منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

بحدّ (١) ولا برسم ، بل من قبيل شرح الاسم (٢) كما هو الحال في التعريفات غالباً (٣) لم يكن له (٤) دلالة على أنه (٥) نفس الوجه ، بل للإشارة إليه (٦) من هذا الوجه ، ولذا (٧) لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس ، فانه لم يكن به (٨) إذا لم يكن (٩)

______________________________________________________

«أنه» كالمستتر في «لم يكن» راجع إلى التعريف.

(١) وهو التعريف بالفصل القريب ، والرسم هو التعريف بالخاصة ، فان كانا مع الجنس القريب فتام ، وإلّا فناقص.

(٢) الظاهر أن مقصوده من شرح الاسم هو التعريف اللفظي ، فالعبارة لا تخلو من مسامحة.

(٣) نبّه على ذلك في مواضع من الكتاب كبحث الواجب المطلق والمشروط والعام والخاصّ.

(٤) أي : لتعريف الاستصحاب بما ينطبق على بعض الأقوال ، وقوله : «لم يكن» جواب «حيث».

(٥) أي : أن الاستصحاب نفس الوجه وهو البناء العملي المذكور في تعريف بعضهم له.

(٦) أي : إلى الاستصحاب ، يعني : أن غرض من عرّفه بالبناء العملي هو تحقق هذا البناء في الاستصحاب ، وليس بصدد بيان أن هويته هذا البناء حتى ينافي تعريف المصنف له بأنه هو الحكم بالبقاء.

(٧) يعني : ولأجل كون التعريف من قبيل شرح الاسم لا وقع للإشكال على التعريفات بعدم الطرد تارة وعدم العكس أخرى ، إذ مورد هذه الإشكالات هو التعريف الحقيقي المبيّن لمطلب «ما» الحقيقية ، دون التعريف اللفظيّ المبيِّن لمطلب «ما» الشارحة.

(٨) هذا الضمير وضمير «فانه» راجعان إلى «ما ذكر في تعريفه».

(٩) اسمه ضمير مستتر راجع إلى قوله : «ما ذكر».

٢١

بالحد أو الرسم بأس (١).

فانقدح (٢) أن ذكر تعريفات القوم له وما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل (٣) وتطويل بلا طائل.

ثم لا يخفى (٤) أن البحث في حجيته مسألة أصولية ، حيث يبحث

______________________________________________________

(١) اسم «يكن» في قوله : «لم يكن به».

(٢) هذه نتيجة عدم كون تعريفات القوم للاستصحاب حقيقة ، إذ لا يبقى حينئذ مجال للإشكال عليها طرداً أو عكساً ، فلا جدوى للمناقشة فيها أصلا ، وضمير «له» راجع إلى الاستصحاب ، وضمير «فيها» إلى «تعريفات» و «ما» الموصول معطوف على «تعريفات».

(٣) خبر «أن» و «تطويل» بالرفع معطوف على «بلا حاصل».

هذا تمام الكلام في الأمر الأول وهو تعريف الاستصحاب.

(٤) هذا إشارة إلى الأمر الثاني الّذي تعرض له قبل بيان الأدلة ، وهو إثبات كون الاستصحاب من مسائل علم الأصول لا من مباديه ولا قاعدة فقهية ، ولا بأس قبل توضيح كلامه بذكر ضوابط المسألة الأصولية والفقهية ، والقاعدة الفقهية إجمالاً فنقول : أما ضابط المسألة الأصولية فهو ما يكون دخيلاً في الاستنباط بنحو دخل الجزء الأخير من العلة التامة ، فيخرج ما عدا علم الأصول طرّاً عن هذا التعريف وان كان لجملة من العلوم دخل أيضا في الاستنباط كالعلوم العربية والرّجال وغيرهما لكن دخلها ليس دخل الجزء الأخير ، بل الدخل الإعدادي على التفصيل المقرر في محله.

وأما ضابط القاعدة الفقهية ـ كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وعكسها ، و «كل شرط مخالف للكتاب والسنة باطل» و «كل حكم ضرري أو حرجي مرفوع» و «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» إلى غير ذلك ـ فهو كالمسألة الأصولية من حيث استنباط الأحكام الفرعية منها ، لكنها تمتاز عنها في أن المسألة الأصولية لا تتعلق أوّلاً وبالذات بالعمل كحجية الخبر والظواهر وغيرهما ، بخلاف القاعدة

٢٢

فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام.

______________________________________________________

الفقهية ، فانها تتعلق بعمل المكلف بلا واسطة كحكم الفعل الضرري والحرجي وغير ذلك.

وأما ضابط المسألة الفقهية فهو أيضا ما يتعلق بالعمل بلا واسطة ويكون نتيجة للمسألة الأصولية ، إلّا أن أمر تطبيقها بيد العامي ، لا المجتهد ، لأن وظيفة الفقيه الإفتاء بالحكم الكلي كحرمة شرب الخمر ، ووجوب التصدق ونحوهما. وأما تطبيق عنواني الخمر والتصدق على أفرادهما فهو أجنبي عن وظيفة المجتهد.

والفرق بين المسألة الفقهية والقاعدة الفقهية أيضا ـ بعد اشتراكهما في تعلق كل منهما بالعمل بلا واسطة كما مر ـ هو : أن موضوع المسألة الفقهية نوع واحد كالخمر والخل والماء والحنطة وغيرها من الطبائع التي هي موضوعات المسائل الفقهية بخلاف القاعدة الفقهية ، فان موضوعها ما يندرج تحته أنواع عديدة كعنوان الضرر والحرج و «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فان الضرر والحرج مثلاً يندرج تحتهما الصلاة والوضوء والبيع وغيرها ، وكذا «ما يضمن» لاندراج جميع العقود المعاوضية تحته ، من دون فرق في ذلك بين كون محمولها حكماً واقعياً أوّلياً كقاعدة «ما يضمن» وبين كونه حكماً واقعياً ثانوياً كقاعدتي الضرر والحرج ونحوهما ، وبين كونه حكماً ظاهرياً كقاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة وغيرها.

إذا عرفت ضوابط القاعدة الفقهية والمسألة الأصولية والفقهية فاعلم : أن الاستصحاب يجري تارة في الحكم الأصولي كاستصحاب حجية العام بعد الفحص عن المخصص ، واستصحاب عدم وجود المعارض. وأخرى في الحكم الكلي الفرعي كنجاسة الماء المتغير الّذي زال تغيره من قبل نفسه ، وحرمة العصير الزبيبي إذا غلى واشتد قبل ذهاب ثلثيه إذا شك في حليته وحرمته. وثالثة في الموضوعات الخارجية كاستصحاب حياة زيد أو عدالته مثلا ، وكالجاري في الأحكام الجزئية كاستصحاب نجاسة ثوبه ببول بعد غَسله مرة في الكثير ، للشك في اعتبار التعدد حتى

٢٣

الفرعية (١) ،

______________________________________________________

في الغسل به.

أما الجاري في الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية فليس مسألة أصولية ، ويقتضيه قول المصنف في تعريف علم الأصول في أول الكتاب : «ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية».

وأما الجاري في القسمين الأولين فحاصل ما أفاده (قده) فيهما هو : أن الاستصحاب من المسائل الأصولية سواء أكان من الأصول العملية التي هي وظيفة الشاك ، ويكون الشك موضوعها ، أم من الأدلة الظنية. أما على الأول فلانطباق ضابط المسألة الأصولية عليه ، إذ يقال : «ان نجاسة الماء المتغير الّذي زال تغيره بنفسه أو بعلاج مما شك في بقائه ، وكلما شك في بقائه فهو باق ، فينتج بقاء نجاسة الماء المزبور» والحكم بنجاسته في هذه الصورة حكم كلي فرعي يتعلق بالعمل ، فالاستصحاب حينئذ قاعدة مهدت لاستنباط الأحكام الفرعية ، وكلما كان كذلك فهو مسألة أصولية.

وأما الاستصحاب الجاري في المسألة الأصولية كالحجية فكونه من مسائل علم الأصول أظهر ، إذ ليس مجراه حكماً فرعياً حتى يتوهم كونه من القواعد الفقهية.

وأما على الثاني ـ وهو كون الاستصحاب بناء العقلاء على ما علم ثبوته سابقاً ـ فلأن البحث عن حجيته بحث عن ثبوت التلازم بين الحدوث والبقاء عند العقلاء وعدمه ، وعلى تقدير ثبوته فهل هذا البناء منهم حجة أم لا؟ وكذا بناء على اعتباره من باب الظن بالملازمة ، فانه يبحث فيه تارة عن وجود هذا الظن وأخرى عن حجيته ، ومن المعلوم أن البحث عن دليلية الظن بالبقاء كالبحث عن حجية غيره من سائر الظنون أصولي لا فقهي ، لعدم كون مفاده حكم العمل بلا واسطة كالبحث عن حجية خبر الواحد.

(١) وكل ما كان كذلك فهو مسألة أصولية ، لما تقدم في تعريف علم الأصول بأنه «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو

٢٤

وليس مفادها (١) حكم العمل بلا واسطة وإن كان ينتهي إليه (٢) ، كيف (٣)؟ وربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكماً أصولياً

______________________________________________________

التي ينتهي إليها في مقام العمل» فالاستصحاب الجاري في الموضوعات الجزئية كحياة المفقود وعدالة زيد ، وكذا الجاري في الأحكام الجزئية كحلية هذا المائع أو طهارة هذا الثوب ليس مسألة أصولية ، بل هو من الأحكام الفرعية كقاعدتي التجاوز والفراغ.

(١) الظاهر رجوع الضمير إلى الاستصحاب ، فالأولى تذكيره ، وكذا ضمير «فيها» ويحتمل قوياً رجوعهما إلى «حجيته» أو إلى المسألة الأصولية ، وهذا إشارة إلى ما اشتهر بينهم من تعريف الحكم الفرعي كما في القوانين وغيره بأنه ما يتعلق بالعمل بلا واسطة كوجوب الصلاة والحج وغيرهما. ومقصود المصنف من هذه العبارة بيان وجه عدم كون الاستصحاب من المسائل الفرعية ، لأن الحكم الفرعي على هذا لا بد أن يتعلق بعمل المكلف بلا واسطة ، وليس الاستصحاب كذلك ، لأن حقيقة الاستصحاب «الحكم ببقاء ما علم سابقاً من حكم أو موضوع» سواء أكان دليله النقل من النص أو الإجماع أم العقل ، ومن المعلوم أن «الحكم ببقاء» يعم الحكم الفرعي كالوجوب والوضعي كحجية رأي الميت بقاء ، فلو كان مفاد الاستصحاب حكماً فرعياً لما جرى في الأحكام الأصولية كالحجية.

وان شئت فقل : ان الاستصحاب هو جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء من غير فرق بين كون الجعل الشرعي تأسيسياً كما إذا كان دليله النص أو الإجماع وبين كونه إمضائياً كما إذا كان دليله العقل ، أو بناء العقلاء ، فانه ما لم يثبت هذا التلازم لا يمكن الحكم بنجاسة الماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه مثلاً.

(٢) أي : إلى العمل.

(٣) غرضه إقامة الشاهد على أصولية المسألة ، يعني : كيف لا يكون الاستصحاب مسألة أصولية؟ والحال أنه قد يكون مجراه خصوص المسألة الأصولية كاستصحاب حجية رأي الميت على ما يستدل به القائل بجواز البقاء على تقليد الميت ،

٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فلو لم يكن الاستصحاب مسألة أصولية لما جرى في الحجية التي هي حكم أصولي.

والظاهر أن كلامه هنا لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ (قده) في الأمر الثالث الّذي عقده للبحث عن أصولية المسألة بناء على كلا القولين من كونه أمارة ظنية وأصلاً عملياً ، قال : «ان مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقلية مسألة أصولية يبحث فيها عن كون الشيء دليلاً على الحكم الشرعي نظير حجية القياس والاستقراء» إلى أن قال : «وأما بناءً على القول بكونه من الأصول العملية ففي كونه من المسائل الأصولية غموض ، لأن الاستصحاب حينئذ قاعدة مستفادة من السنة وليس التكلم فيه تكلماً في أحوال السنة ...

والمسألة الأصولية هي التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم عليهم‌السلام : لا تنقض اليقين بالشك ... نعم يندرج تحت هذه القاعدة مسألة أصولية يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الأصولية أحياناً تحت أدلة نفي الحرج كما ينفي وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج» ثم اختار هو (قده) ضابطاً آخر للمسألة الأصولية يندرج معه الاستصحاب في علم الأصول ، وهو ما لا حظّ للمقلد في إجرائها في موردها ، هذا ما أفاده الشيخ.

وأما المصنف فلمخالفته القوم في تعريف علم الأصول وفي موضوعه بما تقدم منه في أول الكتاب عدل عما أفاده الشيخ الأعظم إلى ما في المتن ، حيث استدل على كون الاستصحاب مسألة أصولية بقوله : «حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة ... وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة ...» ولعل غرضه من قوله : «كيف وربما ...» منع مقايسة الاستصحاب بقاعدة نفي الحرج الجارية في مثل وجوب الفحص عن المعارض وهو حكم أصولي ، فان جريانها فيه لا يُخرجها عن القواعد الفقهية ولا يُدرجها في علم الأصول ، فالاستصحاب الجاري في الحكم الأصولي قاعدة فقهية أيضا.

وجه منع المقايسة بطلان المقيس عليه ، وذلك لأن وجوب الفحص عن المعارض

٢٦

كالحجية مثلا. هذا (١) لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا (٢) ، وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته (٣) ، فلا (٤) إشكال في كونه مسألة أصولية.

______________________________________________________

ليس حكماً أصولياً حتى يقال بأن نفيه بقاعدة الحرج لا يوجب كونها مسألة أصولية ، ويتجه النقض حينئذ ، لوضوح كون وجوب الفحص حكماً فرعياً متعلقاً بعمل المجتهد في مقام الاستنباط ، فلم تجرِ قاعدة نفي الحرج في حكم أصولي حتى يقاس الاستصحاب الجاري في الحكم الأصولي عليه. وهذا بخلاف الحجية التي هي حكم أصولي محض ، فان جريان الاستصحاب في الحجية شاهد على كونه مسألة أصولية لا فقهية ، ولا يقاس بقاعدة نفي الحرج ، هذا. وان شئت مزيد بيان لبحث المصنف مع الشيخ فلاحظ التعليقة (*).

(١) أي : ما ذكرناه من الوجه لكون الاستصحاب مسألة أصولية.

(٢) من كونه أصلاً عملياً ، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع شك في بقائه.

(٣) أي : ثبوت ما علم ثبوته ، والمراد به وبقوله : «ثبوته» قبل ذلك هو ما يقابل البقاء.

(٤) جواب «وأما لو كان» وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وأما على الثاني وهو كون الاستصحاب بناء العقلاء ... إلخ» وضميرا «ثبوته ، به» راجعان إلى «ما علم» من الحكم أو الموضوع ، وضمير «كونه» راجع إلى الاستصحاب.

__________________

(*) أقول : الظاهر أن مراده (قده) من نفي وجوب الفحص الحرجي عن المعارض إثبات المسألة الأصولية ، وهي حجية الخبر حتى يجوز الاستناد إليه في مقام الاستنباط ، فان كان كذلك فيتوجه عليه أوّلاً : أن وجوب الفحص ليس حكماً شرعياً لا أصولياً ولا فقهياً حتى يكون مورداً لقاعدة نفي الحرج ، ضرورة أنها لا تجري إلّا في المجعول الشرعي ، بل هو حكم عقلي ناشٍ من العلم الإجمالي بوجود المعارض للروايات كوجود المخصصات والمقيدات لها ، حيث انها مانعة عن الحجية ، فلا بد في إثبات حجيتها من إحراز عليتها من المقتضي والشرط وعدم المانع ،

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومن المعلوم أن إحراز عدم المانع منوط بالفحص التام الموجب للاطمئنان بعدمه ، فالفحص الناقص الحرجي الّذي لا يدفع الاحتمال العقلائي لوجود المعارض لا ينفي الوجوب العقلي للفحص التام حتى يثبت به حجية الخبر وجواز الإفتاء به ، بل لا بد للمجتهد حينئذ من التوقف في الفتوى والأخذ بالاحتياط.

وثانياً ـ بعد تسليم شرعية وجوب الفحص ـ أن نفي الحرج من القواعد النافية للأحكام ، ومن المعلوم أن شأنها نفي الحكم لا إثباته. وعليه فلا يثبت بنفي وجوب الفحص عن المعارض حجية الخبر كما هو ظاهر كلام شيخنا الأعظم (قده) فتأمل.

فالمتحصل : أن الأصول العقلائية كأصالة عدم المانع وأصالتي العموم والإطلاق وغيرها مما لا يجريها أبناء المحاورة في تشخيص المرادات واستظهارها من الخطابات الملقاة إليهم إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالف ظواهرها.

وبالجملة : فلم يظهر لنا وجه وجيه لما أفاده رفع الله تعالى مقامه ، وهو أعلم بما قال.

وأما تحديد المسألة الأصولية بما تقدم في كلام الشيخ من أنها «ما لا حظّ للمقلد فيها ، وأنها ممهدة لاستنباط الحكم الفرعي منها» فينافيه قوله (قده) في جواب العلامة الطباطبائي : «ان معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاصّ كاستصحاب نجاسة الماء المتغير ليس إلّا الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقاً ، وهل هذا إلّا نفس الحكم الشرعي ، وهل الدليل عليه إلّا قولهم عليهم‌السلام : لا تنقص اليقين بالشك» إذ لو كانت ضابطة المسألة الأصولية تمهيدها للاستنباط لزم خروج الاستصحاب عن علم الأصول ، لفرض كونه حكماً شرعياً دل عليه مثل : «لا تنقض اليقين بالشك» وليس كحجية الخبر واقعاً في طريق الاستنباط.

كما أن جعل المعيار في أصولية المسألة «قدرة المجتهد خاصة على الفحص في الشبهات الحكمية فيكون نائباً عن العامي» غير ظاهر ، للنقض عليه بكثير من القواعد

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الفقهية ، ضرورة عجز العامي عن تشخيص موضوعاتها ، كقاعدة «ما يضمن» إذ تطبيق كل من عقديها الإيجابي والسلبي على العقود المعاوضية انما هو بيد المجتهد ، ولا حظّ للمقلد فيه أصلاً ، فان الحكم بموضوعية الإجارة الفاسدة مثلاً للضمان موقوف على اقتضاء صحيحها له ، وتشخيص الموضوع كاستنباط حكم القاعدة وظيفة المجتهد ، ولا يظن الالتزام بعدم كون هذه القاعدة فقهية بمجرد ذلك ، وهذا يكشف عن عدم وفاء الضابطة المذكورة للمسألة الأصولية بحل الإشكال.

هذا كله فيما أفاده الشيخ الأعظم (قده).

وأما المصنف (قده) فقد عرفت كلامه في إدراج الاستصحاب في علم الأصول ، لكنه لا يخلو من غموض. أما أولا : فلمنافاة حكمه هنا بكونه «قاعدة مهدت لاستنباط الأحكام منها» لما اختاره في تعريف علم الأصول «بأنه صناعة يعرف بها القواعد ...» حيث انه أضاف إليه جملة «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» كي يندرج حجية الظن الانسدادي على الحكومة ومباحث الأصول العملية في مسائل العلم ، ومن المعلوم ظهور هذه الجملة في عدم استنباط حكم شرعي من الأصول العملية التي منها الاستصحاب ، ولكنه (قده) عده هنا من الأصول ، لكونه قاعدة مُهِّدت للاستنباط ، فلاحظ وتأمل.

وأما ثانياً : فلأن مفاد أدلة الاستصحاب كما صرح به في مواضع هو جعل الحكم المماثل ، ومن المعلوم أن هذا المجعول بنفسه حكم شرعي ولا يستنبط منه حكم شرعي آخر كي يكون الاستصحاب قاعدة ممهدة لاستنباط الأحكام منه.

وأما ثالثاً : فلأن جريان الاستصحاب في الحكم الأصولي كالحجية لا يستلزم كونه مسألة أصولية فيما كان المستصحب حكماً فرعياً متعلقاً بالعمل بلا واسطة ، بل مقتضاه التفصيل في الموارد بحسب حال المستصحب كما التزم به شيخ مشايخنا الميرزا النائيني (قده). ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وذلك لانحلال «لا تنقض» بلحاظ تعدد اليقين والشك إلى أفراده ، وكل فرد منها يختص بحرمة

٢٩

وكيف كان (١) فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه (٢) اعتبار أمرين في مورده : القطع بثبوت شيء والشك في بقائه ، ولا يكاد (٣) يكون الشك في البقاء إلّا مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب

______________________________________________________

(١) يعني : سواء أكان الاستصحاب مسألة أصولية أم فقهية ، وهذا إشارة إلى الأمر الثالث الّذي تعرض له المصنف قبل الخوض في الاستدلال ، وهو بيان ركني الاستصحاب بناءً على كونه أصلاً عملياً مستنداً إلى الأخبار الآتية. وقد تعرض له الشيخ الأعظم (قده) في الأمر الخامس فقال : «ان المستفاد من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرد الوجود السابق أن الاستصحاب يتقوم بأمرين أحدهما وجود الشيء في زمان سواء علم به في زمان وجوده أم لا ... والثاني الشك في وجوده في زمان لاحق عليه ...».

(٢) من كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه» فان المستفاد منه اعتبار أمرين فيه أحدهما : اليقين بثبوت شيء ، وهو يستفاد من قوله : «شك في بقائه» إذ الشك في البقاء يدل على الفراغ عن حدوثه. ثانيهما الشك في البقاء ، وهو مصرح به في التعريف.

(٣) حاصله : أن الشك في البقاء ـ الّذي هو أحد ركني الاستصحاب ـ متقوم باتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعاً ومحمولاً ، إذ مع عدم اتحادهما

__________________

النقض ، ولا محذور في كون الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية قاعدة فقهية ، بخلاف الجاري في الأحكام الأصولية والأحكام الكلية ، لأن ضابط المسألة الأصولية هو كون النتيجة مما ينفع المجتهد ولا حظّ للمقلد فيها ، وأما الجاري في المسألة الفقهية فهو قاعدة فقهية ، لتعلقه بعمل آحاد المكلفين ابتداءً كما في إجراء كل مكلف قاعدة التجاوز والفراغ في عمل نفسه ، (١) هذا.

لكن بناءً على تعريف المسألة الأصولية بما ذكرناه في بحث المشتق من «أنها الدليل على كبرى قياس نتيجته حكم كلي فرعي» يندرج الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية في علم الأصول.

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ ـ ١٠٨

٣٠

الموضوع والمحمول (١) ، وهذا (٢) مما لا غبار عليه في الموضوعات

______________________________________________________

لا يكون من الشك في البقاء بل من الشك في الحدوث ، ضرورة أن البقاء هو الوجود الاستمراري للموجود السابق ، ومن المعلوم إناطة صدقه بالاتحاد المزبور.

ومن هنا يظهر أن المراد بالاتحاد هو الاتحاد الوجوديّ بأن يكون الموجود اللاحق عين السابق عرفاً حتى تتحقق الوحدة ، فلو كان الموجود السابق واللاحق متحدين ماهية ومتعددين وجوداً ، كما إذا فرض وجود عمرو مقارناً لانعدام زيد لم يكن الموجود السابق واللاحق واحداً بل متعدداً مع اتحادهما في الإنسانية.

ثم ان محمول القضية قد يكون من المحمولات الأولية كالوجود والعدم المحمولين على الماهيات ، وقد يكون من المحمولات المترتبة كالعدالة والشجاعة وغيرهما ، كقولنا : «زيد عادل أو شجاع» وعلى التقديرين يكون المحمول تارة وجودياً وأخرى عدمياً ، فالصور أربع. ولا فرق في شرطية اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة بين هذه الصور.

والحاصل : أنه لا إشكال في اعتبار وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة موضوعاً ومحمولاً في جريان الاستصحاب سواء أكان المستصحب من الموضوعات الخارجية كحياة زيد ورطوبة الثوب وغير ذلك ، أم من الأحكام الشرعية كوجوب صلاة الجمعة ونجاسة الماء المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره بغير الاتصال بالعاصم من الكر أو الجاري.

(١) كما عرفت في الأمثلة المتقدمة ، فمثل «زيد عادل» قضية متيقنة فيما مضى كأمس ومشكوكة فعلاً.

(٢) يعني أن اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة مما لا غبار عليه في استصحاب غالب الموضوعات من القارة والتدريجية. أما القارة ـ وهي التي تجتمع أجزاؤها في سلسلة الزمان من الجواهر كالحيوان والنبات والأعراض كالسواد والبياض والعلم والعدالة والفسق والغنى والفقر والحدث والخبث وحياة زيد وغير ذلك من الأمور الخارجية ، فان موضوعاتها أعني النّفس والبدن وماهية زيد التي يعرض عليها

٣١

الخارجية في الجملة (١) (*).

______________________________________________________

الوجود تارة والعدم أخرى ـ فيمكن للعرف إحرازه ، فلا مانع من استصحاب العدالة والطهارة والحياة وغيرها في الأمور القارة.

وأما غير القارة من الأمور التدريجية كالزمان وبعض الزمانيات كالماء النابع من العين والدم الخارج من عِرق خاص ، فانه وان أشكل فيها بعدم بقاء الموضوع لتقومها بالتصرم والتجدد ، لكن الحق جريان الاستصحاب فيها كما أفاده المصنف في التنبيه الرابع وفي حاشيته على الرسائل ، فانها وان لم تكن مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود لتصرمها ، إلّا أن وحدتها حقيقة لا تنثلم بذلك ما دامت الأجزاء متصلة لم يتخلل العدم بينها ، فلذا يجوز استصحاب الليل والنهار وجريان الماء من منبعه وغير ذلك.

نعم لا يجري الاستصحاب في بعض الموضوعات الخارجية التي لا يصدق فيها بقاء الموضوع عرفاً ، كما إذا كان الماء أكثر من خمسين شبراً مثلاً وهو أزيد من الكرّ على مذهب المشهور ، فأخذ منه مقدار يشك العرف معه في بقاء الموضوع وهو الكرّ البالغ ثلاثاً وأربعين شبراً إلّا ثمن شبر ، فانه لا يمكن الإشارة إلى ما بقي من الماء بأن يقال : «كان هذا كراً والآن كما كان» لفرض أن الكرّ كان هو الماء قبل نقص مقدار منه. وكذا الكلام في استصحاب القلة إذا أضيف إلى الماء مقدار يحتمل بلوغه حد الكثرة. ونظيرهما استصحاب الاستطاعة المالية في أول عامها إذا كان المال وافياً بمئونة الحج ثم صرف مقداراً منه بحيث يشك في وفاء الباقي بها ، فانه لا يجري استصحاب الموضوع أعني الاستطاعة.

(١) التقييد به لإخراج ما إذا شك العرف في بقاء الموضوع وانثلام وحدته ، وقد عرفته بقولنا : «نعم لا يجري الاستصحاب ...».

__________________

(*) قد أفيد في توضيح هذه الكلمة وتفسيرها تارة بما في حاشية العلامة المشكيني (قده) من الفرق في استصحاب الموضوعات الخارجية كالعدالة بين كون منشأ الشك فيها الشك في وجود الرافع والشك في بقاء معروضها ، حيث قال معترضاً

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على تفصيل الماتن بين الموضوعات الخارجية ما لفظه : «لا إشكال في كون الشك في بقاء الموضوع ناشئاً من جهة الشك في بقاء موضوعه أحياناً ، كما إذا شك في بقاء القيام من جهة الشك في بقاء وجود زيد» (١)

وأخرى بما في حاشية العلامة الرشتي (قده) من كونه إشارة إلى التفصيل بين الموضوعات القارة والتدريجية (٢).

لكنك خبير بما في كليهما ، أما الأول فلتوقفه على التزام المصنف بعدم جريان الاستصحاب في المحمول إذا كان منشأ الشك في بقائه الشك في بقاء موضوعه ومعروضه حتى يورد عليه بعدم الفرق بينه وبين ما إذا كان منشأ الشك فيه متمحضاً في الشك في وجود الرافع. مع أن هذا خلاف ما صرح به في حاشية الرسائل فيما علقه على مبحث اعتبار بقاء الموضوع من الخاتمة بقوله : «مثلاً إذا كان على يقين من قيام زيد ثم شك في بقاء قيامه ولو لأجل الشك في بقائه صح استصحاب قيامه ، فانه ما شك إلّا في ثبوت القيام بزيد في الخارج في الآن الثاني بعد ما كان على يقين منه في الآن الأول» (٣).

ومع هذا التصريح تعرف أن إيراد العلامة المشكيني ليس أمراً زائداً على ما تفطن له المصنف ونبّه عليه في الحاشية ، ولو كان قوله : «في الجملة» تنبيهاً على إنكار الاستصحاب في المحمول من جهة الشك في بقاء موضوعه لاتجه الإشكال عليه بما أفاده المحشي ، والمفروض عدم قرينة على أن مقصود المصنف ذلك التفصيل كي يورد عليه. بل لا يناسب حمل قوله : «في الجملة» على ما استظهره المحقق المحشي حتى يجعله مبنى الإشكال على الماتن.

وأما الثاني فلمنافاة هذا التفسير لتصريح المصنف بجريان الاستصحاب في

__________________

(١) حاشية العلامة المشكيني المطبوعة مع الكفاية ص ٢٧٦.

(٢) حاشية العلامة الرشتي ، ٢ ـ ٢١٥.

(٣) حاشية الرسائل ، ص ٢٣٠.

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأمور التدريجية المتصرفة كالقارة كما سيأتي في التنبيه الرابع ، ومع بنائه على اعتبار الاستصحاب في كلا هذين القسمين من الموضوعات يلغو التقييد بـ «في الجملة».

وبما ذكرناه ظهر الغموض في ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في شرح مقصود المصنف من التفرقة بين الأحكام والموضوعات بقوله : «أنه مع الشك في تبدل قيود الموضوع يمكن أن يستصحب بقيوده ، فيكون الاستصحاب مثبتاً لقيده كما يكون مثبتاً لذاته ، ومع العلم بتبدلها على تقدير بقاء ذاته أن اختلاف الحالات وتبادلها عليها لا يوجب اختلافاً فيها ، فلا يختل الشك في بقاء الذات فيها.

بخلاف الأحكام الكلية ، فان موضوعاتها نفس المفاهيم الكلية ، ومن الواضح أن اختلاف القيود موجب لاختلاف المفهوم المأخوذ موضوعاً للحكم ، فلا يصدق على الشك في الحكم أنه شك في بقاء الحكم ، لأن صدقه يتوقف على وحدة الموضوع لذلك الحكم ، ومع اختلافه يكون الشك في حدوث حكم لموضوع آخر ، لا في بقاء ذلك الحكم لموضوعه» (١)

 وذلك لأن الفارق المذكور على تقدير تماميته يصلح للتفصيل بين الموضوعات بأسرها والأحكام ، وهذا ليس مراد المصنف ظاهراً ، لدلالة قوله : «في الجملة» على أن اتحاد القضيتين في استصحاب الموضوعات مما لا غبار عليه في الجملة لا مطلقاً ، فليس المقصود مجرد التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية بتصوير إشكال عدم إحراز وحدة القضيتين فيها وبين الاستصحابات الجارية في مطلق الشبهات الموضوعية ، إذ لو كان كذلك للغا تقييد الموضوعات بقوله : «في الجملة» مع أن صريح كلامه التفصيل بين نفس الموضوعات ، وأن وحدة القضيتين فيها تختلف وضوحاً وخفاءً ، فقوله : «في الجملة» مقسِّم للموضوعات الخارجية إلى قسمين : أحدهما وضوح اتحاد القضيتين فيها ، والآخر خفاؤه كذلك.

وعلى هذا فلعل الأقرب إلى مقصود المصنف ما ذكرناه في التوضيح من

__________________

(١) حقائق الأصول ، ٢ ـ ٣٩٤).

٣٤

وأما الأحكام الشرعية (١) سواء كان مدركها العقل (٢) أم النقل (٣) فيشكل حصوله فيها (٤) ، لأنه (٥) لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلّا من

______________________________________________________

(١) غرضه : أن الشرط المزبور ـ أعني وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ـ يشكل إحرازه في استصحاب الأحكام الشرعية ، وحاصل وجه الإشكال : أن الشك في بقاء الحكم الشرعي ـ في غير مورد النسخ ـ لا ينشأ إلّا من جهة زوال وصف من أوصاف الموضوع مما يحتمل دخله فيه ، أو وجود ما يحتمل أن يكون لعدمه دخل في الموضوع ، ومعه يرجع الشك في بقاء الحكم إلى الشك في بقاء موضوعه ، فلا يحرز بقاء الموضوع حتى يصح استصحاب الحكم ، مثلاً إذا ثبتت النجاسة للماء المتغير بوصف التغير ، ووجوب صلاة الجمعة في زمان حضور الإمام عليه الصلاة والسلام ، ثم زال تغير الماء بنفسه أو بعلاج ، وكذا إذا غاب الإمام عليه‌السلام ، فان الشك في بقاء النجاسة ووجوب صلاة الجمعة حينئذ يستند إلى الشك في بقاء الموضوع ، لاحتمال دخل التغير والحضور في موضوع النجاسة والوجوب ، فلا يحرز وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، هذا.

ولا يخفى أن ما أفاده المصنف بقوله : «وأما الأحكام الشرعية ... إلخ» إشارة إلى أحد تفاصيل الاستصحاب أعني التفصيل بين الشبهات الحكمية الكلية والموضوعات الجزئية ، وقد حكاه الشيخ الأعظم عن الأمين الأسترآبادي وسيأتي نقل كلامه.

(٢) كحكم العقل بقبح الكذب الضار بالمؤمن الّذي هو مستند حرمته الشرعية.

(٣) كالكتاب والسنة اللذين يستند إليهما أكثر الأحكام الشرعية.

(٤) أي : حصول اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في الأحكام الشرعية.

(٥) تعليل لقوله : «فيشكل» وقد عرفت تقريبه ، قال الأمين الأسترآبادي فيما

__________________

التفصيل بين نفس الموضوعات ، لعدم إحراز وحدة القضيتين في بعضها. ويؤيد هذا التفسير ما جاء في تقرير بحث سيدنا الفقيه الأعظم صاحب الوسيلة قدس‌سره من التصريح بذلك ، فلاحظ (١).

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ١١

٣٥

جهة الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه (١) مما احتمل دخله (٢) فيه حدوثاً (٣) أو بقاءً ، وإلّا (٤) لا يتخلف الحكم عن

______________________________________________________

حكاه عنه شيخنا الأعظم ما لفظه : «ان صور الاستصحاب المختلف فيها عند النّظر الدّقيق والتحقيق راجعة إلى أنه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته تجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه ، ومن المعلوم أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحاباً راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متحد معه في الذات مختلف معه في الصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم أن هذا المعنى غير معتبر شرعاً ...».

واستدل الفاضل النراقي على هذا القول بوجه آخر سيأتي التعرض له في التنبيه الرابع إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : بسبب تغير بعض الأوصاف التي يكون الموضوع واجداً لها ، فضمير «هو» راجع إلى الموضوع ، وضمير «عليه» إلى «ما» الموصول المراد به أوصاف الموضوع.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول في «مما» المراد به الوصف الزائل ، يعني : من الصفات التي يحتمل دخلها في الموضوع.

(٣) يعنى : أنه قد يكون احتمال دخل الشيء الزائل في مرحلة الحدوث فقط ، كاحتمال كون التغير دخيلاً في موضوع الحكم بالنجاسة حدوثاً فقط ، فلا ترتفع النجاسة بزوال التغير بنفسه بل تبقى بحالها.

وقد يكون احتمال دخله في مرحلة البقاء ، كما إذا احتمل دخل عدم فسخ الصبي الّذي عَقَدَ له الولي في بقاء العقد بعد بلوغه ورشده ، فإذا فسخه بعد البلوغ لا يمكن استصحاب بقاء أثر العقد ، لاحتمال دخل عدم فسخ المعقود له في بقاء العقد ، فلا يحرز بقاء الموضوع مع الفسخ.

(٤) أي : وإن لا يكن الشك في الحكم ناشئاً من الشك في بقاء الموضوع بل

٣٦

موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحيل (١) في حقه تعالى ، ولذا (٢) كان النسخ بحسب الحقيقة دفعاً لا رفعاً.

______________________________________________________

كان الموضوع معلوم البقاء ، فلا يتصور الشك حينئذ في بقاء الحكم ، لعدم تخلفه عن موضوعه ، ضرورة أن الموضوع كالعلة له ، فكما لا يتخلف المعلول عن العلة فكذلك لا يتخلف الحكم عن الموضوع.

نعم يتصور التخلف بنحو البداء ، كما إذا جعل حكماً لموضوع إلى الأبد باعتقاد اشتماله على مصلحة دائمية ، وبعد مضي زمان ظهر له كون مصلحته موقتة ، فيرتفع الحكم عن موضوعه بانتفاء مصلحته ، وهذا هو البداء المستحيل في حقه تعالى ، ولذا كان النسخ في الأحكام الشرعية دفعاً لا رفعاً ، والمراد بالدفع أن الحكم من أول الأمر كان محدوداً بهذا الحد ، وتأخّرَ بيان أمده لمصلحة ، لا أن الحكم شُرِّع إلى الأبد ثم نسخ في هذا الزمان ، فانه مستحيل في حقه سبحانه وتعالى ، لاستلزامه الجهل وعدم إحاطته بجهات الحسن والقبح تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، فليس النسخ رفعاً لأمر ثابت ، بل دفعاً أي إظهاراً لعدم تشريع الحكم إلّا موقتاً ، لعدم المقتضي لتشريعه إلى الأبد.

فصار المتحصل : أن منشأ الشك في بقاء الحكم الكلي الفرعي منحصر في اختلال بعض ما عليه الموضوع من الأوصاف كما عرفت في الأمثلة المذكورة ، ومعه لا يمكن إحراز وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، وهذا بخلاف غالب الشبهات الموضوعية.

(١) وهو أن يظهر للحاكم خطأ حكمه السابق فيعدل عنه. وأما البداء بالمعنى الممكن أعني الإبداء والإظهار فلا مانع منه ، وقد ذكرنا شطراً من الكلام المتعلق بالبداء في بحث العام والخاصّ ، فلاحظ.

(٢) أي : ولكون البداء ـ بمعنى الظهور والعلم بالشيء ـ مستحيلاً في حقه تعالى كان نسخ الحكم الشرعي بمعنى الدفع لا الرفع كما عرفت.

٣٧

ويندفع هذا الإشكال (١) بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما (٢) وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه (٣) ، إلّا أنه لمّا كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافياً في تحققه (٤) وفي صدق الحكم ببقاء ما

______________________________________________________

(١) أي : إشكال عدم اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة في الأحكام الكلية ، وحاصل ما أفاده في دفع الإشكال هو : أن وحدة الموضوع وان كانت مما لا بد منه في الاستصحاب ، إلّا أن المدار في الاتحاد المزبور هو النّظر العرفي لا العقلي ، ولا ما هو ظاهر الدليل على ما سيأتي تحقيقه في الخاتمة إن شاء الله تعالى ، ومع حكم العرف باتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ـ وصدق الإبقاء والنقض على إثبات الحكم ونفيه مع اختلال بعض حالات الموضوع ـ يسهل الأمر في إحراز وحدة القضيتين في استصحاب الأحكام إذا اختل بعض أوصاف الموضوع مما لا يكون بنظر العرف مقوِّماً له ، بل من حالاته وعوارضه وان كان بالنظر الدقي العقلي دخيلاً في الموضوع كما لا يخفى ، ففي مثال وجوب صلاة الجمعة لا يكون حضور الإمام عليه‌السلام مقوِّماً له بنظر العرف بل من حالاته. وكذا موضوع حكم الشارع بالانفعال هو ذات الماء الّذي طرأ عليه التغير ، فلا مانع من استصحاب الأحكام الكلية. ثم ان هذا الجواب قد تكرر في كلمات الشيخ ، فقال هنا في جوابه الحلي عن كلام الأمين الأسترآبادي ما لفظه : «بأن اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة الّذي يتوقف صدق البناء على اليقين ونقضه بالشك عليه أمر راجع إلى العرف ، لأنه المحكّم في باب الألفاظ».

(٢) أي : بحسب الموضوع والمحمول.

(٣) أي : جريان الاستصحاب ، وضمير «عنه» راجع إلى الموصول في «مما» المراد به الاتحاد.

(٤) أي : تحقق الاتحاد بنظر العرف ، وضمير «أنه» للشأن.

٣٨

شك في بقائه ، وكان بعض ما عليه الموضوع من (١) الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له مما يعدّ بالنظر العرفي من حالاته (٢) وإن كان واقعاً من قيوده ومقوماته (٣) ، كان (٤) جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها لأجل (٥) طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها مما عدّ من حالاتها لا من مقوِّماتها (٦) بمكان (٧) من الإمكان ، ضرورة (٨) صحة إمكان دعوى بناء العقلاء

______________________________________________________

(١) بيان للموصول في «ما عليه» وضمير «معها» راجع إلى الخصوصيات وضمير «له» إلى الموضوع.

(٢) أي : حالات الموضوع ، ومن المعلوم أن شأن الحال عدم ارتفاع الموضوع بارتفاعه.

(٣) الضميران راجعان إلى الموضوع ، ومن الواضح أن ما يكون مقوِّماً عقلاً للموضوع يوجب انتفاؤه انتفاء الموضوع.

(٤) جواب «لما كان» وقد عرفت توضيحه.

(٥) تعليل للشك ، يعني : أن منشأ الشك في الأحكام هو انتفاء بعض حالات الموضوع ، وضمير «فيها» راجع إلى الأحكام.

(٦) هذا الضمير وضميرا «فيها ، حالاتها» راجعة إلى الموضوعات ، ومن المعلوم أن شأن المقوِّم هو انتفاء الموضوع بانتفائه كالعادل والمجتهد ، فإذا زالت العدالة وملكة الاجتهاد ترتفع أحكامهما كنفوذ الشهادة وجواز التقليد ، لتقوُّم موضوعهما بالعدالة والاجتهاد.

(٧) خبر «كان» يعني : لا إشكال في جريان الاستصحاب حينئذ.

(٨) تعليل لكفاية الاتحاد عرفاً ، وذلك لأن المدار في صحة جريان الاستصحاب على صدق الشك في البقاء ، ومن المعلوم صدقه على الاتحاد العرفي سواء أكان اعتباره ببناء العقلاء أم الظن أم النص أم الإجماع ، فلا وجه لتوهم اختصاص كون الموضوع

٣٩

على البقاء تعبداً ، أو لكونه (١) مظنوناً ولو نوعاً. أو (٢) دعوى دلالة النص أو قيام الإجماع عليه قطعاً بلا تفاوت (٣) في ذلك بين كون

______________________________________________________

عرفياً بما إذا كان دليل الاعتبار النصوص بدعوى كون الأخبار مسوقة بلحاظ الموضوع العرفي ، لأنها ملقاة إلى العرف ، فالمتبع في تشخيص الموضوع وصدق الشك في البقاء هو نظر العرف. وجه فساد التوهم : صحة دعوى كون التزام العقلاء وكذا الإجماع والظن بلحاظ الموضوع العرفي أيضا.

إلّا أن يقال : ان لبّية الدليل من الإجماع وبناء العقلاء تقتضي لزوم الاقتصار على القدر المتيقن ، إذ لا إطلاق له كالنص حتى يؤخذ به.

(١) معطوف على قوله : «تعبداً» وضمير «لكونه» راجع إلى «البقاء».

(٢) معطوف على «دعوى بناء» و «أو قيام» معطوف على «دلالة النص»

(جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل)

(٣) متعلق بـ «صحة إمكان دعوى بناء العقلاء» يعني : بلا تفاوت في بنائهم على البقاء بين كون دليل الحكم نقلاً ... إلخ.

وهذا إشارة إلى تفصيل آخر في حجية الاستصحاب ابتكره شيخنا الأعظم وهو التفصيل بين الحكم الشرعي المستند إلى الأدلة النقليّة كالكتاب والسنة كأغلب التكاليف ، والمستند إلى الحكم العقلي كحسن العدل وردّ الوديعة والصدق النافع ، وقبح الظلم والكذب الضار بالمؤمن ونحوها ، بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني ، واعترض عليه المصنف هنا وفي الحاشية ، قال الشيخ في الوجه الثاني من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار الدليل الدال على المستصحب ما لفظه : «نظراً إلى أن الأحكام العقلية كلها مبينة مفصلة من حيث مناط الحكم الشرعي ، والشك في بقاء المستصحب وعدمه لا بد وأن يرجع إلى الشك في موضوع الحكم ... والموضوع لا بد أن يكون محرزاً معلوم البقاء في الاستصحاب ... وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فانه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراماً ، ولا يعلم أن

٤٠