تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وقوله لعليّ بن الحسين عليه‌السلام : أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين ، فالحمد لله الّذي قتلهما وسفك دماءهما ، وإنّ أباك قطع رحمي ، وجهل حقّي ونازعني سلطاني ، إلى آخر كلامه كما أشرنا إليه من قبل ، ونصب رأس الحسين عليه‌السلام على باب القرية الظالم أهلها ـ أعني بلدة دمشق ـ وإيقافه ذرّيّة الرسول على درج المسجد كسبايا الترك والخزرج ، ثمّ إنزاله إيّاهم في دار لا يكنّهم (١) من حرّ ولا قرّ حتّى تقشّرت وجوههم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأمر خطيبه أن يرقى المنبر ويخبر الناس بمساوىء أمير المؤمنين ومساوىء الحسين عليهما‌السلام وأمثال ذلك ، ثمّ هو يلعن ابن زياد ويتبرى من فعله وينتصل من صنعه ، وهل فعل اللعين ما فعل إلّا بأمره وتحذيره من مخالفته؟ وهل سفك اللعين دماء أهل البيت إلّا بإرغابه وإرهابه له بقوله ، ومراسلته بالكتاب الّذي ولّاه فيه الكوفة وجمع له بينها وبين البصرة الّذي ذكرنا لما وصل إليه الخبر بتوجّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة وحثّه فيه على قتله ، وأمره له بإقامة الارصاد وحفظ المسالك على الحسين ، وقوله لابن زياد في كتابه : إنّه قد ابتلى زمانك بالحسين من بين الأزمان ، وفي هذه الكرّة يعتق أو يكون رقّاً عبداً كما تعبد العبيد فاحبس على التهمة واقتل على الظنّة ، الوحا الوحا ، العجل العجل ـ كما ذكرنا أوّلاً ـ.

وإنّما أظهر اللعين التبرّي من فعل ابن زياد لعنه الله خوفاً من الفتنة وتمويهاً على العامّة لأنّ أكثر الناس في جميع الآفاق والأصقاع أنكروا فعله الشنيع وصنعه الفضيع ، ولم يكونوا راضين بفعله وما صدر عنه خصوصاً من كان حيّاً من الصحابة والتابعين في زمنه كسهل بن سعد الساعدي والمنهال بن عمرو

__________________

١ ـ لا يصونهم ـ خ ل ـ.

٤٠١

والنعمان بن بشير وأبي برزة الأسلمي ممّن سمع ورأى إكرام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له ولأخيه ، وكذلك جميع أرباب الملل المختلفة من اليهود والنصارى ، وناهيك مقال حبر اليهود ورسول ملك الروم لما شاهداه وهو ينكث ثنايا الحسين عليه‌السلام بالقضيب ـ كما ذكر ـ ولم يكن أحد من المسلمين في جميع البلاد راض بفعله إلّا من استحكم النفاق في قلبه من شيعة آل أبي سفيان ، بل كان أكثر أهل بيته ونسائه وبني عمّه غير راضين بذلك.

روي أنّ عبد الرحمان بن الحكم أخو مروان بن الحكم كان حاضراً عند يزيد لمّا وضع رأس الحسين عليه‌السلام بين يديه وعرضت عليه سبايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل عبد الرحمان يقول :

لهام بجنب الطفّ أدنى قرابة

من ابن زياد العبد ذي النسب (١) الوغل

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليست بذي نسل (٢)

فقال له يزيد : سبحان الله! أفي مثل هذا الموضع تتكلّم بهذا؟ أمّا يسعك السكوت؟ (٣)

وروي أنّه لمّا وضع رأس الحسين بين يدي يزيد فجعل ينكث ثنايا الحسين بالقضيب ويقول : لقد كان أبو عبد الله حسن المضحك ، فأقبل إليه أبو برزة صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان حاضراً في مجلسه ، وقال :

____________

١ ـ في المناقب : الحسب.

٢ ـ في المناقب : أمست بلا نسل.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٤/١١٤. وفيه : يحيى بن الحكم.

٤٠٢

ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين؟ لقد أخذ قضيبك هذا من ثغره مأخذاً ، أشهد لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : إنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، قتل الله قاتلكما ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً ، أمّا أنت يا يزيد لتجيء يوم القيامة وعبيدالله بن زياد شفيقك ، ويجي هذا وشفيقه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فاُخرج سحباً.

وقيل : إنّ سمرة بن جندب صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رأى يزيد يقلّب ثنايا الحسين عليه‌السلام قال : يا يزيد ، قطع الله يدك ارفع قضيبك ، فطال ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلثم هاتين الشفتين ، ولم يكن أحد من أكثر الناس في جميع الآفاق راضياً بفعله فلذلك أبدى الاعتذار ، وركن إلى الانكار ، خوفاً أن يفتق عليه فتق لا يرتق ، وأن ينفتح عليه باب من الشرّ لا يغلق ، فاعتذر وأنّى له الاعتذار ، ولم يكن له موافقاً على فعله وكفره إلّا أهل القرية الظالم أهلها ـ أعني شبيهة سدوم المؤتفكة ، والطائفة الجاهلة المشركة أهل بلدة دمشق الشام فإنّهم ارتضعوا ثدي النفاق (١) من أخلاف أسلافهم ،

____________

١ ـ في « ح » :

روي أنّ اُمّ الحجّاج بن يوسف قاتل السادات والحجّاج ولدته مشوّهاً لا دبر له فاثقب له دبر ، وأبي أن يقبل الثدي من اُمّه وغيرها فأعياهم أمره.

وفي الحديث انّ إبليس تصوّر لهم بصورة حارث بن كلدة زوج اُمّه الأوّل ، فقال : اذبحوا له تيساً والعقوه من دمه ، واطلوا به وجهه وبدنه كلّه ، ففعلوا به ذلك فقبل الثدي ، فلهذا لا يقدر يصبر عن سفك الدماء ، وكان ... لذاته سفك الدم وارتكاب اُمور لا يقدر عليها غيره ، واحصر من قتل بأمره سوى من قتل في حروبه فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً ، ووجد في سجنه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف مرأة لم يجب على أحد منهم حدّ ولا قطع ، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد ؛ وقيل لو جاءت كلّ اُمّة بفساقها وخبيثها وجي بالحجّاج وحده لزاد عليهم كفراً ونفاقاً. انتهى

٤٠٣

وجبلت على بغض أهل البيت طينتهم.

ولقد اُلقي على لساني من فيض فكري وجناني كلمات قصدتهم فيها بلعني وزجري ، ووجّهت إليهم مطايا ذمّي في نثري ، وأشرت إليهم بتعنيفي ، وخاطبتهم بتأفيفي ، أبعدهم الله من رحمته ، وأحلّ بهم أليم عقوبته.

أيّها الأُمّة المغرورة برتبة دنياها ، الكفورة بنعمة مولاها ، المنكرة معادها ومبدأها ، المنهمكة بطغواها في غيّها ، المارقة بسعيها وبغيها ، الجاحدة نصّ نبيّها ، المنكرة فضل وليّها ، السالكة نهج شركها ، الحائرة في ظلمة شكّها.

يا أتباع أحزاب الشيطان ، ويا نصّاب أنصاب الأوثان ، ويا شيعة آل أبي سفيان ، ويا صحبة الشجرة الملعونة في القرآن ، يا من لم يؤمنوا منذ كفروا ، ولم يؤتمنوا منذ غدروا ، ألمع لهم شراب الباطل فوردوه ، وظنّوه شراباً فلم يجدوه ، ونعق بهم ناعق الظلم فأطاعوه ، وبرق لهم بارق البغي فاتّبعوه ، ولمع لهم علم الضلالة فأمّوه ، وبدا لهم طريق الجهالة فسلكوه ، لما كذبهم رائدهم ، وأضلّهم قائدهم ، أردتهم آراؤهم ، وقادتهم أهواؤهم ، إلى النّار الموصدة ، والعمد الممدّدة ، لا جرم من كان ابن الباغية دليله ، ونجل النابغة قبيله ، كان جزاؤه من عذاب الله جزاء موفوراً ، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً.

ويلكم ألم يأتكم نبأ الّذين راموا محق شمس الاسلام في احدهم وبدرهم ، وإطفاء مصابيح الايمان بأحزابهم وقهرهم؟ ألم يكونوا لقائدكم آباء ولنبيّكم أعداء؟ أليست اُمّه آكلة أكباد الصدّيقين؟ أليس أبوه قائد أحزاب المشركين؟ الّذي لعنه وآباه وابنه الرسول الصادق في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللّهمّ العن الراكب والقائد والسائق؟ أليست عمّته حمّالة الحطب الّتي تبَّ الله يدها ويد بعلها أبي لهب؟ يا ويلكم أضلّكم الشيطان فأزلّكم ، وزين لكم بغروره

٤٠٤

سوء عملكم ، توادّون من حادّ الله ورسوله ، وتتّبعون من كان الشيطان قائده ودليله ، لا يشكّ في كفركم إلّا كافر ، ولا يرتاب في فجوركم إلّا فاجر ، أيصلب رأس ابن نبيّكم على باب جامعكم ، ويسبّ صنو رسولكم في مجامعكم ، وتساق نساؤه وبناته إلى يزيدكم ، ويقمن مقام الخزرج والترك على باب يزيدكم؟

لا منكر منكم ينكر بلسانه وقلبه ، ولا متقرّب يتقرّب بسترهم إلى ربّه ، فأنتم قبل الفتح خير منكم بعده ، وآباؤكم الهالكون على الكفر أفضل منكم يا أهل الردّة ، أزنى من قوط لوط أمتكم ، وأشأم من سدوم قريتكم ، زنوة الفسوق ، وجبهة العقوق ، ومنزل الشيطان ، ومعدن البهتان ، تأتون الذكران من رجالكم ، وتذرون ما خلق لكم ربّكم من أزواجكم ، الابنة فاشية في أبنائكم ، والغلمة ناشئة في نسائكم ، أورثكم ذلك بغض وصيّ نبيّكم ، وسبّكم له على منابركم بكفركم وغيكم ، آه لو أنّ لي بكم قوّة يا بني الزواني ، أو آوي إلى ركن شديد من أشباهي وإخواني ، لاُصلينّكم في الدنيا قبل الآخرة ناراً ، ولغادرتكم رماداً مستطاراً ، ولمحوت آثاركم ، ولقطعت أخباركم ، ولعجلّت بواركم ، ولهتكت أستاركم ، ولقضيت بصلب قضاتكم ، وحرب عتاتكم ، وسبي نسائكم ، وذبح أبنائكم ، وقطع غراسكم ، وقلع أساسكم.

يا أهل المؤتفكة ، يا أتباع الطائفة المشركة ، والله ما نظرتم حيث نظر الله ، ولا اخترتم من اختار الله ، ولا واليتم من والى الله ، ولم تزالوا أتباع العصابة المفتونة ، والشجرة الملعونة ، تدحضون الحقّ بأيديكم وألسنتكم ، وتنصرون الباطل في سرّكم وعلانيتكم ، كم زينتم صفوفكم بصفين؟ وكم قتلتم أعلام المهاجرين الأوّلين؟ لما جبيت على بغض الوصيّ جوانح أضلاعكم ، وأعلنتم

٤٠٥

بسبّه في جوامعكم ومجامعكم ، قامت سوق النفاق في الآفاق ، وعلت كلمة الشقاق على الاطلاق ، وصار وليّ أمركم وسبيل كفركم يزيد القرود ، ويزيد اليهود ، ويزيد الخمور ، ويزيد الفجور.

يا ويلكم أيقرع ثغر ابن النبيّ بمرأى منكم؟ أيطاف ببناته ونسائه في شوارعكم؟ فأبعد بكم وبما صدر عنكم ، رماكم الله بذلّ شامل ، وعدوٍّ قاتل ، وسيف قاطع ، وعذاب واقع ، ليس له من الله من دافع.

ويحكم أتتّخذون يوم مصاب نبيّكم بولده عيداً ، وانّ بوار رهطه موسماً جديداً ، وتظهرون فيه تمام زينتكم ، وتعدّونه رأس سنتكم؟ فاُقسم بالله الّذي جعل لكم الأرض قراراً ، والسماء بناءً ، لأنتم أشرّ من اليهود والنصارى ، أسأل الله أن يرمي دمشق شامكم ، ومحلّ طغاتكم ، وبيت أصنامكم ، ومقرّ أنصابكم وأزلامكم ، بالموت الذريع ، والأخذ السريع ، والقحط الفضيع ، والظلم الشنيع ، حتّى تصيروا حصيداً خامدين ، ومواتاً جامدين ، وعباديد في الأقطار ، ومتفرقين في الأمصار ، أن يطمس على أموالكم ، ويشدّد على قلوبكم ، فلا تؤمنوا حتّى تروا العذاب الأليم تريدون أن تخرجوا من النّار وما أنتم بخارجين ولكم عذاب مقيم.

وسأختم هذا المجلس بقصيدة تنبىء عن خالص ودادي ، ومُصاص اعتقادي ، وطويل أحزاني ومديد أشجاني ، ومحتث منامي ، ووافر كربي وهيامي ، في مدح من هدت مصيبته أركان أفراحي ومسرّاتي ، وشيّدت واقعته قواعد أحزاني وكرباتي ، وقلّدت جند خدّي عقيقاً من عبراتي ، وأضرمت في أحشائي حريقاً من زفراتي ، أعني من جعل الله قلبي لحبّه وحبّ أهل بيته مسكناً ، ولولائه وولاء آبائه وأبنائه موطناً ، ولساني على مدحهم موقوفاً ،

٤٠٦

وشكري إلى كعبة جودهم مصروفاً.

سيّدي وابن سادتي ، وقائدي وابن قادتي ، أشرف من ارتدى بالمجد وأنور ، وأفضل من عرف بالفخر واشتهر ، سبط نبيّي ، ورهط وليّي ، ونجل سيّدتي ، ووالد سادتي ، وغناي يوم فقري وحاجتي ، وغياثي إذا انقطعت من الدنيا وصلتي ، سيّد الكونين وابن سادة الكونين ، وإمام الثقلين وأب أئمّة الثقلين ، المنزّه عن كلّ رجس ودين ، مولاي وسيّدي أبي عبد الله الحسين ، عليه من صلواتي ما نما وزكا ، ومن تحيّاتي ما صفا وضفا ، جعلها الله حجاباً من أليم عذابه ، وستراً من وخيم عقابه ، وهي هذه :

الفت فؤادي بعدكم أحزاني

لما جفا طيب الكرى أجفاني

يا من لهم منّي بقلبي منزل

ضمّت عليه جوانحي وجناني

أنا واحد في حبّكم لم يثنن

حتّى مماتي عن هواكم ثاني

أوقفت مدحي خالصاً لجلالكم

وعلى مراثيكم وقفت لساني

هدّت مصيبتكم وما فيكم جرا

ممّن جرا في كفره أركاني

فلأبكينّكم بدمع فيضه

بزري بصور العارض الهتّان

ولأضربنّ بمهجتي لمصابكم

ناراً تذيب الطود من أشجاني

أاُلاُم إن أرسلت نحو جمالكم

من منطقي نظماً جاه بياني

أو أرسلت عيني لفرط صبابتي

دمع يمازجه نجيع قاني

وبكم معادي إن عرتني أزمة

بقوارع من طارق الحدثان

وبكم اُرجّي فرحة يوماً به

اءُميت أو اُلَفُّ في أكفاني

وكذلك في قبري إذا اُجلست في

ظلماته وسئلت عن إيماني

وبيوم حشري لا أرى لي منقذاً

إلّا ولاءكم لدى الرحمن

٤٠٧

وصفاءَ ودٍّ لا يشاب بشبهةٍ

مقرونة بوساوس الشيطان

وأراكم من بعد أفضل مرسل

خير الورى من نازح أو دان

وأباكم ذا المجد أشرف من مشى

فوق الثرى من إنسها والجان

قصّام أبطال الحروب وكاسر ال‍ـ

‍ـأصنام يوم الفتح والأوثان

وأخ الرسول وصنوه ووصيّه

ونديده في الفضل والإحسان

ما من نبيّ مرسل كلّا ولا

ملك رقى بالقرب خير مكان

ألا وفضل أبيكم من فضلهم

ما آن له يوم التفاضل ثاني

يا خير من في الله وفّي مخلصاً

بجهاده في السرّ والاعلان

يا من عناه المصطفى والمرتضى

والطهر فاطم خيرة النسوان

يا ابن الأباطح والمشاعر والصفا

والبيت ذي الأستار والأركان

يا خامساً لذوي الكسا فصبغ ما

لاقيته ثوب السقام كساني

ومشير رأسك بالدما مخضّباً

منه المشيب على سنان سنان

وأذاب قلبي ثمّ صَعّده دماً

من مقلتي كالسيل في الجريان

لنسائك اللاتي يسقن حواسراً

يسترن أوجههنّ بالأردان

ولقتل اُسرتك الّتي جادت بأن‍ـ

ـ‍فسها عليك كمسلم مع هاني

وكذلك من جعلوا وجوههم وقى

لك من سهام عصابة البهتان

أضحوا بعرصة كربلاء صرعى وأم‍ـ

ـ‍سوا في نعيم دائم وأمان

في جنّة يسقون من بعد الظما

فيها كؤوساً من يد الولدان

من سلسبيل في منازل جنّة

محفوفة بالرَّوح والريحان

يا راكباً يطوي الفلاء بجسرة

كالدال في بَيْدٍ بغير توان

عج بالطفوف مقبلاً أزكى ترى

من حبّه فرض على الأعيان

سبط النبيّ وخامس الأشباح وال‍ـ

ـ‍مخصوص بالتطهير في الفرقان

٤٠٨

هدموا بمقتله الطغاة قواعد ال‍ـ

ـ‍اسلام والأحكام والإيمان

أبلغه عنّي من سلامي ما زكا

واخبره عمّا ساءني ودهاني

من فرط أحزاني لما لاقاه من

عصب الضلالة من بني سفيان

قوم بأنعم ربّهم كفروا فكم

قصدوا نبيّ الله بالشنئان؟

في حرب خير المرسلين ورهطه

بذلوا عناداً غاية الامكان

وعليه في بدر واُحد واجلبوا

بمضمر ومهنّد وسنان

وجرت صفوفهم بصفّين على

نهج الاُلى سلفوا اُولي الطغيان

حتى إذا أكلتهم الحرب الّتي

يروى مواقعها مدى الأزمانِ

وعليهم زأرت اُسود هريرها

لمّا التقى في جنحها الجمعانِ

داموا فراراً حين صاروا طعمة

فيها لكلّ مهنّد ويمانِ

ورأوا دماء حماتهم مذ أصبحوا

فوق الصعيد كمفعم الغدران

رفعوا المصاحف حيلة وخديعة

مذ آل أمرهم إلى الخسرانِ

كفروا بأنعم ربّهم فغدوا لما

فعلوه بغياً حمة النيرانِ

وعلى ابن هند عجلهم عكفوه ك‍ـ

قوم السامريّ الغادر الخوّانِ

تركوا أخصّ العالمين برتبة ال‍ـ

‍ـهادي البشير بشاهد القرآنِ

وبنصّ أفضل مرسل ومبلّغ

وبحجّة من ساطع البرهانِ

وبنوا معالم دينهم جهلاً على

ابن قحّافهم ثمّ العتلّ الثاني

فأضلّ اُمّة أحمد بريائه

واسامها في مرتع البهتانِ

وأشار بالشورى فعاد الجور من‍ـ

ـ‍ه مكمّلاً والعدل في نقصانِ

حتى إذا ما قام ثالثهم وحا

نثهم وناكثهم فتى عفّان

جعل العتلّ زمامه بيد العتي‍ـ

ـ‍د ابن الطريد حميمه مروانِ

وغدا لمال الله يفرس جاهداً

كالذئب عاث بثلّة من ضأن

٤٠٩

حتّى إذا غمر الأنام بظلمه

وتبرّمت من حكمه الثقلان

أردته بطنته فأصبح جارعاً

كأس المنيّة واهي الأركانِ

حتّى إذا قام الوصيّ بعهده

لله لا نكس ولا متوان

قصدته راكبة البعير بفتنة

يذكي ضرام سعيرها رجسانِ

حتّى إذا الحرب العوان تحكمّت

بوقودها من أنفس الشجعان

صارا طعام عوامل ومناصل

للعكس قد نأيا عن الأوطانِ

جاءا لنصر عصابة الشيطان فاخ‍ـ

ـ‍ترما ببطش عصابة الرحمن

يا فرقة نكثت عهود نبيّها

وأتت بكلّ منافق فتّان

يا جند راكبة البعير ومن عصت

بالبغي أمر الحاكم الديّانِ

وأتت من البلد الحرام وقلبها

يغلي بنار الحقد والأضغانِ

حتّى إذا صارت حماة بعيرها

قوتاً لزائرها من السيدانِ

أبدت خضوعاً واستقالت عثرة

واستسلمت بالذّل والإذعانِ

صفح الكريم بحلمه عنها وأف‍ـ

‍ـرشها مهاد تحنّنٍ وأمانِ

وأعادها كرماً فعادت وهي ذو

عقل لفادح هولها ولهانِ

لما اطمأنّت دارها قفلت إلى

نحو ابن هند ذا حشاً ملآن

واستنفرته فسار بالجيش الّذي

راياته نصبت على البهتانِ

فهي الّتي جعلت ضرام وقودها

أجساد قادتها من الفرسانِ

لمّا أتت بقميص عثمان علي‍ـ

‍ـه نجيعه كالأرجوان القاني

دارت رحاء الحرب واشتبك القنا

من سعيها واستقتل الجيشانِ

والله ما خذل الوصيّ وقتله

متبتلاً في طاعة المنّانِ

إلّا لها فيه نصيب وافر

ولسان باغ غادر ويدان

وكذاك قتل ابن الرسول ورهطه

دوح الفخار وأشرف الأفنانِ

٤١٠

لم أنسها يوم الزكي وقد غدت

بالقول تنفث نفقة الثعبان

آليت ألّا تدفنوا في منزلي

من لستُ أهواه ولا يهواني

يا بن أرذل تيم مرّة خادم ال‍ـ

ـ‍تيمي نجل زعيمهم جدعان

هذي الشجاعة من أبيك بخيبر

جاءتك ترقل رقلة الفحلان

يا آل أحمد إن جزعت لثابت

في الناس غيركم فما أشقاني

حزني عليكم سرمداً لا ينقضي

ما شبّه في القلب بالسلوانِ

كم ناصب علم الأذيّة لي بكم

أمسى للعن عدوّكم يلحاني

ويلسمني وقراً إذا ما ضلّ عن

لعن الطواغيت الاُلى ينهاني

عن جاحدي نصّ الغدير وغاصبي

فدكاً من الزهراء ذات الشانِ

ستّ النساء وبنت أكرم مرسل

شرفت برفعته بنو عدنانِ

يا من مصابهم جميع مصائب ال‍ـ

ـ‍دنيا وفادح خطبها أنساني

أنتم عياذي والّذي أرجوهم

حصناً إذا الخطب الجسيم دهاني

وبكم اُرجّي يوم حشري زلفة

من خالقي بالعفو والغفرانِ

وإليه أفزع من عدوٍّ كاشح

بالبغي يقصدني وبالعدوان

إن يعدني عدوّاً عليه يرى لها

متسربلاً بالخزي ثوب هوان

ويصدّه عنّي بذلّ شامل

ليكون معتبراً لمن ناواني

أو أن تصبّرني على ما حلّ بي

من حمقه وأضرّ بي ودهاني

ثمّ الصلاة عليكم ما غرّدت

ورقاء في دوح على الأغصانِ

أو حرّكت ريح الصباء صاعداً

ناء عن الأوطان والخلّانِ

٤١١
٤١٢

المجلس التاسع

مفتتحاً بالتعزية الّتي وسمتها ب‍ « مجرية العبرة ومحزنة

العترة » قلتها بإذن الله ، وتلوتها يوم التاسع في شهر

المحرّم الحرام على المنبر في جمع لا يحصى كثرة أجريت

بها عيون المؤمنين ، وأحزنت قلوب المتّقين ، وأخزيت من

رام هظمي من الشانئين تجاه ضريحه الشريف ، ومقامه

المنيف ، متقرّباً بذلك إلى الله ربّ العالمين ، ونبيّه الأمين ،

ووليّه سيّد الوصيّين ، وآلهم الأئمّة الطاهرين.

الخطبة

الحمد للهِ الّذي نوّر قلوب أوليائه بأنوار معرفته ، وأظهر نفوس أصفيائه على أسرار حكمته ، واختبرهم بالتكاليف الشّاقة من حكمه لينالوا الزلفى من رحمته ، وامتحنهم بالمحن السابقة في علمه ، ليصلوا بها إلى جوار حضرته ، وابتلى عباده بفرض مودّتهم وجعلها ثمن جنّته ، وألزمهم بالتزام عروة عصمتهم وقرن طاعتهم بطاعته ، فمن امتثل أمر الله بإخلاص ودّه لهم في سرّه وعلانيته ، واستمسك بحبل ولائهم واعتقده سبباً منجياً في دنياه وآخرته ، فقد استمسك بالعروة الوثقى من عفو ربّه ومغفرته ، وفاز بالسعادة العظمى يوم فقره وفاقته ، ومن أخذ ذات اليمين وذات الشمال في معتقده ونحلته ، واتّبع غير سبيل

٤١٣

المؤمنين فيما ينظر من خبث سريرته ، ولّاه الله ما تولّى وأحلّ به نكال عقوبته.

نحمده على ما وفّقنا له من عرفان حقّهم ، والإقرار بفضلهم وصدقهم ، والإستمساك بعروة عصمتهم ، والإلتزام بحبل مودّتهم ، وتضليل من خالفهم بقوله وفعله ، وتكفير من أجلب عليهم بخيله ورجله ، والبراءة ممّن تقدّمهم غاصباً ، وتحلّى بغير اسمه كاذباً ، ولعن من نصب لهم العداوة والبغضاء علانية وسرّاً ، وتخطئة من ردّ مقالهم خفيةً وجهراً.

ونشكره إذ جعلنا من فضل طينتهم ، وغذانا بلبان مودّتهم ، وجعلنا من ورق شجرتهم ، وأسكن قلوبنا لذّة معرفتهم ، حبّنا إيّاهم دليل على طهارة مولدنا ، وبغضنا أعداءهم سبيل إلى إخلاص ودّنا في معتقدنا.

نحمده على هذه النعمة الجسيمة ، والمنّة الوسيمة ، اللاتي جهل الأشقياء عرفان قدرها ، وقصر البلغاء عن تأدية شكرها ، ونشهد أن لا إله إلّا الله شهادة توافق بها قلوبنا ألسنتنا ، ويوافق بها سرّنا علانيتنا ، ونشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله الأمين ، وحبله المتين ، وصراطه المستقيم ، ونهجه القويم ، صدع بالحقّ ناطقاً ، وخبّر عن الله صادقاً ، تمّم الله به الرسالة ، وأيد بالمعجز مقاله ، واختاره حاكماً بأمره ، وموضعاً لسرّه ، وشرّفه بالاسراء إلى حضيرة قدسه ، وجعل خطابه إيّاه ليلة المعراج اُنساً وشرفاً لنفسه ، فهو أصل الشرف وفرعه ، وبصر المجد وسمعه.

سرّة البطحاء مغرس أصله ، ومنكب الجوزاء مركب فضله ، أروقة المفاخر على هامة عظمته مضروبة ، وألوية المآثر على رفعة حضرته منصوبة ، وظلال الشرف تتفيّؤ على جلال نبوّته ، وحلال الكرم وقف على رتبته.

سلالة طود العلم فمنه تفجّرت عيونه ، ودوح المجد فعليه تهدّلت

٤١٤

غصونه ، أعرض عن الدنيا صفحاً ، وطوى عنها كشحاً ، وشمرّ عنها ذيلاً ، ولم يرزء منها كثيراً ولا قليلاً ، تحبّبت إليه فأبغض ، وتشوّقت نحوه فرفض ، وتعرّضت به فأعرض ، وعلى نفسه وخاصّته تركها أوجب وفرض ، ولأدلّتها نقض ، ولحججها أدحض ، ولم يزل صلوات الله عليه يحذّر غرورها ، ويخوّف زورها ، حتّى نصبت له الغوائل ، وأصمّت منه المقاتل ، وآذته في أهله واُسرته ، وأغرت سفهاءها بنيه وعترته ، وغادرتهم بين قتيل ومطلول ، وأسير مخذول ، وطريد مشرّد ، ومسجون مصفّد ، تساق نساؤهم اُسارى ، على الأقتاب حيارى ، بغير نقاب ولا جلباب ، يطاف بهنّ في البلاد ، ويتشرّفهنّ الحاضر والباد ، فلو أنّ عيناً بعدها كفت لعظيم ما وكفت ، ونفساً تلفت لفرط ما تلهّفت ، وقلب انقطع بسيوف الحزن غمّاً ، وروحاً فارقت جسدها كرباً وهمّاً ، لم يكونوا في شرح الحقيقة ملومين ، ولا بين أرباب الطريقة مذمومين؟

فتفكرّوا في نبيّكم ووليّكم ، وانّهما الّذين هم الوسيلة لكم إلى ربّكم ، كيف تجرّأت لقتالهم بقايا الأحزاب ، وتكالبت على استئصالهم أبناء الكلاب ، وجرّدت عليهم من مناصلها وعواملها ، وفوّقت نحوهم سهامها ومعابلها ، هذا خاتم النبيّين وسيّدالمرسلين إمام الدين ، وقائد الخير ونبيّ الرحمة ، وشفيع الاُمّة ، صاحب الحوض والكوثر ، والناتج والمغفر ، والخطبة والمنبر ، والركن والمشعر ، والوجه الأنور ، والجبين الأزهر ، والدين الأظهر ، والنسب الأطهر ، محمد سيّد البشر ، الّذي لا يسامي في الفضل ، ولا يساوي في المجد ، ولا يجاري في حلبة الفخر ، ولا يضاهى في رفعة القدر.

السبع الطباق ميدان سباقه ، وسدرة المنتهى غاية براقة ، و ( سُبْحَانَ

٤١٥

الَّذي أسْرَى ) (١) حظو الرهان ، ( فَأوْحَى إلَى عَبْدِهِ ما أوْحَى ) (٢) خلعة المليك السلطان ، ووضع له كرسيّ الكرامة في عالم الملكوت الأعلى ، ونصب لأخمصه منبر الزعامة فوق طرائق السبع العلى ، حتّى رقى بقدم الصدق إلى أعلى مراقي الشرف ، ونطق بلسان الحقّ في ذلك المقام المشرّف ، فخوطب في سرائره ، ونودي في ضمائره : يا من أطلعته على سرّي المصون ، وأيّدته بكلامي المخزون ( قُلْ يَا أيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الّذي لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إلَّا هُوَ يُحْيي وَيُمِيُت فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبيِّ الاُمِّيِّ الّذي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لِعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (٣) فصدع بها ناطقاً ، وأعلن بها صادقاً ، فعندها جرى قلم القدرة على لوح المشيئة بيد المشيئة لرقم منشور نبوّته ، واثبت أرباب ديوان الصفيح الأعلى على قرطاس الشرف مسطور عموم ولايته.

الابتداء : ( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلي إنَّ اللهَ قَويٌّ عَزِيزٌ ) (٤) الانتهاء : ( ادْعُ إلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (٥) باللفظ الوجيز.

لمّا علم قيّوم الملكوت تسدّده في ذاته وإخلاصه ختم بيد العظمة والقدرة مرقوم ولايته بمهر الخاصّة ، وأشهد على ذلك رهبان صوامع العالم الأقدس ، وأمرهم بالتمسك في مقام الخدمة في ذلك المقام المقدّس ، جبرئيل عن يمينه يعضده ، وميكائيل عن يساره يمجّده.

__________________

١ ـ سورة الاسراء : ١.

٢ ـ سورة النجم : ١٠.

٣ ـ سورة الأعراف : ١٥٨.

٤ ـ سورة المجادلة : ٢١.

٥ ـ سورة النحل : ١٢٥.

٤١٦

ولمّا وضع تاج الكرامة على همّته ، واُفرغت خلع العصمة على أعطاف نبّوته ، أثبت الكرام الكاتبون نسخة الميسور في رقّ منشور ، متّصل الثبوت إلى يوم النشور ، يفخر اللوح المحفوظ بتقريره ، ويزهر الكتاب المسطور بمسطوره ، وتشرق السموات السبع بنوره ، ويخضل كلّ أمير لشرف أميره ، اُعيد إلى قراره من البلد الحرام ، بعد أخذ ميثاق ولايته على الخاصّ والعامّ ، الروحانيّون يتألمّون لفراقه ، والكرّوبيّون مكتنفوا براقه ، وجبرائيل آخذ بركابه ، وميكائيل غاشيه دار جنابه ، قد نشرت أعلام الفخر عليه ، وسلّمت مقاليد الجنّة والنار إليه ، وجعل مدار أمر الدنيا والآخرة في قبضة حكمه ، وعلوم الأوّلين والآخرين كالقطرة في بحر علمه.

فما عسى أن أقول في وصف من « لولاك لما خلقت الأفلاك » حلّة نبّوته ، والسفرة الكرام البررة من الأملاك ملازموا حضرته ، وسمّوه بعزل السماك الأعزل سمو عن مقام رفعته ، وعلوّه يتبدّل انباك المجرّة علو بعالي همّته ، به قوام العالم ، وله مقام السلطنة على بنى آدم ، ناقل كلّ مجد رفيع مجده ، ويخضع كلّ شريف لشرف جدّه ، ويفخر الخليل بنبوّته ، وتشمّخ جبريل بنبوّته ، وتفضّل إسماعيل على إسرائيل بوصلته ، ويمنّ اللطيف الخبير على الجمّ الغفير من خلقه ببعثته.

البائع نفسه من خالقه ، الواضع سيفه على عاتقه ، تلوذ الأبطال بجانبه إذا حمي الوطيس ، وتعوذ الرجال بشجاعته إذا التقى الخميس بالخميس ، سل عنه بدراً واُحداً إذا اُنزلت الملائكة المتوّجون له جنداً.

لمّا قام داعياً إلى الله على بصيرة من أمره ، مخلصاً في جهاد أعداء الله في علانيته وسرّه ، قاطعاً في الله الأقربين من اُولى أرحامه ، واصلاً للأبعدين بآلائه

٤١٧

وإنعامه ، تألّبت على قتاله أحزاب الشيطان ، وتكتّبت لاستئصاله كتائب البهتان ، وخلعت العرب أعنّة الطاعة لأمره ، ورامت خفض ما رفع إليه من قدره ، وهدِّ ما شدّ من أركانه ، وهدم ما اُسّس من بنيانه ، وإدحاض ما أوضح من حجّته ، وإخفاء ما بيّن من أدلّته ، وأبى الله إلّا أن ينصر دينه ، ويؤيّد نبيّه وأمينه.

ولم يزل صلى‌الله‌عليه‌وآله مجاهداً صابراً يتلقّى حدود الصفاح بشريف طلعته ، ويقابل رؤوس الرماح بزاهر بهجته ، ويذلّ بشدّة بأسه كلّ متكبّر جبّار ، ويفلّ بشباء سيفه كلّ متغلّب ختّار ، يباشر بنفسه الحتوف ، ويتلقى بوجهه السيوف ، حتّى كسرت في اُحد رباعيته ، وشجّت لمناوشته القتال جبهته ، وقتل في بدر واُحد وحنين أهله واُسرته ، لم يثنه ثانٍ عن نصرة دين الله ، ولم يكن له في الخلق ثان في جهاد أعداء الله.

قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه. (١)

ولم يزل صلى‌الله‌عليه‌وآله يقاسي الأهوال في حروبه وغزواته ، ويقطّع الآجال بتواصل صولاته وعزماته ، حتّى قبضه الله إليه سعيداً ، ودعاه إلى جواره شهيداً ، موفياً ببيعته ، موضحاً سبيل الحقّ بدعوته ، ولمّا نقله الله إلى جواره وقبضه إليه واختاره اشتدّ البلاء على ذرّيّته ، وضاق الفضاء بعترته ، ورمتهم عصب الباطل بسهام نفاقها ، وأصمت منهم المقاتل بمعابل شقاقها ، وجحدت نصّ الغدير ولم يطل العهد ، وضللت الهادي البشير ولم تخلف المعتمدة (٢) ،

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار : ١٦/١١٧ و ١٢١ و ٢٣٢ و ٢٥٤ و ٣٤٠ ، وج ١٩/١٩١ ح ٤٤ ، وج ٧٢/٥.

٢ ـ كذا في الأصل.

٤١٨

ووضعت الحقّ في غير محلّه ، ونكثت ما عاهدت عليه الرسول في أهله وأظهرت فيهم الأجناد ، ورمتهم عن قوس واحدة دون العباد ، ومنعت الزهراء نحلتها من والدها ، وردّت شهادة شاهدها ، ولطموا خدّها وخلّوا جدّها ، حتّى ماتت بغصّتها من قولهم وفعلهم ، وأوصت أن تدفن ليلاً من أجلهم.

يا ويلهم ممّا ارتكبوا من ظلم آل نبيّهم ، واحتقبوا من غصب حقّ وليّهم ، جعلوا الضرير يقود مبصرهم ، والضليل الشرّير حبرهم وخيّرهم ، والكذوب على الله ورسوله زعيمهم وصدّيقهم ، الظلوم لآل وليّهم وفاروقهم ، فضلّوا وأضلّوا ، وزلّوا وأزلّوا ، وسلكوا منهاج الشرك ، وأظهروا كلمة الكبر ، وارتدّوا عن الدين الحنيف ، وباعوا الآخرة بالنزر الطفيف.

فأبعدهم الله كما بعدت ثمود ، وأوردهم النّار وبئس الورد المورود ، ذلك بأنّهم اتّخذوا آيات الله هزواً ولعباً ، وافتروا على الله كذباً ، فأبوا شرّ مآب ، ونكصوا على الأعقاب ، حتّى إذا اُكملت العدّة ، وانقضت المدّة ، وأرهقتهم سعور وقدموا على ما قدموا من موبقات الذنوب وتكدّر من دار غرورهم ما راق وصفا ، ورأوا المجرون النّار فظنّوا أنّهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً.

قد تهيّأت ملائكة العذاب لعذابهم ، وسجّرت دركات النيران لعقاقهم ، وحاق بهم ما كانوا بهم يستهزئون ، وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، وشاهدوا كتاب عملهم قد أحصى ما اقترفوه حساباً وعدواً قالوا : يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها؟! ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربّك أحداً هنالك تشتمل أعناقهم الأغلال بجوامعها ، وتنتابهم الزبانية بمقامعها ، ويلقون في شرّ سجن يشرف عليهم إبليس فيلعنهم ، وتطلع إليهم عبدة الأوثان فتوبّخهم ، لا فترة من ريحة عقابها ، ولا يقضى عليهم

٤١٩

فيموتوا ولا يخفّف عنهم من عذابها.

لم يرض وليّهم وفاروقهم ، بل جبتهم وطاغوتهم بتقلّد عارها في دار الفناء ، حتّى احتقبه وزرها إلى دار البقاء ، وأفضى بوصيّته إلى من ضارعه من أهل النفاق ، وتابعه من اُولي الشقاق ، بقتل ذرّيّة نبيّهم ، والانتقام من عترة وليّهم ، وألّا يقتلوا عترتهم ، ولا يرحموا عبرتهم ، فنسجوا على منواله ، واقتدوا بأفعاله وأقواله ، وقتلوهم تحت كلّ كوكب ، وذهبوا بهم كلّ مذهب.

فلا أنس وإن نسيت ، ولا يعزب عن علمي ما حييت ، قائدة الفتنة ، وقاعدة المحنة ، ابنة رأس الظلمة ، وأساس الآثمة ، أوّل باغ بغى في هذه الاُمّة ، وأخبث طاغ طغى وأحلّ بآل الرسول ظلمه ، يخب بها جملها من البلد الحرام ، قد أجلبت بخيلها ورجلها على علمة الإسلام ، وإمام الأنام ، أفضل من صلّى وصام ، وأجمل من نام وقام ، وأكمل من دقّ ودرج ، وأتقى من ولج وخرج ، قصّام الأصلاب إذ تضرم الوقائع نارها ، وقسّام الأسلاب حين تضع الحرب أوزارها.

شقيق النبيّ في المجانسة ، ورفيقة في المجالسة ، ومساوية في الحقيقة ، ومواليه في الطريقة ، ونفسه في المباهلة ، وسيفه في المصاولة ، وعليّه الأعلى ، ووليّه الأدنى.

أعبد العبّاد ، وأزهد الزهّاد ، وبدل الأبدال ، ومنكّس الأبطال ، يقطّ الأصلاب إن بارز ، ويجزّ الرقاب إن ناجز ، يمشي إلى الحتوف مشياً سجحاً ، ويبدي للضرب وجهاً سمحاً ، يخطر في الحرب والمنايا أليفة سيوفه ، ويشمرّ للضرب والبلايا طلائع صفوفه.

كم قصم قفاراً يدي قفاره؟ وكم جندل مغواراً بشباء غراره؟ وكم افترس

٤٢٠