السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري
المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس : فقلت : هل لك أن تقضي لي حاجة وتأخذ منّي أربعمائة درهم؟
قال : ما هي؟
قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم ، ففعل ذلك فسلّمت إليه الدراهم ، ووضع الرأس في طشت واُدخل على يزيد ، فدخلت مع الناس ، وكان يزيد جالساً على السرير ، وعلى رأسه تاج مكلّل ، وحوله كثير من مشايخ قريش ، فلمّا دخل صاحب الرأس جعل يقول :
أوقر ركابي فضّة وذهبا |
|
أنا قتلت السيّد المهذّبا (١) |
قتلت خير الناس اُمّاً وأبا |
|
وخيرهم إذ ينسبون (٢) النسبا |
فقال يزيد : إذا علمت أنّه خير الناس فلمَ قَتلتَه؟
قال : رجوت الجائزة.
فقيل : إنّ يزيد أمر بقتله. (٣)
وروى سيّدنا السند عليّ بن طاوس رضي الله عنه ، قال : لمّا قرب القوم بالرؤوس والاُسارى من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر لعنه الله ، وكان في جملتهم ، فقالت : لي إليك حاجة.
قال : وما حاجتك؟
قالت : إذا دخلت البلد فأدخلنا في درب قليل النظّارة ، وتقدّم إلى
____________
١ ـ في المقتل : المحجّبا.
٢ ـ في المقتل : يذكرون.
٣ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/٦٠ ـ ٦١ ، عنه عوالم العلوم : ١٧/٤٢٧.
أصحابك أن يخرجوا الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذا الحال ، فأمر في جواب سؤالها أن يجعلوا الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً ، وسلك بهم على تلك الحال بين النظّارة حتّى أتى بهم باب دمشق فاقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبى ، فروي أن بعض الفضلاء التابعين لمّا شهد رأس الحسين عليهالسلام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه ، فلمّا وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك ، فقال : أمّا ترون ما نزل بنا؟ ثمّ أنشأ يقول :
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد |
|
مترمّلاً بدمائه ترميلا |
فكأنّما بك يا ابن بنت محمد |
|
قتلوا جهاراً عامدين رسولا |
قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا |
|
في قتلك التأويل والتنزيلا |
ويكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما |
|
قتلوا بك التكبير والتهليلا |
يا من إذا حسن العزاء عن امرىء |
|
كان البكاء حسناً عليه جميلا |
فبكتك أرواح السحائب غدوة |
|
وبكتك أرواح الرياح أصيلا (١) |
وروي أنّهم لما دخلوا دمشق واُقيموا على درج المسجد منتظرين الإذن من يزيد حيث يقام السبي أقبل شيخ من أهل الشام حتّى دنا منهم ، فقال : الحمد لله الّذي قتلكم وأهلكم ، وأراح العباد من رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم.
فقال له عليّ بن الحسين عليهالسلام : يا شيخ ، هل قرأت القرآن؟
____________
١ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/١٢٥ ـ ١٢٦ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٠ ، وفيهما الأبيات الأربعة الاُولى فقط.
قال : نعم.
قال : قرأت هذه الآية ( قُلْ لَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١)؟
قال الشيخ : قرأت ذلك.
فقال عليّ بن الحسين عليهالسلام : فنحن الـقربى ، يا شيخ ، هل قرأت ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَــأنَّ للهِ خُمُسهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢)؟
قال : نعم.
قال : فنحن القربى ، يا شيخ ، هل قرأت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣)؟
قال : نعم.
قال : فنحن أهل البيت الّذي خصصنا به.
قال : فبقي الشيخ مبهوتاً ساعة ساكتاً نادما على ما تكلّم به ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ، فقال : اللّهمّ إنّي اتوب إليك من بغض هؤلاء القوم ، ثمّ التفت إلى عليّ بن الحسين ، فقال : بالله أنتم هم؟
فقال عليّ بن الحسين عليهالسلام : تالله إنّا لنحن هم من غير شكّ ، وحقّ جدّنا رسول الله صلىاللهعليهوآله .
قال : فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ، فقال : اللّهمّ
__________________
١ ـ سورة الشورى : ٢٣.
٢ ـ سورة الأنفال : ٤١.
٣ ـ سورة الأحزاب : ٣٣.
إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمد من جنّ أو إنس ، ثمّ قال : هل من توبة ، يا ابن رسول الله؟
قال : نعم ، إن تبت تاب الله عليك ، وأنت معنا.
فقال : وأنا تائب ، فبلغ يزيد مقالته ، فأمر بقتله.
قال : ثمّ اُدخلوا على يزيد وهم مقرنون بالحبال ، وكان أوّل من دخل شمر بن ذي الجوشن على يزيد بعليّ بن الحسين عليهالسلام مغلولة يده إلى عنقه ، فلمّا وقفوا بين يديه على تلك الحال قال له عليّ بن الحسين عليهالسلام : اُنشدك (١) بالله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله صلىاللهعليهوآله لو رآنا على هذا الحال ما كان يصنع؟ فأمر يزيد بالحبال فقطعت (٢) ، ثمّ وضع رأس الحسين في طشت بين يديه ، وأجلس النساء خلفه كيلا ينظرن إليه ، وأمّا زينب فإنّها لمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقّته (٣) ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح (٤) القلوب : يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا ابن مكّة ومنى ، ويا ابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء ، يا ابن بنت المصطفى.
قال : فوالله لقد أبكت كلّ من في المجلس ويزيد ساكت.
ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين عليهالسلام وتنادي : وا حسيناه ، وا سيّداه ، يا ابن محمداه ، يا ربيع الأرامل واليتامى ، يا قتيل أولاد الأدعياء.
____________
١ ـ اُقسمك ـ خ ل ـ.
٢ ـ بقطع الحبال ـ خ ل ـ.
٣ ـ فشقت وجهه ـ خ ل ـ.
٤ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : يفزع.
قال : فأبكت كلّ من سمعها. (١)
قال (٢) : وقام من أهل الشام أحمر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية تعينني.
قالت : وكنت (٣) جارية وضيئة ، فارتعدت وفرقت وظننت أنّه يفعل ذلك ، فأخذت بثياب اُختي زينب فقال : كذبتَ والله ولؤمتَ ما ذلك لك ولا له.
فغضب يزيد ، فقال : بل أنت كذبت إنّ ذلك لي ، ولو شئت فعلته.
فقالت : كلّا والله ما جعل الله ذلك لك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.
فقال يزيد : إيايّ تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.
فقالت : بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت.
قال : كذبتِ يا عدوّة الله.
قالت زينب : أمير متسلّط يشتم ظلماً ، ويقهر بسلطانه ، اللّهمّ إليك أشكو دون غيرك ، فاستحيا يزيد وندم وسكت مطرقاً.
__________________
١ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/٦١ ـ ٦٢ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١١ ـ ٢١٤.
٢ ـ في المقتل : وروي عن فاطمة بنت الحسين أنّها قالت : لما اُدخلنا على يزيد ساءه ما رأى من سوء حالنا ، وظهر ذلك في وجهه ، فقال : لعن الله ابن مرجانة ، وابن سميّة ، لوكان بينه وبينكم قرابة ما صنع بكم هذا ، وما بعث بكنّ هكذا ، قالت : فقام إليه رجل من أهل الشام ...
٣ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : قال : وكانت.
وأعاد الشامي فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية.
فقال يزيد : اعزب لعنك الله ، ووهب لك حتفاً قاضياً ، ويلك لا تقل ذلك ، فهذه بنت عليّ وفاطمة ، وهم أهل بيت لم يزالوا مبغضين لنا منذ كانوا. (١)
قال الشامي : الحسين بن فاطمة وابن عليّ بن أبي طالب!!
قال : نعم.
فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته ، والله ما توهّمت إلّا أنّهم سبي الروم.
فقال يزيد : والله لألحقنّك بهم ، ثمّ أمر به فضربت عنقه.
قال : ثمّ تقدّم عليّ بن الحسين بين يدي يزيد وقال :
لا تطمعوا أن تهينونا نكرمكم |
|
وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا |
الله يعلم أنّا لا نحبّكم |
|
ولا نلومكم إذ (٣) لم تحبّونا |
فقال يزيد : صدقت ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين ، فالحمد لله الّذي قتلهما ، وسفك دمهما ، ثمّ قال : يا عليّ ، إنّ أباك قطع رحمي ، وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال عليّ بن الحسين عليهالسلام : ( مَا أصَابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أنْفُسِكُمْ إلَّا في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (٤).
__________________
١ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/٦٢.
٢ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٨ ـ ٢١٩.
٣ ـ في المقتل : فالله يعلم ... إن.
٤ ـ سورة الحديد : ٢٢.
فقال يزيد لابنه [ خالد ] (١) : اردد عليه ، فلم يدر ما يقول ، فقال يزيد : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢).
ثمّ قال عليّ بن الحسين عليهالسلام : يا ابن معاوية وهند وصخر ، إنّ النبوّة والإمرة لم تزل لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد ، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب يوم بدر واُحد والأحزاب في يده راية رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار.
ثمّ جعل صلوات الله عليه يقول :
ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم |
|
ماذا فعلتم وأنتم آخر الاُمم |
ثمّ قال عليّ بن الحسين عليهالسلام : ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت ، وما الّذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال ، وافترشت الرماد ، ودعوت بالويل والثبور ان يكون رأس الحسين بن فاطمة وعليّ ولده منصوبان (٣) على باب مدينتكم ، وهو وديعة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، [ فيكم ] (٤) فابشر بالخزي والندامة غداً إذا جمع الناس ليوم القيامة. (٥)
ووجدت رواية أحببت إيرادها هنا بحذف الأسانيد ، قال : لمّا اُدخل رأس الحسين عليهالسلام وحرمه على يزيد وكان رأس الحسين بين يديه في طشت جعل ينكت ثناياه بمخصرة في يده يقول :
__________________
١ ـ من المقتل.
٢ ـ سورة الشورى : ٣٠.
٣ ـ في المقتل : أيكون رأس أبي الحسين بن عليّ وفاطمة منصوباً.
٤ ـ من المقتل.
٥ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/٦٣.
ليت أشياخي ببدر شهدوا |
|
جزع الخزرج من وقع الأسل |
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً |
|
ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل |
لست من خندف إن لم أنتقم |
|
من بني أحمد ما كان فعل |
فقامت زينب بنت عليّ فقالت : الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّد المرسلين صدق الله كذلك يقول : ( ثُمّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أساءُوا السّؤى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (١) أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى أنّ بنا هواناً على الله ، وبك عليه كرامة؟ وانّ ذلك لعظيم خطرك عنده ، وشمخت بأنفك ، ونظرت إلى عطفك جذلان سروراً حين رأيت الدنيا مستوسقة ، والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله سبحانه : ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٢) آمن العدل ـ يا ابن الطلقاء ـ تخديرك حرائرك وإمائك ، وسوقك بنات المصطفى رسول الله كسبايا قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ من بلد الى بلد يستشر فهنّ أهل المناهل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، وليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا من حماتهنّ حمي ، وكيف [ ترتجى ] (٣) مراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء (٤) ، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!
وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن
____________
١ ـ سورة الروم : ١٠.
٢ ـ سورة آل عمران : ١٧٨.
٣ ـ من الملهوف.
٤ ـ في الملهوف : الأزكياء.
والأضغان ، ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم.
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً |
|
ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل |
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك.
وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء آل محمد ، وتهتف بأشياخك زعمت تناديهم؟ ولتردّن وشيكاً موردهم ، ولتودّن أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلتَ ما قلتَ.
وقالت : اللّهمّ خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلُل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا ، فوالله ما فريتَ إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك ، وسترد على رسول الله صلىاللهعليهوآله بما تحملت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من عترته وحرمة ولحمته ، وليخاصمنّك حيث يجمع الله تعالى شملهم ، ويلمّ شعثهم ويأخذ لهم بحقّهم ، ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١).
وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد صلىاللهعليهوآله خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم من سوَّل لك هذا ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً.
ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك ، أنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى.
ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ،
__________________
١ ـ سورة آل عمران : ١٦٩.
فهذه الأيدي تنطف (١) من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها (٢) العواسل ، وتعفوها اُمّهات الفراعل ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنّا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت [ يداك ] (٣) ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤) ) فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.
فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد؟ ويوم ينادي المناد : ألا لعنة الله على الظالمين.
والحمدُ للهِ الّذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله (٥) أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلف (٦) ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فقال يزيد لعنه الله :
يا صيحةً تعلن من صوائح |
|
ما أهون الحزن (٧) على النوائح (٨) |
قال : ودعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد المنبر ويذمّ الحسين وأباه
__________________
١ ـ في الملهوف : تنضح.
٢ ـ في الملهوف : تتناهبها.
٣ ـ من المقتل والملهوف.
٤ ـ سورة فصلت : ٤٦.
٥ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل والملهوف.
٦ ـ في الملهوف : الخلافة.
٧ ـ يا صيحة تحمد ... الموت.
٨ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/٦٤ ـ ٦٦ ، الملهوف على قتلى الطفوف ٢١٤ ـ ٢١٨ ، البحار : ٤٥/١٣٣.
عليهماالسلام ، فصعد وبالغ في سبّ أمير المؤمنين والحسين عليهماالسلام والمدح لمعاوية ويزيد.
فصاح به عليّ بن الحسين عليهالسلام : ويلك أيّها الخاطب ، اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوّء مقعدك من النار.
ولقد أحسن من قال :
أعلى المنابر تعلنون بسبّه |
|
وبسيفه نُصبتْ لكم أعوادها؟ (١) |
وروي : أنّ عليّ بن الحسين عليهالسلام لمّا سمع ما سمع من الخاطب لعنه الله قال ليزيد : اُريد أن تأذن لي أن اصعد المنبر فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضاً ولهؤلاء الجلساء أجر ، فأبى يزيد :
فقال الناس : يا أمير المؤمنين ائذن فليصعد ، فلعلّنا نسمع منه شيئاً.
فقال : إنّه إن صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان.
فقيل له : وما قدر ما يحسن هذا؟
فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً.
قال : فلم يزالوا به حتّى أذن له ، فصعد المنبر (٢) ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ
____________
١ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٩.
٢ ـ في « ح » : حكي عن الشعبي الحافظ لكتاب الله عزّوجل أنّه قال : استدعاني الحجّاج بن يوسف يوم الأضحى فقال لي : أيّها الشيخ أيّ يوم هذا؟ فقلت : هذا يوم الأضحى ، قال بم يتقرّب به الناس في مثل هذا اليوم؟ فقلت : بالأضحية والصدقة وأفعال البرّ والخير.
فقال : اعلم أنّي قد عزمت اليوم أن اضحي برجل حسيني.
قال الشعبي : فبينما هو يخاطبي إذ سمعت من خلفي صوت لسلسلة وحديد فخشيت أن ألتفت فيستخفني ، وإذا قد مثل بين يديه رجل علوي وفي عنقه سلسلة وفي رجليه قيد من حديد ، فقال له الحجّاج : ألست فلان بن فلان؟
__________________
قال : نعم.
فقال له : أنت القائل إنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله؟
قال : ما قلت وما أقول ، ولكنّي قلت وأقول : إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله وفرخاه ، وإنّهما دخلا في ظهره وخرجا من صلبه على رغم أنفك يا حجّاج.
قال : وكان الملعون مستنداً فصار جالساً وقد اشتدّ غيضه وغضبه وانتفخت أوداجه حتّى تقطّعت أزرار بردته فدعا ببردة غيرها فلبسها ، ثمّ قال للعلويّ : يا ويلك إن لم تأتني بدليل من القرآن يدلّ على انّ الحسن والحسين ولدا رسول الله دخلا في ظهره وخرجا من صلبه وإلّا لأصلبنّك ولأقتلنّك في هذا الحين أشرّ قتلة ، وإن أتيتني بدليل يدلّ على ذلك أعطيتك هذه البدرة الّتي بيدي وخلّيتك سبيلك.
قال الشعبي : وكنت حافظاً لكتاب الله تعالى كلّه وأعرف وعده ووعيده ، وناسخة ومنسوخه ، فلم تخطر على بالي آية تدلّ على ذلك ، فحزنت في نفسي يعزّ والله عليَّ ذهاب هذا الرجل العلوي.
قال : فابتدأ الرجل يقرأ الآية فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقطع عليه الحجّاج قراءته وقال : لعلّك تريد أن تحتج عليّ بآية المباهلة. [ وهي قوله تعالى : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) سورة آل عمران : ٦١ ].
فقال العلوي : هي والله حجّة مؤكدّة معتمدة ، ولكنّي آتيك بغيرها ، ثمّ ابتدأ يقرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيوّب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكرّيا ويحيى ) [ سورة الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥ ] وسكت فقال له الحجّاج : فلم لا قلت عيسى أنسيت عيسى؟
فقال : نعم صدقت يا حجّاج ، فبأيّ شيء دخل عيسى في صلب نوح عليهالسلام [ وليس له أب؟ فقال له الحجّاج : انّه دخل في صلب نوح ] من حيث اُمّه ، فقال العلوي : وكذلك الحسن والحسين دخلا في صلب رسول الله من اُمّها فاطمة الزهراء.
قال : فبقي الحجّاج كأنّما أُلقي حجر في فيه.
فقال له الحجّاج : ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان؟ فقال العلويّ : يا حجّاج لقد ثبتت لهما الامامة بشهادة الرسول في حقّهما لأنّه قال في حقّهما : « ولداي هذان إمامان فاضلان إن قاما وإن قعدا ، تميل عليهما الأعداء فيسفكون دماءهما ويسبون حرمهما » ولقد شهد لهم النبيّ بالإمامة أيضاً فقال : « ابني هذا ـ يعني الحسين ـ إمام ابن إمام أبو أئمّة تسعة ».
خطب خبطة أبكى بها العيون ، وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال : أيّها الناس ، اُعطينا ستّاً ، وفضِّلنا ، بسبع اُعطينا : العلم ، والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمد صلىاللهعليهوآله ، ومنّا الصّديق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا خيرة (١) نساء العالمين ، ومنّا سبطا هذه الْاُمّة [ وسيّدا شباب أهل الجنّة ] (٢) ، من عرفني فقد
____________
فقال الحجّاج : يا علويّ وكم عمر الحسين في دار الدنيا؟
فقال : ثماني وخمسون سنة ، فقال له : وفي أيّ يوم قتل؟
قال : اليوم العاشر من المحرّم بين الظهر والعصر.
فقال : ومن قتله؟
فقال : يا حجّاج ، لقد جند الجنود ابن زياد بأمر اللعين يزيد لعنه الله ، فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله فقتلوا حماته وأنصاره وأطفاله وبقي فريداً ، فبينما هو يستغيث فلا يغاث ، ويستجير فلا يجار ، يطلب جرعة من الماء ليطفى بها حرّ الظمأ ، فبينما هو واقف يستغيث إلى ربّه إذ جاء سنان فطعنه بسنانه ، ورماه خولي بسهم ميشوم فوقع في لبته ، وسقط عن ظهر جواده إلى الأرض يجول في دمه ، فجاء الشمر لعنه الله فاجتزّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته ، وأخذ قميصه إسحاق الحضرمي ، وأخذ سيفه قيس النهشلي ، وأخذ بغلته حارث الكندي ، وأخذ خاتمه زيد بن ناجية الشعبي ، وأحاط القوم بخبائه ، وعاثوا في باقي أثاثه ، وأسبوا حريمه ونساءه.
فقال الحجّاج : هكذا جرى عليهم يا علوي ، والله لو لم تأتني بهذا الدليل من القرآن وبصحة إمامتهما لأخذت الّذي فيه عيناك ، ولقد نجّاك الله تعالى ممّا عزمت عليه من قتلك ، ولكن خذ هذه البدرة لا بارك الله لك فيها ؛ فأخدها العلوي وهو يقول : هذا من عطاء ربّي وفضله لا من عطائك يا حجّاج ، ثمّ إن العلويّ بكى وجعل يقول :
صلّى الإله ومن
يحفّ بعرشه |
|
والطيّبون على
النبيّ الناصح |
وعلى قرابته
الّذين نهضوا |
|
بالنائبات وكلّ
خطب فادح |
طلبوا الحقوق
فاُبعدوا عن دارهم |
|
وعوى عليهم كلّ
كلب نائح |
[ المنتخب للطريحي : ٤٩١ ـ ٤٩٣ ]
١ ـ في المقتل : سيّدة.
٢ ـ من المقتل.
عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أيّها الناس ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من اتّزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّي ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحي إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن عليّ المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا : لا إله إلا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.
أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين, ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصّابرين ، وأفضل العالمين ، وأفضل القائمين ، من آل طه وياسين ، أنا ابن المؤيّد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفضل من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأوّل السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله وعيبة علمه.
سمح سخيّ ، بهلول زكيّ ، مقدّم همام ، صبّار صوّام ، مهذّب قوّام ، قاطع
الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم عناناً ، وأثبتهم جناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة ، وقويت الأعنّة طحن الرحا ، ويذروهم فيها ذري الريح الهشيم.
ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكّي مدنيّ [ أبطحي تهامي ، ] (١) خيفي عقبي ، بدريّ اُحديّ ، شجريّ مهاجري ، من العرب سيّدها ، وفي الوغا ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين [ مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ] (٢) ، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.
ثمّ قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء.
فلم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب والأنين ، وخشي يزيد اللعين أن تكون فتنة فأمر المؤذّن ، فقال : اقطع عليه الكلام.
فلمّا قال المؤّذن : الله أكبر الله أكبر ، قال عليهالسلام : الله أكبر من كلّ شيء.
فلمّا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال عليّ بن الحسين عليهالسلام شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي.
فلمّا قال المؤّذن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، التفت عليّ عليهالسلام من فوق المنبر إلى يزيد ، فقال : محمد هذا جدّي أم جدّك ، يا يزيد؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبتَ وكفرتَ ، وإن زعمتَ أنّه جدّي فلمَ قتلتَ عترته؟
__________________
١ و ٢ ـ من المقتل.
قال : وفرغ المؤذّن من الأذان والاقامة ، وتقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.
قال : وروي أنّه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود ، فقال من هذا الغلام ، يا أمير المؤمنين؟
قال : هو عليّ بن الحسين.
قال : فمن الحسين؟
قال : ابن عليّ بن أبي طالب.
قال : فمن اُمّه؟
قال : فاطمة بنت محمد.
فقال الحبر : يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة ، بئسما خلفتموه في ذرّيّته ، لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننّا أنّا كنّا نعبده من دون ربّنا ، وأنتم فارقتم نبيّكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقلتموه ، سوءة لكم من اُمّة.
قال : فأمر به يزيد فوجىء في حلقه ثلاثاً ، فقام وهو يقول : إن شئتم فاقتلوني ، وإن شئتم فذروني (١) ، فإنّي أجد في التوراة انّ من قتل ذرّيّة نبيّ لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فإذا مات أصلاه الله جهنّم وساءت مصيراً. (٢)
قال : ثمّ أمر يزيد بهم فاُنزلوا منزلاً لا يكتمهم (٣) من حرٍّ ولا من برد ، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم ، وكانوا مدّة مقامهم في البلد المشار إليه
____________
١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : إن شئتم فاضربوني ، وإن شئتم فاقتلوني وتذروني.
٢ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/٦٩ ـ ٧١.
٣ ـ في الملهوف : ولا يكنّهم.
ينوحون على الحسين عليهالسلام. (١)
وروى عن زيد بن عليّ ، [ و ] (٢) عن محمد بن الحنفيّة رضي الله عنه ، عن عليّ بن الحسين عليهالسلام أنّه لمّا أُتي برأس الحسين إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه ، فحضر ذات يوم في مجلس يزيد رسول ملك الروم وكان من عظمائهم ، فقال : يا ملك العرب ، هذا رأس مَن؟
فقال يزيد : ما لكَ ولهذا الرأس؟
فقال : إنّي إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته فأحببت أن اُخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه حتّى نشاركك في السرور والفرح.
قال يزيد لعنه الله : هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب.
فقال : ومن كانت اُمّه؟
قال : فاطمة الزهراء.
قال : بنت مَن؟
قال : بنت رسول الله.
فقال النصرانيّ : اُفّ لك ولدينك ، ما من دين اخسّ من دينك [ اعلم ] (٣) إنّي من أحفاد (٤) داود ، وبيني وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظّمونني ويأخذون
____________
١ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٩.
٢ و ٣ ـ من المقتل.
٤ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : حوافد ، وكذا في الموضع الآتي.
التراب من تحت قدميّ تبرّكاً به لأني من أحفاد داود ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم وما بينه وبين نبيّكم إلّا اُمّ واحدة ، فأيّ دين دينكم؟ ثمّ قال : هل سمعت بحديث كنيسة الحافر؟
فقال يزيد : قل حتّى أسمع.
قال : إن بين عمان والصين بحر مسيرة سنة ، ليس فيه عامر (١) إلّا بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين ، ما على [ وجه ] (٢) الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت ، أشجارهم العود ومنهم يحمل العنبر ، وهي في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد فيها من الملوك ، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر ، في محرابها حقّة من ذهب معلّقة فيها حافر يقولون إنّه حافر حمار كان يركبه عيسى عليهالسلام ، وقد زيّنوا حول الحقّة من الذهب والديباج ما لا يوصف ، في كلّ عام يقصدونها العلماء من النصارى ، يطوفون بتلك الحقّة ويقبّلونها ، ويرفعون حوائجهم إلى الله سبحانه ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار عيسى ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم ، فلا بارك الله فيكم ، ولا في دينكم.
فقال يزيد [ لأصحابه ] (٣) : اقتلوا هذا النصرانيّ ، فإنّه يفضحني إن رجع إلى بلاده فيشنّع عليَّ ، فلمّا أحسّ النصرانيّ بالقتل قال : يا يزيد ، تريد أن تقتلني؟
قال : نعم.
قال : اعلم أنّي رأيت البارحة نبيّكم في المنام [ وهو ] (٤) يقول لي : يا نصرانيّ ، أنت من أهل الجنّة ، فتعجّبت من كلامه ، وها أنا أشهد أن لا إله إلّا
__________________
١ ـ في المقتل : عمران.
٢ و ٣ و ٤ ـ من المقتل.
الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، ثمّ وثب إلى رأس الحسين عليهالسلام وضمّه إلى صدره ، وجعل يقبّله ويبكي حتّى قتل رحمهالله.
وفي رواية أنّ النصرانيّ اخترط سيفه وحمل على يزيد ، فحال الخدم بينهما ، ثمّ قتل على المكان وهو يقول : الشهادة الشهادة.
وذكر أبو مخنف انّ يزيد أمر بأن يصلب رأس الحسين عليهالسلام على باب داره ، وأمر بالنسوة أن يدخلوا داره ، فلمّا دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل أبي سفيان ومعاوية (١) إلّا استقبلتهنّ بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسين عليهالسلام ، وألقين ما عليهنّ من الثياب والحلل والحليّ ، وأقمن المآتم ثلاثة أيّام ، وخرجت هند بنت عبد الله بن [ عامر بن ] (٢) كريز امرأة يزيد مكشوفة الرأس ، وكانت قبل ذلك تحت الحسين عليهالسلام حتّى شقت الستر وهي حاسرة ، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عامّ فغطّاها ، ثمّ قال : نعم فاعولي عليه ـ يا هند ـ وابكي على ابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله وصريخة قريش ، عجّل عليه ابن زياد فقتله قتله الله.
ثمّ إنّ يزيد أنزلهم في داره الخاصّة ، فما كان يتغدّى ولايتعشّى حتّى يحضر عليّ بن الحسين عليهالسلام معه.
وروي أنّه عرض عليهم المقام بدمشق ، فأبوا ذلك ، فقالوا : بل ردّنا إلى المدينة لأنّها مهاجر جدّنا.
فقال للنعمان بن بشير : جهّز لهؤلاء بما يصلحهم ، وابعث معهم رجلاً أميناً صالحاً ، وابعث معهم خيلاً وأعواناً ، ثمّ كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق
____________
١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : لم يبق من آل أبي سفيان ومعاوية أحد.
٢ ـ من المقتل.
والأنزال ، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين فقال له : لعن الله ابن مرجانة ، أمّا والله لو كنت صاحبه ما سألني خطة إلاّ أعطيته إيّاها ، ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما قدرت ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن قضى الله ما رأيت ، فكاتبني بكل حاجة تكون لك (١) ، ثمّ أوصى بهم الرسول ، فخرج بهم الرسول يسايرهم فيكونون أمامه حيث لا يفوتوا بطرفه ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه كهيئة الحرس ، ثمّ ينزل بهم حيث أراد واحدهم الوضوء ، ويعرض عليهم حوائجهم ويتلطّف بهم حتّى دخلوا المدينة.
قال الحارث بن كعب : قالت [ لي ] (٢) فاطمة بنت علي : قلت لأُختي زينب : قد وجب علينا حقّ هذا لحسن صحبته لنا ، فهل لكِ أن نصله؟
قالت : والله ما لنا ما نصل به إلّا أن نعطيه حليّنا ، فأخذت سواري ودملجي وسوار اُختي ودملجها فبعثنا بها إلى الرسول واعتذرنا من قلّته ، وقلنا : هذا بعض جزائك لحسن صحبتك إيّانا.
فقال : لو كان الّذي فعلته للدنيا لكان في بعض هذا رضاي ، ولكن والله ما فعلته إلّا لله ولقرابتكم من رسول الله صلىاللهعليهوآله . (٣)
وآقول : لعن الله يزيد وأباه ، وجدّيه وأخاه ، ومن تابعه وولّاه ، بينا هو ينكت ثنايا الحسين ويتمثّل بشعر ابن الزبعرى : يا غراب البين ما شئت فقل ، إلى آخره ، واغلاظه لزينب بنت عليّ بالكلام السيّء لمّا سأله الشامي ، وقال : هب لي هذه الجارية ـ يعني فاطمة بنت الحسين عليهالسلام ـ ،
____________
١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فكاتبني وأنّه إلى كلّ حاجة تكون لك.
٢ ـ من المقتل.
٣ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ٢/٧٢ ـ ٧٥ ، عنه البحار : ٤٥/١٤٢ ـ ١٤٥.