منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

وكونه (١) أصلا عمليا إنما (٢) هو بمعنى أنه وظيفة الشاك تعبدا قبالا للأمارات الحاكية عن الواقعيات ، فيعم (٣) العمل بالجوانح (٤) كالجوارح.

وأما (٥) التي كان المهم فيها

______________________________________________________

(١) أي : وكون الاستصحاب ... إلخ ، وهذا إشارة إلى ما قد يتوهم في المقام ، وهو : أن الاستصحاب من الأصول العملية التي لا تجري في الأمور الاعتقادية ، لمغايرتها للعملية.

(٢) هذا دفع التوهم المزبور ، ومحصله : أنه لا منافاة بين كون الاستصحاب أصلا عمليا وبين جريانه في الأمور الاعتقادية ، إذ المراد بالأصل ما يقابل الأمارة وهو ما جعل وظيفة للشاك في مقام العمل ، بخلاف الأمارة فانها تحكي عن الواقع وترفع ـ ولو تعبدا ـ الشك الّذي هو موضوع الأصل. والمراد بالعمل كما مرّت الإشارة إليه ما يعم العمل الجارحي والجانحي ، لا ما يقابل الاعتقاد كما هو مبنى التوهم حتى يختص الاستصحاب بالأحكام الفرعية المتعلقة بالأعمال الجوارحية. هذا تمام الكلام في القسم الأول من الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها عقد القلب عليها من دون لزوم المعرفة بها ، وكانت نتيجة البحث فيه جواز جريان كل من الاستصحاب الموضوعي والحكمي فيه.

(٣) هذه نتيجة قوله : «وظيفة الشاك تعبدا» وقد عرفت محصله.

(٤) كما في المقام ، وقوله : «كالجوارح» يعني : الأفعال الجوارحية المتعلقة بها الأحكام الفرعية.

(٥) معطوف على قوله : «وأما الأمور الاعتقادية» يعني : وأما الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها ... إلخ ، وهذا إشارة إلى القسم الثاني من الأمور الاعتقادية ، وتوضيحه : أنه إذا كان موضوع وجوب الاعتقاد والتسليم الأمور الاعتقادية بشرط اليقين بها لا مطلقا كوجود الصانع وتوحيده والنبوة والمعاد ـ حيث ان موضوع وجوب الالتزام والاعتقاد بها هو معرفتها واليقين بها لا نفس وجودها

٦٦١

شرعا (١) وعقلا هو القطع بها ومعرفتها ، فلا (٢) مجال له موضوعا ، ويجري (٣) حكما ،

______________________________________________________

واقعا وإن لم يتعلق بها معرفة ، كما كان الأمر كذلك في القسم الأول ـ فلا يجري الاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور ، إذ ليست هي بوجودها الواقعي موضوع وجوب الاعتقاد والتسليم حتى تثبت بالاستصحاب ، بل موضوعه المعرفة بها ، وهي لا تثبت بالاستصحاب ، فلا يجدي جريانه في الموضوع ، فلو كان متيقنا بحياة إمام زمانه لا يجري فيها الاستصحاب ، إذ لا يثبت به المعرفة التي هي موضوع وجوب الاعتقاد إلّا بناء على أمرين : أحدهما كفاية المعرفة الظنية في الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها المعرفة ، والآخر حجية الاستصحاب من باب الظن.

وأما الاستصحاب الحكمي فلا مانع من جريانه ، فلو شك في وجوب تحصيل القطع بتفاصيل القيامة بعد أن كان في زمان قاطعا بوجوبه جرى فيه الاستصحاب وترتب عليه وجوب تحصيل اليقين بها.

(١) كمعرفة الله سبحانه وتعالى عند الأشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين ، فان وجوبها شرعي عندهم ، لكنه عقلي عند العدلية ، وقد مر تفصيل ذلك في الجزء الخامس. ويمكن أن يكون قوله : «شرعا» إشارة إلى وجوب تحصيل المعرفة ببعض الاعتقاديات كالمعاد الجسماني ، إذ بناء على وجوب تحصيل المعرفة به عندنا يكون وجوبه شرعيا لا عقليا ، وعليه فليس قوله : «شرعا» إشارة إلى وجوب معرفة الباري عند الأشعري ، بل غرض المصنف الإشارة إلى أن وجوب معرفة بعض الأمور الاعتقادية عقلي وبعضها شرعي.

(٢) جواب «وأما التي» يعني : فلا مجال للاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها القطع بها ، وضميرا «بها ، معرفتها» راجعان إلى «الأمور».

(٣) يعني : ويجري الاستصحاب الحكمي ، لصحة التنزيل ثبوتا وعموم دليل الاستصحاب إثباتا.

٦٦٢

فلو كان (١) متيقنا بوجوب تحصيل القطع بشيء كتفاصيل القيامة (٢) في زمان ، وشك في بقاء وجوبه يستصحب (٣). وأما (٤) لو شك (*) في حياة

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على ما أفاده من جريان الاستصحاب الحكمي في القسم الثاني من الأمور الاعتقادية ، وعدم جريان الاستصحاب الموضوعي فيه.

(٢) هذا مثال للاستصحاب الحكمي ، وقد مر آنفا توضيحه.

(٣) يعني : يستصحب نفس وجوب تحصيل القطع بذلك الشيء كبعض خصوصيات البعث والميزان على تقدير عروض الشك بعد القطع بوجوب تحصيل العلم بذلك. والوجه في جريان الاستصحاب الحكمي هو اجتماع أركانه فيه كما تقدم آنفا.

(٤) مثال للاستصحاب الموضوعي الّذي منعه بقوله : «فلا مجال له موضوعا» ومحصله : أنه لو شك في حياة إمام زمان ونحوه مما يجب فيه تحصيل المعرفة فلا يجري فيها الاستصحاب ، لأن المطلوب لزوم المعرفة لا وجوب الاعتقاد بوجود الإمام واقعا حتى يترتب وجوب الاعتقاد بحياته الثابتة بالاستصحاب ، بل الموضوع لوجوب الاعتقاد هو الحياة المعلومة ، ومن المعلوم أن استصحاب الحياة لا يوجب المعرفة بها ، بل لا يترتب على استصحابها إلّا الحياة الواقعية التي هي بعض موضوع وجوب الاعتقاد ، وبعضها الآخر هي المعرفة التي لا يثبتها الاستصحاب ، لبقاء الشك على حاله بعد جريانه أيضا.

وبالجملة : فالاستصحاب الموضوعي لا يجري في الأمور الاعتقادية التي يتوقف وجوب الاعتقاد بها على معرفتها.

__________________

(*) كون بقاء حياة الإمام عليه‌السلام من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل اليقين بها غير ثابت. نعم نفس الإمامة كالنبوة مما يجب تحصيل القطع به ، وأما بقاء حياة الإمام كحياة النبي صلى الله عليهما فلا يجب تحصيل العلم به ، فالمثال لا يطابق الممثّل.

٦٦٣

إمام زمان مثلا فلا يستصحب (١) لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه ، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه (٢) ، ولا يكاد يجدي (٣) في مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا إلّا (*) إذا كان حجة من باب إفادته (٤) الظن ، وكان (٥) المورد مما يكتفي به

______________________________________________________

(١) يعني : فلا يستصحب حياة إمام الزمان ، إذ لا يثبت الاستصحاب معرفة الإمام حتى يترتب عليها حكمها وهو وجوب المعرفة ، بل لا بد من تحصيل اليقين بموته أو حياته.

(٢) يعني : مع إمكان تحصيل اليقين بموت الإمام أو حياته.

(٣) يعني : ولا يكاد يجدي الاستصحاب ، لما عرفت من عدم إثباته للمعرفة التي هي جزء الموضوع ودخيل فيه عقلا أو شرعا حسب اختلاف الموارد والأقوال كما مرت الإشارة إليه آنفا ، إلّا إذا كان الاستصحاب حجة من باب الظن ، وكان الأمر الاعتقادي مما يكتفي فيه بالمعرفة الظنية أيضا ، فحينئذ يجدي الاستصحاب المزبور ، لأنه يثبت المعرفة الظنية التي هي كالمعرفة العلمية على الفرض ، فإذا كان وجوب الاعتقاد بنسب الإمام عليه‌السلام مترتبا على مطلق الاعتقاد الراجح الشامل للعلم والظن ، فاستصحاب حياته وإن لم يكن موجبا لليقين بحياته ، ولذا لا يترتب عليه وجوب الاعتقاد المترتب على المعرفة اليقينية بحياته ، لكن يترتب عليه وجوب الاعتقاد بنسبة الّذي موضوعه مطلق الاعتقاد الراجح به ولو كان هو الظن الّذي يثبت بالاستصحاب.

(٤) أي : إفادة الاستصحاب للظن ، والمستتر في «كان» راجع إلى الاستصحاب.

(٥) معطوف على «كان» وغرضه أن جريان الاستصحاب في الأمر الاعتقادي

__________________

(*) لا يخفى أن الموضوع هو الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها القطع بها فلا يلائمه هذا الاستثناء ، لخروجه عن تلك الأمور موضوعا ، بل يعد هذا قسما ثالثا للأمور الاعتقادية ، وأجنبيا عن القسم الثاني رأسا.

٦٦٤

أيضا (١). فالاعتقادات (٢) كسائر الموضوعات لا بد في جريانه فيها (٣) من (٤) أن يكون في المورد أثر شرعي (٥) يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه (٦) ،

______________________________________________________

منوط بشرطين : أحدهما حجية الاستصحاب من باب الظن ، ثانيهما كفاية المعرفة الظنية في ذلك الأمر الاعتقادي. وضمير «به» راجع إلى «الظن».

(١) يعني : كما يكتفي فيه بالقطع ، وذلك في كل أمر اعتقادي يكون الواجب فيه مطلق الاعتقاد الراجح الصادق على كل من العلم والظن المقابل للشك والوهم.

(٢) هذا حاصل ما أفاده في تقسيم الأمور الاعتقادية ، وحكم الاستصحاب من حيث جريانه فيها وعدمه ، وغرضه أن نسبة الأمور الاعتقادية إلى الاستصحاب كنسبة الموضوعات إليه من دون تفاوت بينهما ، فكما أن جريانه في الموضوعات منوط بترتب الأثر الشرعي عليها ، فكذلك جريانه في الأمور الاعتقادية ، فكل مورد يترتب عليه أثر شرعي مع إمكان موافقته في حال الشك يجري فيه الاستصحاب سواء أكان ذلك متعلقا بعمل الجوارح أم بعمل الجوانح.

وبالجملة : فمجرد كون شيء أمرا اعتقاديا ليس مانعا عن جريان الاستصحاب فيه ، بل حال الأمور الاعتقادية حال الموضوعات في توقف جريانه في كليهما على اجتماع شرائطه.

(٣) أي : في الاعتقادات ، وضمير «جريانه» راجع إلى الاستصحاب.

(٤) هذا إشارة إلى شروط ثلاثة في جريان الاستصحاب في جميع الموارد : أحدها : أن يكون في المورد أثر شرعي ، ثانيها : التمكن من موافقته ، حيث انه أصل عملي ، ثالثها : بقاء الشك ، حيث انه موضوع للأصل المقابل للأمارة ، ومع اجتماع هذه الشروط يجري في الاعتقاد وغيره على حد سواء.

(٥) هذا إشارة إلى الشرط الأول ، وقوله «يتمكن» إشارة إلى الشرط الثاني ، وقوله : «مع بقاء الشك فيه» إشارة إلى الشرط الثالث.

(٦) كما هو كذلك في القسم الأول من الأمور الاعتقادية ، وفي الشك في بقاء

٦٦٥

كان (١) ذلك متعلقا بعمل الجوارح أو الجوانح.

______________________________________________________

وجوب المعرفة في القسم الثاني منها.

(١) أي : سواء أكان الأثر الشرعي متعلقا بأفعال الجوارح كالصلاة والحج وغيرهما ، أم بأفعال الجوانح كالأمور الاعتقادية من الالتزام وعقد القلب والمعرفة.

فصار المتحصل مما أفاده : أنه في الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها شرعا هو الانقياد والتسليم وعقد القلب عليها يجري فيها الاستصحاب موضوعا وحكما ، وفي الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها هو القطع بها يجري فيها الاستصحاب حكما لا موضوعا.

ولا يخفى أن ما أفاده المصنف من أول التنبيه إلى هنا من تقسيم الأمور الاعتقادية إلى قسمين ، وجريان الاستصحاب موضوعا وحكما في القسم الأول وجريانه حكما في القسم الثاني لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ الأعظم (قده) كما يظهر من حاشيته على الرسائل أيضا ، ولتقريبه بذكر كلام الشيخ أوّلا ثم موضع نظر المصنف فيه ثانيا ، قال (قده) في صدر التنبيه التاسع : «وأما الشرعية الاعتقادية فلا يعتبر الاستصحاب فيها ، لأنه إن كان من باب الأخبار فليس مؤداها إلّا حكم عملي كان معمولا به على تقدير اليقين به ، والمفروض أن وجود الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشك ، لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف ، وإن كان من باب الظن فهو مبني على اعتبار الظن في أصول الدين».

وأما نظر المصنف فبيانه : أن مقصود الشيخ بقوله : «وأما الشرعية الاعتقادية فلا يعتبر الاستصحاب فيها» إما أن يكون الأحكام الشرعية الاعتقادية في قبال الأحكام الشرعية العملية الفرعية كالصلاة ، وإما أن يكون نفس المعتقدات أي الأمور التي لا بد من الاعتقاد بها. وعلى كل منهما يرد عليه بالمنع من تعليل عدم جريان الاستصحاب بناء على أخذه من الأخبار بعدم إمكان الحكم بوجوب الاعتقاد عند الشك ، لزوال الاعتقاد.

وجه المنع : أن الشك في وجوب الاعتقاد لا يزيل نفس الاعتقاد ، والشك في

٦٦٦

وقد انقدح بذلك (١) أنه

______________________________________________________

الأمر الاعتقادي وإن كان مزيلا للاعتقاد بمعنى الإيقان ، لكنه لا ينافي عقد القلب عليه والالتزام بواقعه فيما لم يعتبر فيه المعرفة. ولأجله لا بد من التفصيل في الأمور الاعتقادية بين ما يكفي فيه عقد القلب عليها ولو لم يعلم بها كتفاصيل عالم البرزخ ، وبين ما يكون المطلوب فيها المعرفة واليقين بها ، فانه لا مانع من جريان الاستصحاب في القسم الأول حكما وموضوعا كما تقدم بيانه.

مضافا إلى : أن ، الاعتقاد إن كان بمعنى المعرفة اليقينية فلا وجه للتفصيل في الاستصحاب بين حجيته بالأخبار وحجيته بالظن ، إذ المفروض عدم الجدوى في الاستصحاب ، لعدم إفادته المعرفة المطلوبة في الاعتقاد وإن كان حجة من باب الظن.

وأما دعوى شيخنا الأعظم بأن الاستصحاب حكم عملي فيردها ما في المتن من أنه في قبال الأمارة الكاشفة عن الواقع ، لا بمعنى اختصاصه بأعمال الجوارح حتى لا يجري في الأحكام المتعلقة بأعمال الجوانح. وعليك بمزيد التأمل في كلمات الشيخ والمصنف هنا وفي الحاشية لعلك تستفيد منها أمرا آخر.

(١) أي : ظهر بما ذكر ـ من أن الاعتقادات كالموضوعات في توقف جريان الاستصحاب فيها على كون المورد ذا أثر شرعي ـ أنه لا مجال للاستصحاب في نفس النبوة ... إلخ. توضيحه : أنه يحتمل في النبوة المستصحبة وجوه ثلاثة : أولها : أن يراد بها صفة كمالية نفسانية تكوينية موجبة للاستيلاء على التصرف في الأنفس والآفاق والفوز بمنصب الرئاسة العامة الإلهية ، وهذه المرتبة العالية من كمال النّفس تستلزم تلقي المعارف الإلهية من المبدأ الأعلى بلا توسط بشر. والنبي على هذا «فعيل» بمعنى مفعول ، باعتبار تلقيه للوحي ، فينبئه تعالى بما شاء.

ثانيها : أن يراد بها منصب مجعول إلهي كولاية الفقيه على القصّر ، وولاية الأب والجد على الصغير ، وكالقضاوة والملكية وغير ذلك من الأحكام الوضعيّة ، فالنبوة على هذا ليست بمعنى كون نفسه المقدسة مجلى المعارف ـ وإن كانت هذه الصفة مما لا بد منها في اعتبار النبوة ـ بل بمعنى جعله مخبرا ومبلّغا عنه تعالى

٦٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وسفيرا إلى خلقه ، فببعثته يثبت له منصب المخبرية والسفارة ، وللنبوة حينئذ معنى فاعلي لا مفعولي ، لأنها بالمعنى الأول أمر واقعي ، لأن النبي ممن أنبأه الله تعالى بمعارفه ، لا أمر اعتباري.

ثالثها : أن يراد بالنبوة المستصحبة أحكام شريعة يشك في منسوخيتها بشريعة أخرى. فهذه احتمالات ثلاثة لا بد من ملاحظة كل منها.

فان أريد بها المعنى الأول ، فلا يجري فيها الاستصحاب ، إما لاختلال ركن الشك في البقاء ، وإما لاختلال شرط جريانه أعني كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي.

أما اختلال الشك فلأجل أن الشك في بقاء النبوة بمعنى المرتبة القدسية لا بد أن يكون إما لانحطاط نفسه المقدسة أو للموت أو لمجيء نبي آخر ، والكل غير معقول.

أما الأول ـ وهو الّذي اقتصر عليه في المتن ـ فلأن الانحطاط إنما يتصور في الملكات الحاصلة للنفس بالتخلق من تحليها بالفضائل بسبب المجاهدة كملكة العدالة والجود والإيثار ، فيحصل الضعف فيها ، بل ربما تزول بسبب تسويلات النّفس الأمارة بالسوء. وحيث ان لملكة النبوة درجة التحقق ووصولها من مرتبة القوة والاستعداد إلى مرتبة الفعلية المستلزمة لمقام الوحي ، فانحطاطها معناه العود والانقلاب إلى القوة المستحيل عادة.

وأما الثاني فلأن الموت لا يوجب زوال سائر الملكات الراسخة فضلا عن هذه الملكة الشامخة ، كيف والدنيا مزرعة الآخرة ، والمعرفة بذر المشاهدة ، فكيف يعقل زوالها بالموت؟ وكيف تنقلب النفوس العالية الخاصية بالموت إلى نفوس سافلة عامية ، مع أن الموت لو لم يوجب قوة المشاهدة لم يوجب ضعفها.

وأما الثالث وهو زوالها بمجيء نبي لاحق ولو كان أكمل فلوضوح أن زيادة كمال شخص لا توجب زوال كمال شخص آخر أو نقصه.

٦٦٨

لا مجال له (١) في نفس النبوة إذا كانت ناشئة من كمال النّفس (٢) بمثابة يوحى إليها ، وكانت (٣) لازمة (*) لبعض مراتب كمالها ، إما (٤)

______________________________________________________

وعليه فلا يعقل الشك في بقاء النبوة بهذا المعنى حتى يستصحب ، هذا كله في اختلال الشك في البقاء.

وأما اختلال شرط الاستصحاب ، فلوضوح أن النبوة بهذا المعنى أمر تكويني لازم لمرتبة كمال النّفس ، فلو فرض محالا إمكان انحطاط النّفس عن تلك المرتبة لا يجري فيها الاستصحاب ، لعدم كونها مجعولا شرعيا كما هو ظاهر ، ولا موضوعا لحكم شرعي مهم ، إلّا في مثل نذر شيء له تعالى على تقدير بقاء هذه الصفة الكمالية لذلك النبي وعدم انحطاطها.

فان قلت : وجوب العمل بأحكام شريعته من آثار بقاء نبوته ، فكيف لا يكون لبقائها أثر شرعي؟

قلت : وجوب العمل بالأحكام ليس من آثار النبوة بهذا المعنى حتى يترتب على استصحابها ، إذ لو علم ببقائها بهذا المعنى لا يجب أيضا العمل بأحكام شريعته مع العلم بحدوث شريعة أخرى ناسخة بسبب بعث نبي آخر ، فوجوب العمل بالأحكام أثر بقاء النبوة بالمعنى الثاني أي المنصب الإلهي الّذي هو من سنخ الأمور الاعتبارية ، وهذا كما سيأتي يجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه آثاره الشرعية.

هذا كله في حكم النبوة بمعنى الملكة القدسية الباقية ببقاء نفسه المطمئنة في العوالم والنشئات. وإن أريد بها المعنى الثاني فسيأتي حكم الاستصحاب فيه.

(١) أي : للاستصحاب ، وضمير «انه» للشأن.

(٢) هذا إشارة إلى النبوة بالمعنى الأول وهو ما ينشأ من كمال النّفس.

(٣) معطوف على «كانت» يعني : وكانت النبوة لازمة لبعض مراتب كمال النّفس.

(٤) بيان لوجه قوله : «لا مجال له» وقد ذكر لعدم المجال لجريان الاستصحاب

__________________

(*) ظاهر هذه الكلمة كصريحه في الحاشية : «فالنبوة صفة قائمة بنفس النبي

٦٦٩

لعدم الشك فيها بعد اتصاف النّفس بها ، أو لعدم (١) كونها مجعولة ،

______________________________________________________

في النبوة بالمعنى الأول وجهين على سبيل منع الخلو ـ متقدمين آنفا بقولنا : «فان أريد بها المعنى الأول فلا يجري فيها الاستصحاب ... إلخ» ـ الأول : عدم الشك في بقائها ، الثاني : كونها من الصفات التكوينية ، فلا يجري فيها الاستصحاب ولو مع الشك في بقائها ، لاحتمال انحطاط النّفس عن تلك المرتبة العالية. وذلك لعدم كونها من المجعولات الشرعية ولا مما يترتب عليه حكم شرعي ، ومن المعلوم توقف جريان الاستصحاب على تحقق أحدهما. وضميرا «فيها ، بها» راجعان إلى «النبوة».

(١) معطوف على «لعدم الشك» وهذا إشارة إلى ثاني وجهي عدم جريان

__________________

غير قابلة للارتفاع» (١). كون النبوة بمعنى كمال النّفس من لوازم وجود شخص النبي ومما يستحيل انفكاكها عنه ، وقد علّله المحقق الأصفهاني (قده) بما ذكرناه في التوضيح من أنها درجة تحقق الكمال والمعرفة الشهودية ، لا درجة التخلق حتى يمكن زوالها.

لكن دعوى الاستحالة العادية هنا أولى من دعوى الاستحالة العقلية ، إذ لا ريب في أن هذه المرتبة من الكمال الموجب لتلقي الوحي منه تعالى فضل منه وعطاء يحبوه من يشاء من خلقه ، فالنبوة بهذا المعنى أيضا ملكه تعالى ينزعها ممن يشاء ويعطيها من يشاء ، فكما أن سلب الملكية الاعتبارية تحت حيطة قدرته تعالى ، كذلك سلب ذلك الكمال النفسانيّ الحاصل بممارسة أشق المجاهدات التي يعجز عنها غيره.

والحاصل : أن دعوى كون النبوة بهذا المعنى كالزوجية للأربعة من لوازم الذات أو ككمّه وكيفه من العوارض اللازمة لوجوده في هذه النشأة لا يخلو إثباتها من تكلف ، فان هذه الدرجة السامية كمال منّة منه تعالى عليه كجماله واستواء خلقه مما يعقل زوالها وإن لم تجر سنته على سلبها عن أوليائه ، فدعوى الاستحالة العادية أولى مما في المتن.

__________________

(١) حاشية الرسائل ص ٢٢٤

٦٧٠

بل من الصفات الخارجية التكوينية ولو (١) فرض الشك في بقائها باحتمال (٢) انحطاط النّفس عن تلك المرتبة وعدم (٣) بقائها بتلك المثابة كما (٤) هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات ، وعدم (٥) أثر شرعي

______________________________________________________

الاستصحاب الّذي تقدم بقولنا : «الثاني : كونها من الصفات التكوينية».

(١) وصلية ، غرضه أن الاستصحاب لا يجري في النبوة بالمعنى الأول ولو فرض الشك في بقائها الّذي هو ثاني ركني الاستصحاب ، لما عرفت من عدم كون النبوة بهذا المعنى حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي ، وضمير «بقائها» راجع إلى «النبوة»

(٢) الباء للسببية ، يعني : ولو فرض الشك في بقائها بسبب احتمال انحطاط النّفس ... إلخ ، وغرضه بيان منشأ الشك في بقاء النبوة وهو احتمال انحطاط النّفس.

(٣) معطوف على «انحطاط» ويمكن عطفه على «بقائها» يعني : ولو فرض الشك في بقائها وارتفاعها بسبب احتمال انحطاط النّفس. والإيجاز يقتضي أن تكون العبارة هكذا : «ولو فرض الشك في بقائها وارتفاعها باحتمال انحطاط النّفس عن تلك المرتبة كما هو الشأن ...».

(٤) أي : احتمال انحطاط النّفس شأن سائر الصفات والملكات الحاصلة بالرياضات ، إذ مع حصول ضعف في تلك الرياضات المحصّلة للملكات تنحط تلك الملكات عن المراتب العالية الحاصلة بالرياضات الشاقة.

(٥) معطوف على «عدم كونها مجعولة» يعني : أن المنع عن جريان الاستصحاب بالمعنى الأول إنما هو لعدم كون المستصحب بنفسه أثرا شرعيا ولا موضوعا له ، والمفروض إناطة جريانه بأحدهما. وعليه فالواو في «وعدم» بمعنى «مع» فمنع جريان الاستصحاب منوط بأمرين : أحدهما عدم مجعولية المستصحب ، والآخر عدم ترتب أثر شرعي عليه.

٦٧١

مهم (١) لها يترتب عليها باستصحابها (٢).

نعم (٣) لو كانت النبوة من المناصب المجعولة وكانت كالولاية (٤) وإن كان (٥) لا بد في إعطائها من أهلية وخصوصية يستحق بها لكانت (٦)

______________________________________________________

(١) احتراز عن غير المهم ، وهو الحاصل نادرا بعنوان ثانوي كالنذر وأخويه.

(٢) هذا الضمير وضميرا «لها ، عليها» راجعة إلى النبوة.

(٣) استدراك على قوله : «وقد انقدح بذلك» وإشارة إلى المعنى الثاني للنبوة ، وحاصله : أنه يمكن إجراء الاستصحاب في نفس النبوة بناء على كونها من المناصب المجعولة كالولاية والقضاوة ونحوهما من الأحكام الوضعيّة المجعولة ، إذ المفروض كون النبوة بنفسها حينئذ مجعولا شرعيا ، لا صفة تكوينية غير قابلة للاستصحاب كما هو مقتضى معناها الأول الّذي يعد من المعدّات للنبوة التي هي من المناصب المجعولة ، لكن يشكل إجراء الاستصحاب في النبوة المجعولة الإلهية من ناحية أخرى سيأتي بيانها.

(٤) أي : في كونها من المناصب المجعولة ، والإيجاز يقتضي إسقاط كلمة «وكانت».

(٥) كلمة «وإن» وصلية ، وهذه الجملة معترضة ، يعني : أن هذا المنصب الرفيع وإن كان إلهيا ، ولكنه يحتاج إلى محل قابل ، فالنبوة التكوينية توجد القابلية والأهلية لإفاضة المنصب الإلهي الشامخ ، وضمير «إعطائها» راجع إلى «النبوة» والمراد بالخصوصية كمال النّفس بمرتبة يجعلها أهلا لإفاضة النبوة الإلهية ، وضمير «بها» راجع إلى «الأهلية».

(٦) جواب «لو كانت» يعني : لو كانت النبوة من المناصب المجعولة لكانت بنفسها موردا للاستصحاب ، لاجتماع أركانه ، إذ المفروض كون النبوة حينئذ من المجعولات الشرعية ، وضمائر «بنفسها ، عليها ، آثارها» راجعة إلى «النبوة».

٦٧٢

موردا للاستصحاب بنفسها ، فيترتب (١) عليها آثارها ولو كانت (٢) عقلية بعد (٣) استصحابها ، لكنه (٤) يحتاج إلى دليل (*) كان هناك غير

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على جريان الاستصحاب في النبوة التي تكون من المناصب المجعولة ، فان لازم صحة جريانه فيها هو ترتب آثار النبوة على استصحابها.

(٢) يعني : ولو كانت آثار النبوة عقلية كوجوب الإطاعة الّذي هو حكم عقلي مترتب على الحكم مطلقا سواء أكان واقعيا أم ظاهريا كما تقدم ذلك في التنبيه التاسع ، فيترتب هذا الحكم العقلي على النبوة الثابتة بالاستصحاب كترتبه على النبوة الثابتة بالقطع.

(٣) هذا الظرف متعلق بـ «فيترتب» وضمير «استصحابها» راجع إلى النبوة.

(٤) استدراك على قوله : «لكانت موردا» وبيان للإشكال الّذي أشرنا إليه آنفا بقولنا : «لكن يشكل إجراء الاستصحاب من ناحية أخرى» ومحصل الإشكال المانع عن جريان الاستصحاب في النبوة بمعنى المنصب الإلهي هو لزوم الدور توضيحه : أن جريانه فيها منوط بحجيته من غير ناحية بقاء النبوة ، إذ لو كانت منوطة ببقائها لزم الدور ، لتوقف بقائها على الاستصحاب كما هو المقصود ، فلو توقف اعتباره على بقاء النبوة كان دورا موجبا لامتناع التمسك به لإثبات بقاء النبوة.

__________________

(*) سواء أكان الاستصحاب أصلا عمليا أم دليلا اجتهاديّاً ، لافتقاره على التقديرين إلى دليل شرعي على اعتباره ، فان كان ذلك الدليل من الشرع السابق لزم الدور. وإن كان من الشريعة اللاحقة فلا يجدي في بقاء الشريعة السابقة ، لأن اعتبار الاستصحاب من الشريعة اللاحقة مستلزم لنسخ الشريعة السابقة ، وعدم شك في بقائها حتى يجري فيه الاستصحاب. ولو كان الدليل على اعتبار الاستصحاب بناء العقلاء لم يصح الاستناد إليه إلّا بعد الإمضاء ، فيقع الكلام في أن الشرع السابق أمضاه أو اللاحق ، فان كان هو السابق لزم الدور ، وإن كان هو اللاحق فذاك مساوق للنسخ وعدم الشك في البقاء ، وهو خلف.

وتوهم كفاية حجية الاستصحاب في الشريعتين لصحة جريانه في النبوة فاسد ،

٦٧٣

منوط بها ، وإلا (١) لدار كما لا يخفى.

وأما استصحابها (٢) بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها فلا إشكال فيها [فيه] كما مر (٣).

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يكن هناك دليل غير منوط بالنبوة لدار ، وقد عرفت تقريب الدور. هذا تمام الكلام في النبوة بمعنى المنصب المجعول.

وإن أريد بها بعض أحكام شريعة من اتصف بها فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها ، لكون المستصحب حكما شرعيا.

فصار المتحصل من جميع ما ذكر : أن الاستصحاب لا يجري في النبوة بمعناها الأول ، لكونها من الصفات التكوينية الخارجية ، وكذا بمعناها الثاني ، لاستلزامه الدور. وأما بمعناها الثالث فيجري فيها بلا مانع على ما مرّ تفصيله في استصحاب عدم النسخ.

(٢) أي : استصحاب النبوة ، وهذا إشارة إلى النبوة بمعناها الثالث ، وقد تقدم آنفا بقولنا : «وان أريد بها بعض أحكام شريعة ... إلخ» وضمير «بها» راجع إلى النبوة.

(٣) يعني : في التنبيه السادس في استصحاب عدم نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة. وضمير «فيها» راجع إلى «استصحابها» فالأولى تذكير الضمير كما في بعض النسخ ، والأنسب بمقتضى السياق أن يقال : «وأما النبوة بمعنى بعض أحكام شريعة من اتصف بها فلا إشكال في استصحابها».

__________________

لأن ثبوتها في الشريعة اللاحقة لا يثبت اعتبار النبوة السابقة ، إذ لو كان دليل اعتبار الاستصحاب صالحا لشموله للنبوة السابقة المشكوكة لزم من هذا العموم عدم اعتبار نفسه ، لأن بقاء اعتبار النبوة السابقة يقتضي بطلان النبوة اللاحقة الملزوم لبطلان العموم ، فالشك فيها يستلزم الشك في صحة العموم.

٦٧٤

ثم لا يخفى (١) أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم إلّا إذا

______________________________________________________

(١) هذا أحد الأمور التي عقد هذا التنبيه لبيانها ، وقبل الخوض فيه مهّد له مقدمة ، وهي : أن الاستدلال بالاستصحاب يكون تارة لإثبات الدعوى وإقناع النّفس ومعذوريته في بقائه على الشريعة السابقة كما هو شأن البرهان الحقيقي ، وأخرى لإلزام الخصم ودعوة المسلم إلى اليهودية كما هو شأن البرهان الجدلي. وفي كليهما يعتبر أمور :

الأول : اليقين بالثبوت والشك في البقاء ، ضرورة أنهما ركنا الاستصحاب.

الثاني : كون المستصحب أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي.

الثالث : الاعتقاد بحجية الاستصحاب ، وقيام الدليل عليها.

فان هذه الأمور معتبرة في البرهان الّذي يراد به إثبات الدعوى ، فان الاستصحاب مع فقدان أحد هذه الأمور لا يكون حجة ، فلا يصلح لإثبات الدعوى ، كما أنها معتبرة في البرهان الجدلي الّذي يراد به إلزام الخصم ، إذ مع فقدان كلها أو بعضها لا يرى المورد من موارد الاستصحاب حتى يكون حجة على الخصم ويلزم به وتبطل به دعواه ، إذ لا بد في إلزامه من اعترافه بجريان الاستصحاب في المورد ، ومع إنكاره لشرط من شرائطه واعتقاده بعدم جريانه فيه كيف يعقل إلزامه به؟ ففي البرهان الجدلي الملزم للخصم المبطل لدعواه يعتبر اعترافه باجتماع جميع شرائط البرهان عنده ، كاجتماعها عند من يقنع به نفسه ويثبت به دعواه ، ولذا قال المصنف (قده) : «لا يكاد يلزم به الخصم إلّا إذا اعترف ... إلخ».

وبهذه المقدمة يتضح أنه لا مجال لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام ، لا إلزاما للخصم وهو المسلم ولا إقناعا لنفسه.

أما الأول فلانتفاء الشرط الأول والثاني فيه إن أريد بالنبوة الصفة الكمالية القائمة بنفسه المقدسة التي من شئونها تلقي المعارف الإلهية والفيوضات الربانية ، وذلك لليقين ببقاء النبوة بهذا المعنى ، فلا شك في بقائها حتى يجري فيها الاستصحاب. كما لا أثر شرعا لهذه النبوة ، فينتفي الشرط الثاني أيضا وهو كون

٦٧٥

اعترف بأنه على يقين فشك فيما (١) صح هناك التعبد والتنزيل (٢) ودلّ عليه

______________________________________________________

المستصحب أثرا شرعيا أو موضوعا له.

ولانتفاء الشرط الأول أيضا ـ وهو الشك في البقاء دون الشرط الثاني ـ إن أريد بالنبوة الشريعة ، حيث إن ارتفاعها معلوم ، لعلم المسلم بنسخها بهذه الشريعة ، فلا يكون شاكا في ارتفاع شريعته حتى يجري فيها الاستصحاب ويلزمه الكتابي به.

وأما الثاني وهو تشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام لإقناع نفسه فلا مجال له ، إذ لو أريد بالنبوة المنصب الإلهي الّذي لا بدّ من تحصيل اليقين به بالنظر إلى المعجزات ودلائل النبوة فلا يجري فيها الاستصحاب ، لأنه لا يوجب المعرفة.

ولو أريد بها الشريعة فالكتابي وإن كان متيقنا بأصلها وشاكا في بقائها ، إلّا أن جريانه فيها منوط بالدليل على اعتباره ، فان كان ذلك الدليل من نفس تلك الشريعة لزم الدور ، لتوقفها على اعتبار الاستصحاب ، وتوقف اعتباره عليها.

وبعبارة أخرى : حجية الاستصحاب وإن كانت ثابتة في شريعة موسى عليه‌السلام ، إلّا أن الكتابي حيث إنه شاك في بقاء أصل شريعته عليه‌السلام ، لاحتمال منسوخيته بشريعة الإسلام ، فهو شاك أيضا في حجية الاستصحاب بما أنها حكم من شرائع الكليم عليه‌السلام ، ولا ريب في أن إقناع النّفس ببقاء شريعة مشكوك حالها منوط بدليل قطعي لا بما هو مشكوك في نفسه.

وإن كان من هذه الشريعة لزم الخلف ، إذ لازم اعتباره من هذه الشريعة ارتفاع الشريعة السابقة.

ولو أريد بالنبوة الكمال النفسانيّ الحاصل بالرياضات فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها ، لليقين ببقائها. مضافا إلى عدم ترتب أثر شرعي عليه.

(١) متعلق بـ «يلزم» أي : إذا كان المستصحب النبوة بالمعنى الثالث وهو أحكام شريعة موسى عليه‌السلام.

(٢) غرضه أن مجرد اعتراف الخصم بكونه على يقين فشك لا يكفي في إلزامه

٦٧٦

الدليل (١). كما (٢) لا يصح أن يقنع به إلّا مع اليقين والشك ، والدليل (٣) على التنزيل.

ومنه (٤) انقدح أنه لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى (*)

______________________________________________________

بل لا بد من كون المورد من موارد صحة التنزيل والتعبد في ظرف الشك ، بأن لا يكون من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها ، وإلّا فلا يجري فيها الاستصحاب ، لأنه لا يوجب المعرفة ، فلا يصح التعبد والتنزيل في تلك الأمور الاعتقادية ثبوتا.

(١) هذا مقام الإثبات ، إذ مجرد إمكان التعبد لا يثبت فعلية التعبد ، بل فعليته منوطة بدلالة الدليل عليها.

(٢) غرضه أن هذين الشرطين معتبران أيضا فيمن يجري الاستصحاب لإقناع نفسه وإثبات دعواه ، لما مر آنفا من لزوم اجتماع الشرائط في البرهان مطلقا حقيقيا كان أو جدليا ، وضمير «به» راجع إلى الاستصحاب أي يقنع الكتابي بالاستصحاب.

(٣) معطوف على «اليقين» يعني : ومع الدليل على التنزيل.

(٤) أي : ومن عدم جريان الاستصحاب في أحكام شريعة موسى عليه‌السلام ، وغرضه من هذه العبارة بعد تمهيد المقدمة المزبورة بيان ذي المقدمة الّذي هو أحد الأمور الداعية إلى عقد هذا التنبيه ، والمراد بذلك الأمر هو ما جرى بين بعض أهل الكتاب وبين بعض السادة الأعلام ـ وهو السيد السند العلامة السيد محمد باقر القزويني على ما في حاشية المحقق الآشتياني أو السيد الأجل بحر العلوم ، أو العلامة السيد محسن الكاظمي ، أو السيد حسين القزويني قدس الله تعالى أرواحهم الطاهرة على ما في أوثق الوسائل ، أو جميعهم ، لإمكان تعدد الواقعة ـ من مناظرة ، وهي : أن الكتابي في مقام إلزام المسلمين تمسك بالاستصحاب ، بتقريب : أنهم متيقنون بنبوة موسى

__________________

(*) قد نسبت هذه المناظرة والجواب عن استصحاب الكتابي إلى جمع من

٦٧٧

أصلا لا إلزاما للمسلم لعدم (١) الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة ، واليقين (٢) بنسخ شريعته ،

______________________________________________________

عليه‌السلام ، فعليهم إثبات نسخها ، فان الاستصحاب يقتضي بقاء شرعه إلى أن يثبت نسخه. ومن هنا يظهر الفرق بين هذا التنبيه وبين التنبيه السادس كما نبهنا عليه هناك ، فلاحظ.

(١) تعليل لعدم صحة تمسك الكتابي بالاستصحاب لإلزام المسلم. ومحصل التعليل كما مر آنفا : عدم الشك في بقاء النبوة بمعنى الصفة الكمالية النفسانيّة ، ومع العلم ببقائها لا مورد للاستصحاب. مع أنه لا أثر لها شرعا حتى تستصحب.

(٢) معطوف على «عدم الشك» يعني : ولليقين بنسخ شريعته إن أريد بالنبوة المستصحبة الشريعة ، إذ المسلم يقطع بنسخ شريعة موسى عليه‌السلام ، وإلّا فليس

__________________

أعلام أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم ، منهم العلامة الأوحد صاحب الكرامات الباهرة الأورع الزكي المرضي السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي قدس‌سره ، لكن صحة هذه النسبة لا تخلو من تأمل ، لأن المناظرة التي وقعت بينه وبين بعض علماء اليهود في قرية «ذي الكفل» وضبطها بخصوصياتها تلميذه السيد الفقيه الجليل صاحب مفتاح الكرامة (قده) ونقلها بعض أحفاد السيد بحر العلوم في مقدمة رجاله المعروف بالفوائد الرجالية ليست ناظرة إلى استصحاب نبوة موسى عليه‌السلام ، بل ناظرة إلى جهات أخرى ، والسيد قد تعرض لها وأجاب عنها وأفحم اليهودي بالاحتجاج عليه بما وقع في التوراة من التحريفات والقبائح والشنائع والافتراء على النبي لوط عليه‌السلام وبنتيه وغير ذلك مما يستقل بقبحه العقل.

وبالجملة : تلك المناظرة تتضمن فوائد مهمة أوجبت هداية عدة كثيرة من جماعة اليهود القاطنين في قرية «ذي الكفل» وينبغي لأهل العلم مراجعة هذه المناظرة والاستفادة من فوائدها التي أفادها السيد (قده) فيها شكر الله مساعيه الجميلة وجزاه عن العلم و الإسلام خير الجزاء (١).

__________________

(١) الفوائد الرجالية ج ١ ، المقدمة ص ٥٠ إلى ٦٥

٦٧٨

وإلّا (١) لم يكن بمسلم. مع (٢) أنه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنه على يقين وشك (٣). ولا إقناعا (٤) مع الشك ، للزوم (٥) معرفة النبي بالنظر (٦) إلى حالاته ومعجزاته عقلا (٧) ،

______________________________________________________

بمسلم. فعلى التقديرين لا يلزم المسلم باستصحاب الكتابي ، إما للقطع بالبقاء إن أريد بالنبوة الصفة الواقعية الحاصلة بالرياضات ، لكن قطع المسلم بالبقاء لا يجدي الكتابي الّذي مقصوده إثبات بقاء شرع موسى عليه‌السلام ، وإما للقطع بالارتفاع إن أريد بالنبوة الشريعة كما تقدم تفصيله آنفا.

(١) أي : وإن لم يكن المسلم متيقنا بالنسخ لم يكن بمسلم.

(٢) هذا متمم لقوله : «لعدم الشك ... إلخ» يعني : كيف يمكن إلزام المسلم باستصحاب شريعة موسى عليه‌السلام القاطع بنسخها؟ مع أنه لا بد في إلزام الخصم بالبرهان الجدلي ـ وهو الاستصحاب هنا ـ من تحقق موضوعه وهو اليقين والشك اللذان هما ركنا الاستصحاب حتى يمكن إلزام المسلم به.

(٣) والمفروض أنه لا يمكن للمسلم من حيث انه مسلم أن يكون متيقنا بشريعة موسى عليه‌السلام وشاكا في بقائها ، بل هو متيقن بارتفاعها ، فينتفي الشك في البقاء الّذي هو ثاني ركني الاستصحاب ، ومع انتفائه لا يبقى مجال لجريانه.

(٤) معطوف على «إلزاما» وحاصله الّذي تقدم تفصيله هو : أن الاستصحاب بالنسبة إلى الكتابي وإن أمكن جريانه ، لكونه شاكا ، لكنه لا يجديه أيضا بحيث يعوّل عليه في تكليفه ، لأن النبوة من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها بالنظر إلى معجزات النبي ودلائل نبوته ، ولا يكتفي فيها بالشك.

(٥) تعليل لقوله : «ولا إقناعا» يعني : أن النبوة مما يجب تحصيل المعرفة بها.

(٦) متعلق بـ «معرفة» وقوله : «عقلا» قيد أيضا لـ «معرفة» والأولى أن تكون العبارة هكذا : «للزوم معرفة النبي عقلا بالنظر إلى حالاته ومعجزاته».

(٧) فلو فرض حجية الاستصحاب بنظر الكتابي فليس له أيضا التمسك به في

٦٧٩

وعدم (١) الدليل على التعبد بشريعته لا عقلا ولا شرعا (٢). والاتكال (٣) على قيامه في شريعتنا لا يكاد (٤) يجديه إلّا على نحو محال.

______________________________________________________

إثبات بقاء النبوة المجعولة ، حيث ان معرفة النبي ليست بأقل من الأحكام العملية الفرعية التي لا يجوز استصحابها إلّا بعد الفحص واليأس عن الناسخ والمخصص والمقيد ، فلا وجه لاستصحاب النبوة قبل الفحص عن ورود شريعة أخرى وعدمه ، ومن المعلوم أن الكتابي لو تفحص ولم يكن ممن أعمى الله قلبه لاستبصر وأذعن بالحق.

(١) معطوف على «لزوم» وهذا إشارة إلى أن الكتابي إذا أراد التعبد بشريعة موسى عليه‌السلام فكلا ركني الاستصحاب وهما اليقين والشك وإن كانا موجودين ، لكن الشرط الثالث المتقدم بقولنا : «الثالث الاعتقاد بحجية الاستصحاب وقيام الدليل عليها ... إلخ» مفقود ، لعدم دليل على اعتباره هنا لا عقلا ولا شرعا.

أما الأول فلأن البناء على الحالة السابقة المتيقنة عند الشك في بقائها ليس من المستقلات العقلية كحسن الإطاعة وقبح المعصية. ولو سلم كونه مما استقرت عليه سيرة العقلاء فاعتباره منوط بإمضاء الشرع ، فيرجع ذلك إلى الدليل الشرعي ، فان كان الإمضاء من الشرع السابق فاستصحاب النبوة السابقة يتوقف على ثبوتها ، وثبوتها على استصحاب النبوة ، وهذا دور.

وإن كان الإمضاء من الشرع اللاحق لزم الخلف وهو ارتفاع النبوة السابقة بالنسخ.

وأما الثاني فهو عين ما ذكر في دليل إمضاء بناء العقلاء.

(٢) قد عرفت تقريب عدم الدليل عقلا وشرعا على اعتبار الاستصحاب في جواز التعبد بالشريعة السابقة مع الشك فيها.

(٣) هذا إشارة إلى دفع توهم ، وهو : عدم تسليم قوله : «ولا شرعا» بتقريب أن قيام الدليل على اعتبار الاستصحاب في شرعنا كاف في ثبوت الدليل الشرعي على اعتباره ، وضمير «قيامه» راجع إلى الدليل.

(٤) هذا دفع التوهم ، وحاصله كما مر : أن اعتبار الاستصحاب في شريعتنا

٦٨٠