منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

أمارة معتبرة على خلافه

______________________________________________________

يدعى بقاء الشك وجدانا فيما تيقنه سابقا بعد قيام الأمارة على أحد طرفي الشك ، ويبطل دعوى الورود ، لما عرفت من تعلق النهي بنفس «نقض اليقين بالشك» وحينئذ فان كان السبب في رفع اليد عن اليقين السابق نفس الشك في البقاء كان ذلك منهيا عنه بمقتضى «لا تنقض» وإلّا فلا.

وعلى هذا فان قامت أمارة معتبرة كخبر العدل والبينة على أمر كان اللازم الأخذ بها سواء وافقت الحالة السابقة أم خالفتها ، وذلك لارتفاع موضوع الاستصحاب ـ أعني نقض اليقين بالشك ـ بقيامها ، لكون نقض اليقين حينئذ باليقين لا بالشك ، فان الأمارة المعتبرة وإن لم توجب اليقين بالواقع ، لإمكان مخالفتها للواقع ، لكن مفاد دليل اعتبار الأمارة هو اليقين بالحكم بعنوان ثانوي كعنوان «ما أخبر به العادل» أو «ما شهدت البينة به» ونحو ذلك من العناوين المستفادة من أدلة الاعتبار ، مثلا إذا علمنا بنجاسة الثوب وأخبرت البينة بتطهيره ، فالطهارة الواقعية وإن لم تكن معلومة بعنوانها الأوّلي ، إلّا أن طهارته بعنوان «ما شهدت به البينة» معلومة ، ويكون نقض اليقين بالنجاسة بسبب اليقين بالطهارة لا بالشك فيها حتى يكون منهيا عنه.

نعم لو كان موضوع الاستصحاب نفس اليقين والشك لم ينطبق ضابط الورود على المقام ، لبقاء الشك وجدانا في الطهارة بعد قيام البينة. ولكن لما كان الموضوع «نقض اليقين بالشك» لم يكن نقض اليقين بالنجاسة بعد قيام البينة نقضا له بالشك ، بل نقضا له باليقين بطهارته وإن كان يقينا بها بعنوان ثانوي أي بعنوان «ما أخبرت به البينة» وهذا معنى الورود الّذي يرتفع به موضوع الاستصحاب حقيقة ببركة دليل اعتبار الأمارة. والشك في الحكم الواقعي كالطهارة في المثال المتقدم وإن كان باقيا بعد قيام الأمارة ، إلّا أنه لا منافاة بين الشك في شيء من وجه والعلم به من وجه آخر ثانوي أعني بعنوان ما قامت الأمارة عليه (١).

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٣٥

٧٦١

ليس (١) من نقض اليقين بالشك ، بل (٢) باليقين. وعدم (٣) رفع اليد عنه

______________________________________________________

الثاني : ما يستفاد من كلماته في الاستدلال بالأخبار وفي التنبيه الثاني من أن موضوع الاستصحاب هو نقض الحجة باللاحجة ، والأمارة المعتبرة حجة رافعة لهذا الموضوع ، وبيانه : أنه قد تقدم في الاستدلال بصحاح زرارة وغيرها كون قوله عليه‌السلام : «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» إرشادا إلى قضية ارتكازية عقلائية وهي أنه لا ينبغي نقض اليقين لكونه أمرا مبرما بالشك لكونه موهونا ، ومن المعلوم أن التعليل بهذه الكبرى لا يختص باليقين والشك ، بل هو شأن كل حجة في قبال ما ليس بحجة ، فالمذموم عند العقلاء رفع اليد عن الدليل بغير الدليل. وحيث ان المفروض حجية الأمارة غير العلمية كخبر العدل والبينة كان نقض اليقين السابق بسبب الحجة مما ينبغي بنظرهم ، هذا.

والفرق بين هذين التقريبين واضح ، لابتناء الوجه الأول على أن مؤدى الأمارة حكم معلوم بعنوان ثانوي أي بعنوان ما قامت الأمارة عليه ، فيتحقق اليقين الناقض بقيام الأمارة ، وهذا بخلاف الوجه الثاني ، لعدم ابتنائه على إفادة الأمارة لليقين بالواقع بعنوان ثانوي ، وإنما يبتني على التصرف في اليقين والشك بإرادة الحجة واللاحجة منهما ، لأن العرف الملقى إليه خطاب «لا تنقض» لا يرى خصوصية في وصفي اليقين والشك ، لأن المناط عنده في عدم حسن النقض هو رفع اليد عن الحجة بما لا يكون حجة ، وحيث ان الأمارة حجة تعبدا فهي رافعة لموضوع الاستصحاب وإن لم تورث اليقين. ويرد على كلا الوجهين إشكال تقديم الأمارة على الاستصحاب مع أنه حجة أيضا ، وسيأتي التعرض له ولجوابه عند تعرض المصنف له.

(١) خبر «فان» و «بسبب» متعلق بـ «رفع» وضمير «خلافه» راجع إلى «اليقين» :

(٢) يعني : بل من نقض اليقين باليقين ، أي بالحجة الموجبة لليقين بعنوان ثانوي ، وهذا إشارة إلى أول الوجهين المتقدمين لتقريب الورود.

(٣) إشارة إلى إشكال ، وهو : أنه على تقدير الورود ـ المبني على إرادة الحجة

٧٦٢

مع الأمارة على وفقه ليس (١) لأجل أن لا يلزم نقضه (٢) به ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة (٣).

______________________________________________________

من اليقين حتى تشمل الأمارة غير العلمية المعتبرة شرعا ـ يلزم العمل على طبق الأمارة المعتبرة مطلقا سواء وافقت اليقين السابق أم خالفته ، مع أنه ليس كذلك ، لأنه مع موافقة الأمارة لليقين السابق يكون العمل به استنادا إلى الاستصحاب وعدم لزوم نقض اليقين بالشك أيضا ، لا إلى الأمارة ، فلو كانت الأمارة واردة على الاستصحاب كانت واردة عليه مطلقا سواء وافقته أم خالفته ، فتقديمه عليها في صورة الموافقة كاشف عن عدم ورودها عليه ، وضميرا «عنه ، وفقه» راجعان إلى «اليقين».

(١) خبر «وعدم» وإشارة إلى دفع الإشكال المزبور ، ومحصله : أن العمل باليقين مع موافقة الأمارة له ليس مستندا إلى الفرار من النهي عن لزوم نقض اليقين بالشك حتى يقال : ان العمل به إنما هو لأجل الاستصحاب لا لأجل الأمارة. بل العمل به مستند إلى تلك الأمارة المطابقة لليقين السابق على ما يقتضيه دليل اعتبارها من تنزيلها منزلة العلم ورفع الشك تعبدا ، ومن المعلوم أنه هادم للشك الموضوع للاستصحاب ، فالبناء على اليقين السابق للعلم التعبدي ببقائه غير البناء عليه مع الشك في بقائه ، هذا.

ولعل تغيير أسلوب العبارة ـ حيث عبّر في صورة المخالفة بنقض اليقين باليقين وفي صورة الموافقة بلزوم العمل بالحجة ـ للإشارة إلى تقريب الورود بالوجهين المتقدمين. وليس غرضه (قده) تخصيص أول الوجهين بصورة المخالفة وثانيهما بصورة الموافقة. وذلك لوضوح بطلانه ، فان مقتضى دليل اعتبار الأمارة فعلية المؤدى وتنجزه بالوصول ، كما أن مقتضى دليل الاستصحاب على ما صرّح به كرارا هو إنشاء حكم مماثل ، ويمتنع فعلية كل من مؤدى الأمارة والاستصحاب ، لامتناع اجتماع الفعليين سواء أكانا مثلين أم ضدين.

(٢) أي : نقض اليقين بالشك.

(٣) النافية للشك الّذي هو موضوع الاستصحاب ، فالعمل بالدليل الموافق

٧٦٣

لا يقال : نعم (١) ، هذا لو أخذ بدليل الأمارة في مورده ، ولكنه لم لا يؤخذ بدليله ويلزم (٢) الأخذ بدليلها؟

فانه يقال (٣):

______________________________________________________

إنما هو لأجل عدم الموضوع معه للاستصحاب ، فلا يقال : بحجيته في عرض الأمارة الموافقة له ، وعدم ورود الأمارة حينئذ عليه.

(١) هذا استدراك على قوله : «بل باليقين» وإشكال على دعوى ورود الأمارة على الاستصحاب ، ومحصل هذا الإشكال : أن العمل بالأمارة المخالفة لليقين السابق إنما يكون نقضا لليقين باليقين ومخرجا للمورد عن مصاديق نقض اليقين بالشك بناء على حجية دليل الأمارة في مورد الاستصحاب كما ذكره المدعي للورود ، وهو أول الكلام ، لإمكان الأخذ بدليل الاستصحاب والعمل به دون دليل الأمارة ، ومع إمكان الأخذ بدليله لا مجال للتمسك بدليل الأمارة ، لتنافيهما وامتناع الجمع بينهما ، إذ المفروض مخالفة الأمارة لما يقتضيه الاستصحاب ، فالأخذ بدليل الأمارة ورفض دليل الاستصحاب محتاج إلى مرجح ، فالمشار إليه في قوله : «هذا» كون رفع اليد عن اليقين السابق بالأمارة المخالفة له من نقض اليقين باليقين. وضميرا «مورده ، بدليله» راجعان إلى الاستصحاب ، وضمير «ولكنه» للشأن.

(٢) بالرفع معطوف على «لا يؤخذ» يعني : ولم يلزم الأخذ بدليل الأمارة حتى يكون رفع اليد عن اليقين السابق بها من نقض اليقين باليقين ، وضمير «دليلها» راجع إلى الأمارة.

(٣) هذا جواب الإشكال المزبور ، ومحصله : أن دليلي الاستصحاب والأمارة لمّا كانا متنافيين امتنع الأخذ بكليهما ، فلا بد من العمل بأحدهما وطرح الآخر ، فان أخذ بدليل الأمارة لم يلزم محذور تخصيص دليل الاستصحاب ، لأن رفع اليد عن اليقين السابق بالأمارة المعتبرة ليس نقضا لليقين بالشك حتى يخالف دليل الاستصحاب ، بل هو نقض اليقين باليقين أي بالحجة ، فالأخذ بدليل الأمارة جمع حقيقة بين دليلها

٧٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ودليل الاستصحاب. أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلأنه من مصاديق «ولكن تنقضه بيقين آخر».

وإن أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الأمارة لزم منه محذور تخصيص دليل الأمارة اقتراحا أو بوجه دائر. والوجه في لزوم هذا المحذور واضح ، إذ مع وجود الأمارة لا موضوع للاستصحاب ، إذ معها لا يلزم نقض اليقين بالشك حتى يكون موردا للاستصحاب ، فتحقق موضوع الاستصحاب في مورد الأمارة موقوف على إخراجه عن عموم دليل الأمارة وتخصيصه بدليل الاستصحاب ، وهذا التخصيص إما اقتراحي أي بلا وجه ، وإما دوري ، وكلاهما فاسد ، إذ الأول مستلزم لمخالفة عموم دليل الأمارة بلا وجه صحيح يوجب الخروج عن أصالة العموم التي هي من الأصول اللفظية العقلائية المعمول بها.

والثاني مستلزم للمحال ، لأن شمول دليل الاستصحاب لمورد الأمارة منوط بصدق نقض اليقين بالشك ، وكونه كذلك موقوف على إخراجه عن مورد دليل اعتبار الأمارة ، وإلّا لم يتحقق موضوع الاستصحاب ، فلو توقف إخراجه عن عموم دليل اعتبار الأمارة على دليل اعتباره لزم الدور ، وهو محال.

وبعبارة أخرى : مخصصية دليل الاستصحاب لعموم دليل الأمارة موقوفة على حجيته ، وحجيته موقوفة على مخصصيته ، وهذا دور. أما توقف المخصصية على الحجية فواضح ، إذ التخصيص كالتقييد تصرف في الدليل وهو العام والمطلق ، والمتصرف في الدليل لا بد أن يكون حجة حتى يصلح للتصرف في الدليل ، وإلّا يلزم رفع اليد عن ظاهر الحجة بغير دليل. وأما توقف الحجية على المخصصية ، فلأنه لو لم يخصّص دليل الاستصحاب عموم دليل الأمارة كانت الأمارة يقينا تعبديا رافعا لموضوع الاستصحاب.

ولا ينعكس الأمر ، فلا يقال : «مخصصية دليل الاستصحاب لدليل الأمارة موقوفة على حجية الأمارة ، وحجيتها موقوفة على مخصصية الاستصحاب لها» وذلك لأن

٧٦٥

ذلك (١) إنما هو لأجل أنه لا محذور في الأخذ بدليلها ، بخلاف الأخذ بدليله ، فانه (٢) يستلزم تخصيص (*) دليلها بلا مخصص (٣) إلّا على وجه دائر ،

______________________________________________________

المقدمة الأولى وان كانت مسلمة ، إذ التخصيص يرد على ما هو الحجة ، لكن المقدمة الثانية ممنوعة ، لعدم توقف حجية الأمارة على مخصصية الاستصحاب لها ، بل لا ارتباط بينهما أصلا ، فلا يصح تقرير الدور في طرف العكس.

(١) أي : لزوم الأخذ بدليل الأمارة وترك دليل الاستصحاب ، وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «بدليلها» راجع إلى الأمارة ، وضمير «بدليله» إلى الاستصحاب ، وقد عرفت وجه عدم المحذور في الأخذ بدليل الأمارة ، إذ لا يلزم من الأخذ بدليلها نقض اليقين بالشك ، بل يلزم نقض اليقين باليقين.

(٢) يعني : فان الأخذ بدليل الاستصحاب ، وغرضه بيان محذور الأخذ بدليله ورفض دليل الأمارة ، وقد عرفت آنفا توضيحه بقولنا : «وإن أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الأمارة لزم منه محذور ... إلخ» وقد مرّ بطلان كل من الاقتراح والدور.

(٣) أي : بلا وجه ، وهو المعبّر عنه بالاقتراح ، ولم يتعرض لوجه بطلانه لوضوحه.

__________________

(*) الأولى أن يقال : «فانه يستلزم طرح دليلها بلا مجوز» فالتعبير «بالتخصيص» كما في المتن وفي حاشية الرسائل أيضا لا يخلو من مسامحة ، وذلك لأن التخصيص الّذي هو نوع جمع عرفي بين دليلين متعارضين صوريا وإخراج حكمي لأحدهما عن الآخر لا موضوع له هنا ، لأنه كما عرفت فرع التعارض الّذي يتوقف على محفوظية موضوع واحد في المتعارضين ، ومن المعلوم انتفاء الموضوع في الدليل المورود بسبب التعبد بالدليل الوارد كما في المقام ، فان الموضوع في الاستصحاب وهو الشك ينتفي بالأمارة ، فلا دليل للاستصحاب حينئذ حتى يعارض دليل الأمارة وتصل النوبة إلى تخصيص دليلها بدليله ، بل ينحصر الدليل في الأمارة كسائر موارد ورود أحد الدليلين على الآخر ، نظير ارتفاع عدم البيان الّذي هو موضوع قاعدة البراءة العقلية بمجرد إيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية.

٧٦٦

إذ التخصيص (١) به يتوقف على اعتباره معها ، واعتباره (٢) كذلك يتوقف على التخصيص به ، إذ لولاه (٣) لا مورد له (٤) معها كما عرفت آنفا (٥).

______________________________________________________

(١) هذا شروع في تقريب الدور الّذي عرفت تفصيله ، وضمير «به» راجع إلى دليل الاستصحاب ، وضمير «اعتباره» راجع إلى الاستصحاب ، وضمير ، «معها» راجع إلى الأمارة.

(٢) يعني : واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقف على تخصيص دليل الأمارة بالاستصحاب ، وتوضيح العبارة بإبراز مراجع الضمائر هكذا : «إذ التخصيص بدليل الاستصحاب يتوقف على اعتبار الاستصحاب مع الأمارة ، واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقف على تخصيص دليل الأمارة بالاستصحاب» فضمير «به» راجع إلى الاستصحاب.

(٣) يعني : لو لا تخصيص دليل اعتبار الأمارة بالاستصحاب ، وهذا تعليل لاعتبار الاستصحاب ، وحاصله : أن اعتباره مع الأمارة موقوف على تخصيصه للأمارة ، إذ مع وجودها يكون نقض اليقين باليقين أي بالحجة ، ولا يكون من نقض اليقين بالشك الّذي هو مورد الاستصحاب ، إلّا إذا لم يكن موردا للأمارة ، وعدم مورديته للأمارة موقوف على تخصيص دليل الاستصحاب لعموم دليل الأمارة ، ومنعه عن اعتبار الأمارة في هذا المورد حتى يخرج عن مصاديق نقض اليقين باليقين ويندرج في مصاديق نقض اليقين بالشك.

(٤) أي : لا مورد للاستصحاب مع الأمارة.

(٥) من أن مورد الأمارة غير العلمية من مصاديق نقض اليقين باليقين أي بالحجة ، لا من مصاديق نقض اليقين بالشك الّذي هو مورد الاستصحاب ، فصيرورة مورد الأمارة مصداقا لنقض اليقين بالشك منوطة بتخصيص دليلها بالاستصحاب.

وبالجملة : فوجه تقدم الأمارة المعتبرة غير العلمية على الاستصحاب عند المصنف هو الورود ، وقد عرفت تقريبه بوجهين ، فلاحظ.

٧٦٧

وأما حديث الحكومة (١) فلا أصل له أصلا ،

______________________________________________________

(١) وهو الّذي اختاره الشيخ الأعظم (قده) فانه جعل تقدم أدلة الأمارات على أدلة الاستصحاب على وجه الحكومة ، فانه جعل الحكومة تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة ذلك الموضوع في الآثار الشرعية ، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة في الأحكام ، أو تنزيل شيء داخل في موضوع منزلة ما هو خارج عنه في عدم ترتيب أحكامه عليه ، كتنزيل الصلاة رياء أو بلا ولاية أو بلا طهارة منزلة عدمها في عدم ترتيب أحكام الصلاة عليها.

قال الشيخ في الأمر الثالث مما يعتبر في جريان الاستصحاب : «ومعنى الحكومة أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم ... ففيما نحن فيه إذا قال الشارع : اعمل بالبينة في نجاسة ثوبك ، والمفروض أن الشك موجود مع قيام البينة على نجاسة الثوب ، فان الشارع جعل الاحتمال المخالف للبينة كالعدم ، فكأنه قال : لا تحكم على هذا الشك بحكمه المقرر في قاعدة الاستصحاب وافرضه كالمعدوم» فحكومة البينة على الاستصحاب على ما أفاده عبارة عن تنزيل احتمال الخلاف الّذي هو مفاد الاستصحاب منزلة العدم في عدم ترتيب حكم نقض اليقين بالشك عليه ، وترتيب آثار ضد الحالة السابقة وهو ما قامت البينة عليه من نجاسة الثوب في المثال ، فلا يجري استصحاب طهارته المتيقنة سابقا المشكوكة لاحقا ، لأن احتمال الطهارة ملغى بمقتضى البينة القائمة على النجاسة.

وببيان أوضح : دليل اعتبار الأمارة ـ كآية النبأ ـ يدل على وجوب تصديق العادل وإلغاء احتمال خلافه ، فإذا أخبر العادل بحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب ثلثيه مثلا كان مقتضى وجوب تصديقه إلغاء احتمال خلاف حرمته وهو حليته ، ومن المعلوم أن هذا الاحتمال مورد استصحاب الحلية ، وهو منفي تنزيلا بخبر العادل بالحرمة ، فالأمارة المعتبرة نافية لموضوع الاستصحاب تنزيلا وإن كان باقيا تكوينا ،

٧٦٨

فانه (١) لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله

______________________________________________________

وهذه الحكومة من الحكومة المضيّقة ، لأنها تضيّق الموضوع بإخراج فرد منه ، وحصر حجية الاستصحاب بغير مورد الأمارة.

(١) تعليل لقوله : «فلا أصل له» وبيان لوجه الإشكال الّذي أورده على الحكومة التي فسّرها الشيخ بكون الحاكم بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ومبيّنا لمقدار مدلوله ومسوقا لبيان حاله ، على ما أفاده (قده) في أوائل التعادل والترجيح. توضيح الإشكال : أن هذا الضابط للحكومة لا ينطبق على الأمارة غير العلمية حتى يكون تقدمها على الاستصحاب بنحو الحكومة ، وذلك لفقدان شرطها وهو نظر الحاكم بمدلوله اللفظي إلى الدليل المحكوم وشرحه له ، ضرورة أن دليل الأمارة كآية النبأ مثلا لا تعرض ولا نظر له إلى مدلول دليل الاستصحاب إثباتا وشرحا له بحيث يعد مفسّرا ومبيّنا لحاله ، وإن كان ينافيه ثبوتا من حيث ان لازم كل دليلين متعارضين نفي كل منهما مدلول الآخر ، لما بين مدلوليهما من التنافي واقعا ، وذلك أجنبي عن الدلالة اللفظية على هذا التنافي. مثلا قوله : «أكرم العلماء» ينافي قوله : «لا تكرم العالم الفاسق» لاقتضاء الأمر مطلوبية إكرام العالم الفاسق واقتضاء النهي مبغوضيته ، ولأجل هذا التنافي الثبوتي لا يمكن الأخذ بهما في المجمع ، ولكن يقدم النهي على الأمر لأقوائية ظهور الخاصّ من العام ، فالمناط في التقديم هو مقام الدلالة والإثبات. وعليه فالمعول في موارد الجمع الدلالي ومنها الحكومة على دلالة اللفظ ، لا ملاحظة الواقع ونفس الأمر.

وبعبارة أخرى : الحكومة من كيفيات دلالة اللفظ ، فالخارج عن حيطة الدلالة اللفظية أجنبي عن الحكومة ، فمجرد التنافي بين مدلولي الدليلين واقعا من دون دلالة اللفظ عليه إثباتا لا ينطبق عليه حدّ الحكومة. وعليه فالبينة القائمة على نجاسة الثوب تقتضي لزوم ترتيب آثار النجاسة عليه ، واستصحاب طهارته يقتضي ترتيب آثار طهارته عليه ، فالبينة تنفي استصحاب الطهارة ، كما أن الاستصحاب ينفي النجاسة.

لكن نفي البينة لما يقتضيه الاستصحاب ليس مستندا إلى الدلالة اللفظية بأن

٧٦٩

إثباتا (١) وبما هو مدلول الدليل (٢) وإن كان (٣) دالّا على إلغائه معها ثبوتا (٤)

______________________________________________________

تكون البينة بمدلولها اللفظي نافية للشك الاستصحابي ، لعدم كون دليل اعتبار البينة كرواية مسعدة بن صدقة شارحا للمراد من قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» ومحدّدا لموارده حتى ينطبق عليه ضابط حكومة أحد الدليلين على الآخر.

فمفاد البينة ليس إلّا نجاسة الثوب واقعا ، وأما نفي اعتبار الشك في طهارة الثوب فليس مدلولا للبينة بالدلالة اللفظية حتى تكون حاكمة على الاستصحاب.

فالنتيجة : أن التنافي بين مدلولي الأمارة والاستصحاب ناش من التضاد والتهافت بين نفس المدلولين ثبوتا كالطهارة والنجاسة في المثال من دون دلالة عليه إثباتا.

وضمير «فانه» للشأن ، وضمير «لدليلها» راجع إلى الأمارة ، وضمير «دليله» إلى الاستصحاب.

(١) قيد لقوله : «لا نظر» يعني : فانه لا نظر إثباتا ـ وفي مقام الدلالة ـ لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب ، كما يلتزم به الشيخ في تعريف الحكومة.

(٢) بيان وموضّح لقوله : «إثباتا» وهذا يؤكّد كون الحكومة عند الشيخ من شئون دلالة اللفظ وكيفياتها ، فلا بد في الحكومة من النّظر للحاكم إلى المحكوم إثباتا لا ثبوتا.

(٣) معطوف على قوله : «لا نظر» يعني : لا نظر لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب لفظا وإثباتا وإن كان ذلك الدليل دالا على إلغاء الاستصحاب المخالف له ثبوتا ، إلا أن هذه الدلالة لا تجدي عند الشيخ في الحكومة ، لعدم كونها ناشئة من دلالة اللفظ ، بل هي ناشئة من تنافي ذات المدلولين ، ضرورة منافاة البناء على طهارة الثوب للاستصحاب ونجاسته للبينة في المثال المذكور ، وضمير «إلغائه» راجع إلى «مدلول» وضمير «معها» إلى الأمارة.

(٤) أي : واقعا من جهة امتناع اجتماع مدلوليهما ، لما فيهما من التنافي الذاتي لا إثباتا من جهة دلالة اللفظ.

وبالجملة : فالتنافي بين الأمارة والاستصحاب معنوي لا لفظي.

٧٧٠

وواقعا ، لمنافاة (١) لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها. كما أن (٢) قضية دليله إلغاؤها كذلك (٣) ، فان (٤) كلّا من الدليلين

______________________________________________________

(١) تعليل لكون دلالة دليل الأمارة على إلغاء الاستصحاب ثبوتية لا إثباتية مستندة إلى دلالة اللفظ ، وحاصل التعليل : أن نفس اعتبار الأمارة ولزوم العمل بمؤداها ينافي عقلا العمل بالاستصحاب. وكذا العكس ، فان البناء على طهارة الثوب في المثال المزبور استنادا إلى اعتبار الاستصحاب ينافي البناء على نجاسته اعتمادا على الأمارة وهي البينة ، فلزوم العمل بكل منهما يطرد الآخر عقلا ، لامتناع اجتماع مفاديهما وهما الطهارة والنجاسة ، لتضادهما وتنافيهما ، وضميرا «بها ، خلافها» راجعان إلى «الأمارة» وضميرا «به» والمستتر في «كان» راجعان إلى الاستصحاب.

(٢) غرضه أن الإلغاء ثبوتا لا يختص بدليل الأمارة ، فكما أن دليلها يلغي ثبوتا ما يقتضيه دليل الاستصحاب ، فكذلك دليله يقتضي إلغاء الأمارة ثبوتا ، فالدلالة الثبوتية على الإلغاء ـ لا الإثباتية ـ لا تختص بدليل الأمارة ، بل تشترك بين كلا دليلي الأمارة والاستصحاب ، وهذه الدلالة الثبوتية ليست مناطا للحكومة التي فسّرها الشيخ بالشرح والدلالة اللفظية ، فلا حكومة للأمارات غير العلمية على الاستصحاب. وضمير «دليله» راجع إلى الاستصحاب ، وضمير «إلغاؤها» إلى الأمارة.

(٣) يعني : ثبوتا وواقعا ، فلم لا يكون دليل الاستصحاب حاكما على الأمارة؟

(٤) تعليل لإلغاء كل منهما ما يقتضيه الآخر ، ومحصله : أنه لمّا كان كل من الدليلين بصدد بيان وظيفة الجاهل بالحكم ، فلا محالة يطرد كل منهما الآخر المخالف له في المؤدى بملاك المضادة والمنافرة بين لزوم العمل بأمارة تدل على وجوب شيء ولزوم العمل باستصحاب يقتضي حرمته ، فان من البديهي طرد كل من الأمارة والاستصحاب للآخر ، لكمال المنافرة بين المستصحب ومؤدى الأمارة وهما الوجوب والحرمة.

٧٧١

بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة (١) ، هذا. مع (٢) لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة. ولا أظن

______________________________________________________

والحاصل : أن كلّا من الأمارة والاستصحاب يلغي الآخر بملاك التضاد الواقع بين مؤدييهما ، فهذا الإلغاء ليس مستندا إلى دلالة اللفظ ، بل هو ناش من تضاد مضموني الدليلين ثبوتا ، فلا وجه للحكومة الشارحة اللفظية للأمارات غير العلمية على الاستصحاب كما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره.

(١) أي : مع مخالفة كل من الأمارة والاستصحاب في المؤدى كمثال نجاسة الثوب وطهارته. وأما مع موافقتهما في المؤدى فلا تنافر بينهما حتى يلغي كل منهما الآخر.

(٢) هذا إشكال آخر على الحكومة ، ومحصل هذا الإشكال : أنه بناء على كون دليل الأمارة ناظرا إلى إلغاء احتمال الخلاف يلزم اعتبار الاستصحاب مع موافقته لمؤدى الأمارة ، كما إذا كان مقتضى كل منهما طهارة الثوب ، واختصاص حكومة الأمارة على الاستصحاب بصورة المخالفة ، ولا يظن ذلك من القائل بالحكومة. وهذا الإشكال يتجه على ظاهر تعريف الشيخ (قده) للحكومة في أوائل التعادل والترجيح ، حيث قال : «فنقول : قد جعل الشارع للشيء المحتمل للحل والحرمة حكما شرعيا أعني الحل ، ثم حكم بأن الأمارة الفلانية كخبر العادل الدال على حرمة العصير حجة ، بمعنى أنه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤداه للواقع ، فاحتمال حلية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم لا يترتب عليه حكم شرعي كان يترتب عليه لو لا هذه الأمارة» فإذا كان دليل الأمارة دالا على إلغاء احتمال خلاف مؤداها للواقع ، فلا محالة تختص حكومة الأمارة بصورة مخالفة الاستصحاب لمؤداها ، وأما مع موافقته له فلا ، لعدم احتمال خلاف في البين حتى يلغيه دليل الأمارة.

وبالجملة : فما أورده المصنف على حكومة الأمارة على الاستصحاب وجهان أحدهما : عدم نظر دليل الأمارة إثباتا إلى دليل الاستصحاب ، والآخر : اختصاص هذه الحكومة بصورة مخالفة المستصحب لمؤدى الأمارة دون صورة الموافقة له.

٧٧٢

أن يلتزم به القائل بالحكومة (*) فافهم (١) ، فان المقام لا يخلو عن دقة.

______________________________________________________

وضمير «به» راجع إلى الاستصحاب.

(١) لعله إشارة إلى إمكان رد الجواب الثاني وهو اختصاص الحكومة بصورة المخالفة بتعميم الحكومة لصورة الموافقة بعدم القول بالفصل بين صورتي المخالفة والموافقة. أو إلى : إمكان تصحيح الحكومة إما بكفاية النّظر مطلقا ولو ثبوتا فيها ، وإما بجعل التصديق جنانيا بمعنى الأمر بالاعتقاد بصدق الخبر والنهي عن الاحتمال مطلقا موافقا كان أو مخالفا ، كما في بعض الحواشي.

والكل كما ترى ، إذ في الأول : أنه لا مجال لعدم القول بالفصل في هذه المسألة المستحدثة الخلافية. وفي الأخيرين : أنهما خلاف ما يظهر من الشيخ (قده) من اعتبار الدلالة اللفظية ومن إلغاء احتمال الخلاف ، لا الاحتمال مطلقا ، والظاهر أن الأمر بالفهم المتعقب بعدم خلوّ المطلب عن دقة ليس إشارة إلى مطلب.

__________________

(*) قد يورد على هذا الجواب بما حاصله : أن تسليم نظر الدليل يقتضي عدم اختصاص الحكومة بصورة المخالفة ، لأن إطلاق الدليل في جميع الحالات يقتضي تقدم الأمارة على الاستصحاب حتى في صورة الموافقة التي هي من الحالات التي يشملها الإطلاق.

لكنه لا يلائم كلام الشيخ «بمعنى أنه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤداه للواقع» حيث ان ظاهره انحلال الدليل الناظر إلى عقدين إيجابي وهو «اعمل بمؤدى الأمارة» وسلبي ، وهو «لا تعتن باحتمال خلافه» فان كان كذلك فلا إطلاق فيه حتى يشمل صورة الموافقة ، فالجواب الثاني صحيح. وهذا الإيراد غير وارد عليه.

إلّا أن يقال في تصحيح حكومة الأمارة على الاستصحاب في كلتا صورتي الموافقة والمخالفة وعدم اختصاص الحكومة بصورة المخالفة بما يظهر من مطاوي الأبحاث المتقدمة ، وحاصله : أن احتمال الخلاف في الأمارة بناء على حجيتها من باب التعبد يكون ملغى في وعاء التشريع ومحكوما بالعدم ، بخلاف الاستصحاب ، فانه مع وجوده فيه وعدم إلغاء الشارع له المستكشف من الشك الّذي هو موضوع

٧٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاستصحاب ومتقوم بوجود كلا احتمالي الوفاق والخلاف يحكم الشارع بإبقاء المتيقن السابق عملا ، ومن المعلوم تقدم الدليل الملغي لاحتمال الخلاف على الدليل الّذي يكون احتمال الخلاف مقوّما لموضوعه ، وذلك لارتفاع موضوعه بذلك الدليل ، ووضوح عدم تكفل شيء من الأدلة لحفظ موضوعه كعدم تكفله لإيجاده ، فإذا كان المستصحب ومؤدى الأمارة ـ كالبينة ـ طهارة شيء قدّمت الأمارة على الاستصحاب حكومة ، لأن احتمال الخلاف فيها وهو النجاسة معدوم شرعا وموجود في الاستصحاب.

فالنتيجة : حكومة الأمارة على الاستصحاب مطلقا وإن كان موافقا لها بناء على اقتضائها نفي احتمال الخلاف. فقول المصنف : «مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة» محل التأمل والنّظر. نعم يقع الكلام في صحة المبنى في حجية الأمارات.

وأما الإشكال الأول فهو وإن كان واردا بدوا على تفسير الشيخ للحكومة ، لكنه مندفع عنه بالتأمل في مجموع كلماته ، إذ ليس مراده بالنظر تحديد مقدار ما يراد من الدليل المحكوم بالدلالة اللفظية ، بل المقصود مجرد النّظر في مقتضاه ، ويشهد له كلامه المتقدم في التوضيح ، وقوله بعده : «فمؤدى الأمارات بحكم الشارع كالمعلوم لا يترتب عليه الأحكام الشرعية المجعولة للمجهولات» ... وقوله بعد أسطر : «لأن معنى حجية الظن جعل احتمال مخالفة مؤداه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتب ما كان يترتب عليه من الأثر لو لا حجية هذه الأمارة ...» فلاحظ كلماته في أول بحث التعادل والترجيح. والظاهر من مجموعها أن الحكومة وإن كانت متوقفة على نظر دليل الحاكم إلى دليل المحكوم ووفاء مقام الإثبات به ، إلّا أن الشيخ يدعي تكفل نفس أدلة اعتبار الأمارات لإلغاء الشك وطرح احتمال الخلاف ، ومن المعلوم ارتفاع موضوع الأصول العملية ـ وهو الشك ـ بنفس دليل اعتبار الأمارة ، فتدبر في كلامه زيد في علو مقامه.

٧٧٤

وأما التوفيق (١) فان كان بما ذكرنا (٢) فنعم الاتفاق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها (٣) فلا وجه له (٤) ،

______________________________________________________

(١) قد ذكرنا في أول هذا المقام الثاني أن التوفيق العرفي يطلق على معنيين خاص وعام ، والمراد به هنا بقرينة جعل «الورود» من أقسامه مطلق الجمع العرفي.

(٢) من الورود فنعم الاتفاق ، لكن إطلاق التوفيق العرفي على الورود لا يخلو من مسامحة ، إذ الخروج الموضوعي عن حيّز أحد الدليلين ليس جمعا بينهما ، لعدم تصادقهما على ما هو الخارج موضوعا عن أحدهما. إلّا أن يوجه بأن الخروج التكويني كخروج الجاهل عن موضوع وجوب إكرام العلماء أجنبي عن الجمع العرفي. وأما الخروج التشريعي كخروج مؤدى الأمارة عن نقض اليقين بالشك تعبدا ـ لبقاء الشك وجدانا بعد قيام الأمارة أيضا على خلاف الحالة السابقة المعلومة ـ فيعدّ جمعا عرفيا أيضا ، إذ العرف المخاطب بالدليل الوارد يقدمه على الدليل المورود ، فتأمل جيدا.

(٣) أي : بدليل الأمارة ، وتوضيحه : أنه قد نسب إلى جماعة كون النسبة بين الأمارة والاستصحاب عموما من وجه وتقديم الأمارة عليه في مورد الاجتماع ، كما إذا كان مؤدى الأمارة كالبينة طهارة شيء ومقتضى الاستصحاب نجاسته ، لوجهين مذكورين في أوثق الوسائل :

«أحدهما : كون الأمارة أقل موردا من الاستصحاب ، وأقلية أفراد أحد العامين من المرجحات ، فتخصص أدلة الاستصحاب بأدلة الأمارة.

ثانيهما : أن من جملة المرجحات استلزام تقديم أحد الدليلين على الآخر إلغاءه ، فيقدم الآخر عليه حينئذ ، وتقديم الاستصحاب على الأمارة مستلزم لذلك ، وذلك لأن الاستصحاب من حيث حكم المعارضة مع سائر الأدلة مساو لسائر الأصول من البراءة والتخيير والاحتياط ، فلو قدم عليها لزم تقديمها عليها أيضا ، فيلزم إلغاء سائر الأدلة حينئذ لا محالة».

(٤) يعني : وإن كان التوفيق العرفي بتخصيص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة

٧٧٥

لما عرفت (١) من أنه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشك ، لا أنه (٢) غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك.

______________________________________________________

فلا وجه له ، لعدم انطباق ضابط التخصيص عليه ، حيث ان ضابطه هو التصرف في الحكم برفعه عن الخاصّ مع بقاء الموضوع على حاله وعدم التصرف فيه ، كتخصيص عموم دليل وجوب القصر على المسافر بما دل على وجوب الإتمام على من شغله السفر مثلا ، فانه مسافر موضوعا ، والمخصص أخرجه عن حكم المسافر ولم يخرجه عن موضوعه. وفي المقام يكون دليل الأمارة متصرفا في الموضوع وهو نقض اليقين بالشك ورافعا له بجعله من نقض اليقين باليقين ، لا أنه من نقض اليقين بالشك ـ لكنه غير منهي عنه بسبب قيام الأمارة على خلافه ـ حتى يكون من باب التخصيص.

(١) حيث قال : «والتحقيق أنه للورود ، فان رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين» وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «به» راجع إلى «دليلها».

(٢) يعني : لا أن الأخذ بدليل الأمارة يكون داخلا في الاستصحاب موضوعا لصدق «نقض اليقين بالشك» عليه وخارجا عنه حكما ، لعدم حرمة نقضه بسبب الأمارة ، وغرضه من قوله : «لا أنه غير منهي عنه» الإشارة إلى ضابط التخصيص الّذي هو إخراج حكمي كما بيناه آنفا ، وعدم انطباقه على المقام ، لكون الأمارة رافعة لموضوع الاستصحاب ، حيث انها ترفع الشك وتوجب صدق نقض اليقين باليقين ، وليست الأمارة رافعة للحكم مع بقاء الموضوع وهو نقض اليقين بالشك حتى ينطبق عليه ضابط التخصيص.

فحاصل إشكال المصنف على التوفيق العرفي إن أريد به التخصيص هو عدم انطباق ضابطه على الأمارة ، لأن التخصيص إخراج حكمي من دون تصرف في الموضوع ، والأمارة رافعة لموضوع الاستصحاب ، فضابط الورود ينطبق على المقام دون التخصيص. وضمير «كونه» راجع إلى «الأخذ بدليلها».

٧٧٦

خاتمة (١) : لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية ، وبيان التعارض بين الاستصحابين.

أما الأول (٢) فالنسبة (٣) بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه ، فيقدم عليها (٤) ، ولا مورد معه

______________________________________________________

(ورود الاستصحاب على سائر الأصول العملية)

(١) المذكور في الخاتمة أمران ، الأول : بيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية من البراءة والاشتغال والتخيير. الثاني : بيان حكم تعارض الاستصحابين. وعقد لبيان حكم تعارض الاستصحاب مع اليد والقواعد الأخر والأصول التنزيلية تذنيبا.

(٢) هذا الأمر يتضمن جهتين : الأولى : بيان النسبة بين الاستصحاب وبين سائر الأصول النقليّة ، والثانية بيان النسبة بينه وبين الأصول العقلية.

(٣) هذه هي الجهة الأولى ، وحاصلها : أن النسبة بين الاستصحاب وبين الأصول الشرعية هي الورود ، فهو وارد على الأصول كورود الأمارة على الاستصحاب ، وفي قباله قولان آخران ، أحدهما الحكومة ، وثانيهما التخصيص. وضميرا «بينه» في الموضعين راجعان إلى الاستصحاب ، وضمير «بينها» إلى الأصول ، وضميرا «هي ، بعينها» راجعان إلى النسبة.

(٤) هذا الضمير راجع إلى «الأصول» يعني : فيقدم الاستصحاب ورودا على الأصول العملية.

ثم ان المصنف (قده) أوضح وجه الورود في حاشية الرسائل بقوله : «ثم ان وجه تقديم الاستصحاب على سائر الأصول هو بعينه وجه تقديم الأمارات عليه ، فان المشكوك معه يكون من وجه وبعنوان مما علم حكمه وإن شك فيه بعنوان آخر ، وموضوع الأصول هو المشكوك من جميع الجهات. وقد انقدح مغالطة المعارضة هاهنا أيضا بما ذكرناه في اندفاعها في تقديم الأمارات على الاستصحاب

٧٧٧

لها (١) ، للزوم (٢) محذور التخصيص إلّا بوجه دائر في العكس (٣) ،

______________________________________________________

وسائر الأصول».

ومحصل ما أفاده في الحاشية في ورود الاستصحاب على غيره من الأصول النقليّة : أن موضوع الاستصحاب هو المشكوك من وجه وهو الشك في الحكم الواقعي في مرحلة البقاء ، وموضوع سائر الأصول هو المشكوك مطلقا أي حدوثا وبقاء ، فالاستصحاب يوجب العلم بالحكم بعنوان كونه مشكوك البقاء ، ومع العلم به يخرج حقيقة عن موضوع الأصول وهو الجهل بالواقع وعدم العلم به ، لحصول العلم به من وجه. فإذا حرم حيوان بالجلل مثلا ثم شك في زوال الجلل عنه ، فاستصحاب جلله أو حرمته يوجب العلم بحكمه بعنوان كونه مما شك في بقاء حكمه ، لاقتضاء دليل الاستصحاب جعل حكم مماثل للحكم المتيقن. والشك في الحلية والحرمة الواقعيتين وإن لم يرتفع بالاستصحاب ، لكنه بعنوانه الاستصحابي معلوم ظاهرا ، ومع العلم بحكمه ظاهرا لا يبقى موضوع لأصالة الحل ، إذ موضوعها هو الشك من جميع الجهات حتى من جهة كونه مشكوك الحكم بقاء ، فاستصحاب الحرمة يدرجه في الغاية وهي «حتى تعلم أنه حرام» ولا نعني بالورود إلّا ارتفاع الموضوع.

فالمتحصل : أن الاستصحاب رافع لموضوع غيره من الأصول ، فمعه لا مورد لها.

(١) هذا الضمير راجع إلى «الأصول» وضمير «معه» راجع إلى الاستصحاب.

(٢) تعليل لعدم المورد لسائر الأصول مع الاستصحاب ، توضيحه : أنه إذا قدم الاستصحاب على سائر الأصول لا يلزم محذور أصلا ، إذ لا موضوع لها مع الاستصحاب ، لما عرفت من ارتفاعه به ، بخلاف تقديمها على الاستصحاب ، فانه مستلزم للتخصيص بلا وجه إلّا بوجه دائر ، لأن اعتبارها مع الاستصحاب موقوف على مخصصيتها الدليل الاستصحاب ، ومخصصيتها له موقوفة على اعتبارها ، إذ لا بد أن يكون المخصص معتبرا حتى يصلح للتخصيص.

(٣) متعلق بـ «لزوم» والمراد بالعكس تقديم سائر الأصول على الاستصحاب ،

٧٧٨

وعدم (١) محذور فيه أصلا. هذا في النقليّة منها.

وأما العقلية (٢) فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها ، بداهة (٣) عدم

______________________________________________________

فان هذا التقديم يستلزم الدور الّذي عرفت تقريبه.

(١) معطوف على «لزوم» يعني : ولعدم محذور في تخصيص الاستصحاب للأصول وتقديمه عليها أصلا ، فان محذور الدور لا يلزم فيه جزما ، لما مر من أن الاستصحاب رافع لموضوع الأصول ، ومع رفعه لموضوعها كيف يتوقف جريانه عليها؟ وضمير «فيه» راجع إلى التخصيص ، وضمير «منها» إلى الأصول.

(٢) هذه هي الجهة الثانية أعني ورود الاستصحاب على الأصول العقلية وهي البراءة والاشتغال والتخيير ، ومحصل تقريب وروده عليها : أنه يرفع حقيقة ما هو موضوع لتلك الأصول ، فان موضوع البراءة العقلية ـ وهو عدم البيان أي الحجة على التكليف ـ يرتفع بالاستصحاب الّذي هو حجة وبيان على التكليف.

وكذا يرتفع الشك في المؤمّن ـ الّذي هو موضوع قاعدة الاشتغال المقتضي عقلا لزوم الاحتياط تحصيلا للمؤمّن ـ ببركة الاستصحاب ، فانه صالح للمؤمنية ورافع لاحتمال العقوبة ، فإذا علم إجمالا بوقوع قطرة دم مثلا إما على ثوب نجس أو ثوب طاهر ، فاستصحاب طهارة الثوب الّذي كان طاهرا يجري ويرتفع موضوع الاحتياط العقلي وهو احتمال العقوبة. نعم إذا كان للمعلوم الإجمالي أثر زائد كما إذا كان بولا والنجاسة السابقة دما ، فحينئذ لا يجري ، بل تجري قاعدة الاشتغال.

وكذا الحال في ارتفاع موضوع قاعدة التخيير وهو تساوي الاحتمالين ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته وجرى الاستصحاب في الوجوب ، إذ به يخرج عن تساويهما الموجب للتحير ، كاستصحاب شهر رمضان في يوم شك في كونه منه أو من شوال ، فانه يرفع التحير.

(٣) تعليل لقوله : «فلا يكاد» وقد مر آنفا توضيحه بقولنا : «ومحصل تقريب وروده» وضميرا «معه ، أنه» راجعان إلى الاستصحاب ، وضمير «لها» إلى الأصول العقلية.

٧٧٩

الموضوع معه لها ، ضرورة (١) أنه إتمام حجة وبيان ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان (٢) ، ولا شبهة في أن الترجيح به عقلا صحيح (٣).

وأما الثاني (٤) فالتعارض بين الاستصحابين إن كان لعدم إمكان

______________________________________________________

(١) بيان لعدم الموضوع ، وقوله : «انه إتمام حجة وبيان» إشارة إلى البراءة العقلية ، فان موضوعها ـ وهو عدم البيان ـ يرتفع بالاستصحاب ، حيث انه حجة وبيان على التكليف.

(٢) هذا إشارة إلى الاشتغال العقلي الّذي موضوعه عدم الأمن من العقوبة ، وهو يرتفع بالاستصحاب ، لكونه مؤمّنا من العقوبة ، كما إذا جرى استصحاب وجوب القصر أو الإتمام في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط فيها الجمع بينهما ، فان استصحاب وجوب أحدهما مبرأ للذمة ومؤمّن من العقوبة عند الاكتفاء بمستصحب الوجوب.

(٣) هذا إشارة إلى التخيير العقلي الّذي موضوعه تساوي الاحتمالين الموجب للتحير ، ولا شبهة في أن الاستصحاب يرجّح أحد الاحتمالين ، فيرتفع به الموضوع وهو التساوي ، كما مر في استصحاب شهر رمضان في يوم احتمل كونه منه أو من شوال ، فان الاستصحاب يرفع التحير الموضوع للتخيير.

(تعارض الاستصحابين)

(٤) هذا شروع في الأمر الثالث مما يبحث عنه في الخاتمة وهو حكم تعارض الاستصحابين ، وتوضيحه : أن التعارض ـ الّذي يراد به هنا ما هو أعم من التعارض في مقام الجعل والتشريع الناشئ من تزاحم الملاكات ، وهذا هو التعارض المصطلح المسمى بالتزاحم الآمري ، ومن التعارض في مقام الامتثال الناشئ من عدم قدرة المكلف على الإطاعة ، وهذا هو التزاحم المصطلح المسمى بالتزاحم المأموري ـ (تارة) يكون بدون العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما حتى يعلم بكذب أحدهما في مقام الجعل ويندرج في التعارض المصطلح ، كما إذا جرى الاستصحاب

٧٨٠