تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

يناشده الله والفتنة ، وهو ساكت من وراء الحائط ، ثمّ قال له : افتح الباب عليك لعنة الله ، وسمعها جماعة فصاحوا : ابن مرجانة والله ، وفتح الباب ، وتفرّق الناس ، ونودي بالصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخرج ابن زياد وقام خطيباً وقال : إن أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم ، وأمرني بإنصاف المظلوم منكم ، وإطاء محرومكم ، والاحسان إلى سامعكم ، والشدّة على مريبكم ، وأنا متبع أمره ، ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحبكم ومطيعكم كالوالد البارّ ، وسيفي وسوطي على من ترك أمري.

وسمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد ومقالته ، فانتقل عن موضعه حتّى أتى دار هانىء بن عروة المذحجي (١) ، فدخل ، ثمّ أرسل إليه : إنّي أتيتك لتجيرني وتؤويني لأن ابن زياد قدم الكوفة ، فاتقيته على نفسي ، فخرج إليه هانىء ، وقال : لقد كلفتني شططاً ، ولولا دخولك [ داري ] (٢) لأحببت أن تنصرف عنّي ، غير أنّي أجد ذلك عاراً عليَّ أن يكون رجلاً أتاني مستجيراً فلا اُجيره ، انزل على بركة الله.

وجعل عبيد الله يسأل عن مسلم ولا يجد أحداً يرشده إليه ، وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم في دار هانىء ويبايعونه للحسين سرّاً ، ومسلم بن عقيل يكتب أسماءهم عنده ويأخذ عليهم العهود ألا ينكثوا ولا يغدروا حتّى بايعه أكثر من عشرين ألفاً ، وهم مسلم أن يثب بعبيدالله بن زياد فمنعه هانىء ، وقال : جعلت فداك ، لا تعجل فإنّ العجلة لا خير فيها.

____________

١ ـ في المقتل : المرادي.

٢ ـ من المقتل.

١٨١

ودعا عبيد الله مولىً له يقال له معقل ، وقال له : هذه ثلاثة آلاف (١) درهم خذها إليك والتمس مسلم بن عقيل حيث ما كان من الكوفة ، فإذا علمت (٢) موضعه فادخل عليه وأعلمه أنّك من الشيعة وعلى مذهبه ، وادفع إليه هذه الدراهم ، وقل : استعن بها على عدوّك ، فإنّك إذا دفعت إليه الدراهم وثق ولم يكتمك من أمره شيئاً ، ثمّ اغد عليَّ بالأخبار.

فأقبل معقل حتّى دخل المسجد الأعظم ، فنظر إلى رجل من الشيعة يقال له مسلم بن عوسجة ، فجلس إليه ، ثمّ قال : يا عبد الله ، أنا رجل من أهل الشام غير أنّي اُحبّ أهل هذا البيت ، ومعي ثلاثة آلاف درهم أحببت أن أدفعها إلى رجل بلغني انّه قدم إلى بلدكم هذا ليأخذ البيعة لابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن رأيت أن تدلّني عليه حتّى أدفع إليه المال الّذي معي واُبايعه ، وإن شئت فخذ بيعتي قبل أن تدخلني (٣) عليه.

قال : فظنّ مسلم أن القول على ما يقوله : فأخذ عليه الأيمان المغلّظة والعهود انّه ناصح ويكون عوناً لابن عقيل على ابن زياد ، وأعطاه معقل من العهود ما وثق به مسلم بن عوسجة.

وكان شريك بن عبد الله الأعور الهمداني قد نزل في دار هانىء (٤) ، وكان يرى رأي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وحكى معجزاته عليه‌السلام ، ثمّ مرض شريك في دار هانىء وعزم ابن زياد أن يصير إليه ، ودعا شريك مسلماً

__________________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : هذه ألف.

٢ ـ في المقتل : عرفت.

٣ ـ في المقتل : تدلني.

٤ ـ في « ح » : وكانت اُخت هانىء زوجة شريك قيل : منعته من قتل ...

١٨٢

بن عقيل ، وقال له : غداً يأتيني هذا الفاسق عائداً ، وإنّي اُشاغله بالكلام فاخرج عليه واقتله ، واجلس في قصر الامارة ، وإن أنا عشت فسأكفيك أمر البصرة ، ثمّ جاء ابن زياد حين أصبح عائداً شريك فجعل يسأله ، فهمَّ مسلم بن عقيل أن يخرج عليه فيقتله ، فمنعه هانىء عن الخروج ، وقال : في داري نسوة وصبية وإنّي لا آمن الحدثان ، وجعل شريك يقول :

ما الإنتظار بسلمى أن تحيّيها

حي سليمى وحي من يحيّيها

هل شربة عندها اسقى على ظمأ

وإن تلفت وكانت منيتي فيها (١)

فقال ابن زياد : ما يقول الشيخ؟

فقيل : إنّه مُبَرْسَمٌ (٢) ، فوقع في قلب ابن زياد أمر ، فركب من فوره ورجع إلى القصر ، وخرج مسلم بن عقيل إلى شريك من داخل البيت ، فقال : ما منعك من الخروج إلى الفاسق وقد أمرتك بقتله؟ فقال : [ منعنى من ذلك ] (٣) حديث سمعته من عمّي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : لا إيمان لمن قتل بالغدر مسلماً (٤) ، فلم اُحبّ أن أقتله به في منزل هذا الرجل.

فقال شريك : أمّا لو قتلته قتلت فاسقاً فاجراً منافقاً كافراً.

__________________

١ ـ البيت الثاني في المقتل هكذا :

ثمّ اسقنيها وإن تجلب عليّ ردى

فتلك أحلى من الدنيا وما فيها

وأمّا في « ح » فقد ورد هذان البيتان :

وإن تخشيت من سلمى مراقبة

فليس تأمن يوماً من دواهيها

لا تطمأن إلى سلمى وتأمنها

اخرج إليها بكأس الموت اسقيها

٢ ـ البرسام : علّة معروفة.

٣ ـ من المقتل.

٤ ـ في المقتل : الايمان قيد الفتك.

١٨٣

قال : فلم يلبث (١) شريك بعدها إلا ثلاثاً حتّى مات رحمه‌الله ، وكان من خيار الشيعة وعبّادها ، وكان يكتم الايمان تقيّة.

وخرج ابن زياد فصلى على شريك ورجع إلى القصر ، فلمّا كان من الغد أقبل معقل على مسلم بن عوسجة وقال : إنّك كنت وعدتني أن تدخلني على هذا الرجل لأدفع إليه هذا المال فما الّذي بدا لك؟

فقال : إنّا اشتغلنا بموت هذا الرجل وكان من خيار الشيعة.

فقال معقل : أو مسلم بن عقيل في دار هانىء؟

قال : نعم.

قال : قم بنا إليه حتّى أدفع إليه هذا المال ، فأخذ بيده وأدخله على مسلم ، فرحب به وأدناه ، وأخذ بيعته وأمر بقبض ما معه من المال ، وأقام معقل في دار هانىء بقيّة يومه حتّى أمسى ، ثمّ أتى ابن زياد فخبّره الخبر ، فبقي ابن زياد متعجباً لذلك ، ثمّ قال لمعقل : اختلف كلّ يوم إلى مسلم ولا تنقطع عنه فإنّك إن قطعته استراب وخرج من منزل هانىء فالقى في طلبه عناء.

ثمّ دعا ابن زياد محمد بن الأشعث لعنه الله وأسماء بن خارجة الفزاري وعمرو بن الحجّاج ، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانىء ، فقال ابن زياد : خبّروني ما الّذي يمنع هانىء من المصير إلينا؟

فقالوا أصلح الله الأمير ، إنّه مريض.

فقال ابن زياد : إنّه كان مريضاً غير أنّه برأ ، وجلس على باب داره ، فلا عليكم أن تصيروا إليه وتأمروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقّنا.

__________________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : قال : ثمّ فما لبث.

١٨٤

فقالوا : نفعل ذلك ، فبينا عبيد الله بن زياد مع هؤلاء القوم في المحاورة إذ دخل عليه رجل من أصحابه يقال له مالك بن يربوع التميمي ، فقال : أصلح الله الأمير ، إنّي كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً يريد البادية فأنكرته ، ثمّ إنّي لحقته وسألته عن حاله ، فذكر انّه من أهل المدينة ، ثمّ نزلت عن فرسي ففتشته ، فأصبت معه هذا الكتاب ، فأخذه ابن زياد ففضه فإذا فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الحسين بن علي.

أمّا بعد :

فإني اُخبرك انّه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل ، فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل ، فإن الناس كلّهم معك ، وليس لهم في يزيد هوىً.

فقال ابن زياد : أين هذا الرجل الّذي أصبت (١) معه الكتاب؟

قال : هو بالباب.

فقال : ائتوني به ، فلمّا وقف بين يديه ، قال : ما اسمك؟

قال : عبد الله بن يقطين (٢).

قال : من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال : دفعته إليّ امرأة لا أعرفها ، فضحك ابن زياد ، وقال : اختر أحد اثنتين : إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب ، أو القتل؟

__________________

١ ـ ارسل ـ خ ل ـ.

٢ ـ في المقتل : يقطر.

١٨٥

فقال : أمّا الكتاب فإنّي لا اخبرك ، وأمّا القتل فإنّي لا أكرهه لأني لا أعلم قتيلاً عند الله أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك.

قال : فأمر به ، فضربت عنقه رضي الله عنه.

ثمّ أقبل على محمد بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج وأسماء بن خارجة ، وقال : صيروا إلى هانىء فاسألوه أن يصير إلينا فإنّا نريد مناظرته ، فأتوا هانىء وهو جالس على باب داره ، فسلّموا عليه ، وقالوا : ما يمنعك من إتيان الأمير وقد ذكر غير مرّة؟

فقال : ما منعني من المصير إليه إلا العلّة.

فقالوا : صدقت ، ولكنّه بلغه انّك تقعد على باب دارك في كلّ عشيّة ، وقد استبطأك والابطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، ونحن نقسم عليك إلا ما ركبت معنا ، فدعا هانىء بثيابه فلبسها ، ثمّ ركب وسار مع القوم حتّى إذا صار بباب القصر كأنّ نفسه أحسّت بالشرّ فالتفت إلى حسّان بن أسماء ، فقال : يا ابن أخي ، إن نفسي تحدثني بالشر.

فقال حسّان : سبحان الله يا عمّ! ما أتخوف عليك فلا تحدّثنّ نفسك بشيء ، ثمّ دخل القوم على ابن زياد ، فلمّا نظر إليهم من بعيد التفت إلى شريح القاضي وكان في مجلسه ، فقال : « أتتك بخائن رجلاه » (١) ، وأنشد :

اريد حياته ويريد قتلي

خليلي من عذيري (٢) من مراد

فقال هانىء : وما ذاك ، أيّها الأمير؟

____________

١ ـ مثل جاهلي.

٢ ـ في المقتل : عذيري من خليل.

١٨٦

فقال : يا هانىء ، جئت بمسلم بن عقيل وجمعت له الرجال والسلاح في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليَّ؟

قال هانىء : ما فعلت.

فقال ابن زياد : بل فعلت ، ثمّ استدعى بمعقل حتّى وقف بين يديه ، فقال ابن زياد : أتعرف هذا؟

فنظر هانىء إلى معقل فعلم أنّه كان عيناً عليهم ، فقال هانىء : أصلح الله الأمير ، والله ما بعثت إلى مسلم ولا دعوته ، ولكنّه جاءنى مستجيراً فاستحييت من ردّه وأخذني من ذلك ذمام ، فأمّا إذ علمت فخل سبيلي حتّى أرجع إليه وآمره أن يخرج من داري ، واعطيك من العهود والمواثيق ما تثق به انّي أرجع إليك واضع يدي في يدك.

فقال ابن زياد : والله لا تفارقني أو تأتيني بمسلم.

فقال : إذاً والله لا آتيك به ، أنا آتيك بضيفي تقتله أيكون هذا في العرب؟!

فقال ابن زياد : والله لتأتينّي به.

فقال هانىء : والله لا آتيك به.

قال : فتقدم مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال : أصلح الله الأمير ، ائذن لي في كلامه.

فقال : كلّمه بما أحببت ولا تخرجه من القصر ، فأخذ مسلم بن عمرو بيد هانىء فنحّاه ناحية ، فقال : ويحك يا هانىء اُنشدك الله (١) ان تقتل نفسك

__________________

١ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.

١٨٧

وتدخل البلاء على عشيرتك بسبب مسلم ، يا هانىء سلمه إليه فإنّه لا يقدم عليه بالقتل ، واُخرى انّه ليس عليك من ذلك ملامة فإن ه سلطان.

فقال هانىء : بلى والله عليَّ من ذلك أعظم عار وأكبر (١) خزي إن اُسلّم جاري وضيفي ، ورسول ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا حيّ صحيح الساعدين (٢) كثير الأعوان والله لو لم أكن إلا وحدي لا ناصر لي لما سلمت أبداً ضيفي حتّى أموت دونه ، فردّه مسلم بن عمرو إلى ابن زياد وقال : أيّها الأمير ، إنّه أبى أن يسلم مسلماً او يقتل ، فغضب ابن زياد ، وقال : ائتيني به وإلا ضربت عنقك.

فقال : والله إذاً تكثر البارقة حول دارك.

فقال ابن زياد : أبالبارقة تخوفني؟ ثمّ أخذ قضيباً كان بيد يديه فضرب به وجه هانىء حتّى كسر أنفه وشج حاجبه.

قال : وضرب هانىء بيده إلى قائم سيف من سيف أصحاب عبيد الله فجاذبه الرجل ومنعه من السيف ، وصاح ابن زياد : خذوه ، فأخذوه وألقوه في بيت من بيوت القصر وأغلقوا عليه بابه.

قال : فوثب أسماء بن خارجة ، فقال : أيّها الأمير أمرتنا بالرجل أن نأتيك به ، فلمّا جئناك به هشمت وجهه وسيّلت دمه.

قال : وأنت هاهنا أيضاً ، فأمر به فضرب حتّى وقع لجنبه ، فجلس أسماء ابن خارجة ناحية من القصر وهو يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، إلى نفسي

__________________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : أكثر.

٢ ـ في المقتل : صحيح شديد الساعدين.

١٨٨

أنعاك يا هانىء.

قال : وبلغ ذلك الخبر إلى مذحج فركبوا بأجمعهم وعليهم عمرو بن الحجّاج فوقفوا بباب القصر ، ونادى عمرو : يا ابن زياد ، هذه فرسان مذحج لم نخلع طاعة ولا فارقنا جماعة ، فلم تقتل صاحبنا؟

فقال ابن زياد لشريح : ادخل على صاحبهم ، فانظر إليه ، ثمّ اخرج إليهم وأعلمهم أنّه لم يقتل.

قال شريح : فدخلت عليه ، فقال : ويحكم هلكت عشيرتي ، أين أهل الدين فينقذوني من يد عدوهم وابن عدوهم؟ [ ثمّ قال ] (١) والدماء تسيل على لحيته : يا شريح ، هذه أصوات عشيرتي أدخل منهم عشرة ليروني وينقذوني ، فلمّا خرجت تبعني حمير بن بكير وقد بعثه ابن زياد علي عيناً ، فلو لا مكانه لأخبرت القوم بخبره.

قال : فخرج شريح ، فقال : يا هؤلاء ، لا تعجلوا بالفتنة ، فإنّ صاحبكم لم يقتل ، فانصرف القوم.

ثمّ خرج ابن زياد حتّى دخل المسجد الأعظم ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت فنظر إلى أصحابه عن يمين المنبر وشماله في أيديهم الأعمدة والسيوف ، فقال : أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، اعتصموا بطاعة الله ورسوله وطاعة أئمتمكم ، ولا تختلفوا فتهلكوا وتندموا وتذلوا وتقهروا ، ولا يجعلنّ أحد على نفسه سبيلاً ، وقد أعذر من أنذر ، فما أتمّ الخطبة حسناً حتّى سمع الصيحة ، فقال : ما هذا؟

__________________

١ ـ من المقتل.

١٨٩

فقيل : أيّها الأمير ، الحذر الحذر ، فهذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من (١) بايعه ، فنزل عن المنبر مسرعاً وبادر حتّى دخل القصر وأغلق عليه الأبواب ، فأقبل مسلم بن عقيل ومعه ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون ، وبين يديه الأعلام والسلاح وهم مع ذلك يلعنون ابن زياد ويزيد وزياد ، وكان شعارهم : « يا منصور أمت ».

وكان مسلم قد عقد لعبد الله الكندي على كندة وقدمة أمام الخيل ، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج [ وأسد ] (٢) ، وعقد لأبي تمامة بن عمر الصائدي على تميم وهمدان ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة ، وأقبل مسلم يسير حتّى أحاط بالقصر وليس في القصر إلا نحواً من ثلاثين رجلاً من الشرط ، ومقدار عشرين من الأشراف ، وركب أصحاب ابن زياد واختلط القوم واقتتلوا قتالاً شديداً ، وابن زياد في جماعة من الأشراف قد وقفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس.

قال : وجعل رجل من أصحاب ابن زياد يقال له كثير بن شهاب ومحمد ابن الأشعث والقعقاع بن شور (٣) وشبث بن ربعي ينادون بأعلى أصواتهم من فوق القصر : ألا يا شيعة الحسين ، الله الله في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم ، فإنّ جنود الشام قد أقبلت ، وإن الأمير عبيد الله قد عاهد الله لئن أقمتم على حربكم ولم تنصرفوا من يومكم ليحر منكم العطاء ، وليفرقن مقاتليكم في مغازي أهل الشام ، وليأخذن البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب حتّى لا يبقي منكم بقيّة من

____________

١ ـ في المقتل : جمع ممّن.

٢ ـ من المقتل.

٣ ـ كذا في المقتل : وفي الأصل : الفقاع بن سويد.

١٩٠

أهل المعصية إلا أذاقها وبال أمرها.

فلمّا سمع الناس ذلك جعلوا يتسلّلون ويتخاذلون عن مسلم ، ويقول بعضهم لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة وغداً تأتينا جموع أهل الشام؟ ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم.

قال : وكانت المرأة تأتي أخاها وابنها وزوجها وأباها فتشرده من بين القوم وتقول : ما لنا وللدخول بين السلاطين ، فجعل القوم يتسلّلون والنهار يمضي ، فما غابت الشمس حتّى بقي مع مسلم عشرة من أصحابه ، واختلط الظلام فدخل مسلم المسجد الأعظم ليصلي المغرب فتفرّقت عنه العشرة ، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه ومضى في بعض الأزقّة وقد اُثخن بالجراح لا يدري أين يذهب ، حتّى صار إلى امرأة يقال لها طوعة ، وقد كانت قبل ذلك اُمّ ولد للأشعث بن قيس فتزوّجها رجل يقال له اُسيد الخضرمي ، فولدت له بلال بن اُسيد ، وكانت المرأة واقفه بباب دارها تنتظر ابنها ، فسلّم عليها مسلم ، فردت عليه.

فقال : يا أمة الله ، اسقيني ، فسقته ، فجلس على بابها.

فقالت : يا عبد الله ، ما شأنك ، ألست قد شربت؟

فقال : بلى ، ولكنّي ما لي في الكوفة من منزل ، وإنّي لغريب قد خذلني من كنت أثق به ، فهل لك في معروف تصطنعيه إليّ؟ فإنّي من أهل بيت شرف وكرم ، ومثلي من يكافىء بالاحسان.

فقالت : ومن أنت؟

فقال : يا هذه ، ذري عنك التفتيش وأدخليني منزلك فعسى الله أن

١٩١

يكافيك عنّا بالحسنى.

فقالت : يا عبد الله ، خبّرني باسمك ، فإنّي أكره أن تدخل منزلي من قبل معرفة خبرك ، وهذه الفتنة قائمة ، وهذا اللعين ابن زياد بالكوفة.

فقال لها : أنا مسلم بن عقيل.

فقالت المرأة : قم فادخل ، فأدخلته منزلها فجاءته بالمصباح ، وأتته بالطعام فأبى أن يأكل ، فلم يكن بأسرع من أن جاء ولدها ، فلمّا دخل رأى من أُمه أمراً منكراً من دخولها ذلك البيت وخروجها وهي تبكي.

فقال لها : يا اُماه ، ما قضيتك (١)؟

فقالت : يا بنيّ ، اقبل على شأنك ، فلمّا ألح عليها قالت : يا بنيّ ، إنّي اُخبرك بأمر فلا تفشيه ، هذا مسلم بن عقيل في ذلك البيت ، وكان من قضيته (٢) كذا وكذا ، فسكت الغلام ولم يقل شيئاً ثمّ أخذ مضجعه.

فلمّا أصبح ابن زياد نادى في الناس أن يجتمعوا ، ثمّ خرج من القصر فدخل المسجد وصعد المنبر ، وقال : أيّها الناس ، إنّ مسلم بن عقيل السفيه أتى هذه البلدة ، فأظهر الخلاف وشقّ العصا ، وقد برئت الذمة من رجل أصبناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، والمنزلة الرفيعة من أمير المؤمنين يزيد ، وله في كلّ يوم حاجة مقضية ، ثمّ نزل عن المنبر ودعا بالحصين بن نمير ، فقال : ثكلتك اُمّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة ان لم تضيّق على أهلها أو يهدوك إلى مسلم ، فوالله لئن خرج من الكوفة سالماً لتزهقنّ أنفسنا في طلبه ، فانطلق الآن

__________________

١ ـ في المقتل : ما قصتك؟

٢ ـ في المقتل : قصته.

١٩٢

فقد سلّطتك على دور الكوفة ، وسككها ، فانصب المراصد ، وجدّ (١) في الطلب حتّى تأتيني بهذا الرجل.

وأقبل محمد بن الأشعث حتّى دخل على ابن زياد ، فلمّا رآه رحّب به ، وأقبل ابن تلك المرأة الّتي مسلم في دارها إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فخبّره بمكان مسلم في دار طوعة ، ثمّ تنحّى.

فقال ابن زياد : ما الّذي سارك يا عبد الرحمن؟

فقال : أصلح الله الأمير ، البشارة الكبرى.

فقال : وما ذاك؟ فأخبره الخبر ، فسرّ عدوّ الله ، وقال : قم فائتني به ولك ما بذلت من الجائزة والحظّ الأوفر (٢) ، ثمّ أمر ابن زياد خليفته عمرو بن حريث لعنه الله أن يرسل مع محمد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه ، فركب محمد بن الأشعث حتّى وافى الدار.

وسمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال فعلم أنّه قد أتي ، فبادر مسرعاً إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وأفرغ عليه لامة حربة ، وتقلد بسيفه ، والقوم يرمون الدار بالحجارة ، ويلهبون النّار في أطراف (٣) القصب ، فتبسم مسلم ، ثمّ قال : يا نفس ، اخرجي إلى الموت الّذي ليس منه محيص ، ثمّ قال للمرأة : رحمك الله وجزاك خيراً ، اعلمي أنّي ما اُتيت إلا من قبل (٤) ابنك ، ولكن افتحي الباب ، ففتحت الباب ، وخرج مسلم في وجوه ا لقوم كالأسد المغضب

____________

١ ـ في المقتل : وخذ

٢ ـ في المقتل : الأوفى.

٣ ـ في المقتل : هواري.

٤ ـ في المقتل : أنّي ابتليت من قبل.

١٩٣

فجعل يضاربهم بسيفه حتّى قتل منهم جماعة كثيرة ، وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟

فأرسل [ إليه ] (١) ابن الأشعث : أيّها الأمير ، أتظنّ (٢) أنّك بعثتني إلى بقال من بقالي (٣) الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة؟ أو لا تعلم أيّها الأمير أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كف بطل همام ، من آل خير الأنام؟

فأرسل إليه ابن زياد أن أعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلا به. (٤)

فجعل محمد بن الأشعث يناديه : ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك لك الأمان ، ومسلم يقول : لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة ، ثمّ جعل يقاتلهم وهو يقول :

أقسمت لا اُقتل إلّا حرّاً

وإن رأيت الموت شيئاً نكرا

أكره أن اُخدع أو اُغرّا

أو يخلط البارد سخناً حرّا

كلُّ امرىءٍ يوماً سيلقى شرّا

أضربكم ولا أخاف ضراً (٥)

__________________

١ ـ من المقتل.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : انظر.

٣ ـ كذا في البحار ، وفي الأصل والمقتل : بقاقيل.

٤ ـ من قوله : « حتّى قتل منهم جماعة كثيرة » إلى هنا نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار : ٤٤/٣٥٤ عن كتابنا هذا ، وكذا في عوالم العلوم : ١٧/٢٠٣.

٥ ـ رويت هذه الأرجاز في المقتل هكذا :

أقسمت لا أقتل إلا حرّا

وإن رأيت الموت شيئاً مرّا

كل امرىء يوماً ملاق شرّا

رُد شعاع الشمس فاستقرّا

أضربكم ولا أخاف ضرّا

ضرب همام يستهين الدهرا

ويُخلط البارد سخنا مُرّا

ولا اُقيم للأمان قدرا

أخاف أن اُخدع أو اُغرّا

١٩٤

فناداه ابن الأشعث : ويحك يا ابن عقيل ، انّك لا تكدّ ولا تغرّ ، والقوم اليسوا بقاتليك ، فلا تقتل نفسك.

فلم يلتفت إليه وجعل يقاتل حتّى أثخن الجراح وضعف عن القتال ، فتكاثروا عليه من كلّ جانب ، وجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة ، فقال مسلم : ويلكم ما لكم ترموني بالحجارة كما يرمي الكفار وأنا من أهل بيت النبوّة الأبرار؟ ويلكم أمّا ترعون حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا حقّ ذرّيّته ، ثمّ حمل عليهم مع ضعفه فهزمهم وكسرهم في الدروب والسكك ، ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دار من تلك الدور ، ورجع القوم إليه ، فصاح بهم محمد بن الأشعث ، ذروه حتّى اكلمه ، فدنا منه وقال : ويحك يا مسلم لا تقتل نفسك أنت آمن ودمك في عنقي ، وأنت في ذمّتي.

فقال مسلم : يا ابن الأشعث ، أتظنّ أنّي أعطي بيدي يداً وأنا أقدر على القتال؟ لا والله لا كان ذلك ، ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه ، ثمّ رجع إلى موقعه فوقف وهو يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي فلم يجترىء أحد أن يسقيه ويدنو منه.

فأقبل ابن الأشعث على أصحابه ، وقال : والله إنّ هذا لهو العار والشنار. أن تجزعوا (١) من رجل واحد ، فحملوا عليه ، وحمل عليهم.

وقال ابن الأشعث : احملوا عليه بأجمعكم حملة رجل واحد ، فقصده رجل من أهل الكوفة يقال له بكير بن حمران ، فاختلفا بضربتين ضرب بكير ضربة على شفة مسلم العليا وضرب ضربة مسلم بن عقيل فبلغت الضربة إلى

__________________

١ ـ في المقتل : أتجزعون؟

١٩٥

جوفه فسقط قتيلاً فطعن من ورائه ، فسقط إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً ، ثمّ اُخذ فرسه وسلاحه ، وتقدّم رجل من بني سليم يقال له عبد الله بن العبّاس فأخذ عمامته ، فجعل يقول : اسقوني شربة.

فقال مسلم بن عمرو الباهلي : لا والله لا تذوق الماء أو تذوق الموت.

فقال له مسلم : ويلك ما أجفاك وأقسى قلبك ، أشهد عليك إن كنت من قريش فإنّك (١) ملصق ، وإن كنت من غير قريش فأنت دعي ، من أنت يا عدوّ الله؟

قال : أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته ، ونصح الامام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال له مسلم : لاُمّك الهبل يا ابن باهلة ، أنت أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم ، إذ آثرت طاعة آل أبي سفيان على آل رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال : ويحكم يا أهل الكوفة ، اسقوني شربة من ماء ، فأتاه غلام لعمرو ابن حريث المخزومي بقلّةٍ من ماء وقدح قوارير قصب القلة في القدح وناوله ، فأخذ مسلم القدح ، فلمّا أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً ، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم ، وسقطت ثناياه في القدح ، فامتنع من شرب الماء فأخذوه وحملوه على بغل ، فدمعت عيناه ، وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقال له عبيد الله بن العبّاس : من يطلب مثل الّذي طلبت لا يبكي.

فقال : والله إنّي لا أبكي على نفسي ، ولكن أبكي على أهلي المقبلين ـ أعني الحسين عليه‌السلام ـ ، ولمّا اركب البغل ونزع عنه السيف قال لمحمد

____________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فأنا.

١٩٦

ابن الأشعث : أتستطيع أن تبعث رجلاً عن لساني يبلّغ حسيناً فإنّي لا أراه إلا قد خرج إلى ما قبلكم هو وأهل بيته فيقول له : إنّ مسلم بن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي العدوّ يسار (١) به إلى القتل فارجع بأهلك ولا تغتر بأهل الكوفة فإنّهم أصحاب أبيك الّذين (٢) كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة قد كذّبوني فكذبتك (٣).

فقال ابن الأشعث : لأفعلن ، ومعنى قول مسلم : « كذبتك » : أن مسلم كان قد كتب إليه عليه‌السلام كتاباً ذكر فيه كثرة من بايعه ، فهو معنى قوله « كذّبوني فكذبتك » ، ثمّ اُتي به واُدخل على ابن زياد ، فلم يسلم ، فقيل له : سلم على الأمير.

فقال مسلم للقائل : اسكت لا اُمّ لك ، ما هو لي بأمير فاُسلّم عليه ، واخرى انّه ما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي ، فإن استبقاني فسيكثر سلامي عليه.

فقال ابن زياد : لا عليك سلّمت أم لا تسلّم ، إنّك مقتول.

فقال مسلم : إن قتلتني فقد قتل من هو شرّ منك من هو خير منّي.

ثمّ قال ابن زياد : يا شاقّ ، يا عاقّ ، خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألحقت الفتنة.

فقال مسلم : كذبت يا ابن زياد ، وإنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحها أنت وأبوك زياد علج من علوج ثقيف (٤) ، وأنا

__________________

١ ـ في المقتل : يذهبون.

٢ ـ في المقتل الّذي.

٣ ـ في المقتل : كذبوني ، فكتبت إليك ، وليس لمكذوب رأي.

٤ ـ في المقتل : زياد بن عبيد بن علاج من ثقيف.

١٩٧

أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ خلقه (١) ، فوالله ما خلعت ولا غيرت ، وإنّما أنا في طاعة إمامي الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن (٢) أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.

فقال له ابن زياد : يا فاسق ، ألم تكن تشرب الخمر في المدينة؟

فقال المسلم : أحقّ بشرب الخمر منّي من يقتل النفس الحرام ، ويقتل على العداوة والغضب والظن وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً.

فقال له ابن زياد : يا فاسق ، منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله.

فقال مسلم : ومن أهله ، يا ابن مرجانة؟

فقال : أهله يزيد.

فقال مسلم : الحمد لله ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم؟

فقال ابن زياد : أتظنّ أنّ لك من الأمر شيء؟

فقال : لا والله ما هو الظنّ ، ولكنّه اليقين.

فقال ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك [ شرّ قتلة ] (٣).

فقال مسلم : أمّا إنّك لا تدع سوء القتلة ، وقبيح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة (٤) ، والله لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربة من ماء

__________________

١ ـ في المقتل : بريّته.

٢ ـ في المقتل : فهو.

٣ ـ من المقتل.

٤ ـ في المقتل : الفعلة.

١٩٨

لطال عليك أن تراني في هذا القصر الملعون والملعون من بناه ، ولكن إن كنت عزمت على قتلي فأقم رجلاً من قريش اوصي إليه بما اُريد ، ثمّ نظر مسلم إلى عمر بن سعد ، وقال : إنّ بيني وبينك قرابة فاستمع منّي ، فامتنع عمر بن سعد.

فقال ابن زياد : ما يمنعك من الاستماع إلى ابن عمّك؟

فقام عمر إليه ، فقال : اُوصيك ونفسي بتقوى الله فإنّ تقوى الله منها درك كلّ خير ، وليّ إليك حاجة.

فقال عمر : قل ما أحببت.

فقال مسلم : حاجتي أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه وتقضي عنيّ ديني وقدره سبعمائة درهم استدنتها في مصركم ، وأن تستوهب جثّتي فتواريها إذا قتلني هذا الفاسق ، وأن تكتب إلى الحسين بن عليّ أن لا يقدم فينزل به ما نزل بي.

فقال عمر : أيّها الأمير ، إنّه يقول كذا وكذا.

فقال ابن زياد : أمّا [ ما ] (١) ذكرت من دَينك فإنّما هو مالك تقضي به دَينك ، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت ، وأمّا جسدك فإذا نحن قتلناك ـ والخيار في ذلك إلينا ـ فلسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك ، وأمّا الحسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده ، وإن أرادنا لم نكف عنه.

وفي رواية اُخرى : انّه قال : وأمّا الحسين فلا ولا كرامة ، ولكن اُريد ـ يا ابن عقيل ـ أن تخبرني لماذا (٢) جئت هذا البلد وأمرهم جيمع وكلمتهم واحدة

____________

١ ـ من المقتل.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : بماذا؟

١٩٩

فأردت أن تفرّق عليهم أمرهم وتحمل بعضهم على بعض؟

فقال مسلم : ليس لهذا أتيت ، ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وأنّ معاوية حمل فيهم غنيّهم (١) بغير رضا منهم ، وغلبهم على ثغورهم الّتي أفاء الله عليهم ، وأنّ عاملهم بتجبّر ويعمل أعمال كسرى وقيصر ، فأتينا لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب ، وكنّا أهل ذلك ولم تزل الخلافة لنا وإن قهرنا عليها ، رضيتم بذلك أم كرهتم ، لأنّكم أوّل من خرج على إمام الهدى وشقّ عصا المسلمين ، ولا نعلم لنا ولكم [ مثلاً ] (٢) إلاّ قول الله : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَموُا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (٣).

قال : فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين.

فقال مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله ، فنحن أهل بيت البلاء موكل بنا.

فقال ابن زياد : اصعدوا به إلى أعلى القصر واضربوا عنقه ، وأتبعو رأسه جسده.

فقال مسلم : أمّا والله يا ابن زياد ، لوكنت من قريش وكانت (٤) بيني وبينك رحم لما قتلتني ولكنّك ابن أبيك ، فازداد ابن زياد غيضاً (٥) ، ثمّ دعا برجل من أهل الشام كان مسلم قد ضربه على رأسه ضربة منكرة ، فقال له : خذ مسلم بن

__________________

١ ـ في المقتل : وأنّ معاوية حكم فيهم ظلماً.

٢ ـ من المقتل.

٣ ـ سورة الشعراء : ٢٢٧.

٤ ـ في المقتل : أو كان.

٥ ـ في المقتل : غضباً.

٢٠٠