تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وإذا قبّحنا باب تصويت اجتهاده وإنكار ما علم من الدين ضرورة بطلانه من استحلال حرب أمير المؤمنين ، وقتل ذرّيّته وشيعته ، فاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام أن يعتذروا ويحتجوا علينا باجتهاده ويقولوا : نحن ساقنا اجتهادنا إلى القول بصحة ما اعتقدناه من خلافكم ففعله عليه اللعنة والعذر له من أعظم حجّة لهم علينا فلا نمنع من سبّه ، ولا نقول بإيمانه إلا من حاله كحاله في الكفر والبغي ، وعداوة الحق وأهله.

وأقول : إنّ معاوية عليه اللعنة مع كفره ونفاقه كان يري أهل الشام والهمج الرعاع الصلاح واللين والتحلم والصفح عن المسيء منهم حتّى استمال قلوب الناس ، وصاروا يعدّونه من أكابر الصحابة ، ويسمونه « خال المؤمنين » ، و « كاتب الوحي » ، ويرون القتال معه جهاداً ، وكان الحسن والحسين صلوات الله عليهما إذا دخلا عليه أراهم من التعظيم والاجلال ما لا مزيد عليه مع كفره وبغضه لهما في الباطن.

وأمّا يزيد عليه اللعنة فإن حاله كانت في الظاهر بخلاف حاله ، لأنّه كان متهتكاً متظاهراً بالفجور وشرب الخمر والتماجن والتشبيب بالسناء واقتناء الكلاب والفهود وآلات اللهو ، وكان قد اتخذ قرداً وكلّف به وأخدمه رجالاً ، وسمّاه قيساً ، كان إذا ركب أركبه معه في موكبه والخدم مكتنفة به وعليه ثياب الديباج ، وكان إذا جلس للشرب أحضره معه في مجلسه ويسقي الحاضرين الخمر.

فمن كانت هذه حاله كيف يليق بأهل الصلاح والدين أن يقرّوا ببيعته ، أو يدخلوا تحت طاعة أولاد الأنبياء وشيعتهم؟ فلولا جهاد سيّدنا أبي عبد الله عليه‌السلام ، وبذله نفسه وولده في إظهار كفره ، وعدم الرضا بفعله ، وأمره بالمعروف ،

١٤١

ونهيه عن المنكر في متاجرته ، لفسد نظام الاسلام ، وارتدّ أكثر الناس على الأعقاب ، ولحصل فتق في الاسلام ليس له راتق ، فجزاه الله عن الاسلام وأهله أفضل الجزاء.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه :

ثمّ قال معاوية : وانظر ـ يا بنيّ ـ أهل الحجاز فإنّهم أصلك وفرعك ، فأكرم من قدم عليك ، ومن غاب عنك فلا تجفه ولا تعنفه.

وانظر أهل العراق فإنّهم لا يحبّونك أبداً ، ولا ينصحونك ، ولكن دارهم ما أمكنك ، وإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملاً فافعل ، فإن عزل عامل واحد أهون من سل مائة ألف سيف.

وانظر أهل الشام فإنّهم بطانتك وظهارتك ، وقد بلوت بهم وعرفت ثباتهم (١) ، وهم صبر عند اللقاء ، حماة في الوغى ، فإن رابك (٢) أمر من عدوّ يخرج عليك فانتصر بهم ، فإذا أصبت حاجتك فارددهم إلى بلادهم يكونوا [ بها ] (٣) لوقت حاجتك ، ثمّ اُغمي على معاوية ، فلم يفق بقيّة يومه من غشيته ، فلمّا أفاق قال : اوه اوه جاء الحق وزهق الباطل ، ثمّ قال : إنّي كنت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وهو يقلم أظفاره ، فأخذت القلامة ، وأخذت بشقص من شعره على الصفا ، فجعلتها في قارورة فهي عندي ، فاجعلوا الشعر والأظفار في فمي واُذني ، ثمّ صلّوا عليَّ وواروني في حفرتي (٤).

__________________

١ ـ في المقتل : نيّاتهم.

٢ ـ في المقتل : دار بك.

٣ ـ من المقتل.

٤ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/١٧٦ ـ ١٧٧.

١٤٢

فليت يا شعري كيف لم يستحي من الله ورسوله وقد بارز أهل بيته بالعداوة ونصب الغوائل لهم والوقيعة في أسفارهم وانسارهم (١) أجسادهم؟! ثمّ عقد الأمر عند موته وولاية عهده لابنه يزيد الّذي لا يوازيه كافر ، ولا يلحقه فاجر ، أكفر الخلق بالله ، وأبغضهم للحقّ وأهله ، وأشد الخلق تهتكاً مع خلعه جلباب الحياء ، وتظاهره بشرب الخمور ، وتعاطي الزنا والفجور ، وسفك الدماء المحرّمة ، وغصب الأموال المحترمة ، فعليه وعلى أبيه أشدّ العذاب وأعظم النكال ، والله لو واروه في حفرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يغن عنه ذلك من الله شيئاً ، كما لم يغن عن الأوّلين الّذين دفنا إلى جانبه صلى‌الله‌عليه‌وآله نزهه الله عنهما ونقلهما عنه ، ( وَقِيلَ لَهُمَا ادخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (٢) وهو يرجو مع قبيح فعله الشفاعة من النبيّ ، ويتبرّك بشعره وظفره ، والله يقول : ( وَلَا يَشفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارتَضَى ) (٣).

ثمّ انقطع كلام معاوية ولم ينطق بشيء ، وخرج يزيد على عادته في التهتك واللهو والصيد في يومه ذلك إلى نواحي حوران للنزهة والصيد وترك أباه بحاله ، وقال للضحاك بن قيس : انظر لا تخف عليَّ شيئاً من أمره ، وتوفّي معاوية من غد وليس يزيد حاضر ، فكان ملكه عليه اللعنة تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر ، ومات بدمشق يوم الأحد لأيّام خلت من شهر رجب سنة ستّين ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.

قال : فخرج الضحّاك من دار معاوية لا يكلّم أحداً والأكفان معه حتّى دخل المسجد الأعظم ونودي له في الناس ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ،

____________

١ ـ كذا في الأصل.

٢ ـ سورة التحريم : ١٠.

٣ ـ سورة الأنبياء : ٢٨.

١٤٣

ثمّ قال : إن أمير المؤمنين معاوية قد ذاق الموت ، وشرب بكأس الحتف ، وهذه أكفانه ، ونحن مدرجوه فيها ، ومدخلوه قبره ، ومخلون بينه وبين عمله ، فمن كان منكم يريد أن يشهد فليحضر بين الصلاتين ولا تقعدوا عن الصلاة عليه ، ثمّ نزل عن المنبر وكتب إلى يزيد :

[ بسم الله الرحمن الرحيم ] (١)

الحمد لله الّذي لبس ( رداء ) (٢) البقاء ، وكتب على عباده الفناء ، فقال سبحانه : ( كُلُّ مَن عَلَيهَا فَانٍ وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُوالجَلَالِ وَالإِكرَامِ ) (٣).

لعبد الله أمير المؤمنين يزيد من الضحّاك بن قيس.

أمّا بعد :

فكتابي (٤) إلى أمير المؤمنين كتاب تهنئة ومصيبة ، فأمّا التهنئة فبالخلافة الّتي جاءتك عفواً ، وأمّا المصيبة فبموت أمير المؤمنين معاوية ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فإذا قرأت كتابي هذا فالعجل العجل لتأخذ الناس بالبيعة ، بيعة اخرى مجددة.

قال : فلمّا ورد الكتاب على يزيد وقرأه وثب من ساعته صائحاً باكياً ، وأمر بإسراج دوابّه ، وسار يريد دمشق ، فصار إليها بعد ثلاث من موت معاوية ، وخرج [ الناس ] (٥) إلى استقباله ، فلم يبق أحد يطيق حمل السلاح إلا ركب

____________

١ و٢ و٥ ـ من المقتل.

٣ ـ سورة الرحمن : ٢٦ و٢٧.

٤ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فكتب.

١٤٤

[ وخرج ] (١) ، حتّى إذا وافى اللعين قريباً من دمشق وجعل الناس يتلقّونه فيبكون ويبكي معهم.

ثمّ نزل في قبّة خضراء لابنه وهو معتمّ بعمامة خزّ سوداء متقلّداً سيف أبيه ، فلمّا دخلها نظر فإذا قد فرش له فرش كثيرة بعضها على بعض ، ما يمكن لأحد أن يرقى عليها إلا بالكراسي ، فصعد حتّى جلس والناس يدخلون عليه يهنئونه بالخلافة ويعزونه بأبيه ، ويزيد يقول : نحن أهل الحقّ وأنصار الدين ، فأبشروا يا أهل الشام فإن الخير لم يزل فيكم وسيكون بيني (٢) وبين أهل العراق ملحمة ، وذلك انّي رأيت في المنام منذ ثلاث ليال كأنّ بيني وبين أهل العراق نهراً يطرد بالدم العبيط [ ويجري ] (٣) جرياً شديداً ، وجعلت أجتهد في منامي أن أجوزه فلم أقدر حتّى جاء عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

قال : فأجابه أهل الشام وقالوا : يا أمير المؤمنين ، امض بنا حيث شئت فنحن بين يديك ، وسيوفنا هي الّتي عرفها أهل العراق في صفّين.

فقال يزيد : أنتم لعمري كذلك ، ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّ معاوية كان عبداً من عباد الله أنعم الله عليه ، ثمّ قبضه إليه ، وهو خير ممّن بعده ، ودون من كان قبله ، ولا اُزكّيه على الله ، فهو أعلم به منّي ، فإن عفا عنه فبرحمته ، وإن عاقبه فبذنوبه ، ولقد ولّيت هذا الأمر من بعده ولست اُقصّر عن طلب حقّ ، ولا أعتذر من تفريط في باطل ، وإذا أراد الله شيئاً كان ، فصاح الناس من كلّ جانب : سمعنا وأطعنا ، يا أميرالمؤمنين.

قال : فبايع الناس بأجمعهم يزيد وابنه معاوية بن يزيد من بعده ، وفتح

____________

١ و ٣ ـ من المقتل.

٢ ـ في المقتل : بينكم.

١٤٥

بيوت الأموال وأخرج أموالاً جليلة (١) ففرّقها عليهم ، ثمّ عزم على إنفاذ الكتب إلى ( جميع ) (٢) البلاد بأخذ البيعة له ، وكان مروان بن الحكم والياً على المدينة فعزله وولى مكانه ابن عمّه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكتب إليه يقول :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة.

أمّا بعد :

فإن معاوية كان عبداً من عباد الله أكرمه فاستخلفه ومكّن له ، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه أو عقابه (٣) ، عاش بقدر ، ومات بأجل ، وقد كان عهد إليّ وأوصاني أن أحذر آل أبي تراب وجرأتهم على سفك الدماء ، وقد آن ـ يا وليد ـ أن ينتقم الله للمظلوم (٤) عثمان من آل أبي تراب بآل أبي سفيان ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة [ لي ] (٥) على جميع الخلق في المدينة.

قال : ثمّ كتب في رقعة صغيرة :

أمّا بعد :

فخذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة ، فمن أبى عليك فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه ، والسلام. (٦)

____________

١ ـ في المقتل : جزيلة.

٢ و ٥ ـ من المقتل.

٣ ـ في المقتل : إلى روحه وريحانه ورحمته وثوابه.

٤ ـ في المقتل : وقد علمت يا وليد أنّ الله تعالى منتقم للمظلوم.

٦ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/١٧٧ ـ ١٨٠.

١٤٦

وروي عن مكحول ، عن أبي عبيدة الجراح ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتّى يكون أوّل من يثلمه رجل من بني اُميّة [ يقال له يزيد ]. (١)

وبإسناد متّصل بأبي ذر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أوّل من يبدّل ديني رجل من بني اُميّة.

قال : ابن أعثم : فلمّا ورد الكتاب على الوليد بن عتبة قرأه واسترجع ، ثمّ قال : يا ويح الوليد بن عتبة من دخوله في هذه الامارة ، ما لي وللحسين؟ ثمّ بعث إلى مروان فدعاه وقرأ الكتاب عليه ، فاسترجع مروان ، ثمّ قال : رحم الله معاوية.

فقال الوليد : أشر عليَّ برأيك.

فقال مروان : أرى أن ترسل إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى الطاعة والدخول في بيعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم ، وإن أبوا قدمتهم وضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية ، فإنّهم إن علموا بموته وثب كلّ واحد منهم وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك منهم ما لا قبل لك به ، إلا عبد الله بن عمر فإنّي لا أراه ينازع ، فذره عنك ، وابعث إلى الحسين وعبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير فادعهم إلى البيعة ، مع أنّي أعلم أنّ الحسين خاصة لا يجيبك إلى بيعة يزيد أبداً ، ولا يرى له عليه طاعة ، والله إنّي لو كنت موضعك لم اراجع الحسين في كلمة واحدة حتّى أضرب عنقه ، فأطرق الوليد بن عتبة ، ثمّ رفع رأسه وقال : ليت الوليد بن عتبة لم يولد.

____________

١ ـ من المقتل.

١٤٧

قال : ثمّ دمعت عيناه ، فقال له عدوّ الله مروان : أيّها الامير ، لا تجزع بما ذكرت لك ، فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء في قديم الدهر ولم يزالوا ، وهم الّذين قتلوا عثمان ، ثمّ ساروا إلى معاوية فحاربوه ، فإنّي لست آمن ـ أيّها الأمير ـ إن أنت لم تعاجل الحسين خاصة أن تسقط منزلتك عند أمير المؤمنين يزيد.

فقال الوليد : مهلاً ـ يا مروان ـ اُقصّر من كلامك وأحسن القول في ابن فاطمة ، فإنّه بقيّة ولد النبيّين.

قال : ثمّ بعث الوليد بن عتبة إلى الحسين وعبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير فدعاهم ، وأقبل الرسول وهو عمرو بن عثمان ، فلم يصب القوم في منازلهم ، فمضى نحو المسجد فإذا القوم عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسلّم ، ثمّ قال : إنّ الأمير يدعوكم ، فصيروا إليه.

فقال الحسين : نفعل إن شاء الله إذا نحن فرغنا من مجلسنا ، فانصرف الرسول وأخبر الوليد بذلك ، واقبل عبد الله بن الزبير على الحسين ، فقال : يا أبا عبد الله ، إنّ هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس ، وإنّي قد أنكرت بعثته إلينا في مثل هذا الوقت ، فترى لما بعث إلينا (١)؟

فقال الحسين عليه‌السلام : اخبرك إنّي أظنّ أنّ معاوية هلك ، وذلك انّي رأيت البارحة في منامي كأنّ منبر معاوية منكوس ، ورأيت النّار تشتعل في داره ، فتأوّلت ذلك في نفسي بأنّه قد مات.

قال ابن الزبير : فاعمل على ذلك بأنّه كذلك ، فما ترى أن تصنع إذا دعيت إلى بيعة يزيد؟

____________

١ ـ في المقتل : أنكرت بعثه ... أفترى لماذا بعث إلينا؟

١٤٨

فقال الحسين عليه‌السلام : لا اُبايع أبداً ، لأنّ الأمر إنّما كان لي بعد أخي الحسن فصنع معاوية ما صنع ، وحلف لأخي الحسن انّه لا يجعل الخلافة لأحد من بعده من ولده ، وأن يردّها عليَّ إن كنت حيّاً ، فإن كان معاوية قد خرج من دنياه ولم يف لي ولا لأخي فوالله لقد جاءنا مالا قوام (١) لنا به ، أتظنّ أنّي اُبايع يزيد ، ويزيد رجل فاسق معلن بالفسق ، وشرب الخمر ، واللعب بالكلاب والفهود ، ونحن بقيّة آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ والله لا يكون ذلك أبداً ، فبينما هما في المحاورة إذ رجع الرسول وقال للحسين : أبا عبد الله ، إنّ الأمير قاعد لكما خاصة فقوما إليه ، فزبره الحسين وقال : انطلق إلى أميرك لا اُمّ لك أنا صائر إليه الساعة إن شاء الله ولا قوّة إلا بالله.

قال : فرجع الرسول إلى الوليد فأخبره بذلك ، وقال : إنّ الحسين قد أجاب وهو صائر إليك هذه الساعة في أثري.

فقال مروان : غدر والله الحسين.

فقال الوليد : مهلاً ليس مثل الحسين يغدر ، ولا يقول ما لا يفعل ، ثمّ أقبل الحسين على الجماعة وقال : قوموا (٢) إلى منازلكم فإنّي صائر إليه فأنظر ما عنده.

فقال له ابن الزبير : إنّي أخشى (٣) عليك أن يحبسوك عندهم ولا يفارقونك أبداً حتّى تبايع أو تقتل.

فقال : لست أدخل عليه وحدي ، ولكن أجمع أصحابي وخدمي

__________________

١ ـ في المقتل : قرار.

٢ ـ في المقتل : صيروا.

٣ ـ في المقتل : خائف.

١٤٩

وأنصاري وأهل الحقّ من شيعتي ، وآمر كلّ واحد منهم أن يأخذ سيفه مسلولاً تحت ثيابه ، ثمّ يصيروا بإزائي ، فإذا أنا أومأت إليهم وقلت : [ يا آل الرسول ، ادخلوا ] دخلوا وفعلوا ما أمرتهم به ، ولا اُعطي القياد من نفسي ، فقد علمت والله أنّه قد أتى من الأمر ما لا قوام له ، ولكن قدر الله ماضٍ ، وهو الّذي يفعل في أهل البيت ما يشاء ويرضى.

ثمّ وثب الحسين فصار إلى منزله ، ثمّ دعا بماء فاغتسل ، ولبس ثيابه ، وصلّى ركعتين ، فلمّا انفتل من صلاته أرسل إلى فتيانه ومواليه وأهل بيته فأعلمهم شأنه ، ثمّ قال : كونوا بباب هذا الرجل ، فإذا سمعتم صوتي وكلامي وصحت : [ يا آل الرسول ] فاقتحموا بغير إذن ، ثمّ أشهروا السيف (١) ولا تعجلوا ، فإن رأيتم ما لا تحبّون فضعوا سيوفكم فيهم واقتلوا من يريد قتلي.

قال : ثمّ خرج الحسين من منزله ، وفي يده قضيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو في ثلاثين رجلاً من مواليه وشيعته حتّى أوقفهم على باب الوليد ، ثمّ قال : انظروا ما اُوصيكم (٢) به فلا تعدوه وأنا أرجو أن أخرج إليكم سالماً ، ثمّ دخل الحسين عليه‌السلام على الوليد وسلم ، وقال : كيف أصبح الأمير؟

قال : فردّ عليه الوليد ردّاً حسناً ، ثمّ أدناه وقرّبه ، وكان مروان حاضراً في مجلس الوليد ، وكان بيد الوليد ومروان قبل ذلك منازعة ، فلمّا نظر الحسين إلى مروان جالساً في مجلس الوليد ، قال : أصلح الله الأمير الصلح (٣) خير من

____________

١ ـ في المقتل : السيوف.

٢ ـ في المقتل : ما أوصيتكم.

٣ ـ في المقتل : الصلاح.

١٥٠

الفساد ، وقد آن لكما أن تجتمعا ، الحمد لله الّذي أصلح ذات بينكم.

قال : فلم يجيباه بشيء في هذا ، فقال الحسين عليه‌السلام : هل ورد عليكم خبر من معاوية؟ فإنّه قد كان عليلاً وقد طالت علته ، فكيف هو الآن؟

قال : فتأوّه الوليد ، ثمّ قال : يا أبا عبد الله ، آجرك الله (١) في معاوية ، فقد كان لك عمّ صدق ، ووالي عدل ، فقد ذاق الموت ، وهذا كتاب أمير المؤمنين يزيد.

فقال الحسين عليه‌السلام : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وعظم الله لكما الأجر ، ولكن لماذا دعوتني؟

فقال : دعوتك للبيعة الّتي قد اجتمع عليها الناس.

قال : فقال الحسين عليه‌السلام : إنّ مثلي لا يعطي بيعته سرّاً ، وإنّما يجب أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة ، ولكن غداً إذا دعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم ، فيكون أمراً واحداً.

فقال له الوليد : لقد قلت فأحسنت القول وكذا كان ظنّي فيك ، فانصرف راشداً حتّى تأتينا غدا مع الناس.

قال : فقام مروان ، وقال : إنّه إن فارقك الساعة ولم يبايع فإنّك لا تقدر عليه بعدها أبداً حتّى تكثر القتلى بينك وبينه ، فاحتبسه عندك ولا تدعه يخرج أو يبايع وإلا فاضرب عنقه.

قال : فالتفت الحسين إليه ، وقال : ويلي عليك ياابن الزرقاء ، أتأمره بضرب عنقي؟ كذبت والله ولؤمت ، والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت

__________________

١ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.

١٥١

الأرض من دمه ، فإن شئت ذلك فقم أنت فاضرب (١) عنقي إن كنت صادقاً.

قال : ثمّ أقبل الحسين على الوليد وقال : أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، وبنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب خمر ، قاتل النفس ، معلق بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة.

قال : فسمع من بالباب صوت الحسين فهمّوا أن يقتحموا الدار بالسيوف ، وخرج إليهم الحسين عليه‌السلام فأمرهم بالانصراف ، وأقبل الحسين إلى منزله ، فقال مروان للوليد : عصيتني حتّى أفلت الحسين من يدك ، أمّا والله لا تقدر منه على مثلها ، والله ليخرجنّ عليك وعلى يزيد.

فقال الوليد : ويحك يا مروان ، أشرت عليَّ بقتل الحسين ، وفي قتله ذهاب ديني ودنياي ، والله ما اُحبّ (٢) أن أملك الدنيا بأسرها وانّي قتلت الحسين ، ما أظنّ أحداً يلقى الله يوم القيامة بدم الحسين إلا وهو خفيف الميزان عندالله ، لا ينظر إليه ، ولا يزكّيه ، وله عذاب أليم.

قال : وخرج الحسين عليه‌السلام من منزله يسمع الأخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ، فقال : يا أبا عبد الله ، إنّي لك ناصح فأطعني ترشد وتسدّد.

فقال الحسين عليه‌السلام : وما ذاك؟

قال : إنّي آمرك ببيعة يزيد فإنّه خير لك في دينك ودنياك.

____________

١ ـ في المقتل : فرم أنت ضرب.

٢ ـ في المقتل : والله إنّي لا احب.

١٥٢

قال : فاسترجع الحسين عليه‌السلام وقال : على الاسلام العفا إذ قد بليت الاُمّة براع مثل يزيد ، ثمّ أقبل الحسين على مروان ، وقال : ويحك تأمرني ببيعة يزيد ، ويزيد رجل فاسق ، لقد قلت شططاً ، لا ألومك على قولك لأنّك اللعين الّذي لعنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنت في صلب أبيك الحكم بن ابي العاص ، ومن لعنه رسول الله فإنّه لا ينكر منه أن يدعو إلى بيعة يزيد ، ثمّ قال : إليك عنّي يا عدوّ الله فإنّا أهل بيت رسول الله على الحقّ والحقّ فينا ، وقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه (١) ، فوالله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يفعلوا ما امرهم به فابتلاهم الله بابنه يزيد.

قال : فغضب مروان ، ثمّ قال : والله لا تفارقني أو تبايع ليزيد صاغراً ، فإنكم آل أبي تراب قد ملئتم كلاماً واشربتم بغض آل أبي سفيان ، وحقيق عليهم أن يبغضوكم.

فقال الحسين عليه‌السلام : ويلك إليك عنّي ، فإنّك رجس وإنّا أهل بيت

__________________

١ ـ السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل : ١٥١ ح ٨١٤ ، مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لمحمد بن سليمان الكوفي : ٢/٣٠٠ ح ٧٧٥ وص ٣٠٥ ح ٧٧٩ وص ٧٨٠ وص٣١٨ ح ٧٩٠ ، أنساب الأشراف : ١/١٢٨ ح ٣٦٩ وص ١٢٨ ـ ١٢٩ ح ٣٧١ ، تاريخ الطبري : ١٠ / ٥٨ ، الكامل لابن عديّ : ٣/١٢٥٥ ، وج ٥/١٨٤٤ وص١٩٥١ ، وج ٦/٢١٢٥ وص٢٤١٦ ، وج ٧/٢٥٤٤ ، معاني الأخبار : ٣٤٦ ح ١ ، تاريخ بغداد : ١٢/١٨١ ، شرح نهج البلاغة : ١٥/١٧٦ ، الملاحم والفتن : ١١١ وص ١٦٨ ـ ١٦٩ ب ١٩ ، ميزان الاعتدال : ٢/٦١٣ ، الاصول الستة عشر ، كتاب عبّاد العصفري : ١٩ ، وقعة صفّين : ٢١٦ وص٢٢١ ، سير أعلام النبلاء : ٣/١٤٩ ، البداية والنهاية : ٨/١٣٣ ، المطالب العالية : ٤/٣١٣ ح ٤٤٩٩.

١٥٣

الطهارة الّذي أنزل الله فينا : ( إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ) (١) فنكس مروان رأسه ، فقال له الحسين : أبشر يا ابن الزرقاء بكل ما تكره من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم تقدّم على جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسألك عن حقي وحق يزيد.

قال : فمضى مروان مغضباً حتّى دخل على الوليد فخبّره بما كان من مقالة الحسين عليه‌السلام ، وكان ابن الزبير قد خرج ليلاً قاصداً مكّة حين اشتغلوا بالحسين ، فبعث الوليد بن عتبة في طلبه فلم يقدروا عليه وفاتهم ، فكتب الوليد إلى يزيد يخبره الخبر بما كان من ابن الزبير ، ثمّ ذكر له بعد ذلك أمر الحسين ، فلمّا ورد الكتاب على يزيد وقرأه غضب غضباً شديداً ، وكان إذا غضب انقلبت عيناه فصار أحول ، فكتب إلى الوليد بن عتبة :

من عبد الله أمير المؤمنين يزيد إلى الوليد بن عتبة.

أمّا بعد :

فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانياً على أهل المدينة وذر عبد الله ابن الزبير فإنّه لا يفوتنا ، وليكن مع جواب كتابي رأس الحسين ، فإن فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنّة الخيل ، ولك عندي الجائزة العظمى والحظّ الأوفر ، والسلام.

فلمّا ورد الكتاب على الوليد وقرأه عظم ذلك عليه ، ثمّ قال : لا والله لا يراني الله بقتل ابن نبيّه (٢) ولو جعل يزيد لي الدنيا بما فيها.

قال : وخرج الحسين عليه‌السلام من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة

____________

١ ـ سورة الأحزاب : ٣٣.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : بنته.

١٥٤

فرخك وابن فرختك ، وسبطك الّذي خلّفتني في اُمّتك ، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنهم قد خذلوني ، وضيّعوني ، ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك.

قال : ثمّ قام فصفّ قدميه فلم يزل راكعاً ساجداً. قال : وأرسل الوليد إلى منزل الحسين عليه‌السلام لينظر أخرج من المدينة أم لا ، فلم يصبه في منزله ، فقال : الحمد لله الّذي (١) خرج ولم يبتلني الله (٢) بدمه.

قال : ورجع الحسين إلى منزله عند الصبح.

قال : فلمّا كانت الليلة الثانية (٣) خرج إلى القبر أيضاً وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول : اللّهمّ هذا قبر نبيّك محمد ، وأنا ابن بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت.

اللّهمّ إنّي اُحبّ المعروف ، واُنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والاكرام بحقّ هذا (٤) القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضى ، ولرسولك رضى.

قال : ثمّ جعل يبكي عند القبر حتّى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتّى ضمّ الحسين إلى صدره وقبّل بين عينيه وقال : حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرملاً بدمائك ، مذبوحاً

__________________

١ ـ في المقتل : إذ.

٢ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.

٣ ـ في المقتل : الثالثة.

٤ ـ من المقتل.

١٥٥

بأرض كربلاء ، بين (١) عصابة من اُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة.

حبيبي يا حسين ، إنّ أباك واُمّك وأخاك قدموا عليَّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة.

قال : فجعل الحسين عليه‌السلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول : يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى ترزق الشهادة ، وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم ، فإنّك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنة.

قال : فانتبه الحسين عليه‌السلام من نومه فزعاً مرعوباً فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدّ غماً من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أكثر باك ولا باكية منهم.

قال : وتهيّأ الحسين صلوات الله عليه للخروج من المدينة ومضى في جوف الليل إلى قبر اُمّه عليها‌السلام فودّعها ، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن عليه‌السلام ففعل كذلك ، ثمّ رجع إلى منزله وقت الصبح ، فأقبل إليه أخوه محمد إبن الحنفيّة وقال : يا أخي أنت أحبّ الخلق إليّ وأعزّهم عليَّ ، ولست والله أدّخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحقّ بها منك لأنّك مزاج مائي

____________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل والبحار : من.

١٥٦

ونفسي وروحي وبصري ، وكبير أهل بيتي ، ومن وجبت طاعته في عنقي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد شرّفك عليَّ وجعلك من سادات أهل الجنّة ، واريد أن اُشير عليك فاقبل منّي.

فقال الحسين عليه‌السلام : يا أخي ، قل ما بدا لك.

فقال : اُشير عليك أن تتنحّى عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت ، وتبعث رسلك إلى الناس تدعوهم إلى بيعتك ، فإن بايعك الناس حمدت الله على ذلك وقمت فيهم بما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم به فيهم حتّى يتوفّاك الله (١) وهو عنك راض ، والمؤمنون عنك راضون كما رضوا عن أبيك وأخيك ، وإن اجتمع الناس على غيرك حمدت الله على ذلك وسكتّ ولزمت منزلك (٢) فإنّي خائف عليك أن تدخل مصراً من الأمصار ، أو تأتي جماعة من الناس فيقتتلون فتكون طائفة منهم معك وطائفة عليك فتقتل بينهم.

فقال الحسين عليه‌السلام : فإلى أين أذهب؟

قال : تخرج إلى مكّة ، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك ، وإن تكن الاُخرى خرجت إلى بلاد اليمن ، فإنّهم أنصار جدّك وأبيك ، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً (٣) ، وأوسع الناس بلاداً ، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك (٤) وإلا لحقت بالرمال ، وشعوب الجبال ، وجزت (٥ ) من بلد إلى بلد ، حتّى تنظر ما يؤل إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

__________________

١ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : حمدت الله على ذلك ، وتسكت منزلك.

٣ ـ في المقتل : وهم أرأف وأرقّ قلوباً.

٤ ـ من المقتل.

٥ ـ في المقتل : وصرت.

١٥٧

قال : فقال الحسين عليه‌السلام : يا أخي ، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقد قال جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللّهمّ لا تبارك في يزيد.

قال سيّدنا ومولانا علم العترة الطاهرة ، ومصباح الاسرة الفاخرة ، السيد عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس رضي‌الله‌عنه وأرضاه في كتابه الّذي ذكر فيه ما تمّ على الامام السعيد أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : ولعلّ [ بعض ] (١) من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة معتقداً (٢) أنّ الله سبحانه لا يتعبّد بمثل هذا الحال (٣) ، أمّا سمع في القرآن الصادق المقال أنّه سبحانه تعبّد قوماً بقتل أنفسهم ، فقال تعالى : ( فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُم فَاقتُلُوا أنفُسَكُم ذلِكُم خَيرٌ لَكُم عِندَ بَارِئِكُم ) (٤)؟

ولعله يعتقد [ أن معنى ] (٥) قوله سبحانه : ( وَلَا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إلَى التََّهلُكَةِ ) (٦) أنّه هو القتل ، وليس الأمر كذلك ، وإنّما التعبد به من أعظم (٧) درجات السعادة والفضل.

وقد ذكر صاحب المقتل المرويّ عن الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية ما يليق بالعقل :

فروى عن أسلم قال : غزونا نهاوند ـ أو قال غيرها ـ فاصطففنا والعدوّ

__________________

١ و ٥ ـ من الملهوف.

٢ ـ في الملهوف : يعتقد.

٣ ـ في الملهوف : هذه الحالة.

٤ ـ سورة البقرة : ٥٤.

٦ ـ سورة البقرة : ١٩٥.

٧ ـ في الملهوف : أبلغ.

١٥٨

صفّين لم أرَ أطول منهما ولا أعرض ، والروم قد ألصقوا ظهورهم بحائط مدينتهم ، فحمل رجل منّا على العدوّ ، فقال الناس : لا إله إلا الله ألقى هذا بنفسه إلى التهلكة.

فقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه : إنّما تؤولون (١) هذه الآية على أنّه حمل هذا الرجل يلتمس الشهادة ، وليس كذلك ، إنّما اُنزلت فينا ، لأنّا كنّا (٢) قد اشتغلنا بنصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركنا أهالينا وأموالنا لأن نقيم فيها ونصلح ما فسد منها ، فقد ضاعت بتشاغلنا عنها ، فأنزل الله سبحانه إنكاراً علينا لما وقع (٣) في نفوسنا من التخلف عن [ نصرة ] (٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لإصلاح أموالنا ( وَلَا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إلَى التََّهلُكَةِ ) ، معناه : إن تخلفتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التَّهلكة ، وسخط الله عليكم فهلكتم ، وذلك ردّ علينا فيما قلنا وعزمنا عليه من الاقامة ، وتحريض لنا على الغزو ، وما نزلت هذه الآية في رجل حمل على العدوّ يحرّض أصحابه على أن يفعلوا كفعله ويطلب الشهادة بالجهاد في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة. (٥)

قلت : وهذا معنى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ برٍّ فوقه برّ حتّى يخرج الرجل شاهراً سيفه في سبيل الله فيقتل فليس فوقه برّ. (٦)

__________________

١ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : تتلون.

٢ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : قلنا.

٣ ـ في الملهوف : فأنزل الله إنكال لما وقع.

٤ ـ من الملهوف.

٥ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٠٠.

٦ ـ أخرجه في الوسائل : ١١/١٠ ح ٢٥ عن التهذيب : ٦/١٢٢ ح ٢٠٩ ، والخصال :

١٥٩

ثمّ نرجع إلى تمام الحديث :

قال : قطع محمد بن الحنفيّة الكلام وبكى ، فبكى [ معه ] (١) الحسين عليه‌السلام ساعة ، ثمّ قال : يا أخي ، جزاك الله خيراً فقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة ، وقد تهيّأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ممّن أمرهم (٢) أمري ورأيهم رأيي ، وأمّا أنت يا أخي فما عليك أن تقيم بالمدينة ، فتكون لي عيناً عليهم لا تخف عنّي شيئاً من امورهم.

ثمّ دعا الحسين عليه‌السلام بدواة وبياض وكتب هذه الوصيّة لأخيه محمد رضي الله عنه :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفيّة ، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمّداً عبده ورسوله ، جاء بالحقّ من عند الحقّ ، وأن الجنّة والنار حقّ ، وأن الساعة أتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في اُمّة جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومن ردّ علي هذا أصبر (٣) حتّى يقضي الله بيني وبين القوم

____________

٩ ح ٣١ ، والكافي : ٥/٥٣ ح ٢.

١ ـ من المقتل والبحار.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل والبحار : وشيعتي وأمرهم.

٣ ـ في المقتل : صبرت.

١٦٠