تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ٢

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟! فتبّاً لِما قدّمتم لأنفسكم ، وشوهاً (١) لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غداً إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أُمّتي؟!

قال [ الراوي ] (٢) : فارتفعت اصوات الناس بالنحيب من كلّ ناحية ، ويقول بعضهم لبعض : هلكتم وما تعلمون.

فقال صلوات الله عليه : رحم الله امرءً قَبِل نصيحتي ، وحفِظ وصيّتي ، في الله وفي رسوله وآهل بيته ، فإنّ لنا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اُسوة حسنة.

فقال الناس كلّهم بأجمعهم : نحن كلّنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون ، حافظون لذمامكم (٣) ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فإنّا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، لنأخذنّ يزيد ونبرأ ممَّن ظلمك وظلمنا.

فقال عليه‌السلام : هيهات هيهات ، أيّها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين ما تشتهي أنفسكم (٤) ، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي (٥) من قبل؟! كلّا وربّ الراقصات ، فإنّ الجرح لمّا يندمل ، قُتِل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه ، ولم يُنسني ثكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وثكل أبي وبني

____________

١ ـ في الملهوف : وسوءاً.

٢ ـ من الملهوف.

٣ ـ في الملهوف : لذمامك.

٤ ـ في الملهوف : وبين شهوات أنفسكم.

٥ ـ في الملهوف : أبي.

٣٦١

أبي ، ووجده بين لهواتي (١) ، ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصصه تجري في فراش صدري ، ومسألتي ألّا تكونوا لنا ولا علينا.

ثمّ قال صلوات الله عليه :

لا غرو إنْ قُتِل الحسين فشيخه

قد كان خيراً من حسين وأكرما

فإن تفرحوا يا أهل كوفان بالّذي

أصاب حسيناً كان ذلك أعظما

قتيلٌ بشطّ النهر روحي فداؤه

وإنّ الّذي ارداه يجزى جهنّما (٢)

ثمّ قال عليه‌السلام : رضينا منكم رأساً برأس ، فلا يوم لنا ولا يوم علينا. (٣)

قال [ الراوي ] (٤) : ثمّ إنّ ابن زياد جلس في القصر للناس ، وأذن للناس إذناً عامّاً ، وجيء برأس الحسين عليه‌السلام فوضع بين يديه ، وأدخل نساء الحسين وبناته وأخواته وصبيانه [ إليه ] (٥).

فجلست زينب بنت عليّ سلام الله عليها متنكّرة ، فسأل عنها ؛ فقيل : هذه زينب بنت عليّ.

فأقبل عليها ، فقال لعنة الله عليه : الحمد لله الّذي فضحكم وأكذب

____________

١ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : لهاتي.

٢ ـ في الملهوف : جزاء الّذي ارداه نار جهنّما.

٣ ـ في الأصل ـ خ ل ـ : فلا اليوم لنا واليوم علينا ، وفي الملهوف : فلا يوم لنا ولا علينا.

٤ و ٥ ـ من الملهوف.

٣٦٢

اُحدوثتكم!!

فقالت : إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا.

فقال ابن زياد : كيف رأيتِ صُنع الله بأخيك وأهل بيتك؟

فقالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، وهؤلاء قوم كُتِب (١) عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ـ يا ابن زياد ـ فيحاجّون ويخاصمون (٢) ، فانظر لمن الفلج يومئذ (٣) ، هبلتك اُمّك يا ابن مرجانة.

[ قال الراوي : ] (٤) فغضب ابن زياد فكأنّه همّ بها ، فقال عمرو بن حريث : إنّها إمرأة (٥) ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.

فقال ابن زياد : يا زينب ، شفيت نفسي من طاغيتك (٦) الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك.

فقالت زينب : لعمري لقد قتلتَ كهلي ، وقطعتَ فرعي ، واجتثثتَ أصلي ، فإن كان هذا شفاك فقد اشتفيت.

فقال ابن زياد لعنه الله : هذه سجّاعة ، ولقد كان أبوها شاعراً سجّاعاً.

__________________

١ ـ في الملهوف : كَتَب الله.

٢ ـ في الملهوف : فتحاجّ وتخاصَم.

٣ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : فانظر يومئذ الفلج.

٤ ـ من الملهوف.

٥ ـ في الملهوف : فقال له عمرو بن حريث : أيّها الأمير إنّها امرأة.

وعمرو هذا هو : عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي ، كانت داره مأوى لأعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، وليّ الكوفة لزياد بن أبيه ولابنه عبيد الله ، مات سنة « ٨٥ » ه‍. « سير أعلام النبلاء : ٣/٤١٧ ـ ٤١٩ ، الأعلام : ٥/٧٦ ».

٦ ـ في الملهوف : فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك.

٣٦٣

فقالت : يا ابن زياد ، ما للمرأة والسجاعة؟ إنّ لي عن السجاعة لشغلاً.

فالتفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين ، فقال : مَن أنتَ؟

فقال : أنا عليّ بن الحسين.

فقال : ألم يقتل الله (١) عليّ بن الحسين؟ فسكت.

فقال : ما لك لا تتكلّم؟

فقال : كان لي أخ يقال له عليّ (٢) ، قتله الناس ـ أو قال : قتلتموه ـ وانّ له منكم مطلباً يوم القيامة.

فقال الملعون : بل الله قتله.

فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (٣) ، ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (٤).

فقال الملعون : أنت والله منهم ، وبكَ جرأة على جوابي ، اذهبوا به ، فاضربوا عنقه.

فسمعت عمّته زينب ، فقالت : يا ابن زياد ، إنّك لم تبقِ منّا أحداً ، فإن كنتَ قد عزمتَ على قتله فاقتلني معه.

فقال عليّ بن الحسين : اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه.

____________

١ ـ في الملهوف : أليس قد قَتَل الله؟

٢ ـ في الملهوف : كان لي أخ يسمّى عليّ بن الحسين.

٣ ـ سورة الزمر : ٤٢.

٤ ـ سورة آل عمران : ١٤٥.

٣٦٤

ثمّ أقبل عليه (١) ، فقال : أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أمّا علمَت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة؟

فقال ابن زياد : دعوه ينطلق مع نسائه ، اخرجوهم عنّي ، فأخرجوهم إلى دار في جنب المسجد الأعظم ، فقالت زينب : لا يدخلنّ علينا عربيّة إلّا اُمّ ولد أو مملوكة ، فإنّهنّ سبين وقد (٢) سبينا. (٣)

ثمّ أمر ابن زياد برأس الحسين عليه‌السلام فوضع في طشت بين يديه فجعل ينكت بقضيب في وجهه وقال : ما رأيت مثل حسن هذا الوجه قطّ ، وكان يشبه (٤) وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقيل : إنّ ابن زياد أرسل إلى أبي برزة صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : كيف شأني وشأن الحسين؟

قال أبو برزة : الله أعلم ، فما علمي بذلك؟

فقال : إنّما أسألك عن علمك؟

قال : أمّا إذا سألتني فإنّ الحسين يشفع فيه رسول الله جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشفع لك زياد.

فقال : اخرج ، لو لا ما جعلت لك لضربت عنقك.

وروى [ محمد بن ] (٥) خالد الضبي ، عن إبراهيم ؛ قال : لو أنّي كنت ممّن

____________

١ ـ في الملهوف : إليه.

٢ ـ في الملهوف : كما.

٣ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ١٩٤ ـ ٢٠٢.

٤ ـ في المقتل : فقلت : أمّا إنّه كان يشبه.

٥ ـ من المقتل.

٣٦٥

قاتل الحسين ثمّ أتيت بالمغفرة من ربّي فاُدخلت الجنّة لاستحييت من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ان أمرّ عليه فيراني.

وعن زيد بن أرقم : قال : كنت جالساً عند عبيد الله بن زياد إذ أُتى برأس الحسين صلّى الله عليه فوضع بين يديه فأخذ قضيبة فوضعه بين شفتيه ، فقلت : إنّك تضع قضيبك في موضعٍ طالما لثمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! فقال : قم إنّك شيخ قد ذهب عقلك.

ثمّ رفع زيد صوته يبكي وخرج وهو يقول : ملك عبد حرّاً ، أنتم ـ يا معشر العرب ـ العبيد بعد اليوم ، قتلتم ابن فاطمة ، وأمّرتم ابن مرجانة حتّى يقتل خياركم ، ويستعبد شراركم ، رضيتم بالذلّ فبعداً لمن رضي. (١)

وعن شهر بن حوشب : قال : لمّا جاء نعي الحسين عليه‌السلام لعنت اُمّ سلمة رضي الله عنها أهل العراق ، وقالت : قتلوه قتلهم الله تعالى ، غرّوه وأذّلوه لعنهم الله.

قيل : إنّ أوّل ذلّ دخل على العرب قتل الحسين وادّعاء زياد. (٢)

ذكر سيّدنا السيّد الجليل فخر آل الرسول عليّ بن موسى بن محمد الطاوس الحسني رضي الله عنه انّ ابن زياد لعنه الله أمر برأس الحسين عليه‌السلام فطيف به في سكك الكوفة.

ثمّ قال رضي الله عنه : ويحقّ أن أتمثّل بابيات لبعض ذوي العقول يرثي

____________

١ ـ من قوله : « ثمّ رفع يزيد » الى هنا اخرجه المجلسي رحمه‌الله في البحار : ٤٥/ ١١٧ عن كتابنا هذا. وكذا البحراني في عوالم العلوم : ١٧ / ٣٨٤.

٢ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/ ٤١ ـ ٤٦.

٣٦٦

بها قتيل آل الرسول :

رأس ابن بنت محمد ووصيّه

للناظرين على قناة يرفعُ

والمسلمون بمنظر وبمسمع

لا منكر منهم ولا متفجّعُ

كحلت بمنظرك العيون عمايةً

وأصمّ رزؤك كلّ اُذنٍ تسمعُ

أيقظت أجفاناً وكنتَ لها كرىً

وأنمتَ عيناً لم تكن بك تهجعُ

ما روضة إلاّ تمنّت أنّها

لك حفرة ولخطّ قبرك موضعُ (١)

قال : ثمّ خرج ابن زياد لعنه الله ودخل المسجد ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : الحمد لله الّذي أظهر الحقّ وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه ، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب!!

قال : فما زاد على هذا الكلام شيئا حتّى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ، وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم ، وكانت عينه اليسرى قد ذهبت يوم الجمل ، والاُخرى يوم صفّين ، وكان لا يكاد أن يفارق المسجد (٢) الأعظم يصلّي فيه إلى الليل ، ثمّ ينصرف إلى منزله ، فلمّا سمع مقالة اللعين وثب إليه قائماً وقال : يا ابن مرجانة ، إنّ الكذّاب وابن الكذّاب أنتَ وأبوك ، ومن استعملك وأبوه ، يا عدوّ الله ، أتقتلون أبناء خير النبيّين (٣) وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟

فغضب ابن زياد ، ثمّ قال : من المتكلم؟

فقال : أنا المتكلّم ، يا عدوّ الله ، أتقتل الذرّيّة الطاهرة الّتي أذهب الله عنها

____________

١ ـ في الملهوف : مضجع.

٢ ـ في الملهوف : وكان يلازم المسجد.

٣ ـ في الملهوف : أتقتلون أولاد النبيّين.

٣٦٧

الرجس في كتابه وتزعم أنّك على دين الاسلام؟ واغوثاه ، اين أبناء المهاجرين والأنصار ، [ ينتقمون منك و ] (١) من طاغيتك اللعين بن اللعين على لسان محمد نبيّ ربّ العالمين؟

قال : فازداد غضب عدوّ الله ، ثمّ قال : عليَّ به ، فوثب إليه الجلاوزة فأخذوه فنادى بشعار الأزد وعبد الرحمان بن مخنف الأزدي في المسجد ، فقال : ويحك أهلكت نفسك وقومك ، وكان في الكوفة يومئذ سبعمائة [ مقاتل ] (٢) من الأزد ، فوثبوا إليه وانتزعوه منهم ، وانطلقوا به إلى منزله ، ونزل ابن زياد عن المنبر ودخل القصر ، ودخل عليه أشراف الناس ، فقال : أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم؟

فقالوا : قد رأينا أصلح الله الأمير ، وإنّما الأزد فعلت ذلك فشدّ يدك على ساداتهم فهم الّذين استنقذوه من يدك ، فأرسل ابن زياد إلى عبد الرحمان بن مخنف الأزدي فأخذه ، وأخذه معه جماعة من [ أشراف ] (٣) الأزد فحبسهم ، وقال : لاخرجتم من يدي أن تأتوني بعبد الله بن عفيف ، ثمّ دعا بعمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمّد بن الأشعث وشبث بن ربعي وجماعة من أصحابه ، وقال لهم : اذهبوا إلى هذا الأعمى الّذي أعمى الله قلبه كما أعمى بصره فائتوني به.

وانطلقت رسل اللعين ، يريدون ابن عفيف ، وبلغ ذلك الأزد فاجتمعوا ، واجتمع معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم عبد الله بن عفيف.

وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى محمد بن الأشعث

__________________

١ ـ من الملهوف.

٢ و ٣ ـ من المقتل.

٣٦٨

وأمره (١) بقتال القوم.

قال : فأقبلت قبائل مضر نحو قبائل اليمن فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى أصحابه يوثّبهم ويضعّفهم ، فأرسل إليه عمرو بن الحجّاج يخبره باجتماع اليمن عليهم ، وبعث إليه شبث بن ربعي : أيّها الأمير ، إنّك أرسلتنا إلى اُسود (٢) الآجام فلا تعجل.

قال : واشتدّ قتال القوم حتّى قتل بينهم جماعة من العرب.

ووصل القوم إلى دار عبد الله بن عفيف ، فكسروا الباب واقتحموا عليه ، وصاحب ابنته : يا أباه ، أتاك القوم من حيث تحذر.

فقال : لا عليك يا ابنتي ناوليني سيفي ، فناولته السيف ، فأخذه وجعل يذبّ عن يمينه وشماله بسيفه (٣) ويقول :

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر

عفيف شيخي وابن اُمّ عامر

كم دارع من جمعكم وحاسر

وبطل جندلته مغاور؟

وجعلت ابنته تقول : القوم عن يمينك ، القوم عن يسارك ، يا ليتني كنت رجلاً فاُقاتل بين يديك هؤلاء الفجرة ، قاتلي العترة البررة.

وجعل القوم يدورون حوله عن يمينه وشماله ومن ورائه وهو يذبّ عن

____________

١ ـ في الملهوف : وأمرهم.

٢ ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : سواد.

٣ ـ في المقتل والملهوف : وجعل يذبّ عن نفسه.

٣٦٩

نفسه بسيفه وليس أحد يقدم عليه ، ثمّ تكاثروا عليه من كلّ ناحية حتّى أخذوه.

فقال جندب بن عبد الله الأزدي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اُخذ والله عبد الله بن عفيف ، فقبّح العيش (١) من بعده ، وقام ثمّ قاتل من دونه فاُخذ أيضاً ، وانطلق بهما إلى ابن زياد لعنه الله وعبد الله يقول :

اُقسم لو يكشف (٢) لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

فلمّا اُدخلا على ابن زياد قال لعبد الله : الحمد للهِ الّذي أخزاك.

قال عبد الله : وبما أخزاني ، يا عدوّ الله؟

والله لو يكشف لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

فقال له ابن زياد : يا عدوّ نفسه ، ما تقول في عثمان؟

فقال : يا ابن مرجانة ، ويا ابن سميّة الزانية (٣) ، ما أنت وعثمان أساء أم أحسن ، أصلح أم أفسد؟ والله تعالى وليّ خلقه ، يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل ، ولكن سلني عنك ، وعن أبيك ، وعن يزيد وأبيه.

فقال ابن زياد : لا أسألك عن شيء إلّا أن تذوق الموت.

فقال ابن عفيف : الحمد لله ربّ العالمين ، أمّا إنّي كنت أسأل ربّي أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدك مرجانة ، وسألته أن يجعل ذلك على يد ألعن خلق

____________

١ ـ في المقتل : أخذوا والله ... فقبح الله العيش.

٢ ـ في الملهوف : يُفسح.

٣ ـ في المقتل : يابن سميّة ، يا عبد بني علاج.

٣٧٠

الله وأبغضه إليه ، فلمّا ذهب بصري أيست من الشهادة ، والآن الحمد لله الّذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرّفني الإجابة منه لي في قديم دعائي.

فقال ابن زياد لعنه الله : اضربوا عنقه ، فضربت وصلب رحمه‌الله. (١)

ثمّ دعا ابن زياد لعنه الله بجندب بن عبد الله رضي الله عنه ، فقال : يا عدوّ الله ، ألست صاحب عليّ بن أبي طالب يوم صفّين؟

قال : نعم ، وما زلت له وليّاً ، ولكم عدوّاً ، ولا أبرأ من ذلك إليك ولا أعتذر ولا أتنصّل.

فقال ابن زياد : أمّا إنّي أتقرّب إلى الله بدمك.

فقال جندب : والله ما يقرّبك دمي إلى الله تعالى ، ولكن يباعدك منه ، وبعد فلم (٢) يبق من عمري إلاّ أقلّه ، وما أكره أن يكرمني الله بهوانك.

فقال لعنه الله : أخرجوه عنّي فإنّه شيخ قد خرف وذهب عقله ، فاُخرج وخلّي سبيله.

ثمّ دعا بعبد الرحمان بن مخنف الأزدي ، فقال : ما هذه الجماعة على بابك؟

فقال : ليس على بابي جماعة وقد قتلت صاحبنا ، وأنا لك سامع مطيع وإخوتي جميعاً ، فسكت ابن زياد ، وخلّى سبيله وسبيل أصحابه. (٣)

____________

١ ـ زاد في الملهوف : في السبخة.

٢ ـ في المقتل : وبعد فإنّي لم.

٣ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٥٢ ـ ٥٥ ، الملهوف على قتلى الطفوف : ٢٠٣ ـ ٢٠٧.

٣٧١

وكان ابن زياد حين قتل الحسين عليه‌السلام أرسل يخبر يزيد بذلك ، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص ابن أخ عمرو بن العاص أمير المدينة بمثل ذلك.

فأمّا عمرو بن سعيد فحيث (١) وصله الخبر صعد المنبر وخطب الناس وأعلمهم ذلك ، فعظمت واعية بني هاشم ، وأقاموا سنن المصائب والمآتم ، وكانت زينب بنت عقيل تندب الحسين عليه‌السلام وتقول :

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الاُمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم اُسارى ومنهم ضُرّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

قال : فلمّا جاء الليل سمع أهل المدينة هاتفاً يقول :

أيّها القاتلون جهلاً (٢) حسيناً

أبشروا بالعذاب والتنكيلِ

كلّ مَن في السماء يدعو عليكم

من نبيٍّ ومرسل وقبيلِ (٣)


____________

١ ـ في الملهوف : فحين.

٢ ـ في الملهوف : ظلماً.

٣ ـ في الملهوف : يبكي عليه ... من نبيٍّ وشاهد ورسول.

٣٧٢

قد لُعنتم على لسان ابن داود

وموسى (١) وصاحب الإنجيلِ

وأمّا يزيد فلمّا قرأ كتاب ابن زياد أرسل إليه يأمره بحمل رأس الحسين عليه‌السلام ورؤوس أصحابه ومن قتل معه ، وأمره بحمل أثقاله ونسائه وعياله وأطفاله ، فاستدعى ابن زياد بمحَفَّر بن ثعلبة العائذي (٢) وسلّم إليه الرؤوس والاُسارى والنساء ومعهم عليّ بن الحسين وأخواته وعمّاته وجميع نسائه إلى يزيد ، فسار بهم محَفَّر حتّى دخل الشام كما يسار بسبايا الكفّار ، ويتصفّح وجوههم أهل الأقطار. (٣)

وروى سيّدنا فخر العترة وجمال الاُسرة عليّ بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني رضي الله عنه عن ابن لهيعة وغيره حديثاً أخذنا منه موضع الحاجة ، قال : كنت أطوف بالبيت وإذا أنا برجل يقول : اللّهمّ اغفر لي وما أراك فاعلاً.

فقلت : يا عبد الله ، اتّق الله ولا تقل مثل هذا ، فلو أنّ ذنوبك مثل قطر الأمطار (٤) ، وروق الأشجار واستغفرت الله لغفر لك ، فإنّه غفور رحيم.

____________

١ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : عيسى.

٢ ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : مخفر بن ثعلبة العابدي.

وهو محفّر بن ثعلبة بن مرّة بن خالد ، من بني عائذة ، من خزيمة بن لؤي ، من رجال بني اُمّية في صدر دولتهم.

انظر في ترجمته : نسب قريش ٤٤١ ، جمهرة الأنساب : ١٦٥ ، أعلام الزركلي : ٥/٢١٩.

٣ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٤ ـ في الملهوف : الأمصار.

٣٧٣

فقال : تعال حتّى اُخبرك بقصّتي فأتيته ، فقال : اعلم أنّا كنّا خمسين نفراً ممّن سار برأس الحسين إلى الشام ، وكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت وشربنا الخمر حوله ، فشرب أصحابي ليلة حتّى إذا سكروا ولم أشرب معهم وجنّ علينا الليل سمعت رعداً أو رأيت برقاً وإذا بأبواب السماء قد فتحت ، ونزل آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ونبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعهم جبريل وخلق كثير من الملائكة ، فدنا جبرئيل من التابوت ، فأخرج الرأس فضمّه إلى نفسه وبكى وقبّله ، ثمّ فعل الأنبياء كذلك والملائكة كلّهم وبكى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على رأس الحسين عليه‌السلام وعزاه الأنبياء.

وقال جبرئيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد ، إنّ الله تعالى أمرني أن اُطيعك في اُمّتك ، فإن أمرتني زلزلتُ بهم الأرض ، وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يا جبرئيل ، فإنّ لي معهم (١) موقفاً بين يدي الله يوم القيامة ، ثمّ جاء الملائكة نحونا ليقتلونا ، فقلت : الأمان يا رسول الله.

فقال : اذهب لا غفر الله (٢) لك. (٣)

____________

١ ـ في الملهوف : فإنّ لهم معي.

٢ ـ لفظ الجلالة أثبتناه من الملهوف.

٣ ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، عنه عوالم : ١٧/٤٢٥.

٣٧٤

فصل

في ذكر حمل سبايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

وبناته وأحفاده إلى الشام

قلت : ولمّا مرّ بفكري ، وخطر في سرّي ، وتصوّر قلبي ، وانتعش في لبّي ، مسير بنات المصطفى والمرتضى ، وحمل ولد الزهراء على الأقتاب قسراً ، قد غاب الشفيق عنهنّ ، وبعد الشقيق منهنّ ، صرخت بصوت ينبي عن عظيم أحزاني ، وصرخت بلساني عمّا حوى جناني ، ونثرت دمعي لديهنّ ، وأشرت بنثري إليهنّ ، قائلاً :

يا خفرات المصطفى ، ويا بنات المرتضى ، ويا مخدّرات الزهراء ، ويا سيدّات نساء أهل الدنيا والاُخرى ، عجباً للسماء لما أصابكنّ لا تنفطر ، وللكواكب لمصابكنّ لم تنتثر ، وللشمس لم تكوّر ، وللبحار لم تفجّر ، وللجبال لم تسيّر ، وللأرض لم تفطّر! ذكر أسركنّ أسَرَ قلبي ، وأطلق عبرتي ، وذبح طفلكنّ هيّج وجدي ، وأحرق مهجتي ، وذكر مسيركنّ على الأقتاب قرح جفني ، وخبر ورودكنّ على اللعين بغير نقاب ولا جلباب أثار حزني ، ورؤوس رجالكنّ المرفعة على الرماح هيّج بلبالي ، ونفوس فتياتكنّ المنتزعة بحدود الصفاح أشغل بالي.

فيا عيوني لغربتهنّ أذرفي ، ويا نار حزني لكربتهنّ لا تنطفي ، ويا سعير

٣٧٥

وجدي عليهنّ لا تخمدي ، ويا زفراتي لما نالهنّ لا تبردي ، فلو أنّي نظرت بعيني مسير رواحلهنّ ، وشاهدت عديد سبائهنّ لوضعت أكفّي لأكفّ مطاياهنّ موطئاً ، بل خدّي ، ولبذلت في خلاصهنّ غاية جهدي وجدّي ، ولجاهدت القائد والسائق ، وللعنت الناظر والرامق ، ولاستغثت بصوت يفصح عمّا ضمت عليه جوانحي من غصّتي ، ولناديت بأنّه ينبىء عن عظيم رزيّتي ومصيبتي ، ولحثوت التراب على ترائبي ورأسي ، ولأضرمت الخافقين بتصاعد زفراتي وأنفاسي ، ولشققت قلبي بعويلي إلى جيبي ، ولصدعت الصمّ الرواسخ بنديبي وتحريبي ، منشداً بلسان حالي ، موضحاً عمّا في بالي :

يا طول حزني ويا نحيبي

حزناً على النازح الغريب

على أجل الورى نجارا

دمعي كالعارض السكوب

تضرم نار الأسى بقلبي

مأتم في يومه العصيب

فيا أحشائي بنار حزني

ووجد قلبي عليه ذوبي

ويا عيوني سحّي بدمع من‍ـ

ـ‍ك بفيض الدماء مشوب

وابنته بين العدى تنادي

هل من مغيثٍ هل من مجيب؟

٣٧٦

وأُسرة من ذويه أمسوا

قوتاً لذي مخلبٍ وذيب

أكرم بهم عصبة كراماً

واُسوة من فتية وشيب

باعت من الله أنفساً

لم تهن لدى الروع في الحروب

مذ أصبحوا في الطفوف صرعى

في الخلد أمسوا قبل المغيب

يا اُمّة فارقت هداها

واحتقبت أشنع الذنوب

ليس لكم بالّذي فعلتم

في عفو ذي العرش من نصيب

قتلتم سبط من إليكم

اُرسل من عالم الغيوب

لهفي على شلوه صريعاً

لهفي على خدّه التريب

لهفي على رأسه المعلّى

لهفي على شيبه الخضيب

لهفي على رهطه اُسارى

يعلن بالويل والنحيب

يسقن عنفاً بين الأعا

دي بلا كفيل ولا حسيب

٣٧٧

إذا تذكّرتهم حيارى

يخفق قلبي من الوجيب

واغرق الصدر من دموعي

واحرق القلب باللهيب

لهفي على صحبه صراعاً

لهفي على ثقله النهيب

لهفي على ثغره المفدّى

ينكته الرِّجس بالقضيب

يا خير مولى من خير قوم

بهم نجاتي من الخطوب

ومَن هُم في العباد اولى

بالجود والصنيع من سحوب (١)

أنتم معاذي أنتم ملاذي

أنتم عياذي من الكروب

إلى فنا جودكم مديحي

وجّهت باللطف من نسيبي

تميس حسناً في برد نظم

ينسخ أوصافكم فشيب

بكلّ معنىً في اللطف أضحى

يدقّ عن فكره اللبيب

__________________

١ ـ كلمة « سحوب » غير مقروءة في الأصل ، وأضفناها لإتمام البيت.

٣٧٨

يمجّه سمع ذي نفاقٍ

قد ضلّ في شكّه المريب

يبادل الصفو في حضوري

ويأكل العرض في مغيب

إذا تذكّرت ما عراني

من حمقة قلت يا مجيبي

خذ لي بحقّي ولا تدعني

فريسة الغادر الكذوب

فأنت حسبي من كلّ سوء

وساتر في الملا عيوبي

قال : ولم يزل القوم سائرين بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكوفة إلى الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد ، ومن منزل إلى منزل كما تساق اُسارى الترك والديلم. (١)

روي عن سهل بن سعد الساعدي ، قال : خرجت إلى بيت المقدس حتّى أتيت دمشق فرأيت أهلها قد علّقوا الستور والحجب والديباج ، وهم فرحون مستبشرون ، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف ، فقلت في نفسي : الأهل الشام عيد لا نعرفه؟ فرأيت قوماً يتحدّثون ، فقلت : يا قوم ، ألكم في الشام عيد لا نعرفه؟

قالوا : يا شيخ ، نراك غريباً؟

قلت : أنا سهل بن سعد ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ وحملت

____________

١ ـ مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ٢/٥٥.

٣٧٩

حديثه ] (١).

قالوا : يا سهل ، ما أعجب (٢) السماء لا تمطر دماً ، والأرض لم تنخسف بأهلها؟

قلت : ولمَ ذاك؟

قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يهدى من العراق.

فقلت : واعجبا! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون! قلت : من أيّ باب يدخل؟ فاشاروا الى باب يقال له باب الساعات.

قال سهل : فبينا أنا كذلك إذ أقبلت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، وإذا بفارس بيده رمح منزع السنان ، عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله ، وإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء ، فدنوت من أُولاهنّ فقلت لجارية منهنّ (٣) : يا جارية ، من أنت؟

قالت : أنا سكينة بنت الحسين عليه‌السلام.

فقلت : ألك حاجة ، فأنا سهل بن سعد الساعدي ، وقد رأيت جدّك وسمعت حديثه؟

قالت : يا سهل ، قل لصاحب الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظرو إلى حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

١ ـ من المقتل.

٢ ـ في المقتل : ما أعجبك؟

٣ ـ في المقتل : فدنوت من إحداهنّ فقلت لها.

٣٨٠