إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ١

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-010-2
الصفحات: ٥٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

(الفصل الخامس)

في ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وآله

من أذى المشركين ، وإسلام حمزة بن عبد المطّلب

قال : وجدّت قريش في أذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان أشدّ الناس عليه عمّه أبو لهب ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم جالساً في الحجر فبعثوا إلى سلى(١)الشاة فألقوه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاغتمّ رسول الله من ذلك فجاء إلى أبي طالب ، فقال : يا عمّ كيف حسبي فيكم؟

قال : وما ذاك يا ابن أخ؟

قال : إن قريشاً ألقوا عليّ سلى.

فقال لحمزة : خذ السيف ، وكانت قريش جالسة في المسجد ، فجاء أبو طالب عليه‌السلام ومعه السيف وحمزة ومعه السيف ، فقال : أمّر السلى على سبالهم فمن أبى فاضرب عنقه ، فما تحرّك أحدٌ حتّى أمرّ السلى على سبالهم ، ثمّ التفت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يابن أخ هذا حسبك فينا(٢).

وفي كتاب دلائل النبوّة : عن ابي داود ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق : سمعت عمرو بن ميمون يحدّث عن عبدالله قال : بينما رسول الله صلّى الله

____________

(١) السلى : الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن امه ملفوفاً فيه. وقيل : هو في الماشية السلى ، وفي الناس المشيمة. «العين ٢ : ٣٩٦».

(٢) انظر : قصص الأنبياء للراوندي ٣٢٠ | ٣٩٩ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٨ : ٢٠٩ | ٣٨.

١٢١

عليه وآله وسلّم ساجدٌ وحوله ناس من قريش ، وثمّ سلى بعير فقالوا : من يأخذ سلى هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره؟ فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاءت فاطمة عليها‌السلام فأخذته من ظهره!؟ ودعت على من صنع ذلك.

قال عبدالله : فما رأيت رسول الله دعا عليهم إلاّ يومئذ فقال : «اللهم عليك الملأ من قريش ، اللّهم عليك أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، واُميّة بن خلف ـ أو اُبيّ بن خلف ـ» شك شعبة.

قال : عبدالله ولقد رأيتهم قتلوا يوم بدر واُلقوا في القليب ـ أو قال : في بئر ـ غير أنّ اُميّة بن خلف ـ أو اُبي بن خلف ـ كان رجلاً بادنّا فتقطّع قبل أن يبلغ به البئر(١).

أخرجه البخاري في الصحيح(٢).

قال : وأخبرنا الحافظ : أخبرنا أبوبكر الفقيه ، أخبرنا بشر بن موسى ، حدّثنا الحميدي ، حدّثنا سفيان ، حدّثنا بيان بن بشر ، وإسماعيل بن أبي خالد قالا : سمعنا قيساً يقول : سمعنا خبّاباً يقول : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متوسّد برده فى ظلّ الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدّة شديدة فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟

فقعد وهو محمرٌ وجهه ، فقال : «إن كان مَن كان قبلكم ليمشَّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ،

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٢٧٨ ، وكذا في : قصص الأنبياء للراوندي : ٣٢١ | ٤٠٠ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤١٩ | ١٠٨ ، السيرة النبوية لابن كثير ١ : ٤٦٨ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٨ : ٢٠٩ | ٣٨.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٦٩ و ٤ : ١٢٧.

١٢٢

ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتّمن الله هذا الاَمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله عزّ وجلّ والذئب على غنمه».

رواه البخاري في الصحيح عن الحميدي (١).

وأخرجناه من وجه آخر عن إسماعيل (٢).

قال : وحدّثنا الحافظ بإسناده ، عن هشام ، عن أبي الزّبير ، عن جابر : أنّ رسول الله مرّ بعمّار وأهله وهم يعذّبون في الله فقال : «أبشروا آل عمّار فإنّ موعدكم الجنّة» (٣).

وأخبرنا ابن بشران العدل بإسناده ، عن مجاهد قال : أوّل شهيد كان استشهد في الاِسلام اُمّ عمّارسميّة ، طعنها أبو جهل بطعنة في قلبها (٤).

وروى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده قال : كان أبو جهل تعرّض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآذاه بالكلام ، واجتمعت بنو هاشم فأقبل حمزة وكان في الصيد فنظر إلى اجتماع الناس فقال : ما هذا؟

فقالت له امرأة من بعض السطوح : يا أبايعلى إنّ عمرو بن هشام تعرّض لمحمّد وآذاه.

فغضب حمزة ومرّ نحو أبي جهل وأخذ قوسه فضرب بها رأسه ، ثمّ

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٥٦.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٢٨٣.

(٣) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٢٨٢ ، وكذا في : سيرة ابن هشام ١ : ٣٤٢ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٣٨٨ ، اُسد الغابة ٥ : ٤٨١ ، الاصابة ٤ : ٣٣٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٨ : ٢١٠.

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٢٨٢ ، وكذا في الاستيعاب ٤ : ٣٣٠ ، اُسد الغابة ٥ : ٤٨١ ، الاصابة ٤ : ٣٣٥ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار١٨ : ٢١٠|٣٨.

١٢٣

احتمله فجلد به الأرض ، واجتمع الناس وكاد يقع فيهم شرّ ، فقالوا له : يا أبا يعلى صبوت إلى دين ابن أخيك؟

قال : نعم ، أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، على جهة الغضب والحميّة. فلمّا رجع إلى منزله ندم فغدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا ابن أخ أحقاً ما تقول؟

فقرأ عليه رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم سورة من القرآن ، فاستبصر حمزة ، وثبت على دين الاِسلام ، وفرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسرّ باسلامه أبو طالب ، فقال في ذلك :

صـبـراً أبـا يـعـلى على دين أحمد

وكن مـظهراً للـدين وفّقت صـابرا

وحط من أتى بالدين من عـنـد ربـّه

بصدق وحقّ لا تكن حـمزة كافـرا

فقد سـرّني إذ قلتَ أنـّك مـؤمـن

فكن لـرسول الله فـي الله ناصـرا

وناد قـريشـاً بـالذي قـد أتيتـه

جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا(١)

_________________

(١) قصص الأنبياء للراوندي : ٣٢١ | ٤٠١ ، مناقب ابن شهر آشوب ١ : ٦٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٨ : ٢١٠.

١٢٤

(الفصل السادس)

في ذكر إسرائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس

ودخوله بعد ذلك في شعب أبي طالب رحمة الله عليه

ثمّ اُسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس ، حمله جبرئيل على البراق فأتى به بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بهم وردّه ، فمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه واكفأ ما بقي ، وقد كانوا أضلّوا بعيراً لهموكانوا يطلبونه ، فلمّا أصبح قال لقريش : «إنّ الله قد أسرى بي إلى بيت المقدس فأراني آيات الأنبياء ومنازلهم وإنّي مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد اضلّوا بعيراً لهم فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك».

فقال أبو جهل : قد امكنتكم الفرصة منه ، فسألوه كم فيها من الأساطين والقناديل؟

فقالوا : يا محمّد ، إنّ ههنا من قد دخل بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه.

فجاء جبرئيل عليه‌السلام فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما سألوه عنه ، فلمّا أخبرهم قالوا : حتّى يجيء العير نسألهم عمّا قلت.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تصديق ذلك أنّ العير يطلع عليكم عند طلوع الشمس يقدمها جملٌ أحمر عليه عزارتان».

فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة ، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم العير حين طلوع القرص يقدمها جمل أحمر ، فسألوهم عمّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

١٢٥

قالوا : لقد كان هذا ، ضلّ جمل لنا ، في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد اُريق الماء. فلم يزدهم ذلك إلاّ عتوّاً.

فاجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يواكلوا بني هاشم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا إليهم ولا يحضروا معهم حتّى يدفعوا محمّداً إليهم فيقتلونه ، وأنّهم يد واحدة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتلوه غيلة أو صراحاً.

فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخل الشعب ، وكانوا أربعين رجلاً ، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن شاكت محمّداً شوكة لآتيّن عليكم يا بني هاشم.

وحصّن الشعب ، وكان يحرسه بالليل والنهار ، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله مضطجع ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر ، فلا يزال الليل كلّه هكذا ، ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار ، وأصابهم الجهد ، وكان من دخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله.

وكان أبو جهل ، والعاص بن وائل السهميّ ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة(١) نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذّروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله.

وكانت خديجة لها مالٌ كثيرٌ فأنفقته على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشعب.

ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عديّ بن نوفل بن

__________________

(١) الميرة : جلب القوم الطعام للبيع «العين ٨ : ٢٩٥».

١٢٦

عبد المطّلب بن عبد مناف ، وقال : هذا ظلمٌ.

وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ختمه كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلّقوها في الكعبة ، وتابعهم أبو لهب على ذلك.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج في كلّ موسم فيدور على قبائل العرب فيقول لهم : «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي وثوابكم على الله الجنّة» وأبو لهب في أثره فيقول : لا تقبلوا منه فإنّه ابن أخي وهو كذاب ساحر. فلم تزل هذه حاله فبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبايعون إلاّ في الموسم ، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة : موسم للعمرة في رجب ، وموسم للحجّ في ذي الحجّة ، وكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثمّ لا يجسر أحدٌ منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني ، فأصابهم الجهد وجاعوا ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً حتى نقتله ونملّكك علينا ، فقال : أبو طالب قصيدته الطولية اللامية التي يقول فيها :

فـلـمـّا رأيـت القوم لا ودّ فيهم

وقد قطـعـوا كلّ الـعرى والوسائل

ألـم تـعلـموا أنّ ابـنـنا لا مكذّب

لديـنـا ولا يعنى بقول الأباطل

وأبـيض يـُـسـتسقى الغمام بوجهه

فهم عـنـده في نعمة وفواضل

يـطـوف بـه الـهلاّك من آل هاشم

حواست جمع كن

كَذبتُم ـ وبيت الله ـ يُبزى(١) محمّداً

ولـمـّـا نـُطاعن دونــهُ ونُقاتِل

__________________

(١) قال ابن الأثيير في النهاية (١ : ١٢٥) : بزا : في قصيدة أبي طالب يعاتب قريشاً في أمر النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ... ويبزى ، أي يقهر ويغلب ، أراد لا يُبزى ، فحذف لا من جواب القسم ، وهي مرادة ، أي لا يُقهر ولم نقاتل عنه ونُدافع.

١٢٧

ويقول فيها :

ونـُسـلمـهُ حتـّى نُـصـرَّعَ دونه

ونذهلَ عن أبـنـائـِـنـا والحلائلِ

لـعمري لـقد كلـّفت وجداً بأحمدٍ

وأحببته حبّ الحبيب المواصلِ

وَجــدتُ بـنـفسي دونـهُ وحميَتُهُ

ودارأتُ عنه بالذرى والكـلاكِلِ

فلا زال فـي الدنـيا جمالاً لاَهلها

وشيناً لمن عادى وزينُ المحافلِ

حَليماً رشيداً حازماً غير طائـشٍ

ـوالـي إلـه الـحـقِّ لـيس بماحلِ

فـأيـــّده ربّ الـعـبادِ بـنصره

وأظـهر دينـاً حـقّـه غـيـر باطلِ

فلمّا سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه ، وكان أبو العاص بن الربيع ـ وهو ختن(١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يجيء بالعير بالليل عليها البرّ والتمر إلى باب الشعب ، ثمّ يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره ، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار فيرسلها في الشعب ليلاً».

فلمّا أتى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابّة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله ، ونزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا طالب.

فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثمّ مشى حتّى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلمّا بصروا به قالوا : قد ضجر أبو طالب وجاء الآن

__________________

(١) الختن : الصهر «العين ٤ : ٢٣٨».

ولنا تعليق حول هذا الموضوع ، يأتي لاحقاً.

١٢٨

ليسلم ابن أخيه.

فدنا منهم وسلّم عليهم فقاموا إليه وعظّموه وقالوا : يا أبا طالب قد علمنا أنّك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا وأن تسلم ابن أخيك إلينا.

قال : والله ما جئت لهذا ، ولكن ابن أخي أخبرني ـ ولم يكذبني ـ أنّ الله أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابّة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله ، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقّاً فاتّقوا الله وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطعية الرحم ، وإن كان باطلاً دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم استحييتموه.

فبعثوا إلى الصحيفة فأنزلوها من الكعبة ـ وعليها أربعون خاتماً ـ فلمّا أتوا بها نظر كلّ رجل منهم إلى خاتمه ثمّ فكّوها فإذا ليس فيها حرفٌ واحد إلاّ : باسمك اللّهم.

فقال لهم أبو طالب : ياقوم اتّقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه. فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحدٌ.

ورجع أبو طالب إلى الشعب وقال في ذلك قصيدته البائيّة التي أوّلها :

ألا مـن لـهم آخـر اللـيل منصب

وشـعب الـعصـا من قومك المتشعّب

وفيها :

وقد كان في أمر الصحيفة عـبرة

متى ما يخبّر غـائب القوم يعجب

مـحـا الله مـنـها كفرهم وعقوقهم

وما نقموا من ناطق الحقّ معرب

وأصبح ما قالوا من الامر باطلاً

ومن يختلق ما ليـس بالحقّ يكذب

وأمسـى ابـن عـبدالله فينا مصدّقاً

على سخط من قومنا غير معتـب

فـلا تحـسـبونـا مسلـمـين محمّداً

لذي عـزّة مـنـّـا ولا مـتعـزّب

سـتـمـنـعــه منّا يد هـاشميـّة

مُـركـّبهـا في النـاس خير مركّب

وقال عند ذلك نفرٌ من بني عبد مناف ، وبني قصي ، ورجال من

١٢٩

قريش ، ولدتهم نساء بني هاشم منهم : مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي ـ وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد ـ وأبو البختري ابن هاشم ، وزهير بن اُميّة المخزومي في رجال من أشرافهم : نحن براء ممّا في هذه الصحيفة ، وقال أبو جهل : هذا أمرٌ قضي بليل (١).

وخرج النبيّ من الشعب ورهطه وخالطوا الناس ، ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين وماتت خديجة بعد ذلك.

وورد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمران عظيمان وجزع جزعاً شديداً. ودخل عليه وآله السلام على أبي طالب وهو يجود بنفسه ، فقال : «يا عمّ ربيّت صغيراً ، ونصرت كبيراً ، وكفّلت يتيماً ، فجزاك الله عنّي خيراً ، أعطني كلمة اُشفع بها لك عند ربّي».

فقال : يابن أخ لولا أنّي أكره أن يعيروا بعدي لأقررت عينك. ثمّ مات (٢).

__________________

(١) انظر : الكافي ٨ : ٢٦٢ | ٣٧٦ ، وتفسير القمي ٢ : ١٣ ، وأمالي الصدوق : ٣٦٣ | ١ ، وقصص الأنبياء للراوندي : ٣٢٥ ـ ٣٢٧ | ٤٠٦ ـ ٤١٠ ، والطبقات الكبرى ١ : ٢٠٨ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١ ، ودلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٣١١ ، والوفا بأحوال المصطفى ١ : ١٩٧ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٨٩ ، ديوان شيخ الأباطح : ٣٧ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ١ ـ ٤ | ١ و ٢.

(٢) تُعد قضية إيمان أبي طالب ، ووفاته على الايمان من المسلمات الثابتة لدى عموم الشيعة ، وإيمانهم القطعي بأن هذه الفرية العظيمة كانت ولا زالت تستهدف شخص الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، لأنها وبلا شك دسيسة أموية خبيثة تنضاف إلى جملة دسائسهم الكثيرة للنيل من الصرح الشامخ لوصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي سفّه أحلامهم ، وأطاح بكياناتهم الفاسدة ، وجندل بسيفه ساداتهم وعظماءهم ، وارغم انوفهم في طاعة الله تعالى ورسوله ، فلما عجزوا عن التصدي له في ميدان الحرب والمنازل انكفؤوا يكيدونه بكل فرية وكذبة وبهتان قد تجد لها في آذان السذج والبسطاء موطئاً ومحلاً ، وتلقف

=

١٣٠

...................................................................

__________________

=

أعوانهم وأزلامهم ، المعتاشون على فتات موائدهم ، ما اخترعته مخلية الأمويين ، فطبّلوا له وزمّروا ، دون أي وقفة للتأمّل في مدى مصداقية هذه المزاعم ودرجة صحتها ، بل وعظم الوزر الذي يقع عليها ، ولكنه حب الدنيا والمسارعة في الجريان خلف سرابها ، وتلك ليست بممتنعة على أحد إذا أعرض عن الآخرة وولاّها ظهره.

بيد أنّ تلك الأمور ، ومنها هذا الأمر المتعلق بإيمان أبي طالب قد مضى عليه الدهر ، وتبين للكثرين بعد البحث والتمحيص ، وتصدي العديد من علماء الطائفة ـ جزاهم الله عن الاسلام وأهله خيراً ـ لاثبات كذب ما افتري على هذا الرجل العظيم ، وكيف انقاد الكثيرون ـ وكلامي يختص بالمغررين منهم ـ دون وعي منهم في هذا التيار المنحرف ، فتحمّلوا وزراً كبيراً في ذلك.

نعم ، لقد انبرى العديد من علماء الطائفة ومفكريها إلى مناقشة تلك الروايات والأخبار المتعرضة لهذا الأمر ، والمشيرة إلى وفاة هذا الرجل الذي ربّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونصره ، وتعرّض معه للأذى ، وشاركه في جميع همومه ومشاكله ، والذي ما أن توفي حتى أمر الله تعالى رسوله الكريم بترك مكة ، لاَنّه لن يجد بعد ذلك ناصراً له ، ومحامياً عنه ، نعم لقد انبرى هؤلاء الأعلام إلى مناقشة هذه الروايات ، والتعرض لأسانيدها ، واحداً واحداً ، فظهر من ذلك العجب ، لاَنّ جميع أولئك الراوين لهذه الأخبار ـ والتي تختصر أوضحها في تفسير قوله تعالى : (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ـ من المبغضين لعلي عليه‌السلام ، بل واثبات نزول هذه الآية المباركة في موارد اُخرى لا تختص بما اُشيع عنها من أنّها مختصة بأبي طالب دون غيره.

كما أن هؤلاء الأعلام رحمهم الله تعالى قد بينوا بجلاء جملة من المواقف الواضحةوالثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتناقضة تماماً مع تفسير هذه الآية ، ونسبةهذا الخبر الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي طالب ، وكذا ما روي من حديث الضحضاح وغيرهما.

ولما كان هذا الموضع لا يستوعب هذه المناقشات الطويلة والمسهبة ، فإنا نعرض عنالاستطراد في ذلك محيلين القارئ الكريم الى جملة ما اُلف حول هذا الموضوع قديماًوحديثاً ، ومنها :

١ ـ شيخ الابطح أو أبو طالب : للسيد محمد علي آل شرف الدين الموسوي.

٢ ـ مواهب الواهب في فضائل أبي طالب : للشيخ جعفر النقدي.

=

١٣١

وقد روي : أنّه لم يخرج من الدنيا حتّى أعطى رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم الرّضا (١).

وفي كتاب دلائل النبوّة : عن ابن عباس قال : فلمّا ثقل أبو طالب رُئِي يحرّك شفتيه فأضغى إليه العبّاس يستمع قوله فرفع العباس عنه ، وقال : يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته إيّاها (٢).

وفيه : مرفوعاً عن ابن عبّاس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارض جنازة أبي طالب وقال : «وَصَلَتْكَ رحم وجزيت خيراً يا عمّ» (٣).

وذكر محمّد بن إسحاق بن يسار : أنّ خديجة بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله المصائب بهلاك خديجة وأبي طالب ، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الاِسلام وكان يسكن إليها (٤).

__________________

=

٣ ـ الشهاب الثاقب لرجم مكفِّر أبي طالب : للشيخ ميرزا محمد الطهراني.

٤ ـ ضياء العالمين في فضائل الأئمة المصطفين : للشيخ أبي الحسن الفتوني النجفي.

٥ ـ إيمان أبي طالب : للسيد أحمد بن موسى بن طاووس الحلي.

٦ ـ إيمان أبي طالب : للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي.

٧ ـ إيمان أبي طالب ، المعروف بكتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : للسيد أبي علي فخار بن معد الموسوي.

٨ ـ أبو طالب مؤمن قريش : للشيخ عبدالله الخنيزي.

(١) تفسير القمي ١ : ٣٨٠ ، ايمان أبي طالب لابن معد : ١٣٠ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ : ٧١.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٣٤٦ ، وكذا في : قصص الأنبياء للراوندي : ٣٣٠ ، سيرة ابن هشام : ٢ : ٥٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ : ٧١.

(٣) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٣٤٩ ، وكذا في : عدة رسائل للمفيد : ٣٠٧ ، قصص الأنبياء للراوندي : ٣٣٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥ ، الوفا بأحوال المصطفى ١ : ٢٠٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ : ٧٦.

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٣٥٢ ، وكذا في : سيرة ابن هشام ٢ : ٥٧ ، ونقله المجلسي في

=

١٣٢

وذكر أبو عبدالله بن مندة في كتاب المعرفة : أنّ وفاة خديجة كانت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام.

وزعم الواقديّ أنّهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وفي هذه السنة توفّيت خديجة وأبو طالب وبينهما خمس وثلاثون ليلة (١).

__________________

=

بحار الأنوار ١٩ : ٥|٤.

(١) دلائل النبوة للبيهقي ٢ : ٣٥٣ ، وكذا في : مناقب ابن شهر آشوب ١ : ١٧٤ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٩٠ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ٥ | ٤.

١٣٣

(الفصل السابع)

في ذكر عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

نفسه على قبائل العرب ، وما جاء من بيعة الأنصار إيّاه

على الاِسلام ، وحديث العقبة

في كتاب دلائل النبوّة : عن الزهريّ ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم ، لا يسألهم مع ذلك إلاّ أن يؤووه ويمنعوه ويقول : «لا اُكره أحداً منكم على شيء ، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه ، فذاك ، ومن كره لم اُكرهه ، إنّما اُريد أن تحرزوني ممّا يراد بي من القتل حتّى اُبلّغ رسالات ربّي ، وحتّى يقضي الله عزّ وجلّ لي ولمن صحبني ما شاء الله» فلم يقبله أحد منهم ولم يأت أحداً من تلك القبائل إلاّ قال : قوم الرجل أعلم به ، أترون أنّ رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟!

فالمّا توفّي أبو طالب اشتدّ البلاء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ ما كان ، فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه ، فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة ثقيف يومئذ ، وهم إخوة : عبد ياليل بن عمرو ، وحبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه ، فقال أحدهم : أسرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قطّ.

وقال الآخر : أعجزٌ على الله أن يرسل غيرك؟

وقال الآخر : والله لا اُكلّمك بعد مجلسك هذا أبداً ، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أن اُكلّمك ، ولئن كنت تكذب على الله لأنت شرّ من أن اُكلّمك.

١٣٤

وتهزّؤوا به ، وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به ، فقعدوا له صفّين على طريقه ، فلمّا مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين صفّيهم كان لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلاّ رضخوهما بالحجارة ـ وقد كانوا اعدوها ـ حتّى أدْموا رجليه ، فخلص منهم ورجلاه تسيلان الدماء ، فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظلّ في ظلّ حَبَلة (١) منه وهو مكروبٌ موجع ، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله ، فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاماً لهما يدعى عدّاس وهو نصراني من أهل نينوى معه عنب ، فلمّا جاءه عدّاس قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أيّ أرض أنت»؟

قال : أنا من أهل نينوى.

فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متّى»؟

فقال له عدّاس : وما يدريك من يونس بن متّى؟

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكان لا يحقّر أحداً أن يبلّغه رسالة ربّه ـ : «أنا رسول الله والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى».

فلمّا أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس بن متّى خرّ عدّاس ساجداً لله ، وجعل يقبّل قدميه وهما تسيلان دماً.

فلمّا بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا ، فلمّا أتاهما قالا له : ما شأنك سجدت لمحمّد وقبّلت قدميه ولم نرك فعلته بأحد منّا؟

قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى.

__________________

(١) الحَبلُ : شجر العنب ، واحدته حَبلَة. «لسان العرب ١١ : ١٣٨».

١٣٥

فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك ، فإنّه رجلٌ خدّاع. فرجع رسول الله إلى مكّة (١).

قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم : ولمّا رجع رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم من الطائف وأشرف على مكّة وهو معتمر كره أن يدخل مكّة وليس له فيها مجيرٌ ، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سرّا ، فقال له : «ائت الأخنس بن شريق فقل له : إنّ محمداً يسألك أن تجيره حتّى يطوف ويسعى فإنّه معتمر».

فأتاه وأدّى إليه ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الأخنس : إنّي لست من قريش ، وإنّما أنا حليف فيهم ، والحليف لا يجير على الصّميم ، وأخاف أن يخفروا جواري ، فيكون ذلك مسبّة.

فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شعب حرّاء مختفياً مع زيد فقال له : «ائت سهيل بن عمرو فاسأله أن يجيرني حتّى أطوف بالبيت وأسعى».

فأتاه وأدّى إليه قوله ، فقال له : لا أفعل.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذهب إلى مطعم بن عديّ فسله أن يجيرني حتّى أطوف وأسعى».

فجاء إليه وأخبره فقال : أين محمّد؟ فكره أن يخبره بموضعه ، فقال : هو قريب ، فقال : ائته فقل له : إنّي قد أجرتك فتعال وطف واسع ماشئت.

فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال مطعم لولده ،

__________________

(١) دلائل النبوة ٢ : ٤١٤ ، وانظر : قصص الأنبياء للراوندي : ٣٣٠ ، ومناقب ابن شهر آشوب ١ : ٦٨ ، والسيرة النبوية لابن هشام ٢ : ٦٠ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦ ، ودلائل النبوة للاصفهاني ١ : ٣٨٩ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٩١ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ٥ | ٥.

١٣٦

واختانه(١) ، وأخيه طعيمة بن عديّ : خذوا سلاحكم فإنّي قد أجرت محمّداً وكونوا حول الكعبة حتّى يطوف ويسعى ، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح.

وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى دخل المسجد ، ورآه أبو جهل فقال : يا معشر قريش هذا محمّد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به.

فقال له طعيمة بن عديّ : يا عمّ لا تتكلمّ ، فإنّ أبا وهب قد أجار محمّداً. فوقف أبو جهل على مطعم ابن عدّي فقال : أبا وهب أمجيرٌ أم صابىء؟

قال : بل مجيرٌ.

قال : إذاً لا يخفر جوارك.

فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم ، فقال : «أبا وهب قد أجرت وأحسنت ، فردّ عليّ جواري».

قال : وما عليك أن تقيم في جواري؟

قال : «أكره أن اُقيم في جوار مشرك أكثر من يوم».

قال مطعم : يا معشر قريش ، إنّ محمداً قد خرج من جواري(٢).

قال علي بن إبراهيم : قدم أسعد بن زرارة ، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب ، وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حربٌ قد بغوا فيها دهراً طويلاً ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان

__________________

(١) الخَتن بالتحريك : كلُّ من كان قِبل المرأة ، مثل الأب والأخ ، وهم الأختان. هكذا عند العرب ، وأمّا عند العامّة فختن الرجل : زوج ابنته. «الصحاح ـ ختن ـ ٥ : ٢١٠٧».

(٢) انظر : قصص الأنبياء للراوندي : ٣٣١ ، والسيرة النبوية لابن هشام ٢ : ٢٠ ، الوفا بأحوال المصطفى ١ : ٢١٤ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٩٢ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ١٩ : ٧.

١٣٧

اخر حرب بينهم يوم بعاث (١) ، وكانت للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم.

فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟

قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد : من هو منكم؟

قال : ابن عبدالله بن عبد المطّلب ، من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم ـ النضير وقريظة وقينقاع ـ : أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنّكم به يا معشر العرب. فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود ، قال : فأين هو؟

قال : جالسٌ في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحرٌ يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشّعب.

فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر ، لابدّ لي أن أطوف بالبيت؟

قال : ضع في اُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشا اُذنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول الله

__________________

(١) يوم بُعاث (بضم الباء) : يوم مشهور كان فيه حرب بين الأوس والخزرج. ويُعاث اسم حصن للأوس. «النهاية ١ : ١٣٩».

١٣٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلمّا كان في الشوط الثاني في نفسه : ما أجد أجهل منّي ، أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا اتعرفه حتّى أرجع إلى قومي فاُخبرهم؟ ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به وقال لرسول الله صلّى عليه وآله وسلّم : أنعم صباحاً.

فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إليه وقال : «قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحيّة أهل الجنّة السلام عليكم».

فقال له أسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمّد؟

قال : «إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ، وأدعوكم إلى أن لا تشركوا به شيئاً ، وبالوالدين إحساناً ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاها ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ذلك وصاكم به لعلّكم تعقلون ، ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه ، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلّكم تذكّرون».

فلمّا سمع أسعد هذا له : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، يا رسول الله بأبي أنت واُمّي ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبالٌ مقطوعة ، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعزّ منك ، ومعي رجلٌ من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرنا فيك ، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشّروننا بمخرجك ، بصفتك ، وأرجوا أن تكون لله دارنا هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له.

١٣٩

ثمّ أقبل ذكوان فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشّرنا به وتخبرنا بصفته ، فهلّم فاسلم ، فأسلم ذكوان ثمّ قالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو النّاس إلى أمرك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصعب بن عمير ، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضّلانه على أولادهما ولم يخرج من مكّة ، فلمّا أسلم جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشعب حتّى تغّير وأصابه الجهد ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج مع أسعد ، وقد كان تعلّم من القرآن كثيراً ، فخرجا إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره ، فأجاب من كلّ بطن الرجل والرجلان ، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة ، وكان يخرج في كلّ يوم فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاِسلام فيجيبه الأحداث ، وكان عبدالله بن اُبيّ شريفاً في الخزرج ، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعوا على أن يملّكوه عليهم لشرفه وسخائه ، وقد كانوا اتّخذوا له اكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها ، وذلك أنّه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث ولم يعن على الأوس ، وقال : هذا ظلم منكم للأوس ولا اُعين على الظلم ، فرضيت به الأوس والخزرج ، فلمّا قدم أسعد كره عبدالله ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره. فقال أسعد لمصعب : إنّ خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس ، وهو رجلٌ عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف ، فإن دخل فى هذا الأمر تمّ لنا أمرنا ، فهلمّ نأتي محلّتهم.

فجاء مصعب مع أسعد إلى محلّة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لاُسيد بن حضير وكان من أشرافهم : بلغني أنّ أبا أمامة أسعد

١٤٠