تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

حيّ من بني أسد بالقرب منّا أفتأذن لي بالمصير إليهم [ الليلة ] (١) فأدعوهم إلى نصرتك ، فعسى الله أن يدفع بهم الأذى عنك؟

قال : قد أذنت لك ، فخرج حبيب إليهم في جوف الليل مستنكراً مستعجلاً حتّى أتى إليهم فعرفوه أنّه من بني أسد ، فقالوا : ما حاجتك ، يا ابن عمّنا؟

فقال : إنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم ، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم فإنّه في عصابة من المؤمنين ، الرجل منهم خير من ألف رجل ، لن يخذلوه ، ولن يسلّموه بيد أعدائه (٢) وهذا عمر بن سعد قد أحاط به ، وأنتم قومي وعشيرتي ، وقد أتيتكم بهذه النصيحة ، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة (٣) ، فإنّي اُقسم بالله لا يقتل أحد منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً إلاّ كان رفيقاً لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في علّيّين.

قال : فوثب إليه رجل من بني أسد يقال له عبد الله بن بشر ، فقال : أنا أوّل من يجيب إلى هذه الدعوة ، ثمّ جعل يرتجز [ ويقول ] (٤) :

قد علم القوم إذا تواكلوا (٥)

وأحجم الفرسان أو تثاقلوا (٦)

أنّي شجاع بطل مقاتل (٧)

كأنّني ليث عرين باسل

____________

١ ـ من المقتل.

٢ ـ في البحار : ولن يسلّموه أبداً.

٣ ـ في المقتل : وحسن ثواب الآخرة.

٤ ـ من البحار.

٥ ـ في المقتل : تناكلوا.

٦ ـ في المقتل : إذ تناضلوا.

٧ ـ في المقتل : إنّي الشجاع البطل المقاتل.

٢٦١

ثمّ تنادى (١) رجال الحيّ حتّى التأم (٢) منهم تسعون رجلاً فأقبلوا يريدون الحسين عليه‌السلام ، وخرج رجل في ذلك الوقت من الحي يقال له [ فلان ] (٣) ابن عمرو حتّى صار إلى عمر بن سعد فأخبره بالحال ، فدعا ابن سعد برجل من أصحابه يقال له الأزرق الشامي ـ وهو الّذي قتله وبنيه قاسم بن الحسن عليه‌السلام واحداً بعد واحد ـ ، فضمّ إليه أربعمائة فارس ووجّه [ به ] (٤) نحو حيّ بني أسد ، بينا اُولئك القوم قد أقبلوا يريدون عسكر الحسين عليه‌السلام في جوف الليل إذ استقبلتهم خيل ابن سعد على شاطىء الفرات ، وبينهم وبين عسكر الحسين النهر (٥) ، فناوش القوم بعضهم بعضاً واقتتلوا قتالاً شديداً ، وصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق : ويلك مالك ومالنا؟ انصرف عنّا ودعنا يشقى بنا غيرك (٦) ، فأبى الأزرق أن يرجع ، وعلمت بنو أسد أنّه لا طاقة لهم بالقوم فانهزموا راجعين إلى حيّهم ، ثمّ إنّهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يبيّتهم ، ورجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين عليه‌السلام فخبرّه بذلك.

فقال عليه‌السلام : لا حول ولا قوةّ إلاّ بالله.

قال : ورجعت خيل ابن سعد حتّى نزلوا على شاطىء الفرات ، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، وأضرّ العطش بالحسين وأصحابه ، فأخذ الحسين

__________________

١ ـ في المقتلت : بادر ، وفي البحار : تبادر.

٢ ـ اجتمع ـ خ ل ـ.

٣ و ٤ ـ من المقتل.

٥ ـ كذا في المقتل والبحرا ، وفي الأصل : النهر.

٦ ـ في المقتل : دعنا واشتق بغيرنا.

٢٦٢

عليه‌السلام فأساً وجاء إلى وراء خيمة النساء فخطا في (١) الأرض تسع عشرة خطوة نحو القبلة ، ثمّ حفر هناك ، فنبعت له عين من الماء العذب ، فشرب الحسين عليه‌السلام وشرب الناس بأجمعهم وملؤا أسقيتهم ، ثمّ غارت العين ، فلم ير لها أثر. (٢)

وبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إلى عمر بن سعد : بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ، ويصيب الماء ، فيشرب هو وأصحابه ، فانظر إذ ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت ، وضيّق عليهم ، ولا تدعهم يذوقوا الماء ، وافعل بهم كما فعلوا بالزكيّ عثمان.

فعندما ضيّق عليهم عمر بن سعد غاية التضييق.

ثمّ دعا بعمرو بن الحجّاج الزبيدي فضمّ إليه خيلاً عظيمة ، وأمره أن ينزل علي الشريعة الّتي [ هي ] (٣) حذاء عسكر الحسين.

قال : فنزلوا على الشريعة ، فلمّا اشتدّ العطش بالحسين دعا بأخيه العبّاس بن عليّ فضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً وبعث معه عشرين قربة ، فأقبلوا في جوف الليل حتّى دنوا من الفرات.

فقال عمرو بن الحجّاج : من أنتم؟

فقال رجل من أصحاب الحسين عليه‌السلام يقال له هلال بن نافع الجملي (٤) : أنا ابن عمٍّ لك من أصحاب الحسين ، جئت أشرب من هذا الماء الّذي

____________

١ ـ في المقتل : على.

٢ ـ انظر أيضاً : مناقب ابن شهراشوب : ٤/٥٠ عنه مدينة المعاجز : ٣/٤٩٤ ح ١٠٠٧.

٣ ـ من المقتل.

٤ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل والبحار : البجلي.

٢٦٣

منعتمونا إيّاه (١).

فقال عمرو : اشرب هنيئاً.

فقال هلال : ويحك كيف تأمرني أن أشرب والحسين بن عليّ ومن معه يموتون عطشاً؟!

فقال عمرو : صدقت ، ولكن اُمرنا بأمر لا بدّ أن ننتهي إليه ، فصاح هلال بأصحابه ، فدخلوا الفرات ، وصاح عمرو بالناس ، فاقتتلوا على الماء قتالاً شديداً ، فكان قوم يقاتلون وقوم يملأون [ القرب ] (٢) حتّى ملؤها ، [ قتل من أصحاب عمرو بن الحجّاج جماعة ] (٣) ولم يقتل من أصحاب الحسين أحد ، ثمّ رجع القوم إلى معسكرهم ، فشرب الحسين ومن كان معه ، ولهذا (٤) سمّي العبّاس عليه‌السلام السقّاء.

ثمّ أرسل الحسين عليه‌السلام إلى عمر بن سعد لعنه الله : إنّي أُريد أن اُكلّمك فالقني الليله بين عسكري وعسكرك ، فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج إليه الحسين في مثل ذلك ، فلمّا التقيا أمر الحسين عليه‌السلام أصحابه فتنحّوا عنه ، فبقي معه أخوه العبّاس ، وابنه علي الأكبر ، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحوا عنه ، وبقي معه ابنه حفص وغلام له.

فقال له الحسين عليه‌السلام : ويلك يا ابن سعد ، أمّا تتّقي الله الّذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنّه أقرب لك إلى الله تعالى.

____________

١ ـ في المقتل : عنه.

٢ و ٣ ـ من المقتل.

٤ ـ في البحار : ولذلك.

٢٦٤

فقال عمر بن سعد : أخاف أن تهدم داري.

فقال الحسين عليه‌السلام : أنا أبنيها لك.

فقال : أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

فقال الحسين عليه‌السلام : أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.

فقال : لي عيالي (١) وأخاف عليهم.

[ فقال : أنا أضمن سلامتهم.

قال : ] (٢) ثمّ سكت ولم يجبه إلى شيء فانصرف عنه الحسين عليه‌السلام وهو يقول : مالك ذبحك الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك؟ فوالله إنّي لا أرجو أن تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً.

فقال ابن النحس سعد : في الشعير كفاية عن البرّ ـ مستهزئاً بذلك القول (٣) ـ ، ثمّ رجع ابن سعد إلى معسكره ، وإذا كتاب ابن زياد قد ورد عليه يؤنّبه ويضعّفه ويقول : ما هذه المطاولة؟ انظر إن بايع الحسين وأصحابه فابعث بهم إليّ سالمين ، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون ، فإذا قتلت الحسين فأوطىء الخيل ظهره وبطنه ، فإنّه عاقّ شاقّ ، فإذا فعلت ذلك جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت ذلك فاعتزل خيلنا وجندنا وسلّم الجند والعسكر إلى شمر بن ذي الجوشن فإنّه أحزم منك أمراً ، وأمضى عزيمة.

____________

١ ـ في المقتل والبحار : عيال.

٢ ـ من المقتل.

٣ ـ من قوله : « فلم يعرض ابن سعد » إلى هنا نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار : ٤٤/٣٨٥ ـ ٣٨٩ عن كتابنا هذا ، وكذا في عوالم العلوم : ١٧/٢٣٦.

٢٦٥

وروي أنّ ابن زياد بعث رجلاً يقال له جويرية بن زياد (١) [ وقال ] (٢) : إذا أوصلت كتابي هذا إلى عمر بن سعد فإن قام من ساعته لحرب الحسين فذاك ، وإن لم يقم فخذه وقيّده ، وابعث به إليّ ، ويكون شمر بن ذي الجوشن الأمير على الناس.

فوصل الكتاب [ وكان في الكتاب ] (٣) : إنّي لم أبعثك يا ابن سعد لمنادمة الحسين ، فإذا أتاك كتابي هذا فخيّره بين أن تأتيني به أو تقاتله ، فوثب ابن سعد من ساعته وأخبر الحسين بذلك ، فقال الحسين عليه‌السلام : أخّرنا إلى غد. (٤)

وأقبل العبّاس إلى القوم الّذين مع عمر بن سعد ، فقال : يا هؤلاء ، إنّ أبا عبد الله يسألكم الانصراف عنه باقي يومكم حتّى ننظر (٥) في هذا الأمر ، ثمّ نلقاكم به غداً (٦).

قال : فخبّر القوم بذلك أميرهم ، فقال عمر بن سعد لشمر : ماذا ترى؟

قال : أنا أرى رأيك ايها الأمير ، فقل (٧) ما تشاء.

فقال عمر بن سعد : إنّي أحببت ألا أكون أميراً فلم اُترك وأكرهت ، ثمّ أقبل عمر بن سعد على أصحابه ، فقال : الرأي عندكم.

فقال رجل من أصحابه وهو عمرو بن الحجّاج : سبحان الله! والله لو كانوا

__________________

١ ـ في المقتل : جويرة بن يزيد التميمي.

٢ و ٣ ـ من المقتل.

٤ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٣٦ ـ ٢٤٦.

وانظر وقعة الطفّ : ١٧٥ ـ ١٨٩ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ١٣٨ ـ ١٤٢.

٥ ـ في المقتل : ينظر.

٦ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : نلقاك غداً.

٧ ـ في المقتل : فافعل.

٢٦٦

من أهل الترك والديلم ويسألوا هذه الخصلة (١) لكان ينبغي أن نجيبهم إلى ذلك ، فكيف وهم آل الرسول؟

فقال عمر بن سعد : خبروهم أنا قد أجّلناهم باقي يومنا.

فنادى رجل من أصحاب ابن سعد : يا شيعة حسين ، إنّا قد أجّلناكم يومنا إلى غدٍ ، فإن استسلمتم ونزلتم عل الحكم وجّهنا بكم إلى الأمير ، وإن أبيتم ناجزناكم ، فانصرف الفريقان ، وجاء الليل فبات الحسين عليه‌السلام ليلته تلك راكعاً وساجداً وباكياً ومستغفراً ومتضرّعاً ، وكذلك كانت صبيحته عليه‌السلام ، وكان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة.

وقيل (٢) لعليّ بن الحسين ما أقلّ ولد أبيك؟!

فقال عليه‌السلام : العجب كيف ولدت أنا له ، إنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، فمتى كان يتفرّغ للنساء؟

وكذلك أصحابه باتوا كذلك لهم دويّ كدويّ النحل ، وأقبل شمر في نصف الليل [ يتجسّس ] (٣) ومعه جماعة من أصحابه حتّى قرب من عسكر الحسين عليه‌السلام ، والحسين رافع صوته يتلو هذه الآية : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً ) (٤) الآية : ثمّ تلا : ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميِزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (٥)

__________________

١ ـ في المقتل : الليلة.

٢ ـ انظر : الملهوف على قتلى الطفوف : ١٥٤ ، البحار : ٤٤/١٩٦ ح ١٠ ، وج ٨٢/٣١١ ح ١٧ ، وعوالم العلوم : ١٧/٦١ ح ١.

٣ ـ من المقتل.

٤ ـ سورة آل عمران : ١٧٨.

٥ ـ سورة آل عمران : ١٧٩.

٢٦٧

فصاح رجل من أصحاب شمر وقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون وأنتم الخبيثون ، وقد ميّزنا منكم ، فقطع برير بن خضير صلاته ، ثمّ ناداه : يا فاسق : يا فاجر ، يا عدوّ الله ، يا ابن البوال على عقبيه ، أمثلك يكون من الطيّبين والحسين من الخبيثين؟! والله ما أنت إلاّ بهيمة لا تعقل ، فأبشر بالخزي يوم القيامة ، فصاح به شمر وقال : أيّها المتكلم ، إنّ الله قاتلك وقاتل صاحبك عن قريب.

فقال برير : يا عدوّ الله ، أبالموت تخّوفني ، والله إنّ الموت مع ابن رسول الله أحبّ إليَّ من الحياة معكم ، والله لا نال شفاعة محمد قوماً أراقوا دماء ذرّيّاته (١) وأهل بيته.

وأقبل رجل من أصحاب الحسين ، فقال : يا برير ، إنّ أبا عبد الله يقول : إرجع إلى مكانك (٢) ، ولا تخاطب القوم ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء فلقد نصحتَ وأبلغتَ.

فلمّا (٣) كان وقت السحر خفق الحسين عليه‌السلام برأسه ، ثمّ استيقظ ، فقال : أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة؟ رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ [ لتنهشني ] (٤) وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها ، وأظنّ الّذي يتولّى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء ، ثمّ انّي رايت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي : يا بنَيّ ، أنت شهيد آل محمد ، وقد استبشرت بك ملائكة السماوات (٥) وأهل الصفيح الأعلى فليكن إفطارك عندي الليلة ، فعجّل

____________

١ ـ في المقتل : ذرّيّته.

٢ ـ في المقتل : موضعك.

٣ ـ انظر أيضاً : البحار : ٤٥/٣ ، وج ٦١/١٨٣ ح ٥٠.

٤ ـ من المقتل.

٥ ـ في المقتل : وقد استبشر بك أهل السماوات.

٢٦٨

ولا تتأخّر ، فهذا ملك من السماء قد نزل ليأخذ دمك في قارورة خضراء فهذا ما رأيت ، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا ، لا شكّ في ذلك (١).

قال : فلطمت زينب وجهها وصاحت.

فقال الحسين عليه‌السلام : مهلاً ، يا اُختاه ، لا يشمت (٢) القوم بنا.

ثمّ جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه بالليلة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ أقبلّ عليهم ، فقال :

أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أصلح (٣) منكم ، ولا أهل بيت آثر (٤) ولا أفضل من أهل بيتي ، فجزاكم الله [ عنّي ] (٥) جميعاً خيراً ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منك بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد [ هذا ] (٦) الليل وذروني وهؤلاء ، فإنّهم لا يريدون غيري.

فقال له إخوته وبنو عمّه وأولاد عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً ، وكان الّذي بدأ بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين ، ثمّ تابعوه الباقون.

ثمّ نظر الحسين عليه‌السلام إلى بني عقيل فقال : حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم.

وروي من طريق آخر : فتكلّم إخوته وجميع أهل بيته ، وقالوا : يا ابن

____________

١ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٥٠ ـ ٢٥٢.

٢ ـ في الملهوف : لاتشمتي.

٣ ـ في الملهوف : خيراً.

٤ ـ في الملهوف : أبرّ.

٥ و ٦ ـ من الملهوف.

٢٦٩

رسول الله ، ما تقول الناس لنا؟ وماذا نقول لهم؟ إنّا (١) تركنا شيخنا وكبيرنا وابن [ بنت ] (٢) نبيّنا ولم نرمِ معه بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ، لا والله يا ابن رسول الله لانفارقك أبداً ولكنّا نفديك (٣) بأنفسنا حتّى نُقتل بين يديك ونرِد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.

ثمّ قام مسلم بن عوسجة ، وقال : نحن نخلفك (٤) هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ! والله لا يراني الله أبداً أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن لي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم اُفارقك أو أموت.

قال : وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال : لا والله يا ابن رسول الله لا نخلّيك أبداً حتّى نعلم أنّا قد حفظنا فيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ، ولو علمت أنّي اقتل [ فيك ] (٦) ، ثمّ اُحيى ، ثمّ اُحرق ، ثمّ اُذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي من دونك ، فكيف وإنّما هي قتله واحدة ، ثمّ أنال الكرامة الّتي لا انقضاء لها؟!

ثمّ قام زهير بن القين ، وقال : والله يا ابن رسول الله وددت أنّي قتلت ، ثمّ نشرتُ ألف مرّة وأنّ الله تعالى قد دفع هذه الفتنة عنك (٧) وعن هؤلاء الفتية من إخوتك وولدك وأهل بيتك.

__________________

١ ـ في الملهوف : إذ.

٢ و ٦ ـ من الملهوف.

٣ ـ في الملهوف : نقيك.

٤ ـ في الملهوف : نخلّيك.

٥ ـ في الملهوف : حتّى يعلم الله ... فيك وصيّة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٧ ـ في الملهوف : قد دفع بذلك القتل عنك.

٢٧٠

وتكلّم جماعة أصحابه بنحو من ذلك ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا [ وقضينا ] (١) ما علينا.

وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال : قد اُسر ابنك بثغر الريّ.

فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت اُحبّ أن يؤسر وأبقى بعده.

فسمع الحسين عليه‌السلام قوله ، فقال : رحمك الله ، أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك.

فقال : أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.

قال : فأعط ابنك هذه الأثواب البرود (٢) يستعين بها على (٣) فكاك أخيه.

فأعطاه خسمة أثواب قيمتها ألف دينار.

قال : فلمّا كان الغداة أمر الحسين بفسطاطه فضرب ، وأمر بجفنة فيها مسك كثير وجعل عندها نورة ، ثمّ دخل ليطلي.

فروي أن برير بن خضير (٤) وعبد الرحمان بن عبد ربّه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط فتطلّيا بعد الحسين عليه‌السلام ، فجعل برير يضاحك عبد الرحمان.

فقال عبد الرحمن : يا برير ، أتضحك؟! ما هذه ساعة ضحك ولا باطل. (٥)

____________

١ ـ من الملهوف.

٢ ـ في الملهوف : هذه البرود ، والبُرد : ثوب.

٣ ـ في الملهوف : في.

٤ ـ في الملهوف : حصين.

٥ ـ كذا في الملهوف : وفي الأصل : أتضحك هذه حال باطل؟

٢٧١

فقال برير : لقد علم قومي أنى ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه فوالله ما هو إلا أن نلقى (١) هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ، ثمّ نعانق الحور العين. (٢).

قال : وركب أصحاب عمر بن سعد ، فقرّب إلى الحسين عليه‌السلام فرسه فاستوى عليه ، وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه ، وبين يديه برير بن خضير فقال له الحسين عليه‌السلام : كلّم القوم ، فتقدّم برير حتّى وقف قريباً من القوم وقد زحفوا نحو الحسين بأجمعهم ، فقال لهم برير : يا قوم (٣) ، اتّقوا الله فإنّ ثقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الّذي تريدون أن تصنعوه بهم؟

فقالوا : نريد أن نمكّن منهم الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم.

فقال لهم برير : افلا تقبلون (٤) منهم إن يرجعوا إلى المكان الّذي جاءوا منه؟ ويلكم ـ يا أهل الكوفة ـ أنسيتم كتبكم وعهودكم الّتي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟ يا ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحرمتموهم (٥) عن ماء الفرات؟ بئسما خلّفتم نبيّكم في ذرّيّته ، مالكم لا سقاكم الله (٦) يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم.

____________

١ ـ كذا في الملهوف ، وفي اأصل : بما يصير ، فوالله ما هو إلّا نلقى.

٢ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٥١ ـ ١٥٢.

٣ ـ في المقتل : يا هؤلاء.

٤ ـ في المقتل : ترضون.

٥ ـ في البحار : وحلّأتموهم.

٦ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.

٢٧٢

فقال له نفر منهم : يا هذا ، ما ندري ما تقول؟

فقال برير : الحمد لله الّذي زادني فيكم بصيرة ، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللّهمّ ألق بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان ، وفجعل القوم يرمونه بالسهام ، فرجع (١) برير إلى ورائه.

وتقدّم الحسين عليه‌السلام حتّى وقف بإزاء (٢) القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم (٣) السيل ، ونظر إلى عمر بن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فقال : الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلنا دار فناء وزوال ، ومتصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا ، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيّب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله في عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا هو ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ أنتم قد رجعتم (٤) إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان وانساكم ذكر الله ، فتبّاً لكم ولمّا تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبعداً للقوم الظالمين.

فقال عمر بن سعد : ويلكم كلّموه فإنّه ابن أبيه ، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولا حصر ، فكلّموه ، فتقدّم إليه شمر ، فقال : يا حسين [ ما ] (٥) هذا الّذي تقول؟ أفهمنا حتّى نفهم.

____________

١ ـ كذا في المقتل والبحار ، وفي الأصل : فجعل.

٢ ـ في المقتل : قبالة.

٣ ـ في المقتل : كأنّها.

٤ ـ في المقتل والبحار : ثمّ إنّكم زحفتم.

٥ ـ من المقتل والبحار.

٢٧٣

قال عليه‌السلام : أقول : أتّقوا الله ولا تقتلون ، فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ، [ ولا انتهاك حرمتي ] (١) فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعلّكم قد بلغكم قول نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحسن والحسين سيّدا [ شباب ] (٢) أهل الجنّة (٣) ، فإن كذّبتموني فإنّ فيكم من الصحابة مثل جابر بن عبد الله [ وسهل بن سعد ] (٤) وزيد بن أرقم وأنس بن مالك فاسالوهم عن هذا الحديث فإنّهم يخبرونكم انّهم سمعوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كنتم في شكٍّ من أمري أفلست ابن بنت نبيَكم؟ أتشكّون في ذلك؟ فوالله ما (٥) بين المشرقين والمغربين ابن بنت نبيّ غيري ، أتطلبوني بدم أحد قتلته منكم ، أو بمال استملكته (٦) ، أو بقصاص من جراحات [ استهلكته ] (٧)؟ فسكتوا لا يجيبونه.

ثمّ قال عليه‌السلام : والله لا اُعطي (٨) بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفر فرار العبيد ، عبادالله إنّي عذت بربّي وربّكم [ أن ترجمون وأعوذ بربّي وربّكم ] (٩) من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.

فقال شمر : يا حسين ، الشمر يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

__________________

١ ـ من المقتل والبحار.

٢ و ٤ و ٧ و ٩ ـ من المقتل.

٣ ـ زاد في المقتل : ما خلا النبيّين والمرسلين ، فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت كذباً مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله.

ومن قوله : « وركب أصحاب عمر بن سعد » إلى هنا نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار : ٤٥/٥ ـ ٦ عن كتابنا هذا.

٥ ـ ليس ـ خ ل ـ.

٦ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : استهلكته.

٨ ـ في المقتل : اُعطيهم.

٢٧٤

قال : فسكت الحسين عليه‌السلام ، وناداه حيبيب بن مظاهر : إنّي أظنّك تعبد الله على سبعين حرفاً يا فاسق ، وأنا أشهد أنّك ما تدري ما تقول ، وأنّ الله تعالى قد طبع على قلبك.

فقال له الحسين عليه‌السلام (١) : حسبك يا أخابني أسد ، فقد قضى القضاء ، وجفّ القلم ، والله بالغ أمره ، وإنّي لأشوق إلى جدّي وأبي واُمّي وأخي وأسلافي من يعقوب إلى يوسف عليه‌السلام وأخيه ، وليّ مصرع أنا ملاقيه. (٢)

ثمّ إنّ الحسين عليه‌السلام عبّأ أصحابه وكان ذلك اليوم يوم عاشوراً ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، وفي رواية اُخرى : إثنان وثمانون راجلاً ، فجعل على ميمنته زهير بن القين ، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر ، ودفع اللواء إلى أخيه العبّاس ، وثبت الحسين عليه‌السلام مع أهل بيته في القلب.

وعبّأ عمر بن سعد أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجّاج ، وعلى ميسرته شمر ، وثبت هو في القلب ، وكان جنده (٣) اثنين وعشرين ألفاً.

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام : ثلاثين ألفاً لما رواه ابن بابويه رضي الله عنه في أماليه في قول الحسن للحسين عليهما‌السلام : يزدلف إليك ثلاثون ألفاً. (٤)

وروي أنّ الحسين عليه‌السلام لما أحاط به القوم واُمراؤهم [ وأيقن

____________

١ ـ في المقتل : يا حسين بن عليّ أنا أعبد الله على حرف إن كنت أدري ما تقول.

٢ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١/٢٥٢ ـ ٢٥٤.

٣ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : وكانوا ... على اثنين وعشرين ألفاً.

٤ ـ أمالي الصدوق : ١٠١ ح ٣ ، مناقب ابن شهراشوب : ٤/٨٦ ، مثير الأحزان : ٢٣ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ٩٩ ، إثبات الهداة : ٢/٥٥٦ ح ٧ ، البحار : ٤٥/٢١٨ ح ٤٤.

٢٧٥

أنّهم ] (١) قاتلوه قام خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : قد نزل من الأمر ما ترون ، إنّ الدنيا قد أدبرت (٢) وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، حتّى لم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، أو (٣) خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، أمّا ترون الحقّ لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة (٤) مع الظّالمين إلّا برماً.

وروي عن زيد بن عليّ ، عن أبيه ـ بحذف الأسانيد ـ ، قال : خطب الحسين عليه‌السلام أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس ، خطّ الموت على بني آدم خط (٥) القلادة على جيد الفتاة ، ما أولعني بالشوق إلى اسلافي ، وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه ، كأنّي أنظر إلى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات قد ملأت منّي أكرشها ، رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ليوفينا اُجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته (٦) وعترته ، ولن تفارقه أعضاؤه ، وهي مجموعة له في حضيرة القدس تقربّهم (٧) عينه.

وروي أنّه لمّا عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه‌السلام ، ورتّبهم [ في ] (٨) مراتبهم ، وأقام الرايات في مواضعها ، وعبّأ [ الحسين أصحابه

____________

١ و ٨ ـ من المقتل.

٢ ـ في المقتل : تغيّرت.

٣ ـ في المقتل : من.

٤ ـ في المقتل : والعيش.

٥ ـ في المقتل : كمخطّ.

٦ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : حرمته.

٧ ـ في المقتل : بها.

٢٧٦

في ] (١) الميمنة والميسرة ، وأحاطوا بالحسين من كلّ جانب حتّى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج حتّى أتى الناس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا ، حتّى قال لهم : ويلكم ما عليكم ان تنصتوا إليّ ، فتسمعوا قولي ، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد.

ثمّ قال ـ بعد كلام طويل ـ : الّا إنّ الدعيّ بن الدعيّ ، قد ركز بين اثنتين ، بين السلّة (٢) والذلّة ، وهيهات منّا آخذ الدنيّة ، أبى الله [ ذلك ] (٣) ورسوله ، جدود طابت ، وحجور طهرت ، وانُوف حمّية ، ونفوس أبيّه ، ألا وقد أعذرت وأنذرت ، ألا إنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العتاد ، وخذلة الأصحاب ، ثمّ أنشأ :

فإن نهزم فهزّامون قدما

وإن نُهزم فغير مهزّمينا

وما ان طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

ألا ثمّ لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس ، حتّى تدور بكم [ دور ] (٤) الرحى ، عهد عهده إليَّ أبي [ عن جدّي ] (٥) فاجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ كيدوني فلا تنظرون ، اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنيناً كسنين يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة ، ولا يدع منهم (٦) أحداً إلّا قتله [ قتله ] (٧) بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي منهم ، فإنّهم غرونا وخذلونا ، وأنت ربّنا ، عليك توكّلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك

__________________

١ و ٤ و ٥ و٧ ـ من المقتل.

٢ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : القلّة ، وفي المتقل : القتلة.

٣ ـ من المقتل ، وفي الملهوف : وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، حجور طابت ، وحجور طهرت.

٦ ـ في المقتل : فيهم.

٢٧٧

المصير (١).

ثمّ قال صلوات الله عليه : ادعوا لي عمر بن سعد ، فدعي له ـ وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه ـ ، فقال : يا عمر ، أنت تقتلني وتزعم أنّ الدعيّ بن الدعيّ يولّيك الريّ وجرجان ، والله لا تتهنّأ بذلك أبداً ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأنّي براسك على قصبة قد نصبت بالكوفة ، يتراماه الصبيان بالحجارة ويتّخذونه غرضاً بينهم. (٢)

فاغتاض (٣) عمر بن سعد من كلامه ، ثمّ صرف وجهه عنه ونادى بأصحابه : ما تنظرون؟ احملو عليه بأجمعكم.

قال : فدعا الحسين عليه‌السلام بفرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المرتجز ، فركبه وعبّأ أصحابه ، وزحف إليه عمر بن سعد ونادى غلامه دريداً : قدّم رايتك ، ثمّ وضع عمر سهمه في قوسه ، ثمّ رمى ، وقال : اشهدوا لي عند الأمير عبيد الله أنّي أوّل من رمى الحسين ، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم ، فما بقي أحد من أصحاب الحسين عليه‌السلام إلّا اصابه من سهامهم (٤)

قيل : فلمّا رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسين عليه‌السلام ، وبقي القوم الّذين يذكرون ، وقتل في هذه الحملة الاُولى من أصحاب الحسين خمسون رجلاً رحمة الله عليهم (٥) ، فعندها ضرب الحسين عليه‌السلام بيده إلى

____________

١ ـ انظر الأحاديث الغيبيّة : ٢/٣١١ ح ٥٧٢.

٢ ـ تيسير المطالب : ٩٥ ـ ٩٧.

٣ ـ في المقتل : فغضب.

٤ ـ في المقتل : من رميتهم سهم.

٥ ـ من قوله : « فرمى أصحابه كلّهم » إلى هنا نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار : ٤٥/١٢ عن كتابنا هذا. وكذا في عوالم العلوم : ١٧/٢٥٥.

٢٧٨

لحيته ، وقال : اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى إذ جعلوا له ولداً ، واشتدّ غضب الله على المجوس إذ عبدت [ الشمس والقمر و ] (١) النّار ، واشتدّ غضب الله على قوم اتّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيّهم ، والله لا اُجيبهم إلى شيء ممّا يريدونه أبداً حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي.

ثمّ صاح عليه‌السلام : أمّا من مغيث يغيثنا لوجه الله تعالى؟ أمّا من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله؟

وكان الحرّ حين أمره عبيد الله بن زياد بالمسير الى حرب الحسين وخرج من منزله نودي ثلاث مرّات : يا حرّ ، أبشر بالجنّة ، فالتفت فلم ير أحد.

فقال : ثكلت الحرّ اُمّه ، يمضي إلى حرب ابن رسول الله ويدخل الجنّة! فنمّ ذلك الكلام في فؤاده ، فلمّا سمع الحسين عليه‌السلام يستغيث اضطرب قلبه ، ودمعت عيناه ، فخرج باكياً متضرّعاً مع غلام له تركيّ ، وأتى إلى عمر بن سعد ، وقال : أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فقال : إي والله قتالاً أيسره [ أن ] (٢) تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

فقال : أمّا لكم في الخصال الّتي عرض عليكم رضى؟

قال : والله لو كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك.

فأقبل الحرّ حتّى وقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الأفكل (٣) ، فقال له المهاجر بن أوس : والله إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل : من أشجع أهل الكوفة؟ لما

____________

١ ـ من المقتل : وفي الملهوف : إذ عبدوا الشمس والقمر دونه.

٢ ـ من المقتل.

٣ ـ الأَفْكَل : الرعدة من برد أو خوف. « لسان العرب : ١١/ ١٩ ـ أفكل ـ ».

٢٧٩

عدوتك ، فما هذا الّذي أرى منك؟

فقال : والله إنّي اُخيّر نفسي بن الجنّة والنار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحرّقت.

ثمّ ضرب فرسه قاصداً الحسين عليه‌السلام ويده على رأسه وهو يقول : اللّهمّ إنّي تبت فتب عليَّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك.

وقال للحسين عليه‌السلام : جعلت فداك ، أنا صاحبك الّذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، والله الّذي لا إله إلّا هو ، ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضتَ عليهم ، والله لو حدثتني (١) نفسي أنّهم يقتلوك لما ركبتها منك (٢) أبداً ، وإنّي قد جئتك تائباً إلى ربّي ، ومواسيك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، فهل ترى لي من توبة؟

قال : نعم يتوب الله عليك ويغفر لك ، ما اسمك؟

قال : انّا الحرّ.

قال : أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك إن شاء الله في الدنيا والآخرة ، انزل.

قال : أنا لك فارساً خير منّي لك راجلاً ، اُقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول مصيري ، ثمّ قال (٣) : يا ابن رسول الله ، كنتُ أوّل خارج عليك ، فائذن لي لأكون أوّل قتيل بين يديك ، وأول من يصافح جدّك غداً ـ وإنّما قال الحرّ : لأكون أوّل قتيل من المبارزين ، وإلا فإن جماعة كانوا قد قتلوا في الحملة

__________________

١ ـ في المقتل : لو سوّلت لي.

٢ ـ في المقتل : أنّهم يقتلونك لما ركبت هذا منك.

٣ ـ من هنا نقله المجلسي رحمه‌الله في البحار : ٤٥/١٣ عن كتابنا هذا وعن مناقب ابن شهراشوب والكامل في التاريخ : ٤/٦٤. وكذا في عوالم العلوم ١٧/٢٥٧.

٢٨٠