تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

أجسادهم بعروض الموت قطعها

من الصوارم في الهيجاء تفاعيلُ

لها ثرى كربلاء مغنى وللملأ الـ

أعلى لدى تربها حمداً وتهليلُ

في الله مذ بذلوا الأرواح قيل لهم

في جنّة طاب مثواها لكم قيلُ

معارج العالم العلويّ منزلهم

له عليه بأمر الله تنزيلُ

يا من مصابهم أوهى قواي فما

للحزن عن قلبي المكروب تحويلُ

قضيّة الصبر في أحشائي مهملة

والكرب والغم موضوع ومحمولُ

لهفي لنسوتكم عنفاً تساق على

كور المطي لها بالسير تعجيلُ

وفي الرماح بدور من وجوهكم

لها بشمس الضحى بالحسن تمثيلُ

يا اُمّة قتلت آل الرسول وفي

عفو الإله لها بالظن تأميلُ

ضلّت مساعيكم خابت ظنونكم

فما لكم غير خزي الله محصولُ

٣٤١

قد هيّئت لكم في الحشر أربعة

نارٌ وعارٌ وأغلالٌ وتنكيلُ

يعوذ أهل لظى منكم ويلعنكم

أهل الضلال وفرعون وقابيلُ

قتلتم عترة خير الأنام لهم

جدُّ وسادسهم في العدِّ جبريلُ

ومن بفضلهم في الذكر قد شهدت

من غافر الذنب في القرآن تنزيلُ

ومن لهم بفؤادي منزل رحب

بخالص الودّ معمور ومأهولُ

يا عاذلي لا تلمني إن بكيت دماً

لما عراهم فما ذو الحزن معذولُ

من سفح عيني في سفح الطفوف جرى

عقيق دمع بكفّ الوجد معمول

ويا معاشر لوّامي على جزعي

لما أصابهم ما شئتم قولوا

اسناد وجدي صحيح لا خلاف به

لكن أحاديث سلواني مراسيلُ

دعواي صدق ولاءهم لا يدنّسه

شكّ بوسوسة الشيطان مغلولُ

٣٤٢

لمرسل الدمع من عيني معجزة

فيها دليل على صدق ومدلولُ

صرفت نحوهم من منطقي درراً

بيانها من معاني الحبّ منقولُ

إذا تلاها وليّ طاب مولده

له فؤاد على الاخلاص مجبولُ

بهذه طرباً موصول نعمتها

ومن بلاغتها وصل وتذييلُ

يا سادتي يا بني طه الهداة ومن

بحبّهم عملي في الحشر مقبولُ

ومن إذا خابت الآمال كان بهم

لي في المعاد إذا حوسبت مأمولُ

كم شانىء صدّه الله العليّ بكم

عنّي فردّ بغيض وهو مخذولُ

يصدّ عنّي بوجه كالح وله

طرفٌ بمرود ما يجفيه مكحولُ

رام انتقاصي برأي قائل فلذا

ك الحدّ منه بعون الله مغلولُ

إذا تصوّرت ما ابداه من حمق

فيه لقلبي تخويف وتهويلُ

٣٤٣

جعلتكم جُنّتي من ينل فتنته

فتنثني وهو بالتوبيخ مرذولُ

يا من هم عصمتي في النائبات ومَن

أمري إليهم مدى الأيّام موكولُ

لا تطردوني عن أبواب جودكم

فأنتم غايتي والقصد والسؤلُ

حسّاد رائق شعري في مديحكم

إليَّ ترمق منهم أعين حُولُ

مددت كفّ سؤالي نحو سيبكم

إذ ليس لي غيركم في الناس مسؤولُ

سجّل دعواي في صدق الولاء له

من حاكم العقل أبيات وتسجيلُ

ولي شهود على إثبات معتقدي

لها من الله بالتصديق تعذيلُ

لدر فائق نظمي في محبّتكم

بالدر من ناقد الألفاظ تعديلُ

منّي عليكم سلام ليس يحصره

من طالب عده جد ولا قيلُ

ما لاح صبح به للناظرين هدى

أو فاح روض بماء المزن مبلولُ

٣٤٤

المجلس الثامن

في الأحوال الّتي جرت بعد قتل الحسين عليه‌السلام

من سبي ذراريه ونسائه ، وحملهم إلى اللعين

ابن مرجانة لعنه الله ، ثمّ منه إلى يزيد بن معاوية عليهما

لعنة الله والملائكة والناس أجمعين

الخطبة :

الحمد لله الّذي أشرقت بنور عناية قلوب العارفين ، وتعلّقت بأذيال رحمته أرواح السالكين ، وغرقت في بحار ربوبيّته عقول العالمين ، واحترقت بشعاع سحاب بهجته أفئدة العالمين ، وأطلعت على أسرار حكمته نفوس المخلصين ، وتاهت في بيداء إلهيّته أفكار الطالبين ، فانقلبت أبصار بصائرهم حيرة عن إدراك كمال عظمته ، ورجعت أنفسهم خاسئة عن تصوّر جلال عزّته ، وقعد بهم جدّهم عن الوصول إلى كعبة عرفانه ، وطال عهدهم في طلب المحجوب من أسرار عظيم شأنه ، فعلموا أنّ جلاله جلّ عن الاحاطة بفكر وضمير ، ومجده عزّ عن الشبيه والنظير ، فعزفت أنفسهم عن مشاركة اُولي الأنفس الناقصة لكمالها وتمامها ، وعرجت إلى الرفيق الأعلى بأقدام عزمها وإقدامها ، وشربت من عين الحياة الباقية الّتي لا انقطاع لمعينها ، وطلبت درجة السعادة العالية الّتي لا انقضاء لنعيمها ، فأطلعها مبدعها على أسرار ملكوته ،

٣٤٥

ونفعها صانعها بحلل عرفان صفات جبروته ، فأشرقت أنوار توفيقه على مرايا أفئدتها ، فانطبع مثال العالم العلويّ والسفليّ في ألواح معرفتها.

ولمّا أفرغ سبحانه حلل العناية على أعطافها ، ومنحها من كنوز العصمة ذخائر ألطافها ، أنزلها إلى عالم الفناء لاستنقاذ عباده من ورطة جهالتهم ، وتخليص أنامه من لجّة حيرتهم ، وأن يسلكوا بهم سبيل النجاة إلى نعيم جنّته ، ولورودهم معين الحياة من زلال رحمته ، ويحكوا لهم ما شاهدوا من عجائب حكمته ، ويصفوا ما عاينوا من غرائب صنعته ، وما أطلعهم عليه سبحانه من خواصّ قدرته ، وما أعدّ للمتّقين من نعيم لا تفنى أيّامه ، ولا تنقضي أعواُمّه ، ولا تبلى ثيابه ، ولا يتسنّ طعامه وشرابه.

فهدوهم النجدين ، وأوضحوا لهم السبيلين ، وأروهم ما توعّد به من أرخى لامارته عنان شهوتها ، وأجرى جواد معصيته في ميدان لذّتها ، من نارٍ فضيع عقابها ، وجيع عذابها ، ساطع لهبها ، شديد كلبها ، حامية قدورها ، فضيعة شرورها ، سلاسلها طوال ، ومقامعها ثقال ، وأهلها في بلاء شامل ، وعناء متواصل ، لا ينظر إليهم ، ولا يعطف عليهم ، قد أغلقت أبواب الرحمة عنهم وانقطعت الآمال منهم ، حتّى إذا أوضحوا لهم الدليل ، وهدوهم السَّبيل ، ونقعوا غليلهم من عين صافية ، بكأس وافية ، فلبّى دعوتهم ، واتّبع شرعتهم ، واقتفى أثرهم ، وأطاع أمرهم.

رجال صدقت عهودهم ، ووفت وعودهم ، وخلص يقينهم ، وصفى معينهم ، لم يلبسوا الظلم إيمانهم ، ولم يشوبوا بشكّ إنفاقهم ، بذلوا الأجساد في طاعتهم ، وجادوا بالأرواح في نصرتهم ، فأثبتهم سبحانه في ديوان خواصّه ، وشرّفهم بتشريفه واختصاصه ، وألحقهم بدرجة سادتهم ، ورقى بهم إلى منزل

٣٤٦

قادتهم ، لما بذلوا الأرواح والأجساد في جهاد الأعداء طاعة لربّهم ، وتلقّوا الصفاح والصعاد (١) من أكفّ الأشقياء في حربهم ، وقويت بامتثال عزائم الله منهم العزائم ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، جعلهم أشرف أهل الجنّة بعد الأنبياء والمرسلين ، وسادة الشهداء من الأوّلين والآخرين.

وكان أعظم من اختصّ بهذه الصفات السنّية ، والمقامات العليّة ، وجعل نفسهُ جُنّة لوليّ أمره ، ووقاية لإمام عصره ، لمّا كفر من كفر ، وأنكر من أنكر ، أصحاب كربلاء الّذين أشرقت أنوار العناية على سرائرهم ، وبرقت بوارق الكرامة من ضمائرهم ، فشاهدوا ما اُلقي إليهم من غيوب البرزخ بأبصار بصائرهم ، ولا حظوا قيام الخلق شتاتاً حين مصادرهم ، ورأوا سبط نبيّهم ، ورهط وليّهم ، قد حفّت بساحته كتائب الطغيان ، وأحدقت بعرصته مواكب البهتان ، قد خلعوا أربقة الايمان من أعناقهم ، وقادهم الشيطان بزمام نفاقهم ، فاعتقدوه ربّاً وخالقاًُ ومدبّراً ورازقاً فآثروا طاعته على طاعة ربّهم ، وامتثلوا أوامره بقالبهم وقلبهم ، وارتدوا على أدبارهم خاسرين ، وأصبحوا بأنعم ربّهم كافرين ، قد حقّت عليهم كلمة العذاب ، واستوجبوا سوء العقاب ، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويهدموا منار الاسلام باعتامهم وسفهائهم ، وخذلوا الأطهار من ذرّيّة رسولهم ، ونصروا الأشرار بفعلهم وقولهم ، فاستحبّوا العمى على الهدى ، وباعوا الآخرة بالاُولى ، وكحلوا بمرود الوقاحة أحداقهم ، ولووا عن سماع الموعظة أعناقهم ، وكفروا بعد إسلامهم ، وجعلوا سيّد شباب أهل الجنّة غرضاً لسهامهم ، وأشركوا وألحدوا ، وأخلفوا ما أوعدوا ، وصبّوا شآبيب نبالهم

__________________

١ ـ الصَّعْدَة : ... قيل : هي نحو من الألّة ، والألّة أصغر من الحَرْبَة.

« لسان العرب : ٣/٢٥٥ ـ صعد ـ »

٣٤٧

على شريف خدّه ، وأوردوا معابل انتقامهم من وريد ولده ، وجعلوا عياله يندبن صارخات ، ويتوسّلن متصرّخات.

فعندها بعث روح القدس في عقولهم ، وهزّتهم أريحية الايمان لما شاهدوا من بنات رسولهم ، وجعلوا نحورهم موارد الصفاح ، وصدورهم مصادر الرماح ، ووجوههم وقاية لوليّ أمرهم ، وجباههم جنة لوسيلتهم إلى ربّهم في حشرهم.

ولمّا صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وأصبحو صرعى بين يديه ، قد تحمّلوا الأذى واللأواء ، وسبقتهم أعضاؤهم إلى جنّة المأوى ، واطلّع سبحانه على أسرارهم وإعلانهم ، فوجدهم لا يزيد على إخلاصهم وإيمانهم ، نقلهم إلى جوار حضرته ، ونعيم جنّته ، في قصور عالية ، وقطوف دانية ، وأنهار جارية ، ورياض زاهية ، قد تفجّرت عيونها ، وراق معينها ، وابتسمت أزهارها ، وأينعت ثمارها ، نعيمها لا يبرح ، وساكنها لا ينزح ، وظلّها مديد ، وعيشها رغيد ، وأزواجها أطهار ، وحورها أبكار ، لا يذوقون الموت ، ولا يخشون الفوت ، سقفها عرش الرحمن ، وصعيدها رضا المنّان.

ولمّا فارقت الأرواح منهم الأشباح ، وتكاملت بالسعادة الأبديّة لهم الأفراح ، وسيقوا إلى الجنّة زمراً ، واستنشقوا رياح الرحمة نشراً ، اُقيموا على أعتابها ، واُوقفوا بأبوابها ، منتظرين قائدهم ، وورود رائدهم ، حتّى إذا شرب صلوات الله عليه من كأس المنيّة ما شربوا ، ورغب من جوار الله بما فيه رغبوا ، أقبلت صفوف الملائكة بين يدي حضرته قائمين ، بشرائط خدمته قائلين : أبشر بلقاء جدّك وأبيك ، وجوار اُمّك وأخيك ، فهم إلى رؤيتك مشوّقون ، ولمقدمك متشوّفون.

٣٤٨

ولمّا شاهد صلوات الله عليه شهداء قد سبقوا ، وبفناء الجنّة أحدقوا ، قد حمدوا مشاربهم ، وبلغوا مناهم ، وشكروا مسعاهم ، قد أزلفهم مولاهم ، وأتحفهم وحيّاهم ، وقرّبهم وأدناهم ، واطمأنّت بهم الدار ، وطاب لهم القرار ، وزالت المتاعب ، وأمنت المصائب ، وجمع شملهم بحبيب قلوبهم ، واُنيلوا من النعيم المقيم زيادة على مطلوبهم ، وفتحت لهم أبواب الجنّة بأمر ربّ العالمين ، وقيل لهم : ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنينَ ) (١). فاستوطنوا من غرفها أعلاها ، واستشعروا من حللها أضفاها ، وسقوا من كؤوسها أصفاها ، وعانقوا من حورها أسناها ، تجري من تحت أبنيتهم الأنهار ، والملائكة يدخلون عليهم من كلَّ باب ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٢).

ولمّا أحلّهم سبحانه دار المقامة ، وأنزلهم منازل الكرامة ، وأزارهم ملائكته المقرّبين ، ورافق بهم أنبياءه المرسلين ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أجْرُ الْعَامِلِينَ ) (٣) فأقاَموا في نعمة لا حصر لعدّها ، وداموا في سعادة لا انتهاء لحدّها ، ( يَطُوفُ عََيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدوُنَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُوَنَ وحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤).

فيا حسرتي إذ لم أكن من السابقين في حلبتهم ، أو المصلّين في سبقتهم ، المحسوبين في زمرتهم ، المعدودين من جملتهم ، أتمتّع برؤية أوليائي كما

__________________

١ ـ سورة الحجر : ٤٦.

٢ ـ سورة الرعد : ٢٤.

٣ ـ سورة الزمر : ٧٤.

٤ ـ سورة الواقعة : ١٧ ـ ٢٤.

٣٤٩

تمتّعوا ، وأنْقَع غليلة أشواقي بمشاهدة ساداتي كما نقعوا ، إذا بارك الجليل عليهم من فوق عرشه عمّتني بركته ، وإذا أرسل جوده إليهم غمرتني رحمته ، وإذا علم سبحانه ذلك من خالص نيّتي ، وصادق طويّتي ، فالمرجوّ من فيضه العميم ، وفضله الجسيم ، أن يلحقني بدرجتهم ، ويرقى بي إلى منزلتهم ، وأن يبلغ فؤادي بهذه النيّة الخالصة غاية أمله ، فإنّ نيّة المرء خير من عمله.

المناجاة

يا حليماً لا يعجل في حكمه ، ويا عليماً لا يخرج شيء عن علمه ، ويا قاهراً لا يعجزه شيء من مخلوقاته ، ويا قادراً على كلّ من عداه من مصنوعاته ، ويا مبدع كلّ صورة لا من مادّة وصورة ، ويا من كلّ نفس في قبضة قهره مأسورة ، ويا من أحيى قلوب أوليائه بزلال محبّته ، ويا من فطر نفوس أحبّائه على مراقبته وطاعته ، واستخلصهم لنفسه واصطفاهم ، وأيّدهم بروح قدسه واجتباهم ، وتجلّى لهم في ذكره الصادر عن حضرة عزّته ، فظهر لبصائرهم في بدائع ما اخترع من لطيف صنعته ، فشاهدوا كلّ ما سواه حقيراً في جنب عظمته أسيراً في قبضة مننه ، معدوماً بالنسبة إلى وجوب وجوده ، موسوماً بسمة الافتقار الى فيضان جوده.

ولمّا ارتوت أنفسهم القدسيّة من معين عرفانه ، واطّلعت أرواحهم العلويّة على جلال عظيم سلطانه ، بذلوا تلك النفوس الطاهرة في حبّه ، وطلبوا بهممهم العالية منازل قربه ، ووالوا أولياءه بقلوب لا يشوبها شكّ ، وجاهدوا أعداءه بأبدان لا يشيبها شرك ، يرون القتل في حبّه عزّ الآخرة والاُولى ، والموت في طاعته وسيلة إلى السعادة الكبرى ، كشف لهم الحجاب فشاهدوا ما ستر عن

٣٥٠

غيرهم ، وحثّوا الركاب فنالوا المنى بسيرهم.

ولمّا علموا أنّهم لا يمنعهم من حصول المطلوب بوصال المحبوب ، ولا يحجبهم عن السرّ المحجوب في سترات الغيوب ، إلّا خلع ملابس الحياة الفانية ، والتجرّد عن خيالات النفس الواهية ، والاتّصال بالمبدع الأكمل ، والترقّي إلى المقام الأفضل.

بذلوا الأجساد والأموال لتخليص أنفسهم من كدورات ظلمات أبدانها ، وبالغوا في إخراجها عن محلّ متاعها وحوادث أزمانها ، وباعوها من ربّها بالثمن الأوفى ، وبذلواها لمالكها بالعوض الأعلى ، وجاهدوا أعداءه إعلاءً لكلمته ، ونصروا أولياءه إخلاصاً بطاعته حتّى خلصت أنفسهم من سجون أحسادها ، وبلغت أرواحهم من السعادة الأبديّة أقصى مرادها ، فأصبحوا في عرصة كربلاء بين مخذول قد فقدت منه الأنصار ، ومقتول تسفي عليه عواصف الأعصار ، وظمآن سقى نهلته بكؤوس الحتوف ، ولهفان لم تنقع غلّته إلاّ غروب السيوف.

أسألك بحقّ تلك الأرواح المبذولة في محبّتك ، والأشباح المنبوذة في نصرتك ، والأوداج المقطّعة في إعلاء كلمتك ، والأشباح المبضّعة لتأييد حجّتك ، وبحقّ تلك النفوس الّتي قواعد إيمانها على التقوى مؤسّسة ، وبحقّ تلك الأبدان الّتي اُصول مجاريها بطهور العصمة مقدّسة ، وبحقّ تلك الضرائح الّتي هي مهابط متقرّبي ملائكتك ، وبحقّ تلك المشاهد الّتي شرفت ثراها بأجساد اوليائك وخاصّتك أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تجعلنا ممّن جلّ مصابه لمصيبتهم ، وعظم بلاؤه لبليّتهم ، وأضرمت نيران الأحزان شواظها في فؤاده ، وأوردته موارد الأشجان في إصداره وإيراده ، وأغرقت في لجّة العبرات إنسان

٣٥١

مقلته ، وأحرقت بتصاعد الزفرات لهفان مهجته ، وأن يكشف كربنا بقيام قائمهم الداعي إليك ، وأن تدفع غمّنا بظهور عالمهم الدليل عليك ، وأن تجعلهم شفعاءنا إليك في حشرنا ، ووسائلنا لديك يوم نشرنا ، إنّك سميع قريب ، رحيم مجيب.

٣٥٢

فصل

ثمّ إنّ عمر بن سعد لعنة الله عليه ارتحل في اليوم الثاني عشر من مقتل الحسين عليه‌السلام وساق حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يساق الاُسارى ، حافيات حاسرات مسلّبات باكيات يمشين في أسر الذلّ ، حتّى إذا وصل الكوفة خرج الناس لاستقباله ، فجعلوا يبكون ويتوجّعون ، وعليّ بن الحسين عليه‌السلام مريض قد نهكته العلّة ، فجعل يقول : إنّ هؤلاء يبكون ويتوجّعون من أجلنا ، فمن قتلنا؟!

قال بشير بن خزيم (١) الأسدي : نظرت إلى زينب بنت عليّ عليه‌السلام فلم أر خفرة قطّ أنطق منها كأنّما تفرغ من (٢) لسان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأومت إلى الناس أن اسكتوا فسكتت الأصوات ، فقالت :

الحمد للهِ ، والصلاة على محمد (٣) رسول الله وعلى آله الطيّبين الأخيار.

يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والخذل ، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّة ، فإنّما مثلكم كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم.

__________________

١ ـ في المقتل : حذيم ، وفي مستدركات علم الرجال : ٢/٣٧ : جزيم.

٢ ـ في المقتل : كأنّما تنطق عن.

٣ ـ في المقتل : أبي محمد ، وفي الملهوف : جدّي محمد.

٣٥٣

ألا وهل فيكم إلّا الصلف النطف ، والصدر الشنف ، وملق (١) الاماء ، وغمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة ، أو كقصّة (٢) [ على ] (٣) ملحودة.

ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون؟ إي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، [ فلقد ] (٤) ذهبتم بعارها وشنارها ، ولم ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل [ خاتم ] (٥) الأنبياء ، وسيّد شباب أهل الجنّة غداً ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجّتكم ، ومدرة ألسنتكم.

ألا ساء ما تزرون ، فبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبوّئتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة ، أتدرون أيّ كبد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فريتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟ [ وأيّ كريمة له أبرزتم؟! ] (٦) وايّ حريم له أصبتم؟! وأيّ حرمة له انتهكتم؟! ( لَقَدْْ جِئْتُمْ شَيْئاً إدْاً تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (٧) إن [ ما ] (٨) جئتم بها [ لصلعاء عنقاء سوداء فقماء ] (٩) خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملء السماء.

__________________

١ ـ كذا في المقتل والملهوف ، وفي الأصل : قلق.

والصلف : الوقاحة. النطف : التلطّخ بالعيب. الشنف : الكراهة والبغض.

٢ ـ كذا في المقتل ، وهو الصحيح ، وفي الأصل والملهوف : كفضّة.

والقصّة : الجصّة بلغة أهل الحجاز.

٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٨ و ٩ ـ من المقتل.

٧ ـ سورة مريم : ٨٩ و٩٠.

٣٥٤

أعجبتم أن مطرت (١) السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة [ أشدّ و ] (٢) أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنّكم المهل ، فإنّه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار ، كلّا وإنّ ربّكم لبالمرصاد ، فترقّبوا أوّل النحل وآخر صاد (٣).

قال بشير : فوالله (٤) لقد رأيت الناس حيارى يومئذ يبكون وقد وضعوا أيديهم (٥) في أفواههم ، ورأيت شيخاً من قدماء أهل الكوفة وقد بكى حتّى اخضلّت لحيته بدموعه وهو يقول : صدقت المرأة ، كهولهم خير كهول ، وشبّانهم خير شبّان ، ونساؤهم إذا نطقن أنطق النسوان [ ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ]. (٦)

وروى زيد بن موسى (٧) ، قال : حدّثني أبي ، عن جدّي عليه‌السلام ، قال : خطبت فاطمة الصغرى بعد أن ردّت (٨) من كربلاء ، فقالت :

الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزِنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأُؤمن به

____________

١ ـ في المقتل : قطرت.

٢ ـ من المقتل.

٣ ـ أيّ قوله تعالى في سورة النحل : ١ : ( أتَى أمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ) ، وقوله تعالى في سورة ص : ٨٨ : ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ).

٤ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فوت الثار ، وإنّ ربّك لبالمرصاد. قال : فوالله.

٥ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : وقد ردّوا أبدانهم.

٦ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٤٠ ـ ٤٢ ، الملهوف : ١٩٠ ـ ١٩٤. وما بين المعقوفين أثبتناه من المقتل.

٧ ـ هو زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، توفّي نحو سنة « ٢٥٠ » ه‍.

انظر في ترجمته ، مقاتل الطالبيّين : ٥٣٤ ، جمهرة الأنساب : ٥٥ ، الكامل في التاريخ : ٦/١٠٤ ، الأعلام للزركلي : ٣/٦١.

٨ ـ في الملهوف : وردت.

٣٥٥

وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن ذبحوا آله بشطّ (١) الفرات بغير ذحل (٢) ولا ترات.

اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، المسلوب حقّه ، المقتول من غير ذنب كما قتل والده بالأمس في بيتٍ من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة ألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيّب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه [ اللّهمّ ] (٣) فيك لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته يا ربّ بالاسلام صغيراً ، وحمدتَ مناقبه كبيراً ، لم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا ، غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً [ لك ] (٤) في سبيلك ، رضيته فهديته (٥) إلى صراطٍ مستقيم.

أمّا بعد : يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، إنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا ، وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه وحكمته ، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته ، وفضّلنا بنبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً.

__________________

١ ـ في الملهوف : وأنّ ذرّيّته ذبحوا بشطّ.

٢ ـ الذحل : الحقد والعداوة ؛ يقال : طلب بذحله ، أيّ بثأره. « الصحاح : ٤/١٧٠١ ـ ذحل ـ ».

٣ و ٤ ـ من الملهوف.

٥ ـ في الملهوف : رضيته فاخترته وهديته.

٣٥٦

فكذّبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً ، كأنّا أولاد ترك وكابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم ، قرّت بذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم ، افتراء على الله ومكراً مكرتم ، والله خير الماكرين.

فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا ، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزء العظيم في كتاب من قبل أن نبرأها ، إنّ ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحبّ كلّ مختال فخور ، أمثالكم (١) ، فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم ، ويذيق (٢) بعضكم بأس بعض ، ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم ، اتدرون أيّ أيد طاعنتنا منكم؟ وأيّ (٣) نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟ قست والله (٤) قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على أفئدتكم ، ختم على سمعكم وبصركم (٥) ، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبّاً لكم يا أهل الكوفة ، [ أيّ ] (٦) ترات لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

١ ـ في الملهوف : تبّاً لكم.

٢ ـ في الملهوف : فيسحتكم بعذاب ويذيق.

٣ ـ في الملهوف : أيّة يد ... وأيّة.

٤ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من الملهوف.

٥ ـ في الملهوف : أسماعكم وابصاركم.

٦ ـ من الملهوف.

٣٥٧

قبلكم ، وذحول له لديكم بما عنتم (١) بأخيه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام جدّي وبنيه عترة النبيّ الطاهرين الأخيار.

وافتخر بذلك مفتخركم (٢) ، فقال :

نحن قتلنا عليّاً وبني عليّ (٣)

بسيوف هنديّة ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأيّ نطاح

بفيك أيّها القائل الأثلب والكثكث (٤) ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وطهّرهم تطهيراً ، وأذهب عنهم الرِّجس ، فاكظم واقْعِ كما أقعَى أبوك ، وإنّما لكلّ امرىء ما اكتسب وما قدّمت أوائله (٥) ، حسدتمونا ـ ويلا ً لكم ـ على ما فضّلنا الله به.

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحوُرنا

وبحرُك ساج ما يواري الدّعامصا (٦)

( ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (٧) ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) (٨).

قال : فارتفعت الأصوات بالبكاء ، وقالوا : حسبك يا ابنة الطيّبين ، فقد

__________________

١ ـ في الملهوف : عند تم.

٢ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : وافتخر مفتخر.

٣ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : قد قتلنا عليّ وابن عليّ.

٤ ـ في « ح » : الأثلب والكثكث ـ بكسر الهمزة في الأوّل والكافين في الثاني ـ : لفظان مترادفان يعني دقاق التراب والحجر يستعملان في الحقارة والذمّ.

٥ ـ في الملهوف : يداه.

٦ ـ الدعموص : دويبة تغوص في الماء. « الصحاح : ٣/١٠٤٠ ـ دعمص ـ ».

٧ ـ سورة الحديد : ٢١.

٨ ـ سورة النور : ٤٠.

٣٥٨

أحرقت قلوبنا ، وأنضجت (١) نحورنا ، وأضرمت أجوافنا ، فسكتت.

قال : وخطبت اُمّ كلثوم بنت عليّ عليه‌السلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها ، رافعة صوتها بالبكاء ، وقالت :

يا أهل الكوفة ، شوّه (٢) لكم ، ما لكم خذلتم حسيناً [ وقتلتموه ، وانتهبتم أمواله ، وورثتموه ، وسبيتم نساءه ] (٣) ونكثتموه؟ فتبّاً لكم وسحقاً.

ويلكم أتدرون أيّ دواه دهتكم؟ وأيّ وزر على ظهوركم حملتم؟ وأيّ دماء سفكتموها؟ [ وأيّ كريمة اهتضمتموها؟ وأيّ صبية سلبتموها؟ وأيّ أموال نهبتموها؟ ] (٤) قتلتم خير رجالات بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونُزعت الرحمة من قلبوكم ، الا إنّ حزب الله هم الغالبون وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثمّ قالت :

قتلتم أخي صبراً فويل لأُمّكم

ستُجْزون ناراً حرّا يتوقّدُ (٥)ن

سفكتم دماءً حرّم الله سفكَها

وحرّمها القرآنُ ثمّ محمدُ

ألا فابشروا بالنار إنّكم غداً

لفي سقرٍ حقّاً يقيناً تخلدوا

____________

١ ـ في الملهوف : وأنضحت.

٢ ـ في الملهوف : سوءاً.

٣ ـ من الملهوف. وفيه : « ونكبتموه » بدل « ونكثتموه ».

٤ ـ من الملهوف.

٥ ـ في الملهوف : لفي قعر نار حرّها يتصعّد.

٣٥٩

وإنّي لأبكي في حياتي على أخي

على خير مَن بعد النبيّ سيوجد (١)

بدمعٍ غزيرٍ مستهلٍّ مكفكفٍ

على الخدّ منّي دائماً (٢) ليس يحمدُ

قال : فضجّ الناس بالبكاء والحنين (٣) والنوح ، ونشرت النساء شعورها ووضعن التراب على رؤوسها ، وخمشن الوجوه ، وضربن الخدود (٤) ، ودعون بالويل والثبور ، وبكى الرجال [ ونتفوا لحاهم ] (٥) ، فلم يُر باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم.

ثمّ إنّ زين العابدين عليه‌السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا [ فسكتوا ] (٦) ، فقام قائماً فحمد الله وأثنى عليه ، ذكر النبيّ [ بما هو أهله ] (٧) فصلّى عليه ، ثمّ قال :

أيّها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا [ أُعرّفه بنفسي : أنا ] (٨) عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن من انتُهك حريمه ، واستُلب نعيمه ، وانتُهب ماله ، وسُبي عياله ، أنا ابن مَنْ قُتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً.

أيّها الناس ، ناشدتكم بالله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه

____________

١ ـ في الملهوف : سيولد.

٢ ـ في الملهوف : دائب.

٣ ـ في الملهوف : قال الراوي : فضجّ الناس بالبكاء والنحيب.

٤ ـ في الملهوف : ونشرت النساء شعورهنّ ، وحثين التراب على رؤوسهنّ ، وخمشن وجوههنّ ، ولطمن خدودهنّ.

٥ و ٦ و ٧ و ٨ ـ من الملهوف.

٣٦٠