تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس : فقلت : هل لك أن تقضي لي حاجة وتأخذ منّي أربعمائة درهم؟

قال : ما هي؟

قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم ، ففعل ذلك فسلّمت إليه الدراهم ، ووضع الرأس في طشت واُدخل على يزيد ، فدخلت مع الناس ، وكان يزيد جالساً على السرير ، وعلى رأسه تاج مكلّل ، وحوله كثير من مشايخ قريش ، فلمّا دخل صاحب الرأس جعل يقول :

أوقر ركابي فضّة وذهبا

أنا قتلت السيّد المهذّبا (١)

قتلت خير الناس اُمّاً وأبا

وخيرهم إذ ينسبون (٢) النسبا

فقال يزيد : إذا علمت أنّه خير الناس فلمَ قَتلتَه؟

قال : رجوت الجائزة.

فقيل : إنّ يزيد أمر بقتله. (٣)

وروى سيّدنا السند عليّ بن طاوس رضي الله عنه ، قال : لمّا قرب القوم بالرؤوس والاُسارى من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر لعنه الله ، وكان في جملتهم ، فقالت : لي إليك حاجة.

قال : وما حاجتك؟

قالت : إذا دخلت البلد فأدخلنا في درب قليل النظّارة ، وتقدّم إلى

____________

١ ـ في المقتل : المحجّبا.

٢ ـ في المقتل : يذكرون.

٣ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٦٠ ـ ٦١ ، عنه عوالم العلوم : ١٧/٤٢٧.

٣٨١

أصحابك أن يخرجوا الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذا الحال ، فأمر في جواب سؤالها أن يجعلوا الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً ، وسلك بهم على تلك الحال بين النظّارة حتّى أتى بهم باب دمشق فاقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبى ، فروي أن بعض الفضلاء التابعين لمّا شهد رأس الحسين عليه‌السلام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه ، فلمّا وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك ، فقال : أمّا ترون ما نزل بنا؟ ثمّ أنشأ يقول :

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد

مترمّلاً بدمائه ترميلا

فكأنّما بك يا ابن بنت محمد

قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

يا من إذا حسن العزاء عن امرىء

كان البكاء حسناً عليه جميلا

فبكتك أرواح السحائب غدوة

وبكتك أرواح الرياح أصيلا (١)

وروي أنّهم لما دخلوا دمشق واُقيموا على درج المسجد منتظرين الإذن من يزيد حيث يقام السبي أقبل شيخ من أهل الشام حتّى دنا منهم ، فقال : الحمد لله الّذي قتلكم وأهلكم ، وأراح العباد من رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فقال له عليّ بن الحسين عليه‌السلام : يا شيخ ، هل قرأت القرآن؟

____________

١ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/١٢٥ ـ ١٢٦ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٠ ، وفيهما الأبيات الأربعة الاُولى فقط.

٣٨٢

قال : نعم.

قال : قرأت هذه الآية ( قُلْ لَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١)؟

قال الشيخ : قرأت ذلك.

فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : فنحن الـقربى ، يا شيخ ، هل قرأت ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَــأنَّ للهِ خُمُسهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢)؟

قال : نعم.

قال : فنحن القربى ، يا شيخ ، هل قرأت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣)؟

قال : نعم.

قال : فنحن أهل البيت الّذي خصصنا به.

قال : فبقي الشيخ مبهوتاً ساعة ساكتاً نادما على ما تكلّم به ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ، فقال : اللّهمّ إنّي اتوب إليك من بغض هؤلاء القوم ، ثمّ التفت إلى عليّ بن الحسين ، فقال : بالله أنتم هم؟

فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : تالله إنّا لنحن هم من غير شكّ ، وحقّ جدّنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال : فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ، فقال : اللّهمّ

__________________

١ ـ سورة الشورى : ٢٣.

٢ ـ سورة الأنفال : ٤١.

٣ ـ سورة الأحزاب : ٣٣.

٣٨٣

إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمد من جنّ أو إنس ، ثمّ قال : هل من توبة ، يا ابن رسول الله؟

قال : نعم ، إن تبت تاب الله عليك ، وأنت معنا.

فقال : وأنا تائب ، فبلغ يزيد مقالته ، فأمر بقتله.

قال : ثمّ اُدخلوا على يزيد وهم مقرنون بالحبال ، وكان أوّل من دخل شمر بن ذي الجوشن على يزيد بعليّ بن الحسين عليه‌السلام مغلولة يده إلى عنقه ، فلمّا وقفوا بين يديه على تلك الحال قال له عليّ بن الحسين عليه‌السلام : اُنشدك (١) بالله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لو رآنا على هذا الحال ما كان يصنع؟ فأمر يزيد بالحبال فقطعت (٢) ، ثمّ وضع رأس الحسين في طشت بين يديه ، وأجلس النساء خلفه كيلا ينظرن إليه ، وأمّا زينب فإنّها لمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقّته (٣) ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح (٤) القلوب : يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا ابن مكّة ومنى ، ويا ابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء ، يا ابن بنت المصطفى.

قال : فوالله لقد أبكت كلّ من في المجلس ويزيد ساكت.

ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين عليه‌السلام وتنادي : وا حسيناه ، وا سيّداه ، يا ابن محمداه ، يا ربيع الأرامل واليتامى ، يا قتيل أولاد الأدعياء.

____________

١ ـ اُقسمك ـ خ ل ـ.

٢ ـ بقطع الحبال ـ خ ل ـ.

٣ ـ فشقت وجهه ـ خ ل ـ.

٤ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : يفزع.

٣٨٤

قال : فأبكت كلّ من سمعها. (١)

قال (٢) : وقام من أهل الشام أحمر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية تعينني.

قالت : وكنت (٣) جارية وضيئة ، فارتعدت وفرقت وظننت أنّه يفعل ذلك ، فأخذت بثياب اُختي زينب فقال : كذبتَ والله ولؤمتَ ما ذلك لك ولا له.

فغضب يزيد ، فقال : بل أنت كذبت إنّ ذلك لي ، ولو شئت فعلته.

فقالت : كلّا والله ما جعل الله ذلك لك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.

فقال يزيد : إيايّ تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.

فقالت : بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت.

قال : كذبتِ يا عدوّة الله.

قالت زينب : أمير متسلّط يشتم ظلماً ، ويقهر بسلطانه ، اللّهمّ إليك أشكو دون غيرك ، فاستحيا يزيد وندم وسكت مطرقاً.

__________________

١ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٦١ ـ ٦٢ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١١ ـ ٢١٤.

٢ ـ في المقتل : وروي عن فاطمة بنت الحسين أنّها قالت : لما اُدخلنا على يزيد ساءه ما رأى من سوء حالنا ، وظهر ذلك في وجهه ، فقال : لعن الله ابن مرجانة ، وابن سميّة ، لوكان بينه وبينكم قرابة ما صنع بكم هذا ، وما بعث بكنّ هكذا ، قالت : فقام إليه رجل من أهل الشام ...

٣ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : قال : وكانت.

٣٨٥

وأعاد الشامي فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية.

فقال يزيد : اعزب لعنك الله ، ووهب لك حتفاً قاضياً ، ويلك لا تقل ذلك ، فهذه بنت عليّ وفاطمة ، وهم أهل بيت لم يزالوا مبغضين لنا منذ كانوا. (١)

قال الشامي : الحسين بن فاطمة وابن عليّ بن أبي طالب!!

قال : نعم.

فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته ، والله ما توهّمت إلّا أنّهم سبي الروم.

فقال يزيد : والله لألحقنّك بهم ، ثمّ أمر به فضربت عنقه.

قال : ثمّ تقدّم عليّ بن الحسين بين يدي يزيد وقال :

لا تطمعوا أن تهينونا نكرمكم

وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

الله يعلم أنّا لا نحبّكم

ولا نلومكم إذ (٣) لم تحبّونا

فقال يزيد : صدقت ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين ، فالحمد لله الّذي قتلهما ، وسفك دمهما ، ثمّ قال : يا عليّ ، إنّ أباك قطع رحمي ، وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : ( مَا أصَابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أنْفُسِكُمْ إلَّا في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (٤).

__________________

١ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٦٢.

٢ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٣ ـ في المقتل : فالله يعلم ... إن.

٤ ـ سورة الحديد : ٢٢.

٣٨٦

فقال يزيد لابنه [ خالد ] (١) : اردد عليه ، فلم يدر ما يقول ، فقال يزيد : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢).

ثمّ قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : يا ابن معاوية وهند وصخر ، إنّ النبوّة والإمرة لم تزل لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد ، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب يوم بدر واُحد والأحزاب في يده راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار.

ثمّ جعل صلوات الله عليه يقول :

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الاُمم

ثمّ قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت ، وما الّذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال ، وافترشت الرماد ، ودعوت بالويل والثبور ان يكون رأس الحسين بن فاطمة وعليّ ولده منصوبان (٣) على باب مدينتكم ، وهو وديعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، [ فيكم ] (٤) فابشر بالخزي والندامة غداً إذا جمع الناس ليوم القيامة. (٥)

ووجدت رواية أحببت إيرادها هنا بحذف الأسانيد ، قال : لمّا اُدخل رأس الحسين عليه‌السلام وحرمه على يزيد وكان رأس الحسين بين يديه في طشت جعل ينكت ثناياه بمخصرة في يده يقول :

__________________

١ ـ من المقتل.

٢ ـ سورة الشورى : ٣٠.

٣ ـ في المقتل : أيكون رأس أبي الحسين بن عليّ وفاطمة منصوباً.

٤ ـ من المقتل.

٥ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٦٣.

٣٨٧

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

فقامت زينب بنت عليّ فقالت : الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّد المرسلين صدق الله كذلك يقول : ( ثُمّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أساءُوا السّؤى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (١) أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى أنّ بنا هواناً على الله ، وبك عليه كرامة؟ وانّ ذلك لعظيم خطرك عنده ، وشمخت بأنفك ، ونظرت إلى عطفك جذلان سروراً حين رأيت الدنيا مستوسقة ، والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله سبحانه : ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٢) آمن العدل ـ يا ابن الطلقاء ـ تخديرك حرائرك وإمائك ، وسوقك بنات المصطفى رسول الله كسبايا قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ من بلد الى بلد يستشر فهنّ أهل المناهل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، وليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا من حماتهنّ حمي ، وكيف [ ترتجى ] (٣) مراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء (٤) ، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!

وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن

____________

١ ـ سورة الروم : ١٠.

٢ ـ سورة آل عمران : ١٧٨.

٣ ـ من الملهوف.

٤ ـ في الملهوف : الأزكياء.

٣٨٨

والأضغان ، ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم.

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك.

وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء آل محمد ، وتهتف بأشياخك زعمت تناديهم؟ ولتردّن وشيكاً موردهم ، ولتودّن أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلتَ ما قلتَ.

وقالت : اللّهمّ خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلُل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا ، فوالله ما فريتَ إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك ، وسترد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما تحملت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من عترته وحرمة ولحمته ، وليخاصمنّك حيث يجمع الله تعالى شملهم ، ويلمّ شعثهم ويأخذ لهم بحقّهم ، ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١).

وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم من سوَّل لك هذا ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك ، أنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ،

__________________

١ ـ سورة آل عمران : ١٦٩.

٣٨٩

فهذه الأيدي تنطف (١) من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها (٢) العواسل ، وتعفوها اُمّهات الفراعل ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنّا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت [ يداك ] (٣) ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤) ) فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد؟ ويوم ينادي المناد : ألا لعنة الله على الظالمين.

والحمدُ للهِ الّذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله (٥) أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلف (٦) ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال يزيد لعنه الله :

يا صيحةً تعلن من صوائح

ما أهون الحزن (٧) على النوائح (٨)

قال : ودعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد المنبر ويذمّ الحسين وأباه

__________________

١ ـ في الملهوف : تنضح.

٢ ـ في الملهوف : تتناهبها.

٣ ـ من المقتل والملهوف.

٤ ـ سورة فصلت : ٤٦.

٥ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل والملهوف.

٦ ـ في الملهوف : الخلافة.

٧ ـ يا صيحة تحمد ... الموت.

٨ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٦٤ ـ ٦٦ ، الملهوف على قتلى الطفوف ٢١٤ ـ ٢١٨ ، البحار : ٤٥/١٣٣.

٣٩٠

عليهما‌السلام ، فصعد وبالغ في سبّ أمير المؤمنين والحسين عليهما‌السلام والمدح لمعاوية ويزيد.

فصاح به عليّ بن الحسين عليه‌السلام : ويلك أيّها الخاطب ، اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوّء مقعدك من النار.

ولقد أحسن من قال :

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نُصبتْ لكم أعوادها؟ (١)

وروي : أنّ عليّ بن الحسين عليه‌السلام لمّا سمع ما سمع من الخاطب لعنه الله قال ليزيد : اُريد أن تأذن لي أن اصعد المنبر فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضاً ولهؤلاء الجلساء أجر ، فأبى يزيد :

فقال الناس : يا أمير المؤمنين ائذن فليصعد ، فلعلّنا نسمع منه شيئاً.

فقال : إنّه إن صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان.

فقيل له : وما قدر ما يحسن هذا؟

فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً.

قال : فلم يزالوا به حتّى أذن له ، فصعد المنبر (٢) ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ

____________

١ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٩.

٢ ـ في « ح » : حكي عن الشعبي الحافظ لكتاب الله عزّوجل أنّه قال : استدعاني الحجّاج بن يوسف يوم الأضحى فقال لي : أيّها الشيخ أيّ يوم هذا؟ فقلت : هذا يوم الأضحى ، قال بم يتقرّب به الناس في مثل هذا اليوم؟ فقلت : بالأضحية والصدقة وأفعال البرّ والخير.

فقال : اعلم أنّي قد عزمت اليوم أن اضحي برجل حسيني.

قال الشعبي : فبينما هو يخاطبي إذ سمعت من خلفي صوت لسلسلة وحديد فخشيت أن ألتفت فيستخفني ، وإذا قد مثل بين يديه رجل علوي وفي عنقه سلسلة وفي رجليه قيد من حديد ، فقال له الحجّاج : ألست فلان بن فلان؟

٣٩١

__________________

قال : نعم.

فقال له : أنت القائل إنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله؟

قال : ما قلت وما أقول ، ولكنّي قلت وأقول : إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله وفرخاه ، وإنّهما دخلا في ظهره وخرجا من صلبه على رغم أنفك يا حجّاج.

قال : وكان الملعون مستنداً فصار جالساً وقد اشتدّ غيضه وغضبه وانتفخت أوداجه حتّى تقطّعت أزرار بردته فدعا ببردة غيرها فلبسها ، ثمّ قال للعلويّ : يا ويلك إن لم تأتني بدليل من القرآن يدلّ على انّ الحسن والحسين ولدا رسول الله دخلا في ظهره وخرجا من صلبه وإلّا لأصلبنّك ولأقتلنّك في هذا الحين أشرّ قتلة ، وإن أتيتني بدليل يدلّ على ذلك أعطيتك هذه البدرة الّتي بيدي وخلّيتك سبيلك.

قال الشعبي : وكنت حافظاً لكتاب الله تعالى كلّه وأعرف وعده ووعيده ، وناسخة ومنسوخه ، فلم تخطر على بالي آية تدلّ على ذلك ، فحزنت في نفسي يعزّ والله عليَّ ذهاب هذا الرجل العلوي.

قال : فابتدأ الرجل يقرأ الآية فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقطع عليه الحجّاج قراءته وقال : لعلّك تريد أن تحتج عليّ بآية المباهلة. [ وهي قوله تعالى : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) سورة آل عمران : ٦١ ].

فقال العلوي : هي والله حجّة مؤكدّة معتمدة ، ولكنّي آتيك بغيرها ، ثمّ ابتدأ يقرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيوّب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكرّيا ويحيى ) [ سورة الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥ ] وسكت فقال له الحجّاج : فلم لا قلت عيسى أنسيت عيسى؟

فقال : نعم صدقت يا حجّاج ، فبأيّ شيء دخل عيسى في صلب نوح عليه‌السلام [ وليس له أب؟ فقال له الحجّاج : انّه دخل في صلب نوح ] من حيث اُمّه ، فقال العلوي : وكذلك الحسن والحسين دخلا في صلب رسول الله من اُمّها فاطمة الزهراء.

قال : فبقي الحجّاج كأنّما أُلقي حجر في فيه.

فقال له الحجّاج : ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان؟ فقال العلويّ : يا حجّاج لقد ثبتت لهما الامامة بشهادة الرسول في حقّهما لأنّه قال في حقّهما : « ولداي هذان إمامان فاضلان إن قاما وإن قعدا ، تميل عليهما الأعداء فيسفكون دماءهما ويسبون حرمهما » ولقد شهد لهم النبيّ بالإمامة أيضاً فقال : « ابني هذا ـ يعني الحسين ـ إمام ابن إمام أبو أئمّة تسعة ».

٣٩٢

خطب خبطة أبكى بها العيون ، وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال : أيّها الناس ، اُعطينا ستّاً ، وفضِّلنا ، بسبع اُعطينا : العلم ، والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنّا الصّديق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا خيرة (١) نساء العالمين ، ومنّا سبطا هذه الْاُمّة [ وسيّدا شباب أهل الجنّة ] (٢) ، من عرفني فقد

____________

فقال الحجّاج : يا علويّ وكم عمر الحسين في دار الدنيا؟

فقال : ثماني وخمسون سنة ، فقال له : وفي أيّ يوم قتل؟

قال : اليوم العاشر من المحرّم بين الظهر والعصر.

فقال : ومن قتله؟

فقال : يا حجّاج ، لقد جند الجنود ابن زياد بأمر اللعين يزيد لعنه الله ، فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله فقتلوا حماته وأنصاره وأطفاله وبقي فريداً ، فبينما هو يستغيث فلا يغاث ، ويستجير فلا يجار ، يطلب جرعة من الماء ليطفى بها حرّ الظمأ ، فبينما هو واقف يستغيث إلى ربّه إذ جاء سنان فطعنه بسنانه ، ورماه خولي بسهم ميشوم فوقع في لبته ، وسقط عن ظهر جواده إلى الأرض يجول في دمه ، فجاء الشمر لعنه الله فاجتزّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته ، وأخذ قميصه إسحاق الحضرمي ، وأخذ سيفه قيس النهشلي ، وأخذ بغلته حارث الكندي ، وأخذ خاتمه زيد بن ناجية الشعبي ، وأحاط القوم بخبائه ، وعاثوا في باقي أثاثه ، وأسبوا حريمه ونساءه.

فقال الحجّاج : هكذا جرى عليهم يا علوي ، والله لو لم تأتني بهذا الدليل من القرآن وبصحة إمامتهما لأخذت الّذي فيه عيناك ، ولقد نجّاك الله تعالى ممّا عزمت عليه من قتلك ، ولكن خذ هذه البدرة لا بارك الله لك فيها ؛ فأخدها العلوي وهو يقول : هذا من عطاء ربّي وفضله لا من عطائك يا حجّاج ، ثمّ إن العلويّ بكى وجعل يقول :

صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه

والطيّبون على النبيّ الناصح

وعلى قرابته الّذين نهضوا

بالنائبات وكلّ خطب فادح

طلبوا الحقوق فاُبعدوا عن دارهم

وعوى عليهم كلّ كلب نائح

[ المنتخب للطريحي : ٤٩١ ـ ٤٩٣ ]

١ ـ في المقتل : سيّدة.

٢ ـ من المقتل.

٣٩٣

عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.

أيّها الناس ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من اتّزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّي ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحي إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن عليّ المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا : لا إله إلا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين, ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصّابرين ، وأفضل العالمين ، وأفضل القائمين ، من آل طه وياسين ، أنا ابن المؤيّد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفضل من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأوّل السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله وعيبة علمه.

سمح سخيّ ، بهلول زكيّ ، مقدّم همام ، صبّار صوّام ، مهذّب قوّام ، قاطع

٣٩٤

الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم عناناً ، وأثبتهم جناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة ، وقويت الأعنّة طحن الرحا ، ويذروهم فيها ذري الريح الهشيم.

ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكّي مدنيّ [ أبطحي تهامي ، ] (١) خيفي عقبي ، بدريّ اُحديّ ، شجريّ مهاجري ، من العرب سيّدها ، وفي الوغا ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين [ مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ] (٢) ، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.

ثمّ قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء.

فلم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب والأنين ، وخشي يزيد اللعين أن تكون فتنة فأمر المؤذّن ، فقال : اقطع عليه الكلام.

فلمّا قال المؤّذن : الله أكبر الله أكبر ، قال عليه‌السلام : الله أكبر من كلّ شيء.

فلمّا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي.

فلمّا قال المؤّذن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، التفت عليّ عليه‌السلام من فوق المنبر إلى يزيد ، فقال : محمد هذا جدّي أم جدّك ، يا يزيد؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبتَ وكفرتَ ، وإن زعمتَ أنّه جدّي فلمَ قتلتَ عترته؟

__________________

١ و ٢ ـ من المقتل.

٣٩٥

قال : وفرغ المؤذّن من الأذان والاقامة ، وتقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.

قال : وروي أنّه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود ، فقال من هذا الغلام ، يا أمير المؤمنين؟

قال : هو عليّ بن الحسين.

قال : فمن الحسين؟

قال : ابن عليّ بن أبي طالب.

قال : فمن اُمّه؟

قال : فاطمة بنت محمد.

فقال الحبر : يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة ، بئسما خلفتموه في ذرّيّته ، لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننّا أنّا كنّا نعبده من دون ربّنا ، وأنتم فارقتم نبيّكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقلتموه ، سوءة لكم من اُمّة.

قال : فأمر به يزيد فوجىء في حلقه ثلاثاً ، فقام وهو يقول : إن شئتم فاقتلوني ، وإن شئتم فذروني (١) ، فإنّي أجد في التوراة انّ من قتل ذرّيّة نبيّ لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فإذا مات أصلاه الله جهنّم وساءت مصيراً. (٢)

قال : ثمّ أمر يزيد بهم فاُنزلوا منزلاً لا يكتمهم (٣) من حرٍّ ولا من برد ، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم ، وكانوا مدّة مقامهم في البلد المشار إليه

____________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : إن شئتم فاضربوني ، وإن شئتم فاقتلوني وتذروني.

٢ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٦٩ ـ ٧١.

٣ ـ في الملهوف : ولا يكنّهم.

٣٩٦

ينوحون على الحسين عليه‌السلام. (١)

وروى عن زيد بن عليّ ، [ و ] (٢) عن محمد بن الحنفيّة رضي الله عنه ، عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّه لمّا أُتي برأس الحسين إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه ، فحضر ذات يوم في مجلس يزيد رسول ملك الروم وكان من عظمائهم ، فقال : يا ملك العرب ، هذا رأس مَن؟

فقال يزيد : ما لكَ ولهذا الرأس؟

فقال : إنّي إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته فأحببت أن اُخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه حتّى نشاركك في السرور والفرح.

قال يزيد لعنه الله : هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

فقال : ومن كانت اُمّه؟

قال : فاطمة الزهراء.

قال : بنت مَن؟

قال : بنت رسول الله.

فقال النصرانيّ : اُفّ لك ولدينك ، ما من دين اخسّ من دينك [ اعلم ] (٣) إنّي من أحفاد (٤) داود ، وبيني وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظّمونني ويأخذون

____________

١ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢١٩.

٢ و ٣ ـ من المقتل.

٤ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : حوافد ، وكذا في الموضع الآتي.

٣٩٧

التراب من تحت قدميّ تبرّكاً به لأني من أحفاد داود ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم وما بينه وبين نبيّكم إلّا اُمّ واحدة ، فأيّ دين دينكم؟ ثمّ قال : هل سمعت بحديث كنيسة الحافر؟

فقال يزيد : قل حتّى أسمع.

قال : إن بين عمان والصين بحر مسيرة سنة ، ليس فيه عامر (١) إلّا بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين ، ما على [ وجه ] (٢) الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت ، أشجارهم العود ومنهم يحمل العنبر ، وهي في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد فيها من الملوك ، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر ، في محرابها حقّة من ذهب معلّقة فيها حافر يقولون إنّه حافر حمار كان يركبه عيسى عليه‌السلام ، وقد زيّنوا حول الحقّة من الذهب والديباج ما لا يوصف ، في كلّ عام يقصدونها العلماء من النصارى ، يطوفون بتلك الحقّة ويقبّلونها ، ويرفعون حوائجهم إلى الله سبحانه ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار عيسى ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم ، فلا بارك الله فيكم ، ولا في دينكم.

فقال يزيد [ لأصحابه ] (٣) : اقتلوا هذا النصرانيّ ، فإنّه يفضحني إن رجع إلى بلاده فيشنّع عليَّ ، فلمّا أحسّ النصرانيّ بالقتل قال : يا يزيد ، تريد أن تقتلني؟

قال : نعم.

قال : اعلم أنّي رأيت البارحة نبيّكم في المنام [ وهو ] (٤) يقول لي : يا نصرانيّ ، أنت من أهل الجنّة ، فتعجّبت من كلامه ، وها أنا أشهد أن لا إله إلّا

__________________

١ ـ في المقتل : عمران.

٢ و ٣ و ٤ ـ من المقتل.

٣٩٨

الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، ثمّ وثب إلى رأس الحسين عليه‌السلام وضمّه إلى صدره ، وجعل يقبّله ويبكي حتّى قتل رحمه‌الله.

وفي رواية أنّ النصرانيّ اخترط سيفه وحمل على يزيد ، فحال الخدم بينهما ، ثمّ قتل على المكان وهو يقول : الشهادة الشهادة.

وذكر أبو مخنف انّ يزيد أمر بأن يصلب رأس الحسين عليه‌السلام على باب داره ، وأمر بالنسوة أن يدخلوا داره ، فلمّا دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل أبي سفيان ومعاوية (١) إلّا استقبلتهنّ بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسين عليه‌السلام ، وألقين ما عليهنّ من الثياب والحلل والحليّ ، وأقمن المآتم ثلاثة أيّام ، وخرجت هند بنت عبد الله بن [ عامر بن ] (٢) كريز امرأة يزيد مكشوفة الرأس ، وكانت قبل ذلك تحت الحسين عليه‌السلام حتّى شقت الستر وهي حاسرة ، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عامّ فغطّاها ، ثمّ قال : نعم فاعولي عليه ـ يا هند ـ وابكي على ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصريخة قريش ، عجّل عليه ابن زياد فقتله قتله الله.

ثمّ إنّ يزيد أنزلهم في داره الخاصّة ، فما كان يتغدّى ولايتعشّى حتّى يحضر عليّ بن الحسين عليه‌السلام معه.

وروي أنّه عرض عليهم المقام بدمشق ، فأبوا ذلك ، فقالوا : بل ردّنا إلى المدينة لأنّها مهاجر جدّنا.

فقال للنعمان بن بشير : جهّز لهؤلاء بما يصلحهم ، وابعث معهم رجلاً أميناً صالحاً ، وابعث معهم خيلاً وأعواناً ، ثمّ كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق

____________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : لم يبق من آل أبي سفيان ومعاوية أحد.

٢ ـ من المقتل.

٣٩٩

والأنزال ، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين فقال له : لعن الله ابن مرجانة ، أمّا والله لو كنت صاحبه ما سألني خطة إلاّ أعطيته إيّاها ، ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما قدرت ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن قضى الله ما رأيت ، فكاتبني بكل حاجة تكون لك (١) ، ثمّ أوصى بهم الرسول ، فخرج بهم الرسول يسايرهم فيكونون أمامه حيث لا يفوتوا بطرفه ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه كهيئة الحرس ، ثمّ ينزل بهم حيث أراد واحدهم الوضوء ، ويعرض عليهم حوائجهم ويتلطّف بهم حتّى دخلوا المدينة.

قال الحارث بن كعب : قالت [ لي ] (٢) فاطمة بنت علي : قلت لأُختي زينب : قد وجب علينا حقّ هذا لحسن صحبته لنا ، فهل لكِ أن نصله؟

قالت : والله ما لنا ما نصل به إلّا أن نعطيه حليّنا ، فأخذت سواري ودملجي وسوار اُختي ودملجها فبعثنا بها إلى الرسول واعتذرنا من قلّته ، وقلنا : هذا بعض جزائك لحسن صحبتك إيّانا.

فقال : لو كان الّذي فعلته للدنيا لكان في بعض هذا رضاي ، ولكن والله ما فعلته إلّا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . (٣)

وآقول : لعن الله يزيد وأباه ، وجدّيه وأخاه ، ومن تابعه وولّاه ، بينا هو ينكت ثنايا الحسين ويتمثّل بشعر ابن الزبعرى : يا غراب البين ما شئت فقل ، إلى آخره ، واغلاظه لزينب بنت عليّ بالكلام السيّء لمّا سأله الشامي ، وقال : هب لي هذه الجارية ـ يعني فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام ـ ،

____________

١ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فكاتبني وأنّه إلى كلّ حاجة تكون لك.

٢ ـ من المقتل.

٣ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٧٢ ـ ٧٥ ، عنه البحار : ٤٥/١٤٢ ـ ١٤٥.

٤٠٠