تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وجرى دمعي دماً ممّا على

سبط خير الرسل في الطفّ جرى

وعلى الأبرار من اُسرته

أهل بيت ومقام وصفا

صرّعوا فيه ظماة قد سقوا

بكؤوس الموت من بعد الظما

صاعدت نيران أحشائي الحشا

مدمعاً قانٍ على خدّي جرى

خير أهل الأرض أضحوا صرّعاً

بشبا البيض وأطراف القنا

سادة الخلق اُولي الأمر الّذي

مدحهم حقّاً أتى في هل أتى

بكت الأرض دماً مذ صّرعوا

فرقها حزناً وأطباق العلا

كربلا منك فؤادي ملؤه

من عظيم الوجد كرب وبلا

كم شموس غربت فيك وكم

من بدور أفلت بعد الضيا؟

ووجوه لبنات المصطفى

هتكت من بعد صون وحيا

٢٢١

وجسوم غيّرت أوصافها

منهم البَوْغَاءُ (١) من بعد السنا

وقلوب ظاميات لم تر

غير ورد الموت من كفّ الردى

كم علت فوق العوالي منهم

طلعت أنوارها تجلو الدجى

وأُبينت عضد مع ساعد

وأكفّ كبحور في الندى

ويرى الناظر من أوجههم

ثفنات كنجوم في السرا

يا عيوني إن تضنّي بالبكا

لهم لا نلت في الدنيا المنى

وكذا يا حرقتي إن سكنت

منك أحشائي أو طرفي غفا

أيها الراكب وجناء لها

أثر في الخدّ من جذب البرا

تقطع الال كرال نافل (٢)

ليس يثنيها كلال ووجا

لا تهاب السير في جنح الدجى

وكذا لا تخشي حرّ الضحى

__________________

١ ـ البوغاء ، التراب الناعم الهابي في الهواء.

٢ ـ كذا في الأصل ، ولعلها : تقطع الأتلال ناقة.

٢٢٢

عجّ بأرض حلّ فيها سيّد

مجده أرفع قدراً من ذكا

خير من جاهد في الله ومن

في سبيل الله بالنفس سخا

تركوه في العرا منجدلاً

ذا فؤادٍ يشتكي حرّ الصدا

بدر تمّ صار من بعد الثرا

وعلوّ المجد ضمناً في الثرى

كربلا مذ أشرقت من دمه

أظلمت في الخلق أعلام الهدى

يا شريك الذكر من ذكرك في

مهجتي من حرّ أشجاني لظا

وبخدّي لحمه من أدمعي

فيضها أربى على بحر ظما

ما دروا كم فريت من بغيهم

كبد للمصطفى والمرتضى

يا مصاباً أهله فاطمة

وأبوها وعليَّ ذو العلا

أيها القاصد بيت الله بال‍ـ

‍ـعجّ والثجّ إذا نلت المُنى

من تمام الحجّ والعمرة عجّ

بضريح ضمّ خير الأنبيا

٢٢٣

أبلغته من سلامي ما زكا

من فؤاد ضمنه صدق الولا

ثمّ قل يا خير مبعوث به

كشف الله عن الخلق العمى

لو ترى سبطك فرداً ماله

ناصر يفديه من جهد البلا

وبنات لك قد أثخنتها

من مديد السير افراط العنا

وأكفّاً بريت من ساعدٍ

كان في راحتها بحر الندى

ووجوهاً كالمصابيح لها

في ظلام الليل نور يستضا

كم تجافت عن وثير الفرحش أج‍ـ

‍ـسادها تخلص لله الدعا

أصبحت في كربلا مخضباً

شَيبْها بالدم من حدّ الظبا

يا بني الزهراء ممّا نالكم

مدمعي من فرط حزني ما رقى

وكذا نار الأسى في كبدي

حرّها يذكي رسيساً في الحشا

وبقلبي لوعة ما آن لها

فيكم حتّى مماتي منتهى

٢٢٤

أنتم سفن نجاتي لا أرى

غيركم ينقذ إن خطب عرا

وبكم ارجو إذا ما نشرت

صحف الأعمال في يوم القضا

ان يراني الله رقاً خالصاً

لعلا مجدكم العالي البنا

آه من نسوتكم يسرا بها

حسراً يمشون في ذلّ السبا

بين أرجاس لهم أفئدة

ملئت حقداً كجلمود قسا

فوق أقتاب بها يسرى إلى ال‍ـ

‍ـرجس نجل ابن زياد ذي الشقا

قد مزجت الدمع فيكم بدم

وعلى عيني إذ نفث البكا

وبقلبي حرقة من هظمكم

حرّها منذ وجودي ما خبا

كم مراث فيكم أرسلتها

نظمها ينبىء عن صدق الولا

يزدريها حاسدي من غيظه

حين يطويها ولبّي بالثنا

ويرى للبغض منه وجهة

ذا امتناع لاح ما فيه خفى

٢٢٥

يظهر النصح وفي أحشائه

من نظامي حرّ نار تصطلى

ويراني ضاحكاً مبتسماً

بمديح وثناء ودعا

وإذا ما غبت عنه سل من

بغيه غضباً به عرضي برا

يختل الأغمار بالزهد وفي

قلبه الفاسد مكر ودها

وترى في فرض عرضي جاهداً

معلناً كالنار في جزل الغضى

فإذا فكرّت فيما نالكم

هان ما ألقاه من فرط الأسى

وأرى الصبر جميلاً غبّه

فاُسلّي القلب منّي بالأسى

يا عياذي وملاذي إن عرت

غصّة تعرض في الحلق شجا

كلّ عامٍ ينقضي أقضي من

حقكم مأتم حزن وعزا

واسيل الدمع من نظم بكم

راق يستفديه ربّ النهى

وتراه شابني في فمه

علقماً لا يزدريه ذي الشقا

٢٢٦

واُبكّي شيعة في حبّكم

طاب منها فرعها والمحتدى

وبكم أرجو نجاتي من لظى

حرّها ينزع باللفح الشوى

وعليكم صلوات ما بدا

كوكب أظهره ليل بدا

وعلى من منعوكم حقّكم

لعنات ما لها من منتهى

٢٢٧

فصل

في خروج الحسين صلوات الله عليه إلى العراق ، وما

جرى عليه في طريقه ، ونزوله في الطفّ (١)

قيل : جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه بعد أن وصل إليه كتاب مسلم بطاعة أهل العراق وحسن نيّاتهم وانقيادهم فعزم عليه‌السلام على الخروج وأعطى كلّ واحدٍ منهم عشرة دنانير وجملاً يحمل عليه رحله وزاده ، ثمّ إنّه طاف بالبيت وتهيّأ للخروج وحمل بناته وأخواته على المحامل ، فقصد (٢) من مكّة يوم الثلاثاء يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجّة ومعه اثنان وثمانون رجلاً من شيعته ومواليه وأهل بيته ، فلمّا خرج اعترضه أصحاب الأمير عمرو بن سعيد بن العاص فجالدهم بالسياط ولم يزد على ذلك فتركوه وصاحوا على أثره : ألا تتّقي الله تعالى تخرج من الجماعة ، وتفرّق بين هذه الاُمّة؟

فقال الحسين عليه‌السلام : ( لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) (٣) الآية.

وسار صلوات الله عليه حتّى صار بالتنعيم ، ولقي هناك عيراً تحمل الورس والحلل إلى يزيد بن معاوية لعنه الله من عامله باليمن ، فأخذ الحسين

__________________

١ ـ انظر فيما يتعلّق بهذا الفصل : الفتوح لابن أعثم الكوفي : ٥/١١٩ وما بعدها ، تاريخ الطبري : ٥/٣٨٢ وما بعدها.

٢ ـ في المقتل : وفصل.

٣ ـ سورة يونس : ٤١.

٢٢٨

ذلك كلّه وقال لأصحاب الإبل : لا اُكرهكم ، من أحبّ أن يمضي معي إلى العراق أوفيناه كراه حسناً ، وأحسنّا صحبته ، ومن أراد فرقتنا من مكاننا هذا وفيناه كراه بقدر ما قطع من الطريق ، فمن فارقه حاسبه ووفّاه حقّه (١) ، ومن مضى معه أعطاه كراه وكساه. (٢)

وإنّما أخذ عليه‌السلام العير لأنّها كانت من أموال المسلمين ، وكان حكم المسلمين ، إليه صلوات الله عليه ، وكان خروجه قبل أن يعلم بقتل مسلم ؛ وقيل : كان خروجه من مكّة يوم قتل مسلم بعد أن كتب إليه مسلم بأخذ البيعة واجتماع الناس عليه وانتظارهم إيّاه.

وروى ابن جرير ـ بحذف الاسناد ـ عن الأعمش قال : قال لي أبو محمد الواقدي وزرارة بن صالح (٣) : لقينا الحسين عليه‌السلام قبل أن يخرج إلى العراق بثلاثة ، فأخبرناه بضعف الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه واسيافهم عليه.

فأومأ بيده نحو السماء ، ففتحت أبواب السماء ، ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيه إلاّ الله عزّوجلّ.

فقال عليه‌السلام : لو لا تقارب الاشياء ، وسقوط الأجر ، (٤) لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكنّي أعلم علماً (٥) أنّ هناك مصرعي ، وهناك مصارع أصحابي ، لا

__________________

١ ـ في المقتل : ما قطع من الأرض ، فمن فارقه منهم حوسب وأوفاء حقّه.

٢ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٢٠ نقلاً عن ابن أعثم.

٣ ـ في الملهوف : خلج.

وذكر في مستدركات علم الرجال : ٣/٤٢٥ زرارة بن خلج وزرارة بن صالح وعدّهما شخصين ، وكلامهما تشرّف بلقاء الحسين عليه‌السلام ، ولعلّ الاسمين لشخص واحد.

٤ ـ في الملهوف : وحضور الأجل.

٥ ـ في الملهوف : يقيناً.

٢٢٩

ينجو منهم إلاّ ولدي عليّ (١). (٢)

وروى سيّدنا ومولانا ، السيّد الجليل عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد ابن طاووس الحسيني رضي الله عنه أنّ مولانا الحسين عليه‌السلام لمّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً ، فقال :

الحمد لله ، وما شاء الله ، ولا قوةّ إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تتقاطعها عسلان (٣) الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجوفة (٤) سبغاً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضاء الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا اُجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته ، هي مجموعة عليه (٥) في حضيرة القدس ، تقربهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل [ معنا ] (٦) ، فإنّي راحل إن شاء الله (٧). (٨)

وذكر محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الرسائل عن محمد بن يحيى ،

____________

١ ـ انظر : دلائل الامامة : ٧٤ ، نوادر المعجزات : ١٠٧ ح ١ ، الدرّ النظيم : ١٦٧ ( مخطوط ). إثبات الهداة : ٢/٥٨٨ ح ٦٨ ، البحار : ٤٤/٣٦٤.

٢ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٢٤ ـ ١٢٦ و١٣٠.

٣ ـ في الملهوف : تقطعها ذئاب.

٤ ـ في الملهوف : وأجربة.

٥ ـ في الملهوف : له.

٦ ـ من الملهوف.

٧ ـ انظر : مثير الأحزان : ٤١ ، كشف الغمّة : ٢/٢٩ ، البحار : ٤٤/٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٨ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٢٦.

٢٣٠

عن محمد بن الحسين ، عن أيّوب بن نوح ، عن صفوان ، عن مروان بن إسماعيل ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : ذكرنا خروج الحسين عليه‌السلام وتخّلف ابن الحنيفة عنه ، فقال ابوعبد الله عليه‌السلام : يا حمزة ، إنّي ساُحدّثك (١) بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك (٢) هذا ، إنّ الحسين عليه‌السلام لمّا فصل متوجّهاً دعا (٣) بقرطاس وكتب فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى بني هاشم

أمّا بعد :

فإنه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلف [ عنّي ] (٤) لم يبلغ مبلغ الفتح ، والسلام. (٥)

وذكر شيخنا المفيد محمد بن [ محمد بن ] (٦) النعمان رضي الله عنه [ في كتاب مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومولد الأوصياء صلوات الله عليهم ] (٧) بإسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : لمّا سار أبو عبد الله عليه‌السلام من

____________

١ ـ في البحار : ساُخبرك.

٢ ـ في الملهوف : مجلسنا.

٣ ـ في الملهوف : أمر.

٤ ـ من الملهوف. وفيه : لم يبلغ الفتح.

٥ ـ انظر : بصائر الدرجات : ٤٨١ ـ ٤٨٢ ح ٥ ، كامل الزيارات : ٧٥ ، دلائل الامامة : ٧٧ ، نوادر المعجزات : ١٠٩ ح ٦ ، تيسير المطالب : ٩١ ، الخرائج والجرائح : ٢/٧٧١ ذ ح ٩٣ ، المناقب لابن شهراشوب : ٤/٧٦ ، مختصر بصائر الدرجات : ٦ ، إثبات الهداة : ٢/٥٧٧ ح ١٨ ، البحار : ٤٢/٨١ ح ١٢ ، وج ٤٥/٨٤ ح ١٣ وص ٨٧ ح ٢٣.

٦ و ٧ ـ من الملهوف.

٢٣١

[ مكّة ليدخل ] (١) المدينة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمة والمردفة (٢) في أيديهم الحراب ، على نجب من نجب الجنّة ، فسلّموا عليه وقالوا : يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إنّ الله سبحانه أمدّ جدّك صلى‌الله‌عليه‌وآله بنا في مواطن كثيرة ، وإنّ الله أمدّك بنا.

فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي الّتي أستشهد فيها ، وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني.

فقالوا: يا حجّة الله ، مرنا نسمع ونطع ، فهل تخشى من عدوّ يلقاك فنكون معك؟

فقال : لا سبيل لهم عليَّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.

وأتته أفواج مسلمي (٣) الجنّ ، فقالوا : يا سيّدنا ، نحن شيعتك وأنصارك ، فمرنا بأمرك وما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك.

فجزاهم الحسين خيراً ، وقال لهم : أمّا قرأتم كتاب الله المنزل على جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يَدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) (٤) وقال سبحانه : ( لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (٥)؟ وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلى (٦) هذا الخلق المتعوس؟ وبماذا

____________

١ ـ من الملهوف.

٢ ـ في الملهوف : المسوّمين والمردفين.

٣ ـ في الملهوف : من مؤمني.

٤ ـ سورة النساء : ٧٨.

٥ ـ سورة آل عمران : ١٥٤.

٦ ـ في الملهوف : فبمَ يمتحن؟

٢٣٢

يختبرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء وقد اختارها الله تعالى [ لي ] (١) يوم دحا الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ، وتكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة؟ ولكن تحضرون يوم السبت ، وهو يوم عاشوراء الّذي في آخره اُقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد لعنه الله.

فقالت الجنّ : نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه ، لو لا أنّ أمرك طاعة وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك (٢) قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك.

فقال لهم عليه‌السلام : نحن والله أقدر عليهم منكم ، ولكن ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (٣). (٤)

ثمّ سار الحسين صلوات الله عليه حتّى بلغ ذات عرق (٥) فلقيه رجل من بني أسد يقال له بشر بن غالب ، فقال الحسين : من أين أقبلت؟

قال : من العراق.

قال : كيف خلّفت أهل العراق؟

____________

١ ـ من الملهوف.

٢ ـ زاد في الملهوف : لخالفناك و.

٣ ـ سورة الأنفال : ٤٢.

٤ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٢٩ ـ ١٣٠.

ومن قوله : « روى محمد بن يعقوب في كتاب الرسائل » إلى هنا نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار : ٤٤/٣٣٠ ـ ٣٣١ عن كتابنا هذا. وكذا في عوالم العلوم : ١٧/١٧٩.

٥ ـ ذات عرق : مُهَلّ أهل العراق ، وهو الحدّ بين نجد وتهامة ؛ وقيل : عرق جبل بطريق مكّة ومنه ذات عرق. وقال الأصمعي : ما ارتفع من بطن الرمة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق.

وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق. « معجم البلدان : ٤/١٠٧ ـ ١٠٨ ».

٢٣٣

فقال : يا ابن رسول الله ، خلّفت القلوب معك والسيوف مع بني اُميّة.

فقال : صدقت إنّ الله يفعل ما يشاء.

فقال الرجل : يا ابن رسول الله ، خبّرني عن قول الله سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ اُنَاسٍ بإمَامِهِمْ ) (١).

فقال الحسين : نعم ، يا أخا بني أسد ، هما إمامان ، إمام هدى دعا إلى هدى ، وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة ، فهذا ومن أجابه إلى الهدى في الجنّة ، وهذا من أجابه إلى الضلالة في النار.

قال : واتّصل الخبر بالوليد بن عتبة أميرالمدينة بأنّ الحسين عليه‌السلام توجّه إلى العراق ، فكتب إلى ابن زياد :

أمّا بعد :

فإن الحسين قد توجّه إلى العراق وهو ابن فاطمة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاحذر ـ يا ابن زياد ـ أن تأتي إليه بسوء فتهيّج على نفسك [ وقومك ] (٢) أمراً في مدّة (٣) الدنيا لا يسدّه (٤) شيء ، ولا تنساه الخاصّة والعامّة أبداً ما دامت الدنيا.

قال : فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد. (٥)

____________

١ ـ سورة الاسراء : ٧١.

٢ ـ من البحار.

٣ ـ في المقتل والبحار : هذه.

٤ ـ في البحار: لا يصدّه.

٥ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٢٠ ـ ٢٢١ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ١٣١.

ومن قوله : « واتّصل الخير بالوليد » إلى هنا نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار :

٢٣٤

قال : ثمّ سار صلوات الله عليه حتّى نزل الثَّعلبيّة (١) وقت الظهيرة فوضع رأسه فرقد ، ثمّ استيقظ ، فقال : رأيت هاتفاً (٢) يقول : أنتم تسرعون (٣) والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة.

فقال له ابنه علي : يا أباه ، ألسنا على الحقّ؟

فقال : بلى ، يا بنيّ ، والّذي إليه مرجع العباد.

فقال : يا أباه ، إذن لا نبالي بالموت.

فقال الحسين عليه‌السلام : جزاك الله خير ما جزى ولداً عن والده.

ثمّ بات صلوات الله عليه ، فلمّا أصبح إذا برجل من أهل الكوفة يكنّى أبا هِرّة الأزدي قد أتاه فسلّم عليه ، ثمّ قال : يا ابن رسول الله ، ما الّذي أخرجك من حرم الله وحرم جدّك صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فقال الحسين عليه‌السلام : ويحك يا أبا هرّة ، إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنّهم الله ذلّاً شاملاً وسيفاً قَاطعاً ، وليسلّطنَّ عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة [ منهم ] (٤) فحكمت في أموالهم ودمائهم

____________

٤٤/٣٦٨ عن كتابنا هذا. وكذا في عوالم العلوم : ١٧/٢١٨.

١ ـ الثعلبية : من منازل طريق مكّة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيميّة ، وهي ثلثا الطريق ، وأسفل منها ماء يقال له الضُويجعة على ميل منها مشرف ، وإنمّا سمّيت بالثعلبيّة لإقامة ثعلبة بن عمرو بها ؛ وقيل : سمّيت بثَعلَبة بن دودان بن أسد وهو أوّل من حفرها ونزلها. « معجم البلدان : ٢/٧٨ ».

٢ ـ في المقتل : فارساً.

٣ ـ في الملهوف : تسيرون.

٤ ـ من المقتل والملهوف.

٢٣٥

[ حتّى أذلّتهم ] (١). (٢)

وفي كتاب تاريخ غر الرياشي بإسناده عن راوي حديثه قال : حججت فتركت أصحابي وانطلقت أتعسّف الطريق وحدي ، فبينا أنا أسير إذ رفعت طرفي إلى أخبية وفساطيط ، فانطلقت نحوها حيث أتيت أدناها ، فقلت : لمن هذه الأبنية؟

فقالوا : للحسين عليه‌السلام.

قلت : ابن عليّ وابن فاطمة عليهما‌السلام؟

قالوا : نعم.

قلت : أين هو؟

قالوا : في ذلك الفسطاط ، فانطلقت نحوه ، فإذا الحسين عليه‌السلام متّكٍ على باب الفسطاط يقرأ كتباً بين يديه ، فسلّمت فردّ عليَّ ، فقلت : يا ابن رسول الله ، بأبي أنت واُمّي ما أنزلك في هذه الأرض القفراء الّتي ليس فيها ريف ولا منعة؟

قال : إنّ هؤلاء أخافوني ، وهذه كتب أهل الكوفة وهم قاتليّ ، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا والله محرماً إلاّ انتهكوه ، بعث الله إليهم من يقتلهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم (٣) الأمة.

قال : ثمّ سار صلوات الله عليه وحدّث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا : كنّا

__________________

١ ـ من الملهوف.

٢ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٢٦ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ١٣١ ـ ١٣٢.

٣ ـ الفرم : خرقة الحيض.

٢٣٦

مع زهير بن القين لما أقبلنا من مكةّ ، فكنّا نساير الحسين عليه‌السلام حتّى لحقناه ، وكان إذا أراد النزول اعتزلناه فنزلنا ناحية (١).

فلمّا كان في بعض الأيّام نزل في مكان لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، فبينا نحن نتغدّى من زادٍ (٢) لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه‌السلام حتّى سلّم.

ثمّ قال : يا زهير بن القين ، إنّ أبا عبد الله عليه‌السلام بعثني إليك لتاتيه ، فطرح كلّ منّا ما في يده حتّى كأنّما على رؤوسنا الطير.

فقالت له امرأته (٣) ـ وهي ديلم بنت عمرو ـ : سبحان الله ، أيبعث إليك ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ لا تأتيه؟ فلو أتيته فسمعتَ من كلامه.

فمضى إليه زهير ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه فقوّض وبثقله (٤) ومتاعه فحوّل إلى الحسين عليه‌السلام.

وقال لامرأته : أنتِ طالق ، فإنّي لا اُحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه‌السلام لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثمّ أعطاها حقّها (٥) وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها.

فقامت إليه [ وودّعته ] (٦) وبكت ، وقالت : كان (٧) الله لك ، أسألك أن

__________________

١ ـ انظر : تاريخ الطبري : ٥/٣٩٣ ـ ٣٩٤ ، إرشاد المفيد : ٢٢٣ ، ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تاريخ دمشق : ٢١١ ح ٢٦٨ ، إعلام الورى : ٢٢٩ ، الكامل في التاريخ : ٤/٣٩ ، البداية والنهاية : ٨/١٦٩ ، البحار : ٤٤/١٨٦ ح ١٤.

٢ ـ في الملهوف : بطعامٍ.

٣ ـ في الملهوف : زوجته.

٤ ـ كذا في الملهوف : وفي الأصل : بفسطاطه وثقله

٥ ـ في الملهوف : مالها.

٦ ـ من الملهوف.

٧ ـ في الملهوف : خار.

٢٣٧

تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه‌السلام.

ثمّ قالَ لأصحابه : من أراد (١) أن يصحبني ، وإلاّ فهو آخر العهد [ منّي ] (٢) به.

وهذا الحديث نقلته من كتاب إغاثة الملهوف لسيّدنا عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس (٣).

ورأيت حديثاً أنّ زهير رضي الله عنه قال لأصحابه لمّا ودّعهم : إنّي كنت غزوت بَلَنْجرَ (٤) مع سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فلمّا فتح الله علينا اشتدّ سرورنا ، فقال سلمان : أفرحتم بما أفاء الله عليكم؟

قلنا : نعم.

فقال : إذا أدركتم شبّان آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً لقتالكم معهم (٥) منكم ما أصبتم اليوم ، وأنا أستودعكم الله تعالى ، ثمّ ما زال الحسين عليه‌السلام حتّى قتل رحمه‌الله. (٦)

وقيل : إنّ الحسين عليه‌السلام لمّا وصل إلى زرود لقي رجلاً على راحلة ، فلمّا رآه الرجل عدل عن الطريق ، وكان الحسين عليه‌السلام قد وقف

____________

١ ـ في الملهوف : من أحبّ منكم.

٢ ـ من الملهوف.

٣ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٣٢ ـ ١٣٣. وانظر : وقعة الطفّ : ١٦١ ـ ١٦٢.

٤ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : عزمت بلخاً.

وبلنجر : مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب : « معجم البلدان : ١/٤٨٩ ».

٥ ـ في المقتل : بقتالكم معه.

٦ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٢٥.

٢٣٨

ينتظره ، فلمّا عدل مضى وتركه.

قال عبد الله بن سليم (١) والمنذر بن الشمعل (٢) الأسديّان : فعدلنا إلى الراكب ، فسلّمنا عليه ، فردّ علينا ، فقلنا : ممّ الرجل؟

فقال : أسديّ.

قلنا : ونحن أسديّان ، فما الخبر؟

قال : الخبر إنّ مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة قتلا ، ورأيتهما يجرّان في الأسواق. فأتينا الحسين عليه‌السلام : فقلنا : إن عندنا خبراً ، فنظر إلى أصحابه ، فقال : ما دون هؤلاء سرّاً.

قلنا : أرأيت الراكب الذّي عدل عن الطريق؟ إنّه أخبر بكذا وكذا.

فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

قلنا : ننشدك الله في نفسك وهؤلاء الصبية فإّنه ليس لك في الكوفة ناصر قريب [ ولا شيعة ، فنظر الحسين إلى بني عقيل فقال لهم : ما ترون فقد قتل مسلم؟ فبادر ] (٣) بنو عقيل فقالوا : قتل صاحبنا ، وننصرف! إنّك والله لست كمثل مسلم ، ولو قد نظر الناس إليك ما عدلوا بك أحد ، وإنّا والله لا نرجع حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق الموت كما ذاق أخونا ، فنظر الحسين إلينا ، وقال : لا خير في

____________

١ ـ في المقتل : سليمان.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : والمراد بن إسماعيل ، وفي وقعة الطفّ : والمذري المشمعل.

٣ ـ من المقتل.

٢٣٩

الحياة بعد هؤلاء ، فعلمنا أنّه يسير لا محالة ، فقلنا : خار الله لك. (١)

وقيل : إنّ الخبر أتى الحسين بقتل مسلم في زُبالة (٢) ، فعرف بذلك جماعة ممّذن تبعه ، فتفرّق عنه أهل الأطماع والارتياب ، وبقي معه أهله وخيار أصحابه.

قال : وارتجّ الوضع لقتل مسلم وسالت الدموع كلّ مسيل. (٣)

ثمّ سار الحسين عليه‌السلام قاصداً لما دعاه الله إليه ، فلقيه الفرزدق ، فسلّم عليه ودنا منه وقبّل يده ، فقال له الحسين : من أين أقبلت؟

قال : من الكوفة.

قال : كيف خلّفت الناس (٤)؟

فقال الفرزدق : يا أبا عبد الله ، كيف تركن إله أهل الكوفة وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم وشيعته؟

فاستعبر الحسين عليه‌السلام باكياً ، ثمّ قال : رحم الله مسلماً ، فقد صار إلى روح الله وريحانه ، وجنّته (٥) ورضوانه ، قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ، ثمّ أنشأ يقول :

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة

فإنّ ثواب الله أعلى وأنبلُ

____________

١ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٢٨ ـ ٢٢٩. وانظر : وقعة الطفّ : ١٦٤.

٢ ـ زبالة : منزل معروف بطريق مكّة من الكوفة ، وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية ... بعد القاع من الكوفة وقبل الشقوق فيها حصن وجامع لبني غاضرة من بني أسد. « معجم البلدان : ٣/١٢٩ ».

٣ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٣٤.

٤ ـ في المقتل : أهل الكوفة.

٥ ـ في المقتل والملهوف : وتحيّته.

٢٤٠