ، اللهمّ اغفر للأنصار ، ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار»(٢).

فصل :

قال : وقد كان فيما سبي اُخته بنت حليمة ، فلمّا قامت على رأسه قالت : يا محمّد اُختك شيماء بنت حليمة ، قال : فنزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برده فبسطه لها فأجلسها عليه ، ثمّ أكبّ عليها يسائلها ، وهي التي كانت تحضنه إذ كانت اُمّها ترضعه(٣).

وأدرك وفد هوازن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجعرانة وقد أسلموا ، فقالوا : يا رسول الله لنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا منَّ الله عليك.

وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال : يا رسول الله ، إنّا لو ملحنا الحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ، ثمّ ولي منّا مثل الذي وليت لعاد علينا بفضله وعطفه وأنت خير المكفولين ، وإنّما في الحظائر خالاتك وبنات

__________________

(١) قال ابن الاثير في شرح هذا القول : أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته ، والذين يعتمدعليهم في اُموره ، واستعار الكرش والعيبة لذلك ، لأنّ المجتر يجمع علفه في كرشه ، والرجليضع ثيابة في عيبته.

وقيل : أراد بالكرش الجماعة ، أي جماعتي وصحابتي ، ويقال : عليه كرش من الناس : أي جماعة. «النهاية ٤ : ١٦٣».

(٢) ارشاد المفيد ١ : ١٤٥ ، وباختلاف يسير في المغازي للواقدي ٣ : ٩٥٦ ـ ٩٥٨ ، وسيرة ابنهشام ٤ : ١٤١ ـ ١٤٣ ، ودلائل النبوة ٥ : ١٧٦ ـ ١٧٨ ، والكامل في التأريخ ٢ : ٢٧١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧١.

(٣) المغازي للواقدي ٣ : ٩١٣ ، سيرة ابن هشام ٤ : ١٠١ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ١٩٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٢.

٢٤٠