تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

عقيل ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه ليكون ذلك أشفى لصدرك.

قال : فأصعد مسلم إلى أعلى القصر وهو يسبّح الله ويستغفره ويقول : اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ، حتّى اُتي به إلى أعلى القصر ، وتقدّم ذلك الشامي إليه فضرب عنقه صلوات الله ورحمته وبركاته عليه ثمّ نزل الشامي إلى ابن زياد وهو مذعور.

فقال ابن زياد : ما الّذي ذعرك؟

قال : رأيت ساعة قتلته رجلاً بحذائي أسود شديد السواد كريه المنظر وهو عاضّ على اصبعه ـ أو قال على شفته ـ ففزعت منه فزعاً لم أفزع مثله ، فتبسّم ابن زياد ، وقال : لعلّك دهشت وهذه عادة لم تعتدها.

قال : ثمّ دعا ابن زياد بهانىء بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم.

فقال : محمد بن الأشعث : أصلح الله الأمير ، إنّك قد عرفت منزلته [ في المصر ] (١) وشرفه في عشيرته ، وقد علم قومه أنّي وأسماء (٢) بن خارجة جئناك به ، فاُنشدك الله أيّها الأمير إلاّ وهبته لي ، فإنّي أخاف عداوة قومه لي فإنّهم سادة أهل الكوفة ، فزبره ابن زياد وأمر بهانىء بن عروة فاخرج الى السوق الى مكان يباع فيه الغنم ، وهو مكتوف ، وعلم هانيء أنّه مقتول ، فجعل يقول : وامذحجاه وأين بني (٣) مذحج؟ واعشيرتاه وأين بني عشيرتي؟ ثمّ أخرج يده من الكتاف ، فقال : أمّا من عصا أو سكيّن أو حجر يدرأ (٤) به الرجل عن نفسه؟ فوثبوا إليه

____________

١ ـ من المقتل.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : مسلم.

٣ ـ في المقتل : منّي ، وكذا في الموضع الآتي.

٤ ـ في المقتل : يجاحش.

٢٠١

فشدّوه ، ثمّ قالوا له : امدد عنقك.

فقال : ما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه غلام لابن زياد بالسيف ضربه فلم تعمل فيه شيئاً.

فقال هانىء : إلى الله المعاد والمنقلب ، اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك ، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفّارة لذنوبي ، فإنّي ما غضبت إلاّ لابن نبيّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقدم الغلام ثانية فقتله رحمة الله وبركاته عليه.

ثمّ أمر ابن زياد بمسلم وهانىء فصلبا منكسين.

روي أنّ مسلماً كان من أشجع الناس قلباً وأشدّهم بطشاً. ولقد كان من قوتّه انّه كان يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت ، فلعنة الله على قاتله وخاذله.

ولمّا صلبا منكسين رضي الله عنهما قال فيهما عبد الله بن الزبير الأسدي :

فإن كنت ما (١) تدرين ما الموت فانظري

إلى هاني بالسوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه

وآخر يهوي من جدار (٢) قتيل

أصابهما ريب المنون (٣) فأصبحا

أحاديث من يسري بكلّ سبيل

____________

١ ـ في المقتل : إذا كنت لا.

٢ ـ في المقتل : طمار.

٣ ـ في المقتل : أمر الأمير.

٢٠٢

ترى جسداً قد غيّر الموت لونه

ونضْح دمٍ قد سال كلّ مسيل

فتى كان أحيا من فتاة حيية

وأقطع من ذي شفرتين صقيل (١)

أيركب أسماء الهماليج (٢) آمناً

وقد طلبته مذحج بقبيل (٣)

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا أيامى (٤) اُرضيت بقليل

قال : ثمّ كتب عبيد الله بن زياد إلى عدوّ الله يزيد لعنه الله :

بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من عبيد الله بن زياد.

الحمدلله الّذي أخذ لأميرالمؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه ، ثمّ ذكر فيه قصّة مسلم وذكر هانىء بن عروة ، وكيف أخذهما وقتلهما ، ثمّ قال : وقد بعثت برأسهما مع هانىء بن حيّة (٥) الوادعي والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة ، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ فإنّ عندهما

____________

١ ـ زاد في المقتل البيت التالي :

وأشجع من ليث بخفان مصحر

وأجرأ من ضار بغاية غيل

٢ ـ الهماليج : جمع هملاج ، وهو البرذون.

٣ ـ في المقتل : بذحول ، وزاد فيه البيت التالي :

تطوف حواليه مراد وكلّهم

على رقبةٍ من سائلٍ ومسول

٤ ـ في المقتل : بغايا.

٥ ـ في تاريخ الطبري : هانىء بن أبي حيّة ، وفي الكامل في التاريخ : هانىء بن جبة الوداعي.

٢٠٣

علماً وفهماً وصدقاً وورعاً.

قال : فلمّا ورد الكتاب والرأسان على يزيد لعنه الله أمر بالرأسين فنصبا على باب دمشق ، ثمّ كتب إلى ابن زياد :

أمّا بعد :

فإنك عملت عمل الحازم ، وصِلْتَ صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد كفيتَ ووفيتَ ، وقد سألتُ رسوليك فوجدتهما كما زعمتَ ، وقَد أمرتُ لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك ، فاستوص بهما خيراً وقد بلغني انّ الحسين قد عزم على المصير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر والمسالح واحترس ، واحبس على الظنّ ، واقتل على التهمة ، واكتب إليّ بذلك كلّ يوم بما يحدث من خبر. (١)

قلت : يا من بذل نفسه في طاعة ربّه ووليّ أمره ، وأجهد جهده في جهاد أعداء الله في علانيته وسرّه ، وكشف عن ساق في طلب السعادة الباقية ، وشمّر عن ساعد لتحصيل الدرجة العالية ، حزني عليك أقلقني ، وما اُسدي إليك أرّقني ، ودمعي لما أصابك أغرقني ، ووجدي لمصابك أحرقني ، أدّيت الأمانة جاهداً ، وبذلت النفس مجاهداً ، صابراً على ما أصابك في جنب الله ، مصابراً بقلبك وقالبكأعداء الله ، لم تضرع ولم تفشل ، ولم تهن ولم تنكل ، بل قابلتَ الأعداء بشريف طلعتك ، وقاتلتَ الأشقياء بشدةّ عزمتك.

عاهدوك وغدروا ، وأخلفوك وكفروا ، واستحبّوا العمى على الهدى ، واختار الدنيا على الاُخرى ، فطوّقهم الله بذلك أطواق العار ، وأعدلهم بقتالك

____________

١ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/١٩٧ ـ ٢١٥.

٢٠٤

أُطباق النّار ، وجعلهم ضرام وقودها ، وطعام حديدها ، وأفراط جنودها ، فلقد حقّت عليهم كلمة العذاب بخذلانهم إيّاك ، ونكصوا على الأعقاب إذ استبدلوا بك سواك.

فأبعد بالكوفة وساكنيها ، وأهاليها وقاطنيها ، فليست واقعتك بأعظم من واقعة عمّك وقتله في محرابه ، ولا خذلك بأعظم من خذل الزكيّ وغدر أصحابه ، ولا نقض عهدك بأقبح من نقض عهد المقتول بين خاصّتهم وعامّتهم ، ولا خفر ذمّتك بأشنع من خفر ذمة المصلوب بكناستهم.

فلقد غدروا بعد مواثيقهم وأيمانهم ، وكفروا بعد تظاهرهم بإيمانهم ، فحرمهم الله ريح الجنّة ، وطوقّهم أطواق اللعنة ، ورمى مصرهم بالذلّ الشامل ، والخزي الكامل ، والسيف القاطع ، والعذاب الواقع ، ليس له من الله من دافع (١) ، حتّى صارت حصيداً كأن لم تغن بالأمس (٢) ، وبراحاً خالية من الإنس ، للبوم في أرجائها تغريد ، وللوحش في عراصها تطريد ، وأهلها عباديد (٣) في الأقطار ، ومتفرّقون في الأمصار ، قد أذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار.

لمّا خذلوا الحق وأهله ، واسترهبوا الجهاد وفضله ، وآثروا الدعة والراحة ، واستشعروا السفاهة والوقاحة ، سلّط الله عليهم شرّ خليقته ، وأدنى بريّته ، نجل سميّة الزانية ، وزعيم العصابة الباغية ، ثمّ قفّاه بالخصيم الألدّ ، والكفور الأشدّ ، الغيّ يظلّه عن التعريف ، الأم نغل من ثقيف ، الّذيّال الميّال ،

__________________

١ ـ إقتباس من الآية : ٢ من سورة المعارج.

٢ ـ إقتباس من الآية : ٢٤ من سورة يونس.

٣ ـ عباديد : متفرّقون.

٢٠٥

المغتال القتّال ، السفّاك الفتّاك ، الهتّاك الأفّاك ، فداسهم دوس السنبل وذراهم ذرى الحبّ كما قال فيه بعض عارفيه : جاءنا أعمش اختفش ارحميمة برجلها وأخرج إليها ثياباً قصاراً ، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله ، فقال : بايعوني فبايعناه ، وفي هذه الأعواد ينظر إلينا بالتصغير ، وننظر إليه بالتعظيم ، يأمرنا بالمعروف ونجيبه ، وينهانا عن المنكر ونرتكبه ، فاستعبد أحرارهم ، وأباد خيارهم ، وأذلّ بالتسخير رجالهم ، وأيتم بفتكه أطفالهم ، فتفرّقوا أيادي سبأ ، واتّخذوا سبيلهم في الأرض سرباً.

فانظر إلى فروع اُصولها في زمانك ، ونتائج مقدّماتها في أوانك ، هل ترهم إلاّ بين شرطي ذميم ، أو عتلّ زنيم ، أو ممسك لئيم ، أو معتد أثيم؟

بغض ذرّيّة الرسول في جبلّتهم مركوز ، والتغامز عليهم بالحواجب في طبيعتهم مرموز ، يقصدونهم في أنفسهم وأموالهم ، ويهضمونهم بأقوالهم وأفعالهم ، ويتجّسّسون على عوراتهم ، ويتّبعون عثراتهم ، وبالأعين عليهم يتلامزون ، وإذا مروّا بهم يتغامزون ، إن رأوا فضيلة من فضائلهم كتموها ، وإن بدرت منهم صغيرة أكبروها ، يغرون بهم سفاءهم ، وينصرون عليهم أعداءهم ، أتباع كلّ ناعق ، وأشياع كلّ مارق ، لا يستضيؤون بنور العلم ، ولا يترتّبون برتبة الحلم ، يدّعون حبّ ذرّيّة نبيّهم ، وصفحات وجوههم تنطق بتكذيبهم ، ويظهرون النصيحة لعترة وليهّم ، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، يؤذون الجار ، ويهضمون الأخيار ، ويعظّمون الأشرار ، ويحسدون على ربع دينار.

ولقد أقمت فيهم مدّة ، وصحبت منهم عدّة ، وعمرّت المساكن المونقة وغرست الحدائق المغدمة ، أكثر ... (١) سوادهم ، ولا آكل زادهم ، اُكافي على الحسنة بعشر أمثالها ، واُجازي بالهدية أضعاف أثقالها ، وأتعفّف عن ولائمهم ،

__________________

١ ـ غير مقروءة في الأصل.

٢٠٦

وأتصلّف عن مطاعمهم ، حذراً من مننهم ، وتقصيّاً عن نعمتهم ، كما قال الأوّل :

فلا ذا يراني واقفاً في طريقه

ولا ذا يراني جالساً عند بابه

فنصبوا حبائل حسدهم قصداً لوقوعي ، وأوفوا قواتل سمومهم ليجتاحوا أصلي وفروعي ، وأطلعني ربّي على فساد ضمائرهم ، وخبث سرائرهم ، فاتخذّت الليل ستراً ، وفصلت عن قراري سرّاً ، قد أذهل الخوف لبيّ ، وأرجف الوجل قلبي ، ملتفتاً إلى ما خلفي ، قد أحال الفرق لوني وغيّر وضعي ، قائلاً : ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) ، ولا تجعلني فتنة للقوم الكافرين (٢) ، عامداً أفضل مشهد ، وأكرم مرقد ، وخير صعيد ، وأفخر شهيد ، سيّد الشهداء ، وأشرف أولاد الأنبياء ، صاحب كربلاء ، حتّى إذا استقرّت في الدار ، وأمنت البوار ، خمدت مسراي عند الصباح ، وجعلت مثواي حضرة خامس الأشباح ، واتخذت بلدته موطناً ومستقرّاً ، ونزلاً مستمرّاً ، وهلّم جرّا ، وتلوت : ( سُبْحَانَ الَّذِي أسرَى ) (٣). ولمّا سئمتُ صحبتهم ، وقلوتُ جبلهم ، جعلتُ أشرح ما صدر لي عنهم ، واُوضح ما تمّ عليَّ منهم ، بسحر حلال من شعري ، وراتق زلال من نثري.

فمن جملة ذلك أبيات من جملة قصيدة مطوّلة قلتها حين فررت ، ونظمت فيها ما ذكرتُ ، وأوردتُ ما تمّ على السيّد المجيد ، والسبط الشهيد ، عليه أفضل الصلوات ، وأكمل التحيّات :

كربلا كم فيك من شيب خضيب

بدم النحر وكم هام نقيف

____________

١ ـ سورة القصص : ٢١.

٢ ـ إقتباس من الآية : ٨٥ من سورة يونس.

٣ ـ سورة الإسراء : ١.

٢٠٧

وسعيدٍ بصعيد الطفّ ثاوٍ

رأسه يعلى على رمح ثقيف

لبني الزهراء أرباب المساعي

والمعالي والعوالي والسيوف

زلف نحوهم عصبة سوءٍ

ليس فيهم غير زنديق وكوفي

لعن الله بني الكوفة لم

يك فيهم من بعهد الله يوفي

سل يزيداً قائماً بالقسط من

حاز المعالي من تليد وطريف

صلبوه بعد خذل ثمّ قتل

آه ممّا حلّ بالبدن الشريف

فلذا صارت براحاً وخلت

أرجاؤها من قاطن فيها وريف

وغدت أبناؤها في كلّ فجٍّ

بين شرطي زنيم وعريف

ولئيم وذميم ورجيم

وشقيّ وغويّ وطفيف

وجبان يوم زحف وقراع

وعلى الجارات بالليل زحوف

هم فروع لاُصول لم يرقّوا

لبني الزهراء في يوم الطفوف

٢٠٨

أسفوا إن لم يكونوا ذا اجتها

د مثل آبائهم بين الصفوف

فاستحلّوا من بينهم كلّ سوء

وأحلّوا بهم كلّ مخوف

فلذا نحوهم وجّهت دمي

وعليهم أنا داع بالحتوف

ولمّا أسدوه من بغي وظلـ

ـم تسرّه بالسوء داني وأليف

ومن الله عليهم لعنات

دائماً تترى بلا كمّ وكيف

ما شكا ذو حرقة ما ناله

من فاجرٍ بالبغي والظلم عسوف

فيا من يعنّفني بسبّهم ، ويؤفّفني بثلبهم ، ويعيبني بعيبتهم ، ويخطئني بتخطئتهم ، ويعيّرني ويتجسس على عوراتي ، ويسلك مسلكهم في التفحّص عن زلّاتي ، لا تلمني على ما صدر منّي ، ولا تفنّدني وتصدعني ، فلا بدّ للملآن أن يطفح ، وللصوفي عند غلبة الحال أن يشطح ، فمهد لقاعدة نظمي ونثري عذراً ، ولا ترهقني من أمري عسراً.

أمّا سمعت أخبار آبائهم الأوّلين؟ أمّا رأيت آثار أسلافهم الأقدمين؟ جدّل الوصيّ في جامعهم ، وطعن الزكيّ بين مجامعهم ، وقتل ابن عقيل لدى منازلهم ، والاجاب على السبط الشهيد بقبائلهم وقنابلهم ، وسبي ذراريه على أقتاب رواحلهم ، هو الّذي أطلق لساني بما وصفت ، وأجري بناني بما صغت

٢٠٩

ورصفت ، فلا تعذلني على نحيبي وعويلي ، ولا تصدّني لبكائي عن سبيلي ، إلاّ من اتّخذ في الأرض لنفاقه نفقاً ، وجرى في تيه ضلاله حيفاً وعنفاً وسأختم هذا المجلس الجليل ، بمرثيّة السيّد النبيل ، مسلم بن عقيل :

لهف قلبي وحرقتي وعويلي

وبكائي حزناً لخير قتيلِ

نجل عمّ النبيّ خير وفيّ

عاهد الله مسلم بن عقيلِ

خذلوه وأسلموه إلى الحي‍ـ

‍ـن فوفى بعهد آل الرسول

وتلقّى السيوف منه بوجه

لم تهن في رضا المليك الجليلِ

نصر الحقّ باللسان وبالقل‍ـ

ـب وحاز الثنا بباع طويل

ومن الله باع نفساً رقت في

المجد أعلا العلى بصبرٍ جميل

بذل النفس في رضا ابن

وليّ الله صنو الرسول زوج البتول

لست أنسى الأوغاد إذ خذلوه

والعدا يطلبونه بذحول

وهو يسطو كليث غاب فكم جدّل

رجساً بالصارم المصقول

٢١٠

ثمّ صبّت عليه منهم شآبيب

سهام كصوب مزن هطول

وهو لا يخشى السهام ولا يضرع

للقاسطين أهل الغلول

ويصدّ الكماة عنه بغضب

كم جريح منه وكم من قتيل

كم هزيم من بأسه وقتيل

فرّ منه يقفو سبيل قبيل

ثمّ لمّا أبلى بلاء عظيماً

صار يشكو الضما بقلب غليل

غادرته السهام من وقعها

ذا جسد من ضنى الجراح كليل

وغدا في يد البغاة أسيراً

لهف قلبي على الأسير الذليل

ثمّ من بعد أسره جرّعوه

كأس حتف بأمر شرّ سليل

من أبوه إلى سميّة يسمو

فرعه لا يسمو بأصل أصيل

يا بني المصطفى لما نالكم صبري

فيصبر لكن طويل عويل

وإذا رمتُ أن اُكفكف دمعي

قال قلبي للطرف جدّ بهمول

٢١١

فعلى من سواهم آثر الدمع

وأرثي بالنظم من حسن قيل

وهم قادتي وأسباب إيماني

وقربي من خالقي ووصول

كشف الله لي بهم كلّ منشور

من الحقّ عن كفور جهول

فغدا حبّهم وبغض أعاديهم

بقلبي ما آن له من مزيل

وبإكفار من تقدّمهم اُوضح

عن حجّتي بصدق دليل

من كتاب وسنّة وقياس

ركبته ذوي الحجى والعقول

نصّ خير الأنام يوم غدير

ليس في الذكر فيه من تبديل

وكذا إنّما وليّكم فاتلُ إن

شئت إذا ما تلوتَ بالترتيل

تجد الله بالزعامة اصطفاهم

ففي الخلق ما لهم من مثيل

فلهم أرتجي لبرد اوامي

من رحيق من حوضهم سلسبيل

ومديحي في فضلهم ليس يحصى

بنظام كالذرّ في التعديل

٢١٢

وإليهم اُهدي عقود بناء

من قواد بالشكر غير ملول

ما دجى الليل ثمّ وأسفر صب‍ـ

‍ـح وزقا طائر بدوح ظليل

* * *

٢١٣
٢١٤

المجلس السابع

في مسير الحسين عليه‌السلام إلى العراق

ومن تبعه من أهله وإخوانه وبني أخيه

وبني عمّه صلوات الله عليهم أجمعين

الخطبة

الحمد لله الوفيّ وعده ، العليّ مجده ، الغالب جنده ، العامّ رفده ، لا راد لحكمه ، ولا مغيّر لعلمه ، المبدع المصّور ، والمخترع المقدّر ، الظاهر لخلقه بخلقه ، والشامل لهم بلطفه ورزقه ، حجب أفكارهم عن تصوّر كماله ، وردع ابصارهم عن إدراك جلاله ، وتجلّى لأوليائه بشواهد حكمته ، وظهر لقلوبهم ببدائع صنعته ، فانقادت قلوبهم بأزمّة التوفيق إلى مقام عرفانه ، ووردوا مناهل التحقيق من فيض لطفه وإحسانه ، وشربوا بالكأس الروّية من شراب عنايته ، ووقفوا على قدم الصدق في مقام طاعته.

فأشرق نور الحقّ على مرايا قلوبهم فطاح وجودهم في شهودهم ، لمّا عاينوا من بهجة محبوبهم ، فأصبحت قلوبهم بأنوار عرفان جلال مبدعهم مشرقة ، ونفوسهم بالملكوت الأعلى من حصون صانعهم متعلّقة ، فأطلعهم سبحانه على أسرار الصفيح الأعلى ، وأراهم لما أعدّ للمجاهدين في سبيله في ذلك المقام الأسنى ، من منازل مونقة ، وحدائق مغدقة ، وأنهار متدفّقة ، وحسان

٢١٥

معشقة ، وولدان ضياء جمالها قد أشرق ، وثياب من سندس بطائنها من استبرق ، اُكلها دائم ، وساكنها سالم ، لا يذوق الموت ، ولا يخشى الفوت ، ظلّها ظليل ، دورها سلسبيل ، وسقفها عرش الرحمن ، وخدمها الحور الحسان ، ( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأكْوَابٍ وأبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعيِنٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ وَفَاكَهِةٍ مِمَّا يَتَخيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١).

فاختاروا الاقامة في دار المقامة ، والاستظلال بتلك الأطلال ، وكرهوا الرجوع من دار البقاء إلى دار الفناء ، والعود من المحلّ الأعلى إلى المقام الأدنى ، ومن الصفيح الأرفع إلى الخراب البلقع ، فطلبوا إلى ربّهم ألاّ يهبطهم من درجتهم ، ولا يزحزحهم عن لذّتهم ، ولا يخرجهم من جنّتهم ، ولا يحطّهم عن رتبتهم.

فتجلّى لأفكارهم ، وخاطبهم في أسرارهم : إنيّ قد جعلت الدنيا طريقاً يسلك به إلى نعيمي المقيم ، وسبيلاً يتوصّل به إلى ثوابي الجسيم ، فلو لا امتثال عبادي أوامري ، وانزجارهم عن زواجري ، والاخلاص بطاعتي والامحاص في محبّتي ، وتحمّل المشاقّ في عبادتي ، والاستظلال بأروقة طاعتي ، لم أخلق خلقي ، ولم أبسط رزقي ، لكن أبدعتهم ليعرفوني ويوحّدوني وينزّهوني ، ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُُدُونِ ) (٢).

فاتّبعوا دليلي ، وجاهدوا في سبيلي ، وصابروا أعدائي ، وانصروا أوليائي ، أجعلكم خزّان علمي في عبادي ، واُمناء وحيي في بلادي ، وشهدائي

__________________

١ ـ سورة الواقعة : ١٧ ـ ٢٤.

٢ ـ سورة الذاريات : ٥٦.

٢١٦

على بريّتي ، وأوليائي في خليقتي ، ولأقرننّ طاعتكم بطاعتي ، ومودتّكم بمودّتي ، وولاءكم بولائي ، ورضاكم برضائي ، إن تنصروني أنصركم واُثبت أقدامكم ، وإن تقرضوني اُجازكم واُضاعف أعمالكم.

فرجعت أجسادهم إلى الحضيض السفليّ ، واستقرت أرواحهم العالم العلويّ ، تطالع جمال حضرة معبودها في جميع حالاتها ، وتستضيء بأنوار جلال مبدعها بأبصار كمالاتها حين توجّهاتها ، ترى كلّ ما سواه مضمحلّاً باطلاً ، وكلّ ما عداه للعدم قابلاً ، فوصلوا أسبابهم بأسبابه ، وقطعوا العلائق عمّا سوى الاتّصال بعزيز جنابه ، ووقفوا على قدم الخدمة في جنح الظلام ، ونادوا محبوبهم بلسان الاجلال والابتهال.

فاستخلصهم لنفسه لما أخلصوا بطاعته ، واصطفاهم على خلقه لما صدقوا في محبّته ، وتوّجهم بتيجان كرامته ، وأفرغ عليهم حلل عصمته ، وأطلعهم على مكنون سرّه ، وقلّدهم ولاية أمره ، فساقوا الخلق إلى طاعة ربّهم ، ونصروا الحقّ بقالبهم وقلبهم ، قد صدقت منهم العقائد والعزائم ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، حتّى إذا أدّوا النصيحة حقّها في جنب الله ، وبذلوا أرواحاً وأجساداً قد أخلصت صدقها في طاعة الله ، ورقوا في معارج السعادة إلى منازل الشهادة ، وسلكوا سبيل المجد بقدم الجدّ ، واتّبعوا دليل النجاة إلى عين الحياة ، وركبوا سفينة الهدى ، وتنكّبوا سبيل الردى ، وجاهدوا في الله بأنفسهم وأموالهم ، وأنكروا المنكر بأفعالهم وأقوالهم.

اُوذوا فصبروا ، وابتلوا فشكروا ، يعدوّن البأساء نعمة ، والضرّاء رحمة ، والجهاد في الله منحة ، والقتل في سبيل الله حياة باقية ، والبلاء في الله عيشة راضية ، فحسدوا على ما اختصّهم الله به من قربه ، وبذلوا الأجساد والأولاد في

٢١٧

حبّه ، ونفوا عن عقر دارهم ، واُخرجوا من منازلهم وقرارهم.

ضاقت بهم الأرض بعد رحبها ، وقصدتهم الأعداء بفتكها وحربها ، وكانت واقعة السبط الشهيد أبي عبد الله أفضع محنة ، وأشنع فتنة ، لم يحدث منذ وجود العالم مثلها ، ولم يقع في الزمن المتقادم عديلها ، اُخرج ابن الرسول من حرم جدّه خائفاً ، وللحياة في دولة الظّالمين عائفاً ، وللدنيا وأهلها قالياً ، وللشهادة في الله راجياً ، قد تبرّم بالبقاء في دولة الأشرار ، وسئم الحياة في سلطان الفجّار.

فنصبوا له المهالك ، وسدّوا عليه المسالك ، لم يأمن في حرم يأمن فيه الطير الطائر ، والوحش الجائر ، ولم يطمئنّ في بلد يسكنه البرّ والفاجر ، فوعده النصر على أعدائه قوم ذووا أحلام عازبة ، وأيمان كاذبة ، لم يثلج في قلوبهم برد الايمان ، ولم يزالوا بنكثهم أحزاب الشيطان ، حتّى إذا لزمته الحجّة بوجود الناصر ، والقيام بجهاد الظّالمين في الظاهر ، وامّ مصرهم ببنيه وبناته ، وسار نحوهم بإخوانه وأخواته ، وبلغ ضعفهم ، وتوسّط جمعهم ، خانوا عهده وأخلفوا وعده ، فليتهم إذ نكثوا أيمانهم ، ونقضوا أمانهم ، تركوه يذهب حيث شاء ، أو يرجع من حيث أتى ، بل سدّوا عليه الموارد ، وقعدوا له المراصد ، وجندّوا لمنعه جموعهم وجنودهم ، وأرهفوا لقتله حدّهم وحديدهم ، وحرموا عليه ورد الماء المباح ، ورفعوا عليه حدود الصفاح ، فصار في أيديهم رهيناً ، وبسيوفهم ضميناً ، ثمّ ساقوا بناته وحلائله اُسارى ، تحسبهم من هول ما أصابهم سكارى وما هم بسكارى ، يسار بهم بين الأعداء على الأقتاب ، ويساقون عنفاً بغير نقاب ولا جلباب ، قد قشر حرّ الشمس وجوههم ، وغيّر هجير القيض جسومهم.

فوا أسفا على تلك الأبدان المصرّعة ، والأجساد المبضّعة ، والأطراف المقطّعة ، والرؤوس المرفعة.

٢١٨

وا لهفاه لتلك الوجوه الّتي هتكت بعد صونها وحجابها ، وبرّزت بين طواغيتها وكذّابها ، فدمعي عليهم مهتون ، وقلبي لمصابهم محزون.

فيالله وللاسلام ايقتل نجل الرسول بين ظهرانيكم ، وتسبى نساؤه وذراريه بين أيديكم ، ويراق دمه وأنتم تنظرون ، وللحق تخذلون ، وللباطل تنصرون؟ لا منكر ينكر بقلبه ولسانه ، ولا دافع يدفع بحسامه وسنانه ، ولا ذو أنف حمي يغضب لله ، ولا صاحب دين قويم يجاهد في سبيل الله ، فأنتم أكفر اُمّة كفرت بعد إيمانها ، وأفجر فرقة تظاهرت ببغيها وبهتانها ، لم ترض بقائد النجاة دليلاً ، اُولئك كالأنعام بل هم أضلَّ سبيلاً (١) ، بأنعم عدل بها هاديها ، عن الحقّ السويّ ، واسامها راعيها في المرعى الوبي.

فيا سبط نبيي ، ورهط ولييّ ، ويا سبيل نجاتي ، ويا سليل هداتي ، مصيبتك أرخصت في سوق أحزاني عبراتي ، وأسعرت بلهيبها في جناني حسراتي ، وحرمت على جفوني طيب منامي ، وإفرغت على جسدي أثواب سقامي ، ضاقت بك الدنيا يا ابن الرسول ومن أجلك خلقت ، وشدّوا عليك القضا يا نجل البتول وابوابه دونك غلقت ، أخرجوك من حرم جدّك خائفاً تترقّب ، ونفوك عن مسقط رأسك وذهبوا بك كلّ مذهب ، حتّى إذ وجّهت وجهة آمالك ، وظعنت بعيالك وأطفالك ، نحو اُناس لم ينصروا الحقّ مذ كانوا ، ولم يؤثروا الصدق مذ خانوا ، ولم يغضبوا لله ، ولا انقادوا لأولياء الله ، بل الغدر شيمتهم ، والكذب سجيّتهم ، إن خلفوا خبثوا ، وإن عاهدوا نكثوا ، اضر من ضافر إذا جرّدت السيوف ، وألأم من مادر إذا طرقت الصنوف ، أنباط أسقاط ، أنذال أرذال ، أنكاد أوغاد ، للوصيّ وابنه خذلوا ، وللسبط الشهيد وولده قتلوا ، تساق بنات نبيّهم

__________________

١ ـ إقتباس من الآية : ٤٤ من سورة الفرقان.

٢١٩

على الأقتاب في أسواقهم وشوارعهم ، وتشهر رؤوس أبناء وليّهم على الرماح في رحابهم ومجامعهم.

فيا دموعي لمصابهم حدّي بالدموع خدّي ، ويا زفراتي تصاعدي بسعير حسراتي ووجدي ، ويا كبدي لرزئهم تقطّعي ، ويا أحشائي حزناً عليهم تضعضعي ، وعمى لطرفي إن لم يسحّ دماً بقرينهم ، وسحقاًً لقلبي إن لم ينقطع أسفاً لمحنتهم ، لمّا كست السماء حمرة نجيع شهدائهم شفقاً ، أروت في فؤادي بانعكاس أشعة لهيبها حرقاً ، فقلبي حريق بسعير حزني ، وطرفي غريق بمعين جفني ، اُمثّل ثفنات وجوههم من أثر السجود على الرماح ، كالكواكب الدرّيّة بضيائها أو كشمكاةٍ فيها مصباح.

فلهذا وقفت بكائي وجزعي عليهم ، وصرفت المراثي من نظمي ونثري إليهم ، أنثر في ثرى ضرائحهم عبراتي ، واُصاعد في صعيد مراقدهم زفراتي ، وأهدي إلى أرواحهم سلامي وتحيّاتي ، واصلّي على أشباحهم عقيب صلواتي ، وفي جميع آناتي ، واُنشد لعظيم مصيبتي في خلواتي ، ولجسيم رزيّتي نحيبي وأنّاتي :

يا مصاب السبط أورثت البكا

أعيُناً والقلب وجداً وعنا

وعلى عينّي حرّمت الكرى

ومزجت الدمع منّي بالدما

لا تلمني أيّها العاذل إن

نُحت بالترجيع من فرط الجوا

٢٢٠