تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وعنه رضي الله عنه ، قال : حدّثنا ابن خشيش ، عن محمد بن عبد الله ، قال : حدّثنا ، أبوالطيّب عليّ بن محمد (١) الجعفي الدّهان بالكوفة ، قال : حدّثنا أحمد بن ميثم بن [ أبي ] (٢) نعيم ، قال حدّثنا : يحيى بن عبدالحميد الحمّاني أملاه عليّ في منزله ، قال : خرجت أيّام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي [ في ] (٣) الكوفة من منزلي فليقيني أبوبكر بن عيّاش ، فقال : امض بنا يا يحيى إلى هذا ، فلم أدر من يعني ، وكنت أُجلّ أبا بكر عن مراجعته ، وكان راكباً حماراً ، فجعل يسير عليه ، وأنا أمشي في (٤) ركابه ، فلمّا صرنا عند الدار الّتي تعرف بدار عبد الله بن حازم التفت إليّ فقال : يا ابن الحمّاني ، إنّما جررتك معي وجشّمتك أن تمشي خلفي لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية.

قال : فقلت : من هو ، يا أبا بكر؟

قال : هذا الكافر الفاجر موسى بن عيسى ، فسكتّ عنه ، فمضى وأنا أتبعه حتّى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى ، وبصر به الحاجب وتبيّنه ، وكان الناس ينزلون عند الرحبة ، فلم ينزل أبوبكر هناك ، وكان عليه قميص وإزار ، وهو محلول الأزرار.

قال : فدخل على حماره وناداني ، وقال : [ تعال ] (٥) يا ابن الحمّاني ، فمنعني الحاجب ، فزجره أبوبكر ، وقال له : أتمنعه يا فاعل ـ وهو معي ـ؟ فتركني ، فما زال يسير على حماره حتّى دخل الايوان ، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الايوان على سريره وبجنبي السرير رجال مسلّحون ، فلمّا رآه

____________

١ ـ في الأمالي : عليّ بن محمد بن مخلّد.

٢ و ٣ و ٥ ـ من الأمالي.

٤ ـ في الآمالي : مع.

٤٨١

موسى رحبّ به وقرّبه ، وأقعده على سريره ، ومنعت أنا حين وصلت إلى الايوان ، فلمّا استقرّ أبوبكر على السرير التفت إليّ [ فرآني ] (١) حيث أنا واقف ، فناداني : تعال ويحك ، فصرت إليه ، ونعلي في رجلي ، وعليَّ قميص وإزار ، فأجلسني بين يديه ، فالتفت إليه موسى فقال : هذا رجل تكلّمنا فيه.

قال : لا ، ولكنّي جئت به شاهداً عليك.

قال : فبماذا؟

قال : إنّي رأيتك وما صنعت بهذا القبر.

قال : أيّ قبر؟

قال : قبر الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان موسى قد وجّه إليه من كربه ، وكرب جميع أرض الحائر وحرثها (٢) وزرعها ، فانتفخ موسى حتّى كاد أن ينقدّ. ثمّ قال : ما أنت وذاك؟

قال : اسمع حتّى اُخبرك.

قال : نعم ، إنّي رأيت في منامي كأنّي خرجت إلى قومي من بني غاضرة ، فلمّا صرت إلى قنطرة الكوفة اعترضتني خنازير عشرة تريدني ، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عنّي ، ومضيت لوجهي ، فلمّا صرت إلى شاهي (٣) ضللت الطريق ورأيت هناك عجوزاً ، فقالت : إلى أين تريد ، أيّها الشيخ؟

__________________

١ ـ من الأمالي.

٢ ـ كذا في الامالي ، وفي الأصل : وخرّبها.

٣ ـ كذا في الأمالي ، وفي الأصل : شياهي.

٤٨٢

قلت : اُريد الغاضريّة.

فقالت : استبطن هذا الوادي ، فإنّك إذا أتيت إلى آخره اتّضح لك الطريق.

فمضيت ، وفعلت ما قالت ، فلمّا صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك ، فقلت : من أين أنت ، أيّها الشيخ؟

فقال لي : أنا من أهل هذه القرية.

فقلت : كم تعدّ من السنين؟

فقال : ما أحفظ ما مضى من سني عمري ، ولكن أبعد ذكري أنّي رأيت الحسين عليه‌السلام ، ومن كان معه من أهله ، ومن تبعه يمنعون الماء الّذي نراه ، ولا تمنع الكلاب والوحش من شربه ، فاستفظعت (١) ذلك ، وقلت : أنت ويحك رأيت هذا؟

فقال : إي والّذي سمك السماء ، قد رأيت هذا أيّها الشيخ ، وإنّك وأصحابك لهم الّذين يعينون على ما رأينا ممّا أقرح عيون المسلمين ، إن كان في الدنيا مسلم.

قلت : ويحك ما هو؟

قال : حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه.

فقلت : ويحك ما أجرى إليه؟

قال : أيكرب قبر ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحرث أرضه؟

قلت : فأين القبر؟

__________________

١ ـ كذا في الأمالي ، وفي الأصل : فاستقصيت.

٤٨٣

قال : هو هذا أنت واقف في أرضه ، فأمّا القبر فإنّه قد عمي عن أن يعرف موضعه.

قال أبوبكر بن عيّاش : وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قطّ ، ولا أتيته طول عمري ، فقلت : من لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتّى أوقفني على باب حائر له باب وآذن ، وإذا جماعة كثيرة على الباب فقلت للآذن : اريد الدخول على ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال : لا تقدر على الوصول في هذا الوقت.

فقلت : ولم؟

فقال : هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ، ومحمد رسول الله ، ومعهما جبريل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير.

قال أبوبكر بن عيّاش : فانتبهت ، وقد دخلني روع شديد وحزن وكآبة ، ومضت بي الأيّام حتّى كدت أن أنسى المنام ، ثمّ اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدين كان لي على رجل منهم ، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتّى إذا صرت إلى قنطرة الكوفة لقوني عشرة من اللصوص ، فحيث رأيتهم ذكرت الحديث ، ورعبت من خشيتي ، فقالوا : الق ما معك وانج بنفسك ، وكانت معي نفيقة.

فقلت : ويحكم أنا أبوبكر بن عيّاش ، وإنّما خرجت لطلب دين لي ، فالله الله لا تقطعوني عن طلب ديني ، وتضرّوني في نفقتي ، فإنّي شديد الإضافة (١) ، فنادى رجل منهم : مولاي وربّ الكعبة لا نتعرّض له ، ثمّ قال لبعض غلمانه :

__________________

١ ـ من الإضافة : الضيافة.

٤٨٤

كن معه حتّى يصير إلى الطريق الأيمن.

قال أبوبكر : فجعلت أتفكّر فيما رأيت في المنام ، وأتعجّب من تأويل الخنازير ، فمضيت حتّى صرت إلى شاهي ضللت الطريق ورأيت هناك عجوزاً ، فقالت : أين تريد ، أيّها الشيخ؟

قلت : اُريد الغاضريّة.

فقالت : استبطن هذا الوادي ، فإنّك إذا أتيت إلى آخره اتّضح لك الطريق ، فمضيت ، وفعلت ما قالت ، فلمّا صرت إلى نينوى رأيت والله الّذي لا إله إلّا هو [ الشيخ ] (١) الّذي رأيته في المنام ، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا ، وقلت : لا إله إلّا الله ما كانت هذه الرؤيا إلا وحياً ، ورأيت الشيخ ، ثمّ سألته كمسألتي [ إيّاه ] (٢) في المنام ، فأجابني كما كان أجابني ، ثمّ قال : امض بنا ، فمضيت ، فوقف على الموضع المكروب ، فلم يفتني شيء من المنام إلّا الآذن والحائر فإنّي لم أر حائراً ولا آذناً ، فاتّق الله أيّها الرجل ، فإنّي آليت على نفسي ألّا أدع إذاعة هذا الحديث ، ولا زيارة ذلك الموضع وقصده وإعظامه ، فإنّ موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمد وجبريل وميكائيل لحقيق أن يرغب في إتيانه وزيارته ، فإنّ أبا حصين حدّثني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رآني في المنام فإيّاي رأى ، فإنّ الشيطان لا يتشبّه بي.

فقال له موسى : إنّما سكتّ عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة الّتي ظهرت منك ، وتالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنّك تحدّث بهذا لأضربنّ عنقك ، وعنق الّذي جئتَ به شاهداً عليّ.

__________________

١ و ٢ ـ من الأمالي.

٤٨٥

فقال : إذاً يمنعني الله وإيّاه منك ، فإنّي ما أردت إلّا الله سبحانه بما كلّمتك به.

فقال : أتراجعني يا ماص ، وشتمه.

فقال أبوبكر : اسكت أخزاك الله ، وقطع لسانك ، فأرعد موسى على سريره ، ثمّ قال : خذوه ، فاُخذ الشيخ عن السرير ، واُخذت أنا ، فوالله لقد مرّ بنا من السحب والضرب ما ظننت أنّا لا نلبث حيّين ، وكان أشدّ ما مرّ بي من ذلك أنّ رأسي كان يجرّ على الصخر ، فكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي ، وموسى يقول : اقتلوهما ابني كذا وكذا ـ بالزاني لا يكنّى (١) ـ ، وأبوبكر يقول : امسك قطع الله لسانك ، وانتقم منك ، اللّهمّ إيّاك أردنا ، ولولد نبيّك غضبنا ، وعليك توكّلنا.

فصرنا (٢) جميعاً إلى الحبس ، فما لبثنا في الحبس إلّا قليلاً ، فالتفت إليّ أبوبكر فرأى ثيابي ممزّقة ، وقد سالت دمائي على خدّي ، فقال : يا حمّانيّ ، قد قضينا لله حقّاً ، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً ، ولن يضيع ذلك عند الله ، ولا عند رسوله ، فما لبثنا في السجن إلّا مقدار غدائه ونومه حتّى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه ، فطلب حمار أبوبكر فلم يوجد ، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب يشبه الدور سعة وكبراً ، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً ، وكان أبوبكر إذا تعب [ في المشي ] (٣) جلس يسيراً ، ثمّ يقول : اللّهمّ هذا فيك فلا تنسه ، فلمّا اُدخلنا على موسى إذا هو على سرير له ، فحين بصر بنا قال : لا حيّا الله ، ولا

__________________

١ ـ أيّ كان يقول في الشتم ألفاظ صريحة في الزنا ولا يكتفي بالكناية.

٢ ـ في الأمالي : فصيّر بنا.

٣ ـ من الأمالي.

٤٨٦

قرّب يا جاهل يا أحمق تتعرّض لما تكره (١) ، ويلك يا دعيّ ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم؟

قال أبوبكر : قد سمعت كلامك ، والله حسبك.

فقال : اخرج قبّحك الله ، والله لئن بلغني أنّ هذا الحديث شاع أو ذكر عنك لأضربنّ عنقك.

ثمّ التفت إليَّ وقال : يا كلب ـ وشتمني ـ وقال : إيّاك أن تظهر هذا ، فإنّما خُيّل لهذا الشيخ الأحمق شيطان يلعب به في منامه ، اخرجا عليكما لعنة الله وغضبه ، فخرجنا وقد يئسنا من الحياة ، فلمّا صرنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره ، فلمّا أراد أن يدخل منزله التفت إلّه ، وقال : احفظ هذا الحديث وأثبته عندك ، ولا تحدّثنّ به هؤلاء الرعاع ولكن حدّث به أهل العقول والدين (٢).

قلت : فانظر إلى ما أصفى الله به هذه الاُسرة الزكيّة ، والعترة النبويّة ، من إظهار فضائلهم ، وإيضاح دلائلهم ، كلّما تقادمت الأيّام أظهر رفعتهم ، وأشهر دينهم ، رام الأعداء استئصال شأفتهم ، وإدحاض حجّتهم ، من حين موت الرسول المصطفى ، وفوت النبيّ المجتبى ، وجحدوا شايع فضلهم ، وأجلبوا عليهم بخيلهم ورجلهم ، من قتل الوصيّ ، وسمّ الزكيّ ، وهظم السبط المعصوم ، والشهيد المظلوم.

وألجأوا سيّد الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن أوصى بإخفاء تربته الشريفة ، وبقعته المنيفة ، حذراً من فتنتهم ، وخوفاً من سفاهتهم ، لعلمه

____________

١ ـ في الأمالي : ولا قربّ من جاهل أحمق يتعرّض لما يكره.

٢ ـ أمالي الطوسي : ٣٢١ ـ ٣٢٥ ح ٩٧ ، عنه البحار : ٤٥/٣٩ ح ١.

٤٨٧

بشدّة حقدهم وغدرهم ، وعدواتهم ومكرهم ، وأبى الله إلّا أن ينصر الحقّ ، ويعلي كلمة الصدق ، فأظهره بعد خفائه ، وأوضح فضله لشيعته وأوليائه ، وجعله حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كلّ شيء ، يقصده أهل الآفاق من الفجّ العميق ، وتثنى إليه الأعناق من كلّ مرمى سحيق ، وتشدّ نحوه الرحال من مفاوز مقفرة ، ويستطاب إليه الترحال في المهالك الخطرة ، وتهوى إليه القلوب من جزائر منقطعة ، وترتاح إليه النفوس من بلاد شسعة ، يرجون من بركاته أرباح تجارتهم ، ومن وفادتهم عليه إدرار معيشتهم ، ثمّ جعله سبحانه لملائكته مهبطاً ، ولبركاته مسقطاً ، ولأوليائه معاذاً ، ولأصفيائه ملاذاً ، أطلعهم سبحانه على عرفان قدره ، وعلوّ أمره ، وانّه معدن البركات ، وموطن الدعوات ، يجيب سبحانه فيه دعاء المضطرّ من خلقه ، ويثري ببركته طالب رزقه ، ويكفّر كبائر ذنوب المسيئين بقصده ، ويرحم دعاء المتوسّلين إليه بمجده.

ثمّ انظر إلى قبر الصدّيق الشهيد ، والامام الرشيد ، قتيل العبرة ، ومصباح العترة ، صاحب المصيبة التامّة ، والبلية الطامّة ، الّذي شرّف الله به كربلاء وطفوفها ، وأوضح في الملكوت الأعلى بفضلها وتشريفها ، وجعل قلوب المؤمنين ترتاح إلى وفادتها ، وتحنّ إلى زيارتها ، وجعل فضلها يربو على البيت الحرام ، ويعلو شرفاً على الركن والمقام ، يضاعف الحسنات في حضرتها ، ويكفرّ السيّئات بوفادتها ، إن قصدها مكروب فرّج الله كربته ، وإن أمّها مغموم كشف الله غمّته.

كم راموا إخفاء منارها ، وإطفاء أنوارها ، وإعفاء آثارها ، وإهلاك زوّارها ، وتخريب عامرها ، وإدحاض مآثرها ، وتتبّعوا زمائمها ، وأخفوا معالمها ، ودرسوا قبورها ، وطمسوا مشهورها؟ وجعلوها لسوامهم مرتعاً ،

٤٨٨

ولحرثهم مزرعاً ، ولم يتركوا لها علماً مشهوراً ، ولا جداراً معموراً.

وأظهر الله ما أخفوا ، وأنار ما أطفوا ، طار ذكر أهل بيت نبيّه في المغارب والمشارق ، وألقى فضلهم على لسان كلّ ناطق ، حتّى طبق الآفاق ذكرهم ، وعلى السبع الطباق فخرهم ، وسطّرت في الدفاتر مناقبهم ، وشرفت على كلّ شرف مراتبهم ، همّتهم تستخرج العذراء من خدرها ، وزمام محبّتهم تجذب القلوب من برّها وبحرها ، يقاسي وليّهم في هجرته إلى مشاهدهم من أعداء الله ما الموت أيسر بعضه ، ويتحمّل الأذى في الله ممّن خفّ ميزانه يوم حسابه وعرضه ، ويستعذب التعذيب في مسيره إلى زيارتهم ، ويستطيب فراق الحميم والحبيب لمشاهدة أنوار بهجتهم.

ملقى رجال شرائف مراقدهم ، وغاية مشقّة الآمال مشاهدة مشاهدهم ، السيّئات في عراصها تغفر ، والموبقات لدى مزاراتها تكفّر ، تخضع رقاب الجبّارين حين معاينة قبابهم ، وتسجد جباه المتكبّرين على أعتاب أبوابهم ، ويضرعون بالاستكانة بين أيديهم ، ويخشعون بالانابة حين توجهّهم إليهم ، ويطلبون إلى الله بقاء ملكهم ببركاتهم ، ويسألون منه سبحانه دوام عزّهم في حضراتهم ، ويستفتحون على أعدائهم بحقّهم ، ويستنجحون مقاصدهم بفضلهم وصدقهم ، وينفقون الذخائر لتشييد مغانيهم ، ويبذلون النفائس في تعظيم مبانيهم ، ويتفاخرون بإجراء ابرهم على جدرانها وعروشها ، ويثابرون على التفنّن في أصناف زينتها ونقوشها ، ويجدّدون قناديل مصابيحها من عسجدهم (١) ، ويرصّعون حلية ضرائحها بيواقيتهم وزبرجدهمن ويسترون أبوابها بستور من سندس بطائنها من استبرق ، قد اعمل ناسجها ذكرته في

__________________

١ ـ العسجد : الذهب.

٤٨٩

نسجها بقضبان الذهب ودفق ، يشرح صدور المؤمن الموافق ، ويسخن عين الرِّجس المنافق.

يتجدّد فخرهم بتجدّد الأيّام ، ويتعالى ذكرهم بتعدّد الأعوام ، وما هذه إلّا كرامة ظاهرة ، وفضيلة باهرة ، يستدلّ بها ان الجليل سبحانه لحظهم بعين عنايته ، واختصّهم بعظيم كرامته ، وجعلهم أشرف كلّ موجود سواه ، وأكمل كلّ مخلوق خلقه وسوّاه ، وشحن كتابه بمدحهم ، وشرّف تنزيله بوصفهم.

تهوى إليهم القلوب من جزائر منقطعة ، وترتاح إليهم النفوس من أقطار شسعة ، وزيّن سبحانه اللغات على اختلاف ألسنتهم بمدائحهم ومراتبهم ، وحبب إلى الأنام ذكر مناقبهم ومساعيهم ، حتّى زيّنت الشعراء مدائحها بذكرهم ، وأعملت البلغاء قرائحها في شكرهم ، فكلّ شعر لا يحلّى بجواهر فضائلهم فهو يهرج ، وكلّ نثرلايسمط بوصف مناقبهم فهو يسمج ، تفخر فصحاء العرب بتر صيع سجعها بتلالىء وصفهم ، وتشمخ شعراء العجم بتجنيس رديفها بتعداد كرمهم ولطفهم ، أجهدت الأعداء جهدها في محو صورهم من جرائد الأحياء ، وأجلبت الأشقياء بخيلها ورجلها على إخفاء أوجههم عن وجه الدنيا ، حتّى قتلوا رجالهم ، وذبحوا أطفالهم ، وانتهبوا أثقالهم ، وتتبّعوا حيّهم ، واستصفوا فيئهم ، ولم يتركوا لهم وليّاً إلّا أرهقوه ، ولا ناصراً إلّا اغتالوه ، ولا رحماً إلّا قطعوها ، ولا وصيّة إلّا ضيّعوها.

حتّى إذا ظنوا أنّ الدنيا قد أصفتهم لذّتها ، ومنحتهم درّتها ، وسلّمت إليهم مقاليد سلطانها ، وفتحت عليهم كنوز ذهبانها ، وأوطأت أقدامهم أعناق ملوكها ، وأجرت أحكامهم على غنيّها وصعلوكها (١) ، وعمّت فتنتهم ، وتمّت مدّتهم ،

__________________

١ ـ الصعلوك : الفقير.

٤٩٠

فمضت بأرجلها ، وقنصت بأحبلها ، فألقتهم على حسكها ، وجعلت على عكسهم دورة فلكها ، وأباح لهم من شيعة الحق من لم يكن في حسابهم مشهوراً ، ولا في جرائد أعدائهم مزبوراً ، فجعلهم حصيداً خامدين (١) ، ومواتاً جامدين ، وصيّرهم كرمادٍ اشتدّت به الريح في يوم عاصف (٢) ، أو هشيماً تذروه (٣) الزعازع العواصف.

فلم تكن أيّامهم ، إلا كأضغاث أحلام ، أو طيف منام ، قد سلبهم سبحانه بقهره ملكاً ، وعزّاً ، فهل تحّس منهم من أحد أو تسمع له ركزاً (٤) لا ذرّيّة لهم مذكورة ، ولا تربة مشهورة ، ولا قبر مزور ، ولا مشهد معمور ، بل أخذهم سبحانه أخذه رابية ، فهل ترى لهم من باقية (٥)؟

ولو لم يكن سبحانه أوضح من فضل آل محمد وما أوضح ، ونصّ على وجوب طاعتهم وصرّح ، وفرض على الكافّة مودّتهم ، وقرن بطاعته طاعتهم ، وجعلهم اُولى الأمر في خلقه ، وأوجب من حقّهم ما أوجب من حقّه ، لكان فيما ذكرت أقوم دليل ، وأوضح سبيل ، على أنّ أمرهم لدنيّ ، وسلطانهم ربّانيّ ، وخلافتهم من أمر الله ، وإمامتهم من نصّ الله ، وأنّهم السبب المتّصل بينه وبين عباده ، والسبيل الموصل إلى مشيئته ومراده ، فهم وذكره المجيد حبلاه المتّصلان ، وسبباه الأطولان ، لا انقطاع لاتّصالهما ، ولا نقصان لكمالهما.

اللهمّ زدنا بحبّهم شرفاً إلى شرفنا ، وهب لنا بهم من لدنك رحمة تخصّنا

__________________

١ ـ إقتباس من الآية : ١٥ من سورة الأنبياء.

٢ ـ إقتباس من الآية : ١٨ من سورة إبراهيم.

٣ ـ إقتباس من الآية : ٤٥ من سورة الكهف.

٤ ـ إقتباس من الآية : ٩٨ من سورة مريم.

٥ ـ إقتباس من الآيتين : ١٠ و ٨ من سورة الحاقّة.

٤٩١

بها وتزلفنا ، إنّك على كلّ شيء قدير.

روي أنّه لما هلك يزيد عليه اللعنة ، وولده معاوية ، ومات مروان أيضاً ، وكان عبيد الله بن زياد لعنه الله قد لحق بالشام لمّا مات يزيد ـ وقصّته مشهورة ـ خوفاً من أهل الكوفة ، فأرسله عبد الملك بن مروان في جيش كثيف إلى العراق ، وتشايع بتوجّهه أهل الكوفة والعراق ، وكان منهم جماعة من أبرار الشيعة قد حبسهم عبيد الله بن زياد ، فلمّا مضى إلى الشام كسروا الحبس ، وتعاهدوا على قتال ابن زياد لعنه الله.

روى شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه في أماليه ، قال : ظهر المختار بن عبيد الله الثقفي رحمه‌الله بالكوفة ليلة الأربعاء لأربع عشرة ليلة مضت (١) من ربيع الآخر سنة ستّ وستّين من الهجرة ، فبايعه الناس على كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأخذ بثأر الحسين عليه‌السلام ، والطلب بدمه ودماء أهل بيته عليهم‌السلام ، والدفع عن الضعفاء ، فقال الشاعر في ذلك :

ولمّا أتى المختار جئنا لنصره

على الخيل تردى من كميت (٢) وأشقرا

دعا يا لثارات الحسين فأقبلت

تعادى بفرسان الصباح لتثأرا

وكان ابن الزبير قد تولّى على مكّة ، وبايعه الناس ، فأرسل إلى الكوفة بعبد الله بن مطيع ، فلمّا نهض المختار رضي الله عنه خرج عبد الله وأصحابه منهزمين ، وأقام المختار بالكوفة إلى المحرّم سنة سبع وستّين ، ثمّ عمل (٣) على إنفاذ الجيوش إلى ابن زياد ، وكان اللعين بأرض الجزيرة ، فصيّر على شُرَطِه

____________

١ ـ في الأمالي : بقيت.

٢ ـ تردى : تضرب الأرض بحوافرها ، والكميت من الخيل : ما كان لونه بين الأسود والأحمر.

٣ ـ في الأمالي : عمد.

٤٩٢

أبا عبد الله الجدلي وأبا عمارة كيسان مولى عرينة ، وأمر إبراهيم بن مالك الأشتر بالتأهّب للمسير إلى ابن زياد ، وجعله أميراً على الجند.

فخرج إبراهيم رضي الله عنه يوم السبت لسبع خلون من المحرّم سنة سبع وستّين في ألفين من مذحج وأسد ، وألفين من تميم وهمدان ، وألف وخمسمائة من قبائل المدينة ، وألف وخمسمائة من قبائل كندة وربيعة ، وألفين من الحمراء (١).

وشيّع المختار إبراهيم بن مالك الأشتر ماشياً ، فقال إبراهيم : اركب رحمك الله.

فقال المختار : إنّي لأحتسب الأجر في خطاي معك ، واُحبّ أن تغبّر قدماي في نصر آل محمد عليهم‌السلام ، ثمّ ودّعه وانصرف.

فسار ابن الأشتر حتّى أتى المدائن ، ثمّ سار يريد ابن زياد ، فارتحل المختار من الكوفة ، ونزل المدائن لمّا بلغه انّ إبراهيم ارتحل عنها ، ومرّ ابن الأشتر حتّى نزل نهر الخازر بالقرب من الموصل ، وأقبل ابن زياد لعنه الله في الجموع ، فنزل على أربعة فراسخ من عسكر ابن الأشتر ، ثمّ التقوا فحرّض إبراهيم أصحابه ، فقال : يا أهل الحقّ وأنصار الدين ، هذا ابن زياد قاتل الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام قد أتاكم الله به وبحزبه حزب الشيطان ، فقاتلوهم بنيّة وصبر ، لعلّ الله سبحانه يقتله بأيديكم ويشفي صدوركم.

وتزاحفوا ، وتنادى أهل العراق : يا لثارات الحسين ، فجال أصحاب

____________

١ ـ الحمراء : العجم ، لأنّ الغالب على ألوان العجم الحمرة ، والعرب تسمّي الموالي الحمراء : « النهاية : ١/٤٣٧ ـ ٤٣٨ ».

٤٩٣

[ ابن ] (١) الأشتر جولة ، فناداهم : يا أصحاب شرط الله ، الصبر الصبر ، فتراجعوا. فقال لهم عبد الله بن يسار بن أبي عقب الدؤلي : حدّثني خليلي عليّ ابن الحسين عليه‌السلام أنّا نلقى أهل الشام على نهر يقال له الخازر ، فيكشفونا حتّى نقول : هي هي ، ثمّ نكرّ عليهم فنقتل أميرهم ، فأبشروا واصبروا فإنّكم لهم قاهرون.

ثمّ حمل ابن الأشتر عشيّاً فخالط القلب ، فكشفوهم (٢) أهل العراق وركبوهم يقتلونهم ، فانجلب الغمّة وقد قُتل عبيد الله بن زياد وحُصين بن نُمير وشرحبيل ابن ذي الكلاع وابن حوشب وغالب الباهلي وعبد الله بن إياس السلمي ، وأبو الأشرس الّذي كان والياً على خراسان وأعيان أصحابه.

فقال ابن الأشتر لأصحابه : إنّي رأيت بعدما انكشف الناس طائفة منهم قد صبرت تقاتل ، فأقدمت عليهم ، وأقبل رجل في كبكبة كأنه بغل أقمر (٣) ، يُفري الناس ، لا يدنو منه أحد إلّا صرعه ، فدنا منّي فضربت يده فأبنتها ، وسقط على شاطىء النهر فشرّقت يداه ، وغرّبت رجلاه ، فقتلته ، ووجدت من رائحة المسك ، وأظنّه ابن زياد فاطلبوه ، فجاء رجل ونزع خفّيه وتأمّله ، فإذا هو عبيد الله بن زياد على ما وصف ابن الأشتر ، فاحتزّ رأسه ، واستوقدوا عامّة الليل بجسده ، فنظر إليه مهران مولى زياد وكان يحبّه حبّاً شديداً فحلف ألّا يأكل شحماً أبداً فأصبح الناس وحووا [ ما في ] (٤) العسكر ، وهرب غلام لعبيدالله إلى الشام ، فقال له عبد الملك ، متى عهدك بابن زياد؟

__________________

١ و ٤ ـ من الأمالي.

٢ ـ في الأمالي : فكسرهم.

٣ ـ الكبكبة : جماعة الخيل. الأقمر : الأبيض المشوب بكدُرة ؛ وقيل : ما كان لونه إلى الخضرة.

٤٩٤

فقال : جال الناس وتقدّم وقاتل ، وقال : ائتني بجرّة فيها ماء ، فأتيته فاحتملها وشرب منها وصبّ الباقي بين درعه وجسده وعلى ناصية فرسه فصهل ، ثمّ اقحمه ، فهذا آخر عهدي به.

قال : وبعث ابن الأشتر برأس ابن زياد إلى المختار ورؤوس أعيان من كان معه ، فقدم بالرؤوس والمختار يتغدّى ، فاُلقيت بين يديه ، فقال : الحمد لله ربّ العالمين ، وضع رأس الحسين عليه السالم بين يدي ابن زياد وهو يتغدّى ، واُتيت برأس ابن زياد وأنا أتغدىّ.

قال : وانسابت حيّة بيضاء تتخلّل الرؤوس حتّى دخلت في نفس (١) ابن زياد وخرجت من اُذنيه ، ودخلت في اُذنه ، وخرجت من أنفه ، فلمّا فرغ المختار من الغداء قام فوطى وجه ابن زياد بنعله ، ثمّ رمى بها إلى مولىً له وقال : اغسلها فإنّي وطئت بها وجه نجس كافر.

وخرج المختار إلى الكوفة وبعث برأس ابن زياد ورأس حصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع مع عبد الرحمان بن أبي عمير الثقفي وعبد الله بن شدّاد الجشميّ والسائب بن مالك الأشعري إلى محمد بن الحنفيّة بمكّة ، وعليّ بن الحسين عليه‌السلام يومئذ بمكّة ، وكتب إليه معهم :

فأمّا بعد :

فإنّي بعثت أنصارك وشيعتك إلى عدوّك يطلبونه بدم أخيك الشهيد ، فخرجوا محتسبين محنقين أسفين ، فلقوهم دون نصيبين (٢) ، فقتلهم ربّ العباد ،

____________

١ ـ في الأمالي : أنف.

٢ ـ نصيبين : مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام. « معجم البلدان : ٥/٢٨٨ ».

٤٩٥

والحمد لله الّذي طلب لكم بالثأر ، وأدرك لكم رؤوس أعدائكم [ فقتلهم ] (١) في كلّ فجّ ، وغرّقهم في كلّ بحر ، وشفى بذلك صدور قوم مؤمنين ، وأذهب غيظ قلوبهم.

فقدموا بالرؤوس والكتاب عليه ، فبعث برأس ابن زياد لعنه الله إلى عليّ ابن الحسين عليه‌السلام ، فاُدخل عليه وهو يتغدّى ، فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : اُدخلت على ابن زياد وهو يتغدّى ورأس ابي بين يديه ، فقلت : اللّهمّ لاتمتني حتّى تريني رأس ابن زياد وأنا اتغدّى ، فالحمد لله الّذي أجاب دعوتي.

ثمّ أمر فرمي به ، فحمل إلى ابن الزبير فوضعه على قصبة ، فحرّكته الريح فسقط ، فخرجت حيّة من تحت اللسان (٢) فأخذت بأنفه ، ففعل ذلك ثلاث مرّات ، فأمر ابن الزبير فاُلقي في بعض شعاب مكّة.

قال : وكان المختار رحمه‌الله قد سئل في أمان عمر بن سعد لعنه الله ، فآمنه على أن لا يخرج من الكوفة فإن خرج منها فدمه هدر.

قال : فخرج عمر حتّى أتى الحمّام ؛ فقيل له : أترى هذا يخفى على المختار؟ فرجع ليلاً ودخل داره ، فأتى عمر رجل فقال له : إنّي سمعت المختار يحلف ليقتلن رجلاً ، والله ما أحسبه غيرك ، فلمّا كان الغد غدوت فدخلت على المختار ، وجاء الهيثم بن الأسود فقعد ، فجاء حفص بن عمر بن سعد ، فقال للمختار : يقول لك أبو حفص : إنّي على العهد الّذي كان (٣) بيننا وبينك.

قال : اجلس ، فدعا المختار أبا عمرة ، فجاء رجل قصير يتخشخش في

____________

١ ـ من الأمالي.

٢ ـ في الأمالي : الستار.

٣ ـ في الأمالي : أنزلنا بالذي كان.

٤٩٦

الحديد فسارّه ، ودخل رجلان ، فقال : اذهبا معه ، والله ما أحسبه بلغ دار عمر ابن سعد حتّى جاء برأسه.

فقال المختار لحفص : أتعرف هذا الرأس؟

فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، نعم.

فقال المختار : يا أبا عمرة ألحقه بأبيه ، فقتله.

فقال المختار : عمر بن سعد بالحسين ، وحفص بعليّ بن الحسين ، ولا سواء.

قال : واشتدّ أمر المختار بعد قتل ابن زياد وأخاف الوجوه وقال : لا يسوغ لي طعام ولا شراب حتّى أقتل قتلة الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، وما من [ ديني ] (١) ترك أحد منهم حيّاً ، وقال : أعلموني من شرك في دم الحسين وأهل بيته ، فلم يكن يأتوه برجل فيقولون : هذا من قتلة الحسين أو ممّن أعان عليه إلّا قتله ، وبلغه أن شمر بن ذي الجوشن لعنه الله أصاب مع الحسين (٢) إبلاً له قد أخذها ، فلمّا قدم الكوفة نحرها وقسم لحمها.

فقال المختار : احصوا لي كلّ دار دخلها شيء من ذلك اللحم ، فأحصوها ، فأرسل إلى كلّ من أخذ منه شيئاً فقتلهم وهدم دوراً بالكوفة (٣).

واُتي المختار بعبد الله بن أُسيد الجهنيّ ، ومالك بن هيثم البدّائي من كندة وحَمَل بن مالك المحاربيّ ، فقال : يا أعداء الله ، أين الحسين بن عليّ؟

__________________

١ ـ من الأمالي.

٢ ـ كذا ، والظاهر : من الحسين ، أو : مع الحصين.

٣ ـ انظر : ذوب النضار لابن نما : ١٢٤.

٤٩٧

قالوا : اكرهنا على الخروج إليه.

فقال : أفلا مننتم عليه وسقيتموه من الماء؟!

وقال للبدائي : أنت صاحب برنسه لعنك الله؟

قال : لا.

قال : بلى.

ثمّ قال : اقطعوا يديه أو رجليه ودعوه يضطرب حتّى يموت ، فقطعوه (١) ، وأمر بالآخرين فضربت أعناقهم ، واتي بقراد بن مالك وعمرو بن خالد وعبد الرحمان البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني ، وقال لهم : يا قتلة الصالحين ، ألا ترون الله بريئاً منكم؟ لقد جاءكم الورس بيوم نحس ، فأخرجهم إلى السوق فقتلهم هناك (٢).

وبعث المختار معاذ بن هانىء الكندي ، وأبا عمرة كيسان رضي الله عنهما إلى دار خَوليّ بن يزيد الأصبحي ـ وهو الّذي حمل رأس الحسين عليه‌السلام إلى ابن زياد ـ ، فأتوا داره فاستخفى في المخرج ، فدخلوا عليه فوجدوه قد ترك (٣) على نفسه قوصرّة (٤) ، فأخذوه وخرجوا يريدون المختار ، فتلقّاهم في ركب ، وردّه إلى داره ، وقتله عندها وأحرقه (٥).

__________________

١ ـ انظر : ذوب النضار : ١٢٣.

٢ ـ انظر : ذوب النضار : ١٢٣ ـ ١٢٤.

٣ ـ في الأمالي : أكبّ.

٤ ـ القوصرّة : وعاء من قصب يُرفع فيه التمر من البواري.

٥ ـ انظر : ذوب النضار : ١١٨ ـ ١١٩.

٤٩٨

وطلب [ المختار ] (١) شمر بن ذي الجوشن فهرب إلى البادية ، فسُعي به إلى أبي عمرة ، فخرج إليه مع نفر من أصحابه فقاتلهم قتالاً شديداً فأثخنته الجراح ، فأخذه أبو عمرة أسيراً ، وبعث به إلى المختار فأغلى له دهناً في قدر وقذفه فيها فتفسّخ ووطىء مولى لآل حارثة بن مضرّب وجهه ورأسه.

ولم يزل المختار يتتبّع قتلة الحسين عليه‌السلام حتّى قتل منهم خلقاً كثير ، وهرب الباقون فهدم دورهم ، وقتلت العبيد مواليهم الّذين قاتلوا الحسين عليه‌السلام ، وأتوا المختار فأعتقهم. (٢)

وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه قال : أخبرنا محمد بن محمد ، قال : أخبرني المظفّر بن محمد البلخي ، قال : حدّثنا أبو علي محمد بن همّام الاسكافي ، قال : حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : حدّثنا داود بن عمر النهدي ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن يونس ، عن المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على عليّ بن الحسين عليه‌السلام في مكّة ، فقال لي : يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهلة الأسدي؟

فقلت : تركته حيّاً بالكوفة.

قال : فرفع يديه جميعاً ، ثمّ قال : اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ النّار ، اللّهمّ أذقه حرّ النار.

قال المنهال : فقدمت الكوفة وقد ظهر المختار بن أبي عبيد ، وكان لي صديقاً ، قال : فكنت في منزلي أيّاماً حتّى انقطع الناس عنّي ، ثمّ ركبت إليه فلقيته خارجاً من داره فقال : يا منهال ، لم تأتنا في ولايتنا هذه ، ولم تهننا بها ،

__________________

١ ـ من الامالي.

٢ ـ أمالي الطوسي : ٢٤٠ ـ ٢٤٥ ح ١٦ ، عنه البحار : ٤٥/٣٣٣ ح ٢ ، وعوالم العلوم : ١٧/٦٥٨ ح ١.

٤٩٩

ولم تشركنا فيها؟ فأعلمته أنّي كنت بمكّة ، وأنّي قد جئتك الآن ، وسايرته ونحن نتحدّث حتّى أتى الكناس ، فوقف وقوفاً كأنّه منتظر لشيء ، وقد كان اُخبر بمكان حرملة بن كاهلة لعنه الله ، فوجّه في طلبه ، فلم نلبث أن جاء قوم يركضون وقوم يشدّون حتّى قالوا : أيّها الأمير ، البشارة ، قد اُخذ حرملة بن كاهلة ، فما لبثنا أن جيء به ، فلمّا نظر إليه المختار قال لحرملة : الحمد لله الّذي مكّنني منك ، [ ثمّ ] (١) قال : الجزّار الجزار ، فُاتي بجزّار ، فقال له : اقطع يديه ، فقطعتا ، ثمّ قال : اقطع رجليه ، فقطعتا ، ثمّ قال : النّار النار ، فاُتي بنار وقصب فاُلقي عليه فاشتعلت فيه النار.

فقلت : سبحان الله! سبحان الله!

فقال : يا منهال ، إنّ التسبيح لحسن ، ففيم سبّحت؟

فقلت : أيّها الأمير ، دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على عليّ ابن الحسين عليه‌السلام ، فقال : يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهلة؟ قلت : تركته حيّاً بالكوفة ، فرفع يديه جميعاً وقال : اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه النّار ، اللّهمّ أذقه حرّ النار.

فقال المختار : أسمعت عليّ بن الحسين عليه‌السلام يقول هذا؟

فقلت : والله لقد سمعته يقول هذا ، فنزل عن دابّته وصلّى ركعتين وأطال السجود ، ثمّ قام وركب ، وقد احترق حرملة ، وركبت معه وسرنا ، فحاذيت داري ، فقلت أيّها الأمير ، إن رأيت أن تشرّفني وتكرّمني وتنزل عندي وتحرم بطعامي.

__________________

١ ـ من الأمالي.

٥٠٠