منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إذا علّل وجوب إكرام زيد الشاعر بكونه شاعراً مع عدم موضوعية الشعراء فعلاً لوجوب الإكرام ، وكان التعليل به لمجرد صلاحيتهم لأن تنالهم يد تشريع وجوب الإكرام في المستقبل ، فهل يصح مثل هذا التعليل في المحاورات؟ والمفروض أن المقام من هذا القبيل ، ضرورة أنه علل الحكم الفعلي ـ وهو عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك فيه ـ بما يصلح لأن يكون مرتكزاً في ذهن العرف والعقلاء من عدم نقض اليقين بالشك مع عدم كونه مرتكزاً فعلياً لهم ، وليس هذا إلّا من تعليل الحكم الفعلي بالشأني.

فالمتحصل : أن التعليل المزبور لا يحسن إلّا بكون العلة من المرتكزات الفعلية ، وبوضوح انطباقها على المعلّل لدى العقلاء فعلاً لا قوة وشأناً ، وإلّا يخرج عن التعليل بأمر ارتكازي فعلي إلى التعليل بأمر ارتكازي شأني.

ويشكل الوجه الثاني أولا : بأنه جعلت القاعدة الكلية الارتكازية قاعدة اليقين بقرينة قوله دام ظله : «لأن اليقين متعلق بالحدوث فقط» ضرورة أن وحدة متعلقي اليقين والشك حقيقة هي قاعدة الشك الساري دون الاستصحاب ، ولازم ذلك تطبيق تلك القاعدة تعبداً على الاستصحاب ، مع وضوح عدم كونه صغرى لها لا وجداناً ولا تعبداً ، لِما بين قاعدتي اليقين والاستصحاب من المنافاة.

وبالجملة : فالتطبيق التعبدي يوجب صغروية الاستصحاب لقاعدة اليقين ، وهو كما ترى.

وثانياً : بأن المراد بالقاعدة الارتكازية في كلماتهم هو الشك الطاري كما يظهر من أمثلتهم ، دون الشك الساري ، فلاحظ.

وثالثاً : بأنه لا يظهر وجه لتنظير اليقين والشك المتعلقين بشيء واحد بطريقين أحدهما مأمون الضرر والآخر محتمله ، وذلك لأنه مع تعدد الطريق يمكن فرض الأمن في واحد منهما واحتماله في آخر. بخلاف المقام ، فان الوضوء المشكوك في بقائه مثلاً محتمل الأمن فقط ، إذ الوضوء المعلوم وان كان معلوم الأمن ، لكنه قد خرج عن مورد الابتلاء ، لانتفائه ، فليس في حال الشك طريقان

٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أحدهما مأمون الضرر والآخر محتمله. نعم لا إشكال في أن لزوم سلوك الطريق المأمون وترك الطريق المحتمل الأمن من المرتكزات العقلائية ، لكنه كما عرفت أجنبي عن مورد البحث.

وبالجملة : فالتطبيق التعبدي لا يجعل الاستصحاب من صغريات قاعدة اليقين ولا من صغريات الطريقين المأمون أحدهما من الضرر والآخر محتمله وان فرض كون كلتا القاعدتين من مسلمات المرتكزات العقلائية.

ورابعاً : بالفرق بين النزاع في المقام ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأن كبرى استحالة اجتماع الضدين من البديهيات الأولية ، والنزاع في تلك المسألة متمحض في صغرويتها لاجتماع الضدين وعدمها ، فان كانت جهتا الأمر والنهي تعليليتين كانت مسألة الاجتماع من صغريات اجتماع الضدين المستحيل ، لكون التركيب حينئذ اتحادياً. وان كانتا تقييديتين خرجت عن مسألة اجتماع الضدين ، إذ لا تجتمع الصلاة والغصب مثلاً في واحد حتى يستحيل اجتماعهما ، لكون التركيب حينئذ انضمامياً. وهذا بخلاف المقام ، فان النزاع في ثبوت أصل القاعدة الارتكازية.

والمتحصل : أن التنافي بين كلمات المصنف (قده) لا يندفع بما أفيد. بل هذا الإشكال وارد على كل من يرى صلاحية بناء العقلاء للاستدلال به على اعتبار الاستصحاب ، وذلك لدلالة المضمرة صراحة أو ظهوراً ـ كما اعترف به المصنف في التنبيه الرابع عشر وفي حاشية الرسائل ـ على حجية الاستصحاب حتى مع الظن بالخلاف ، ومن المعلوم عدم بناء العقلاء على الحالة السابقة حتى مع الظن بانتقاضها ، بل يتفحصون عنها عند الظن بحصول ما ينافيها ، ويشهد له كلام زرارة في الصحيحة الآتية أيضا : «فان ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن فنظرت فلم أرَ شيئاً» حيث لم يعتمد على الحالة السابقة في افتتاح الصلاة مع ظن إصابة دم الرعاف بالثوب ، بل تفحص عنه.

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فلعل الأولى إنكار بناء العقلاء رأساً على الاستصحاب ، وان كان مثل قوله عليه‌السلام : «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» لا يخلو من ظهور في إرجاع السائل إلى ارتكازه ، لكن لا مناص من رفع اليد عن هذا الظهور من جهة أجنبية ما بنى عليه العقلاء ـ من العمل باليقين لكونه طريقاً مأموناً دون متابعة الشك ـ لقاعدة الاستصحاب ، لا سيما مع الخصوصيات المعتبرة فيه التي لا أثر منها في سيرة العقلاء. وعليه يكون «عدم نقض اليقين الشك» بياناً لقاعدة كلية أسّسها الشارع الأقدس ، وليس هذا من مرتكزات العقلاء حتى تكون الأخبار إمضاءً لها : وهذا المعنى يمكن استفادته من بعض الأخبار الآتية ، فان الراوي بعد أن تلقى القاعدة من الإمام عليه‌السلام سأل منه : «هذا أصل؟» ولو كان هذا قاعدة ارتكازية لم يكن مجال لسؤال الراوي ، فتدبر.

اللهم إلّا أن يدفع التنافي بين كلمات المصنف (قده) بوجه آخر ، بأن يقال : ان المراد بالأمر الارتكازي وكذا الكلية الارتكازية هو جريان عمل العقلاء في الجملة على الأخذ بالمتيقن السابق ما لم ينقض بيقين آخر ، فان سيرتهم جرت على ذلك من دون استنادها إلى دليل تعبدي من كتاب أو سنة ، بل إلى مرتكزاتهم ، فان اليقين لما فيه من الإبرام لا يرفع اليد عنه بمجرد الاحتمال ، بل يبنون على بقائه ما لم يعلموا بزواله ، إلّا إذا ضعف احتمال بقائه مع كون مخالفته أهم في نظرهم من موافقته ، ولا مانع من إمضاء هذا البناء العقلائي مع قيود كسائر موارد إمضاء الشارع كالبيع وغيره ، فتدبر.

وأما إشكال المصنف على بناء العقلاء فليس راجعاً إلى إنكار أصل البناء ، بل إلى تعبديته ، حيث قال : «وفيه أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبداً» ضرورة أن المنع راجع إلى القيد ـ وهو التعبد ـ لا إلى أصل استقرار بنائهم ، إذ من المعلوم أن العقلاء بما هم عقلاء ليس بناؤهم على العمل بشيء تعبداً ، بل لا بد من استنادهم فيه إلى وجه ربما يختلف باختلاف أنظارهم. وأما نفس الجري

٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العملي على المتيقن السابق وعدم نقض يقينهم بالشك فيه ، فهم متفقون عليه ولا يختلفون فيه.

وعليه فكل من الاستدلال بأصل البناء العملي العقلائي ، ومن حسن التعليل بأمر ارتكازي صحيح ، حيث ان اليقين والشك في مورد الرواية المتعلقين بالوضوء صغرى للكبرى الكلية الارتكازية العقلائية ـ وهي عدم نقض اليقين بالشك ـ التي جعلها الشارع أصلاً من الأصول ولو كان فيها جهة كشف ، لكن الشارع لم يعتبرها من هذه الحيثية كبعض القواعد الواجدة لحيثية الكشف ، إلّا أن الشارع اعتبرها بدون لحاظ كشفها ، وربما تكون قواعد التجاوز والفراغ والصحة من هذا القبيل. والوجه في عدم اعتبار طريقيتها هو أنه اعتبر في موضوعاتها الشك الّذي يفترق به الأصل عن الأمارة.

وبالجملة : مقتضى التعليل كون الجري العملي على طبق المتيقن السابق أمراً ارتكازياً عقلائياً ، وهذا الأمر العقلائي صار مورداً لحكم الشارع ومتّبعاً لديه كسائر الأمور العقلائية التي تنالها يد التعبد الشرعي ، على اختلافها في الاعتبار من حيث كون بعضها أمارة والآخر أصلاً عملياً. ويكفي في الدلالة على التعبد الشرعي تطبيق تلك الكبرى على المقام وجعله من صغرياتها مع وضوح صغرويته لها وجداناً ، فان مثل هذه التطبيقات من المعصوم عليه‌السلام بيان للحكم الشرعي ، لا لمجرد الاخبار عن الأمر الخارجي الّذي ليس بيانه من شأنه ، بل يدل التطبيق على إمضاء الكبرى ومشروعيتها.

فالمتحصل : أن الاستصحاب من الأمور الارتكازية العقلائية التي اعتبرها الشارع ـ مع قيود ـ أصلاً من الأصول العملية ، وليس من السير العقلائية المنهي عنها شرعاً كالعمل بالقياس ونظائره. ولا يرد عليه أنه بناءً على ارتكازية الاستصحاب يلزم حجية مثبتاته وكونه معارضاً لدليل اجتهادي في مورد اجتماعهما ، وذلك لما عرفت من عدم اعتباره لأجل الكشف والطريقية ، فلاحظ وتدبر.

٨٤

واحتمال أن يكون الجزاء هو (١) قوله : «فانه على يقين ... إلخ»

______________________________________________________

(١) هذا شروع في الجهة الثالثة وهي تقريب دلالة الصحيحة على اعتبار الاستصحاب وعموم حجيته لسائر الأبواب ، مع أن ظهورها الأوّلي بيان قاعدة في باب الوضوء خاصة بعدم الاعتناء باحتمال وجود الناقض.

ومحصل ما أفاده هنا : أن الوجوه المحتملة في جزاء الشرط في قوله عليه‌السلام : «وإلّا» ثلاثة :

الأول : ما تقدم من كون جزاء الشرط محذوفاً ، وقيام علته وهي قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين من وضوئه» مقامه ، وقد تقدم بعض الكلام فيه وعرفت أنه مبنى استفادة حجية الاستصحاب في جميع الموارد.

الثاني : كون جزاء الشرط نفس قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين» ليكون اللام في «اليقين» في قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» للعهد كي يختص اليقين غير المنقوض بالشك بباب الوضوء ، فالجملة خبرية في مقام الإنشاء وهو الأمر بالمضي على اليقين بوضوئه والبناء عليه بحسب العمل ، فالمعنى : من شك في وضوئه فليأخذ بيقينه السابق.

والمصنف أورد عليه بما حاصله : أن قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين» جملة خبرية لا يصح وقوعها جزاءً للشرط فيما نحن فيه ، لأن الجزاء يكون مترتباً على الشرط ترتب المعلول على العلة بحيث إذا تبدلت القضية الشرطية بالحملية يصير الشرط موضوعاً والجزاء محمولاً ، ففي قولنا : «ان جاءك زيد فأكرمه» يصح أن يقال : المجيء علة لوجوب الإكرام. ومن المعلوم عدم انطباق هذا الضابط على المقام ، لأن معنى قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين من وضوئه» وهو كونه سابقاً على اليقين بالوضوء غير مترتب على الشرط أعني «وان لم يستيقن أنه قد نام» لوضوح عدم كون ذلك اليقين معلولاً لعدم العلم بالنوم ، بل هو معلول لأمر لا يرتبط بالشك في النوم.

ولأجل عدم الترتب المزبور قال المصنف (قده) بعدم صحة جعله جزاءً إلّا

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بعد انسلاخه عن الخبرية إلى الإنشائية ، بأن يكون المراد إنشاء وجوب العمل بالحالة السابقة ، والبناء على وجود الوضوء السابق من حيث الآثار ، غاية الأمر أن الإنشاء تارة يكون بلسان جعل الحكم كـ «أقيموا الصلاة» ولا «تشرب الخمر» ونحوهما ، وأخرى يكون بلسان جعل الموضوع كقوله عليه‌السلام : «الطواف بالبيت صلاة» و «أنت متيقن بالوضوء» مثلاً ، فمعنى الجملة حينئذ : «أنه ان لم يستيقن النوم فليبنِ على وضوئه» ويكون قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» تأكيداً له. وضابط الجزاء ينطبق حينئذ على المقام ، لأن التعبد بالبقاء على الحالة السابقة مترتب على اليقين بالوضوء والشك في النوم.

لكن الحمل على الإنشاء بعيد إلى الغاية ، لأن حمل الخبر على الإنشاء مخالف للأصل لا يصار إليه إلّا بقرينة ، وهي مفقودة في المقام ، إذ لا محوِج إلى ذلك بعد الاستغناء عن جعله جزاءً بالمحذوف المدلول عليه بالجملة السابقة ، وهي قوله عليه‌السلام : «لا» في جواب قول السائل : «فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم».

نعم قد يراد الطلب من الجملة الفعلية الخبرية مثل «يعيد» إذا كان المتكلم في مقام الإنشاء ، وكذا قد تستعمل الجملة الاسمية لإنشاء المادة والمحمول كما في ألفاظ العقود والإيقاعات مثل «أنت طالق وأنت حر» ونحوهما. وأما مثل «فانه على يقين» فحمله على الإنشاء خلاف الظاهر ، لو لا دعوى أنه غير معهود.

فالمتحصل : أنه لا وجه لاحتمال كون «فانه على يقين ...» جزاء الشرط.

الثالث : أن يكون الجزاء قوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين بالشك» وقد ذكر جملة «فانه» توطئة ومقدمة لبيان الجزاء ، والمعنى حينئذ «وان لم يستيقن أنه قد نام فلا ينقض اليقين بالوضوء بالشك في النوم» ويكون المراد خصوص اليقين الوضوئي ، فيختص بباب الوضوء ، بل يختص بخصوص الشك في النوم ، ولا يعم جميع النواقض لأن اليقين الّذي لا ينقض ولا ينبغي نقضه هو اليقين الملحوق بالشك في النوم لا غيره ، فيجري الاستصحاب فيما إذا كان الشك متعلقاً بالنوم لا مطلقاً.

٨٦

غير (١) سديد ، فانه (٢) لا يصح إلّا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه ، وهو (٣) إلى الغاية بعيد (*). وأبعد منه كون (٤) الجزاء قوله :

______________________________________________________

لكن هذا الاحتمال أبعد من سابقه ، لكونه مخالفاً لما عُهد من القواعد العربية من لزوم خلوِّ الجزاء عن الواو الظاهرة في المغايرة المنافية لشدة الارتباط والاتصال بين الشرط والجزاء ، لما عرفت من ترتب الثاني على الأول ترتب المعلول على علته ، والواو تنافي هذا الترتب ، ويشهد له أن جملة «لا تنقض» في الروايات الآتية جعلت علة للحكم بالمضي على الحالة السابقة ، لا نفس الحكم بالمضي.

وبالجملة : فهذا الاحتمال الثالث في غاية الوهن والسقوط ، وقد عرفت وهن الثاني أيضا ، فالمتعين هو الاحتمال الأول ، وقد تقدم تقريب دلالته على اعتبار الاستصحاب مطلقاً.

(١) خبر «واحتمال» وهذا إشارة إلى الاحتمال الثاني ، وقد تقدم وجه فساده بقولنا : «والمصنف أورد عليه بما حاصله : أن قوله عليه‌السلام ...».

(٢) أي : فان كون الجزاء «فانه على يقين» لا يصح إلّا بتأويل الجملة الخبرية بالإنشائية ، وقد تقدم بيانه بقولنا : «ولأجل عدم الترتب المزبور قال المصنف ...».

(٣) أي : إرادة لزوم العمل على طبق يقينه بعيد ، وقد عرفت وجه البعد بقولنا : «لكن الحمل على الإنشاء بعيد إلى الغاية ... إلخ» ولا يخفى أن الشيخ الأعظم جعل هذا الحمل غير خالٍ من التكلف.

(٤) هذا هو الاحتمال الثالث ، وقد تقدم بيانه بقولنا : «الثالث أن يكون الجزاء ... إلخ» وقد عرفت وجه الأبعدية بقولنا : «لكن هذا الاحتمال أبعد من سابقه ... إلخ».

__________________

(*) لتوقفه على تأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية. لكن التزم به المحقق النائيني (قده) إذ لو كان «فانه على يقين» علة للجزاء المقدر لزم التكرار في جوابه عليه‌السلام بلا تكرر السؤال ، فان معنى قوله عليه‌السلام : «لا حتى يستيقن» هو أنه لا يجب الوضوء ، فلو قُدِّر الجزاء «فلا يجب عليه الوضوء» كان تكراراً

٨٧

 «لا ينقض ... إلخ» وقد ذكر «فانه على يقين» للتمهيد.

وقد انقدح بما ذكرنا (١) ضعف احتمال اختصاص قضية «لا تنقض ... إلخ»

______________________________________________________

(١) من حمل قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين من وضوئه» على التعليل وقيامه مقام الجزاء المحذوف ، وهذا شروع في بيان معمِّمات اعتبار الاستصحاب لغير باب الوضوء. وهي أمور ثلاثة ومؤيّد واحد ، أوّلها ما تقدم مفصلاً من اقتضاء التعليل بالأمر الارتكازي عدم اختصاصه بمورد الرواية وهو الوضوء.

ولا يخفى أن في هذا الكلام تعريضاً بإشكال أورده الشيخ الأعظم (قده) على عموم حجية الاستصحاب بقوله : «ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ... واللام وان كان ظاهراً في الجنس ، إلّا أن سبق يقين الوضوء ربما يوهن الظهور المذكور ، بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيداً عن اللفظ» وحاصل التعريض : أن سبق يقين الوضوء وان كان يوهن ظهور اللام في الجنس ، لكنه منوط بعدم ظهور السياق في إدراج المورد تحت القضية الارتكازية العقلائية. وحيث انك عرفت ظهور التعليل في ذلك فلا يصير ذكر الوضوء قيداً لليقين ، ويبقى ظهور اللام في الجنس على حاله.

__________________

غير خالٍ عن حزازة (١)

 وفيه : أنه لا موجب لرفع اليد عن ظهور الجملة الاسمية في الاخبار وحملها على إنشاء طلب البقاء على اليقين السابق ، ومجرد لزوم التكرار لا يقتضي ذلك إذا كان عليه‌السلام في مقام بيان ضابطة عامة في باب الوضوء أو مطلقاً ، وفائدته تأكيد المطلب وتقريره. ويشهد له قوله عليه‌السلام : «حتى يستيقن أنه قد نام» لدلالة سؤال زرارة «فان حرك ...» وجوابه عليه‌السلام : «لا» على عدم اعتبار الظن بتحقق النوم الناقض ، وأن العبرة باليقين به ، فلا محالة يكون «حتى يستيقن ...» تكراراً لما تضمنته الجملة السابقة ، وليس هذا مما ينافيه قواعد البلاغة كما هو واضح.

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٤ ـ ١٢٠.

٨٨

باليقين والشك في باب الوضوء جداً (١) ، فانه ينافيه (٢) ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعاً. ويؤيده (٣) تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية أو ما يرادفها ، فتأمل جيداً ، هذا.

______________________________________________________

(١) قيد لقوله : «ضعف احتمال».

(٢) أي : ينافي الاختصاص ، وضمير «فانه» للشأن ، وضمير «أنه» راجع إلى التعليل ، وقوله : «قطعاً» قيد لـ «ينافيه» وغرضه : أن الاختصاص خلاف ظاهر التعليل ، لظهوره في الارتكازية التي تقتضي اطراد الحكم المعلّل وعدم اختصاصه بباب دون باب.

(٣) أي : ويؤيِّد ضعفَ احتمال الاختصاص تعليلُ الحكم في أكثر روايات الباب بمضامين قريبة مما في المضمرة ، ففي الصحيحة الآتية ورد قوله عليه‌السلام : «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» وفي رواية الخصال عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فان اليقين لا يدفع بالشك». وفي رواية عبد الله ابن سنان الواردة في إعارة الثوب من الذمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «لأنك أعرته إياه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه» وفي موثقة عمار عنه عليه‌السلام : «إذا شككت فابن علي اليقين ، قلت : هذا أصل؟ قال : نعم» وعليه فقد تكررت جملة «ولا ينقض اليقين بالشك» إما بلفظها وإما بما يرادفها في الروايات ، مع عدم كون مورد السؤال الوضوء أو الطهارات الثلاث حتى يدعى اختصاص هذه الكبرى بها. قال شيخنا الأعظم (قده) : «لكن الإنصاف أن الكلام مع ذلك لا يخلو عن ظهور خصوصاً بضميمة الأخبار الآتية المتضمنة لعدم نقض اليقين بالشك».

ثم ان تعبير المصنف هنا بالتأييد ـ دون الشهادة التي ذكرها في حاشية الرسائل ـ لعله لأجل أن ما ورد بلسان التعليل كما في صحيحة زرارة الآتية يحتمل

٨٩

مع أنه (١) لا موجب لاحتماله إلّا احتمال كون اللام في «اليقين» للعهد إشارة إلى اليقين في «فانه على يقين من وضوئه» مع أن الظاهر أنه للجنس كما هو الأصل فيه (*)

______________________________________________________

فيه العهد أيضا كما في هذه المضمرة ، فلا بد من قرينة أخرى لإثبات أن اللام للجنس. وما ورد بعنوان «أنه أصل» لا يخلو سنده عن بحث ، فالمهم إثبات كون التعليل في خصوص هذه المضمرة بأمر ارتكازي وإقامة القرائن على عدم كون اللام للعهد كما سيظهر.

(١) الضمير للشأن ، وضمير «لاحتماله» راجع إلى «اختصاص» وهذا إشارة إلى المعمِّم الثاني ، وحاصله : أنه لا وجه لاحتمال اختصاص «لا تنقض» في هذه الصحيحة بباب الوضوء إلّا كون اللام للعهد ، بأن يكون إشارة إلى اليقين في قوله : «فانه على يقين من وضوئه» كما هو الحال في مثل قوله تعالى : «أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول» لكن لا وجه لاحتمال كون اللام هنا للعهد ، لأن الظاهر كون اللام للجنس إلّا مع قرينة موجبة للحمل على العهد ، وهي مفقودة هنا.

__________________

(*) لم يظهر مستند هذا الأصل. مضافاً إلى معارضته بما اختاره في بحث ألفاظ العموم بقوله : «فالظاهر أن اللام مطلقاً تكون للتزيين كما في الحسن والحسين عليهما‌السلام ، واستفادة الخصوصيات انما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعيينها على كل حال» وعليه تكون دلالته على العموم بالإطلاق لا الوضع ، وحيث ان القدر المتيقن في مقام التخاطب مانع عن الإطلاق والمفروض أن إضافة اليقين إلى «من وضوئه» مما يصلح لاعتماد المتكلم عليه فالكلام محفوف بما يحتمل كونه قيداً ، ولا دافع لهذا الاحتمال ، ومعه لا سبيل لإحراز الإطلاق.

وما أفاده المحقق النائيني ووافقه سيدنا الأستاذ (قدهما) على ما حررته عنه من «عدم دخل الإضافة في الحكم ، بل ذكر متعلق اليقين في الرواية انما هو لكون

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اليقين من الصفات الحقيقية ذوات الإضافة ، فلا بد وأن يكون له إضافة إلى شيء وانما أضيف إلى خصوص الوضوء لأن الإضافة الخارجية في مورد السؤال كانت في خصوص الوضوء ...» (١) غير وافٍ برفع الإجمال ، لأن محصله عدم دلالة إضافة اليقين إلى متعلقه كالوضوء في مقام الإثبات إلّا على كون اليقين صفة حقيقية ذات إضافة ، كدلالة نفس اليقين على ذلك. وعليه فلا تدل الإضافة المزبورة على دخلها في موضوع الحكم حتى تمنع عن دلالة الصحيحة على حجية الاستصحاب في جميع الموارد ، إذ لا يقدح ذكر الإضافة في استفادة الإطلاق من اليقين.

ووجه عدم وفائه بالغرض هو : أنه لا ملازمة بين مقامي الثبوت والإثبات ، ضرورة أنه وان لم يكن إشكال في توقف اليقين ثبوتاً كالحب والبغض ونحوهما من الصفات الحقيقية ذوات الإضافة على وجود متيقن في لوح النّفس الّذي هو وعاء الصور العلمية ، لامتناع حصول اليقين مطلقاً أو مهملاً ، لكنه لا يلازم ذكر متعلق اليقين دائماً في مقام الإثبات ، ولا عدم دلالته حين ذكره في الكلام إلّا على مجرد التنبيه على كون اليقين من الصفات الحقيقية ذوات الإضافة بحيث ينحصر دلالته على ذلك ولا يدل على دخل متعلقه في موضوع الحكم أصلاً.

أما الأول فيشهد له بعض الأخبار الآتية التي ذكر فيها اليقين مجرداً عن الإضافة إلى متعلقه الظاهرة في موضوعية نفس اليقين من دون إضافته إلى شيء كقوله عليه‌السلام : «من كان على يقين فشك ، ولا ينقض اليقين بالشك».

وأما الثاني فلاحتمال دخل متعلقه وجداناً في الموضوع كسائر العناوين المأخوذة في الخطابات ، ولا يندفع احتمال الدخل إلّا بالقرينة ، وإلّا فمع احتمال كل من الدخل ، والتنبيه على كون اليقين من الصفات ذوات الإضافة لا يمكن استفادة الإطلاق من الصحيحة ، للإجمال المانع عن الإطلاق الّذي يتوقف عموم حجية الاستصحاب عليه.

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ ـ ١٢١

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فلا ظهور لذكر متعلق اليقين في كونه للتنبيه على أن اليقين من الصفات ذوات الإضافة حتى لا يمنع من استظهار الإطلاق ، بل الإجمال المانع عن استظهاره باقٍ بحاله. والظاهر أنه اشتبه مقام الإثبات بالثبوت ، فلا سبيل لإثبات الإطلاق الا التشبث بما أفاده المصنف (قده) من عدم تعلق «من وضوئه» باليقين بل بمجموع الجار والمجرور. ويتأكد المطلب بعدم معهودية إضافة اليقين إلى متعلقه بـ «من» بل بالباء ، فيقال : «أنا متيقن بوضوئي ، أو : على يقين بوضوئي» وجعل «من» بمعنى الباء خلاف الظاهر ، وعلى هذا فلو فرض كون اللام للعهد أيضا لم يقدح في عموم اليقين.

لكن ناقش فيه شيخنا المحقق العراقي (قده) أولا : بأنه مجرد احتمال لا يجدي شيئاً ما لم يبلغ حد الظهور المعتد به. وثانياً : بأن غاية ذلك خروج «من وضوئه» عن كونه من الجهات التقييدية لليقين إلى التعليلية ، ومثله لا يوجب إطلاقاً في اليقين المأخوذ في الصغرى ، فان اليقين وان لم يكن مقيداً بـ «من وضوئه» لكنه لا إطلاق له يشمل اليقين بغير الوضوء ، لاستحالة إطلاق المعلول لحال فقد علته ، فالمراد باليقين هو اليقين الخاصّ أعني المتعلق بالوضوء ، وكون اللام للعهد معناه الإشارة إلى هذا اليقين الخاصّ. وثالثاً : بأن القدر المتيقن في مقام التخاطب مانع عن جريان مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها الإطلاق ، وبعد تيقن نوع اليقين المتعلق بالوضوء لا مجال للأخذ بالإطلاق (١)

 لكن يمكن أن يقال باندفاع جميعها : أما المناقشة الأُولى فبما عرفته من ظهور الكلام فيما ادعاه المصنف خصوصاً بملاحظة عدم تعدي اليقين إلى متعلقه إلّا بالباء ، فليس هو مجرد احتمال حتى يورد عليه بالإجمال.

وأما الثانية فبأنه بعد فرض تعلق كل من «اليقين» و «من وضوئه» بالمقدر وهو الكون لأنهما من الظرف المستقر ، يكون حاصله طروء قيدين عرضيين عليه.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٤٥ و ٤٦.

٩٢

وسبق (١) «فانه على يقين ... إلخ» لا يكون قرينة عليه مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضا (٢) ، فافهم (٣).

مع (٤) أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء ، لقوة احتمال أن يكون

______________________________________________________

ومجرد سبق المدخول وهو اليقين في قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين من وضوئه» لا يكون قرينة على كون اللام للعهد ، وذلك لكمال الملاءمة مع الجنس أيضا ، ضرورة أن اليقين بالوضوء من أفراد طبيعة اليقين ، فالملاءمة مع الجنس موجودة أيضا ، ومعها لا موجب لحمل اللام على العهد.

(١) مبتدأ خبره «لا يكون» وهو دفع دخل مقدر ، وقد تقدم بقولنا : «ومجرد سبق المدخول ... إلخ» وضمير «عليه» راجع إلى العهد.

(٢) أي : مع كمال الملاءمة مع العهد.

(٣) لعله إشارة إلى أن الملاءمة مع الجنس لا تمنع عن كون اللام للعهد إذا كان مقتضى الصناعة العربية حمله على العهد ، فالعمدة في منع العهد ظهور التعليل في إدراج المورد في القضية الكلية الارتكازية غير المختصة بباب دون باب.

(٤) أي : مع أن «اليقين» في «فانه على يقين» غير ظاهر ... وهذا إشارة إلى وجه المعمِّم الثالث ، وحاصله : منع ظهور «اليقين» في اليقين الوضوئي ولو قيل بكون «فانه» جزاء الشرط ، وذلك لأن هذا الظهور انما يكون إذا تعلق «من

__________________

ولو كان اليقين المتعلق بالكون مضافاً إلى الوضوء لأجل كونه من الصفات الحقيقة ذوات الإضافة ، فكأنه قيل : «فانه كائن على يقين وكائن على وضوء» ومع كون القيدين في رتبة واحدة بالنسبة إلى المتعلق لا تعليل ولا تقييد لليقين بالوضوء ، فيبقى إطلاقه سليماً عن المقيد والمانع.

وأما الثالثة فبما عرفته أيضا من أن القدر المتيقن في مقام التخاطب وان كان صالحاً لتقييد الإطلاق ، إلّا أن المدعى كما مر تجريد اليقين عن حيثية إضافته إلى الوضوء ، وبعد تجريده عنها وإلغاء خصوصية الوضوء لا يبقى موضوع للإشكال.

٩٣

 «من وضوئه» متعلقاً بالظرف (١) لا بـ «يقين» وكان المعنى «فانه كان من طرف وضوئه على يقين» وعليه لا يكون الأوسط [الأصغر] إلّا اليقين (٢) ، لا اليقين بالوضوء (٣) كما لا يخفى على المتأمل.

وبالجملة (٤) : لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك ، خصوصاً (٥) بعد ملاحظة تطبيقها في الأخبار على غير الوضوء

______________________________________________________

وضوئه» بـ «اليقين» حتى يكون من قيوده ومتعلقاته ، وأما إذا كان متعلقاً بمجموع الجار والمجرور وهو «على يقين» فلا يكون «من وضوئه» من قيوده ، إذ يتعلق حينئذ بما يتعلق به قوله : «على يقين» والتقدير : «فانه كائن من طرف وضوئه على يقين» فيكون «اليقين» مطلقاً غير مقيد ، كما يقال : ان زيداً من ناحية عدالة عمرو وعلمه على يقين ، فلا قيد في اليقين.

وعليه فلو أصرّ القائل بأن اللام للعهد لم ينفعه ذلك لإثبات اختصاص جملة «ولا ينقض اليقين» بالوضوء ، لفرض أن المعهود وهو «فانه على يقين» مهمل الخصوصية حسب الفرض ، فاليقين المعهود مطلق غير مقيد بشيء حتى يدعى اختصاصه بالوضوء.

(١) وهو «على يقين» لا المجرور فقط.

(٢) فصورة القياس من الشكل الأول هكذا : «كان المكلف على يقين من ناحية وضوئه ثم شك في حدث النوم ، وكل من كان على يقين وشك لم ينقضه به» والنتيجة وجوب بناء المكلف على اليقين السابق وعدم نقضه مهما كان متعلقه.

(٣) لما عرفت من عدم تعلق «من وضوئه» باليقين حتى يكون اليقين مقيداً بالوضوء ، بل اليقين مطلق ، فلا يختص بباب الوضوء.

(٤) هذه خلاصة المعمِّمات الثالثة وتأييدها بتطبيق الإمام عليه‌السلام للكبرى على موارد أخرى كالطهارة الخبثية والشك في الركعات وغيرهما.

(٥) قد تقدم هذا التأييد بقوله : «ويؤيده تعليل الحكم ...» وقد تقدم توضيحه.

٩٤

أيضا.

ثم لا يخفى (١) حسن إسناد النقض

______________________________________________________

(١) هذا شروع في بيان الجهة الرابعة المتكفلة لإثبات حجية الاستصحاب في كل من الشك في المقتضي والرافع ، وضعف التفصيل بينهما ، وتوضيحه : أن من الأقوال في الاستصحاب ـ كما أشير إليه ـ التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع بالحجية في الثاني دون الأول ، واختاره جملة من الأعيان قديماً وحديثاً كالمحقق الخوانساري وصاحب الفصول وشيخنا الأعظم والمحقق النائيني وغيرهم قدس الله أسرارهم ، ولمّا اهتم به الشيخ وغيره تعرّض له من تأخّر عنه كالمصنف هنا وفي حاشية الرسائل ، ولا بأس ببيان بعض كلمات أرباب هذا التفصيل ثم توضيح المتن ، فنقول مستعيناً به عزوجل : قال المحقق الخوانساري (قده) في ذيل مسألة إجزاء الحجر ذي الجهات الثلاث عن ثلاثة أحجار في جواب الاستدلال باستصحاب بقاء النجاسة : «الظاهر حجية الاستصحاب بمعنى آخر ، وهو أن يكون دليل شرعي على أن الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا مثلاً معيّن في الواقع بلا اشتراطه بشيء أصلاً ، فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلاً له ... إلى أن قال ... الظاهر أن المراد من عدم نقض اليقين بالشك أنه عند التعارض لا ينقض به ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشك ، وفيما ذكروه ليس كذلك»

وقال في الفصول : «وأعلم أن المستفاد مما يعتمد عليه من هذه الأخبار ... حجية الاستصحاب في الأشياء التي مقتضاها البقاء والاستمرار لو لا عروض المانع بقرينة لفظ النقض ، فان المفهوم منه اقتضاء الشيء المتيقن للبقاء على تقدير عدم طروء الناقض المشكوك فيه ، إذ عدم البناء على بقاء ما علم ثبوته في وقت لا يعد نقضاً له إذا لم يكن في نفسه مقتضياً للبقاء ... إلخ».

وقال شيخنا الأعظم : «ثم ان اختصاص ما عدا الأخبار العامة بالقول المختار واضح ، وأما الأخبار العامة فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على حجية

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستصحاب في جميع الموارد ، وفيه تأمل قد فتح بابه المحقق الخوانساري في شرح الدروس ، توضيحه : أن حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية ...».

وتوضيح كلام الشيخ : أن الأخبار المستدل بها على اعتبار الاستصحاب على طائفتين إحداهما خاصة ، وثانيتهما عامة ، أما الخاصة كمضمرة زرارة الواردة في الوضوء وموثق عمار الوارد في إعارة الثوب الطاهر من الذمي وغيرهما ، فموردها الشك في الرافع بعد الفراغ عن اقتضاء المستصحب للبقاء لو لا المزيل. وأما العامة ـ مثل خبر محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فان الشك لا ينقض اليقين» وغيره ـ فهي أيضا تدل على القول المختار لوجود المقتضي وفقد المانع. وحيث ان المصنف ناقش كلام شيخنا الأعظم (قده) في إثبات المقتضي لحجية الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع ، ولم يتعرض لما أفاده في دفع المانع عنه فلذا نقتصر في توضيح مرام الشيخ على ما أفاده لإثبات المقتضي للقول بالاختصاص ، وبيانه : أن معنى النقض الحقيقي رفع الهيئة الاتصالية الحسية الحاصلة في الأشياء وإبانة أجزائها كنقض الحبل والغزل والجدار ونحوها مما يكون له هيئة اتصالية حسية ، ومنه قوله تعالى : «كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً» وإذا تعذر حمله على المعنى الحقيقي فلا بد من حمله على أقرب المجازات ، ويدور الأمر في المقام بين إرادة أحد معنيين مجازيين ، الأول : رفع اليد عن الشيء الثابت مع وجود المقتضي لبقائه لو لا عروض المزيل كالطهارة والزوجية الدائمية ، والثاني : رفع اليد عن مطلق اليقين وان لم يكن في متعلقه استعداد الاستمرار ، كاليقين بالزوجية الانقطاعية أو بإضاءة السراج إلى ساعتين لقلة زيته.

ومن المعلوم أن الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو الأول أعني الأمر الثابت الّذي فيه اقتضاء البقاء في عمود الزمان ، فكأنه عليه‌السلام قال : «لا ترفع اليد عن المتيقن الثابت القابل للاستمرار بالشك في بقائه» وجه الأقربية ما تقرر من أن الجملة المشتملة على فعل إذا تعلق به شيء وتعذر الأخذ بمدلول كليهما معاً قُدِّم ظهور الفعل

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

على ظهور متعلقه ، كما إذا قال المولى : «لا تضرب أحداً» فان ظهور الضرب في الضرب المؤلِم حاكم على إطلاق «أحد» الشامل للأحياء والأموات ، ويكون خصوصية الفعل منشئاً لتخصيص «أحد» بالأحياء ، ولا يصير عموم المتعلق قرينة على تعميم الضرب لغير الأحياء. وفي المقام حيث كان إرادة رفع اليد عمّا من شأنه البقاء أقرب إلى معنى «النقض» الحقيقي ، فلذا يتصرف في عموم المتعلق أعني «اليقين» ويخصّص بما فيه استعداد البقاء ، وعليه فيتم المطلوب وهو اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع.

فان قلت : أسند النقض في الأخبار إلى نفس «اليقين» لا إلى «المتيقن» حتى يتصرف فيه بقرينة النقض ويحمل على خصوص ما يقتضي البقاء دون ما لا يقتضيه.

قلت : نعم ، لكن المراد الجدّي منه هو المتيقن ، إذ لو أريد النهي عن نقض اليقين فإما أن يكون النهي بلحاظ نفس اليقين ، وإما بلحاظ آثاره ، وكلاهما ممنوع ، وسيأتي توضيحه عند تعرض الماتن له.

وقد تحصل : أن المنقوض في أخبار الاستصحاب لا بد أن يكون مما يقتضي البقاء بحيث يكون الشك في بقائه مستنداً إلى الشك في وجود الرافع كالنوم وسائر النواقض المعهودة للوضوء. هذا توضيح مرام الشيخ (قده).

وأورد عليه المصنف بالبحث تارة في مدلول مادة «النقض» وأخرى في هيئة «لا تنقض». ومحصل ما أفاده حول المادة : أن النقض الّذي هو ضد الإبرام والإحكام انما أسند إلى نفس اليقين الّذي هو أمر مبرم وشيء مستحكم ، لكونه أقوى مراتب الإدراك ، لما فيه من الجزم المانع عن احتمال النقيض ، فهو مما يعتقد ببقائه واستمراره ، بخلاف الظن ، فانه لا يظن باستمراره بل يظن بزواله.

وبالجملة : فلا محوِج إلى جعل «النقض» مسنداً إلى «المتيقن» حتى يقال بعدم صحة اسناده إليه إلّا إذا كان المتيقن مما فيه اقتضاء البقاء والدوام ، لكونه

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي ، بل المسند إليه هو نفس اليقين الّذي فيه معنى الإبرام والاستحكام ، لما عن شرح الإشارات من أن «اليقين هو التصديق بطرف مع الحكم بامتناع الطرف الآخر ، ويعتبر فيه أمور ثلاثة الجزم والمطابقة والثبات» وعليه فلا نظر إلى المتيقن حتى يعتبر فيه اقتضاء الدوام.

ويشهد لكون المصحح للإسناد هو اليقين نفسه لا متعلقه المقتضي للبقاء أمور : أولها : ظهور القضية في ذلك ، لإسناد النقض فيها إلى نفس اليقين.

ثانيها : أنه لو كان مصحِّح اسناد النقض إلى اليقين قابلية المتيقن للبقاء لا إبرام اليقين لَصحّ اسناده إلى الحجر الّذي يقتضي ثقلُه بقاءَه في مكانه ، بأن يقال : «نقضت الحجر من مكانه» أي رفعته ، مع عدم صحته وركاكته بلا إشكال. وعليه فمصحِّح الإسناد ثبات اليقين واستحكامه لا غيره.

ثالثها : صحة اسناد النقض إلى اليقين مطلقاً وان تعلق بأمرٍ لم يحرز اقتضاؤه للبقاء ، ولذا يصح أن يقال : «لا تنقض اليقين باشتعال السراج بالشك فيه» حتى إذا لم يحرز اقتضاؤه للبقاء ، كما إذا لم يعلم أن النفط الموجود في السراج كان ليتراً واحداً أم نصف ليتر ، فعلى الأول يكون السراج مشتعلاً فعلاً ، والشك في اشتعاله حينئذ ينشأ من احتمال رافع له كهبوب الرياح وغيرها ، وعلى الثاني لا يكون مشتعلاً ، لفناء الوقود.

وعليه فلا موجب لجعل المنقوض هو المتيقن الّذي فيه اقتضاء البقاء والدوام بدعوى كونه أقرب إلى المعنى الحقيقي أعني الأمر المبرم الحسي ، فيتعين إرادته إذا دار الأمر بينه وبين إرادة مطلق رفع اليد عن شيء ولو لعدم المقتضي له. وذلك لما عرفت من صحة اسناد النقض إلى نفس اليقين ، بل هو المتعين ، لأنه ظاهر القضية كما عرفت ، وإذا كان الإسناد بلحاظ نفس اليقين لا المتيقن صحت دعوى عموم اعتبار الاستصحاب للشك في كل من المقتضي والرافع. هذا بعض الكلام في المادة. وأما الهيئة فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

٩٨

وهو ضد الإبرام (١) إلى اليقين (٢) ولو (٣) كان متعلقاً بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار ، لِما (٤) يتخيل فيه من (٥) الاستحكام ، بخلاف الظن ، فانه (٦) يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وان كان متعلقاً بما فيه اقتضاء ذلك (٧) ،

______________________________________________________

(١) قال في القاموس : «النقض في البناء والحبل والعهد ضد الإبرام ، وإبرام الحبلَ جعله طاقين ثم فتله ، والأمرَ أحكمه».

(٢) متعلق بـ «اسناد النقض» واسم «كان» ضمير راجع إلى اليقين.

(٣) كلمة «لو» وصلية ، يعني : ولو كان اليقين متعلقاً بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار ، كما إذا تعلق بالتدريجيات نظير العين الجارية التي تجف في بعض أيام السنة ، فانه يبنى على جريانها عند الشك في الجفاف ، لوجود اليقين بالجريان ، ويسند النقض المنهي عنه إلى نفس اليقين به مع عدم اقتضاء المتعلق للبقاء.

(٤) تعليل لحسن اسناد النقض إلى اليقين لا المتيقن ، وضمير «فيه» راجع إلى اليقين ، وهذا شروع في مناقشة كلام الشيخ الأعظم (قده) ولم يتعرض المصنف لما أفاده الشيخ أوّلاً حتى يورد عليه ثانياً ، رعاية للاختصار ، ولكنك عرفت ما رامه الشيخ ببيان واضح ، فلاحظه للوقوف عليه.

(٥) بيان للموصول في «لما» وضمير «فيه» راجع إلى اليقين ، واستحكامه انما هو لكونه أجلى أنحاء الإدراكات وأقوى مراتبها.

(٦) أي : فان الظن لأجل تزلزله وعدم ثباته يظن بعدم استحكامه ، فلا يصح اسناد النقض إليه وان كان المظنون مما فيه اقتضاء البقاء لو خلي وطبعه ، فلا يقال : «لا تنقض الظن بالوضوء بسبب الشك فيه» إذ لا إبرام في الظن وهو الرجحان التوأم مع احتمال الخلاف حتى يصح اسناد النقض إليه ، مع أن المظنون وهو الطهارة مما فيه اقتضاء البقاء ، وضمير «فانه» للشأن ، وضميرا «أنه ، فيه» راجعان إلى الظن.

(٧) أي : اقتضاء البقاء ، واسم «كان» ضمير راجع إلى الظن.

٩٩

وإلّا (١) لما صحّ أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له ، مع ركاكة (٢) مثل «نقضت الحجر من مكانه» ولما (٣) صحّ أن يقال : «انتقض اليقين باشتعال السراج» فيما إذا شك في بقائه للشك في استعداده (٤) ، مع بداهة صحته وحسنه.

وبالجملة (٥) : لا يكاد يشك في أن اليقين كالبيعة والعهد إنما يكون

______________________________________________________

(١) أي : وان لم يكن مصحِّح النقض ما في اليقين من الإبرام والاستحكام ـ بل كان المصحح له ما في المتيقن من اقتضاء الدوام والاستمرار ـ لَكان استعمال النقض فيما فيه مقتضٍ للبقاء صحيحاً مع عدم صحته. وهذا هو الشاهد الثاني المتقدم بقولنا : «ثانيها : أنه لو كان مصحِّح اسناد النقض ... إلخ» والضمير المستتر في «يسند» راجع إلى النقض.

(٢) بل لا يصح استعماله ، إذ المراد بنقض الحجر بقرينة «من مكانه» هو نقله إلى مكان آخر ، ومن المعلوم عدم ورود النقض بمعنى النقل. نعم إذا أريد به كسره وإبانة أجزائه فهو صحيح ، لكن لا يلائمه قوله : «من مكانه» لأن هذه الكلمة قرينة على إرادة النقل من النقض ، وهو غير معهود.

وبالجملة : فان أريد بنقض الحجر كسره والفصل بين أجزائه كان بمعنى كسر الحجر ، وصحته حينئذٍ منوطة باستعمال أبناء المحاورة.

(٣) معطوف على «لما صح» وهذا هو الشاهد الثالث المتقدم بقولنا : «ثالثها : صحة اسناد النقض ... إلخ».

(٤) أي : شك في بقاء الاشتغال من جهة الشك في استعداد السراج له ، فقوله : «للشك» متعلق بـ «شك في بقائه».

(٥) هذه نتيجة ما أثبته من الشواهد الثلاثة على كون المسند إليه نفس «اليقين» وأن مصحِّح الإسناد هو إبرام اليقين وثباته واستحكامه في نفسه مهما كان متعلقه.

١٠٠