منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

انتزاع هذه العناوين لها من التكليف (١) المتأخر عنها ذاتاً حدوثاً (٢) وارتفاعاً (٣) ، كما أن اتصافها (٤) بها ليس إلّا لأجل ما عليها من (٥) الخصوصية

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «انتزاع» وضميرا «لها ، عنها» راجعان إلى السببية وأخواتها.

(٢) كما في السبب والشرط والمانع ، أما الأوّلان فلترتب الحكم عليهما ترتب المعلول التكويني على سببه وشرطه. وأما الأخير فلتقدمه على عدم التكليف ، لاستناد هذا العدم إليه بعد فرض تحقق كل ما له دخل في وجود المعلول إلّا عدم المانع ، فإذا كان عدم التكليف متأخراً عن وجود المانع فلا محالة يكون وجود التكليف متأخراً عنه حفظاً لمرتبة النقيضين ، فالمانعية كالسببية والشرطية مقدمة على حدوث التكليف كما هو واضح.

(٣) كما في الرافع ، فانه مقدم على بقاء التكليف ، لاستناد بقائه إلى عدم الرافع كاستناد حدوثه إلى عدم المانع ، وإذا كان عدم الرافع مقدماً على بقاء التكليف فوجوده أيضا مقدم عليه ، حفظاً لمرتبة النقيضين. وما في بعض الحواشي من إرجاع الارتفاع إلى كل من المانع والرافع لا يخلو من شيء ، فان المانع يزاحم المقتضي في مقام تأثيره ، فهو كالسبب والشرط مقدم على نفس الشيء ، بخلاف الرافع. ولعل الأولى تبديل «ارتفاعاً» بـ «بقاء» وان كان الرفع دالاً على البقاء في قبال الحدوث.

وبالجملة : فالمانع يمنع الحدوث ، والرافع يرفع البقاء ، فالأوّل دفع والثاني رفع.

(٤) يعني : اتصاف المذكورات ـ من سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ـ بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية. وغرضه الإشارة إلى مذهبه من كون منشأ انتزاع هذه الأمور نفس الخصوصية التكوينية التي تكون في السبب وأخواته ، دون الجعل الشرعي ، وقد عرفت توضيحه.

(٥) بيان للموصول في «ما عليها» والضمير راجع إلى السبب والشرط والمانع والرافع ، والأولى ذكر ضمير «هي» بين «ما» و «عليها» كما لا يخفى.

٢٦١

المستدعية لذلك (١) تكويناً ، للزوم (٢) أن يكون في العلة بأجزائها ربط خاص به (٣) كانت مؤثِّرة [مؤثراً] في معلولها لا في غيره (٤) ولا غيرها (٥) فيه ، وإلّا لزم (٦) أن يكون كل شيء مؤثِّراً في كل شيء (٧). وتلك الخصوصية لا تكاد توجد فيها (٨) بمجرد إنشاء مفاهيم

______________________________________________________

(١) أي : لاتصاف هذه الأمور بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية. والأولى تبديل «المستدعية» بـ «المقتضية».

(٢) تعليل لقوله : «ليس إلّا لأجل وقوله «تكويناً» قيد لـ «الخصوصية» يعني : أن الخصوصية التكوينية اقتضت الاتصاف المزبور.

(٣) أي : بذلك الربط الخاصّ كانت العلة مؤثرة ، وضمير «أجزائها» راجع إلى العلة ، والمراد بالأجزاء هو المقتضي والشرط وعدم المانع.

(٤) أي : لا في غير هذا المعلول الخاصّ من سائر معاليل العلل الأخرى.

(٥) أي : ولا غير العلة في المعلول ، فالربط الخاصّ يقتضي عدم تأثير كل علة في معلول معين ، للزوم السنخية ، فسخونة الماء والإحراق لا تؤثِّر فيهما إلّا علة معينة وهي النار.

(٦) يعني : وان لم يكن في أجزاء العلة ربط خاص لزم أن يكون كل شيء مؤثراً في كل شيء ، لما عرفت من أن تأثير كل جزء من أجزاء العلة سواء أكان سبباً أم غيره لا بد من استناده إلى خصوصية ذاتية فيه بها يؤثر في المعلول ، وتلك الخصوصية لا تقبل الجعل الشرعي لا أصالة ولا تبعاً.

(٧) وإلّا يلزم الاختصاص بلا مخصص ، كما نبه عليه في الحاشية.

(٨) يعني : تلك الخصوصية التكوينية لا توجد في السبب والشرط والمانع والرافع بمجرد الإنشاء مع قصد حصولها ، لفرض عدم كونها كالأحكام التكليفية وبعض الوضعيات من الأمور الاعتبارية ، فان التكوين لا يوجد بالتشريع ، فاندفع بقوله : «وتلك الخصوصية» احتمال الجعل الاستقلالي للسببية وأخواتها كما نسب إلى

٢٦٢

العناوين (١) وبمثل (٢) [ومثل] قول : «دلوك الشمس سبب (*)

______________________________________________________

المشهور.

(١) يعني : مفهوم السببية وأخواتها.

(٢) بناءً على كون النسخة «وبمثل» فهو معطوف على «بمجرد» يعني : أن تلك الخصوصية لا توجد بمثل قول ... ، وبناءً على كونها «ومثل» فهو معطوف على «إنشاء» يعني : بمجرد مثل قول ... ، وبناءً على ما في بعض النسخ المصححة على نسخة المصنف (قده) من كون العبارة هكذا «مثل قول دلوك الشمس» يكون بياناً لإنشاء مفاهيم العناوين ، ولعله أولى.

__________________

(*) قد تكرر منه (قده) هنا وفي حاشية الرسائل إطلاق السبب على الدلوك والعقد مما جعله الشارع موضوعاً لحكمه واعتباره ، وحيث ان السبب الفاعلي بمعنى ما منه الوجود سواء أكان في الحكم التكليفي أم الوضعي هو شخص الحاكم والمعتبر ، فليس المراد بالسبب ما يرادف العلة التي يكون المعلول رشحاً لها ، وإلّا لزم عدم كون المسبب ـ وهو الوجوب والحرمة ـ فعلاً اختياريا للشارع ، وهو بديهي البطلان.

مضافاً إلى : أن السببية غير قابلة للجعل لا تكويناً ولا تشريعاً ، لأنها الرشح القائم بذات السبب ، وهو كسائر لوازم الماهية لا تنالها يد الجعل التكويني فضلاً عن التشريعي. وعليه فلا بد أن يراد بالسبب ما يكون شرطاً أو مُعدّاً مما يوجب الدعوة للإنشاء ، فمثل أوقات الصلوات والموسم ومالكية النصاب ليست أسباباً وعللاً حقيقية لوجوب الفرائض اليومية والحج والزكاة ، وإنما هي شرائط الجعل. والقيود المأخوذة في موضوعات الأحكام الشرعية من هذا القبيل ، لكنهم اصطلحوا على كل أمر دخيل في التكليف بالشرط وفي الوضع بالسبب ، كقولهم : «الملاقاة سبب للنجاسة ، والعقد سبب للملكية ، والدلوك شرط لوجوب الصلاة ، والاستطاعة لوجوب الحج» ولا مشاحة في الاصطلاح ، وان كان الأولى التعبير بالموضوع مطلقاً.

فان كان هذا مقصود المصنف من السبب فهو صحيح ، واللازم حينئذ الاقتصار

٢٦٣

لوجوب الصلاة» إنشاءً (١) لا إخباراً ، ضرورة (٢) بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له من كونه واجداً لخصوصية مقتضية لوجوبها ، أو فاقداً لها (٣) ،

______________________________________________________

(١) وهو قصد حصول المعنى باللفظ أو بآلة أخرى كالفعل في المعاطاة ، والمراد بالإخبار هو الحكاية عن تحقق المعنى في موطنه المناسب له. ومقصوده (قده) أن ما تقدم من امتناع إيجاد خصوصية السببية في مثل الدلوك بقوله : «الدلوك سبب لوجوب الصلاة» إنما هو إذا كان الكلام إنشاءً أي قُصِد به تحقق أحد هذه العناوين كالسببية بمجرد هذا الجعل ممن بيده أمر التشريع ، وأما إذا قصد بهذا الكلام الإخبار عن ثبوت الخصوصية الذاتيّة للدلوك ونحوه فعدم تحقق السببية بهذا الكلام واضح ، لعدم اقتضاء الإخبار والحكاية تحقق هذه العناوين أصلا ، إذ لو كانت موجودة في الواقع كان الاخبار صدقاً وإلّا فهو كذب ، وليس شأن الخبر إيجاد ما ليس بموجود ، وإنما هو شأن الإنشاء.

نعم لا تنحصر فائدة الإنشاء في التسبب به إلى وجود معنى في الخارج ، بل قد يتوسل به إلى تحقق ما هو ملزوم ذلك المعنى أو لازمه ، فيجعل مثلاً إنشاء سببية الدلوك لوجوب الصلاة كناية عن إنشاء وجوبها ، بعد أن كان المقصود جعل الوجوب ، وإنما الممتنع جعل نفس السببية وأخواتها ، فلا تغفل.

(٢) تعليل لقوله : «لا يكاد يوجد» وهذا إشارة إلى بطلان القول المنسوب إلى المشهور من كون السببية وأخواتها مجعولة بالاستقلال ، وقد تقدم توضيحه.

(٣) أي : للخصوصية ، فلو كان الدلوك واجداً لتلك الخصوصية لم يؤثر الإنشاء

__________________

على الشرط والمانع ، وإخراج السبب عن محل البحث. لكن قد يأباه تصريحه بأن سببية الدلوك والعقد ناشئة من خصوصية ذاتية فيهما أوجبت انتزاع السببية منهما لا عن الحكم الشرعي المترتب عليهما ، وكذا قوله في آخر كلامه : «فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لأجزاء العلة» الظاهر في إرادة المقتضي المقابل للشرط والمانع. فتأمل في العبارة.

٢٦٤

وأن (١) الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما (٢) يدعو إلى وجوبها ، ومعه (٣) تكون واجبة لا محالة وان لم يُنشأ السببية للدلوك أصلا.

ومنه (٤) انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده (٥) ، لعدم اتصافه (٦) بها بذلك ضرورة.

نعم (٧) لا بأس

______________________________________________________

في جعل السببية ، ولو كان فاقداً لها فكذلك ، إذ لا معنى لتأثير التشريع في التكوين بإعطاء ما هو فاقد له.

(١) معطوف على «بقاء» وهو متمم التعليل.

(٢) المراد بالموصول هو تلك الخصوصية القائمة بالدلوك ، وضمير «وجوبها» راجع إلى الصلاة.

(٣) الضمير راجع إلى الموصول المراد به الخصوصية ، يعني : ومع تلك الخصوصية تكون الصلاة واجبة لا محالة وان لم تنشأ السببية للدلوك أصلاً.

(٤) يعني : ـ ومن عدم كون منشأ انتزاع السببية إلّا الخصوصية الذاتيّة دون إنشاء السببية له ـ ظهر عدم صحة انتزاع السببية حقيقة للدلوك من مثل إيجاب الصلاة عنده بدون تلك الخصوصية حتى تكون السببية مجعولة. وهذا إشارة إلى بطلان القول بكون السببية وأخواتها مجعولة بتبع التكليف ، وقد عرفت توضيحه. وهذا وان تقدم بيانه في المتن ، لكنه لا بأس بإعادته لأجل التمهيد لأمر آخر وهو بيان ما يراد من إطلاق السبب على الدلوك في الأخبار ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

(٥) هذا الضمير وضمير «له» راجعان إلى الدلوك.

(٦) أي : لعدم اتصاف الدلوك بالسببية بسبب إيجاب الصلاة عنده.

(٧) استدراك على «عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة» وغرضه : أنه لا مانع من إطلاق السبب على الدلوك مجازا ولو بلحاظ تلازمهما في الوجود ، لعدم

٢٦٥

باتصافه (١) بها عناية ، وإطلاق (٢) السبب عليه مجازا ، كما لا بأس (٣) بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك مثلا بأنه سبب لوجوبها ، فكنّي [فيكنى] به (٤) عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك (٥) : أنه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لأجزاء العلة (٦) للتكليف إلّا عما (*) [ما] هي عليها (٧) من الخصوصية الموجبة لدخل

______________________________________________________

انفكاك وجوب الصلاة عن الدلوك ، فانهما متلازمان وجودا ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، كعدم انفكاك المسبب عن سببه ، وإلّا فلا سببية ولا مسببية حقيقة ، لكون سببية الدلوك ووجوب الصلاة معا معلولين لتلك الخصوصية التكوينية ، فاتصاف الدلوك بالسببية بإيجاب الصلاة عنده من دون تلك الخصوصية يكون مجازا ، أو لإناطة المجعول التشريعي به ، فيكون ثابتا بثبوته التشريعي ومن خصوصياته ، فينسب الجعل إليه مجازا.

(١) أي : باتصاف الدلوك بالسببية بعناية التلازم في الوجود.

(٢) معطوف على «اتصافه» ومفسر له.

(٣) هذا دفع لما قد يتوهم ـ من دلالة بعض النصوص على كون الشيء الفلاني سببا للحكم الفلاني ـ من أن السببية قابلة للجعل الشرعي حقيقة كقابلية الأحكام التكليفية له. وحاصل وجه الدفع : أن هذا التعبير كناية عن إنشاء الوجوب للصلاة مثلاً عند الدلوك ، لا أن المجعول حقيقة هو السببية كما ربما يكون ذلك ظاهر الكلام.

(٤) أي : بكونه سببا ، وضمير «عنده» راجع إلى الدلوك.

(٥) أي فظهر ـ ببطلان انتزاع السببية وأخواتها من الخطاب أصلا لا استقلالا ولا تبعا ـ أنه ينحصر منشأ انتزاع السببية في الخصوصية الذاتيّة.

(٦) كالشرط وأخويه.

(٧) الضمير راجع إلى الموصول المراد به الخصوصية ، وضمير «هي»

__________________

(*) كلمة المجاوزة زائدة ، إذ العبارة هكذا : لا منشأ لانتزاع السببية ... الا

٢٦٦

كل (١) فيه على نحو غير دخل الآخر (٢) ، فتدبر (*).

______________________________________________________

راجع إلى أجزاء العلة ، وقوله : «عما» متعلق بـ «انتزاع».

(١) أي : كل واحد من أجزاء العلة في التكليف.

(٢) لدخل بعضها سببيا والآخر شرطيا ، وهكذا.

__________________

الخصوصية الموجبة لدخل كل واحد من أجزاء العلة في التكليف.

(*) ينبغي قبل النّظر في كلام المصنف التنبيه على أمر محصله : أن الموجودات منحصرة بلحاظ وعاء تقررها في أقسام ثلاثة ، لأنها إما خارجية وإما ذهنية وإما اعتبارية.

أما الأول وهو ما يكون موجودا في عالم العين فإما أن يكون موجودا في نفسه لنفسه بغيره وهو أنواع الجواهر من الجسم والنّفس والعقل وغيرها ، وإما أن يكون موجودا في نفسه لغيره بغيره أي لموضوعه ، وهذا نحو تقرر المقولات العرضية الموجودة بوجود رابطي عدا مقولة الإضافة.

وأما الثاني فهو ما يكون ظرف تقرره وتحصله الذهن كالكلية والجزئية والنوعية والجنسية والفصلية ونحوها ، فان معروضات هذه الاعتبارات الذهنية والمعقولات الثانية التي هي من الخارج المحمول أمور ذهنية لا عينية لكن بنحو القضية الحينية ـ لا المشروطة ـ كما عبر به بعض المدققين (١).

وأما الثالث فهو ما يكون ظرف تقرره عالم الاعتبار ، وهذا القسم وان لم يكن له حظّ من الوجود الخارجي ولا الذهني الزائل بالذهول وغفلة النّفس عنه ، إلّا أن له تقررا جعليا حاصلا بتباني العقلاء وتعاهدهم على فرض الوجود له بداعي كونه منشأ للآثار ، فصقع الاعتبار برزخ بين وعائي الوجودين العيني والذهني والشاهد على وجود هذا القسم من الموجودات ظهور الآثار المترتبة عليها ، لامتناع ترتبها على العدم المحض.

واعتبارات العقلاء فيما يحتاجون إليه من الأمور الاقتصادية والسياسية لحفظ

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٤٩ و ٥٠

٢٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

النظام كالملكية والزوجية والحرية والرقية والضمان والولاية والقضاوة ونحوها كلها من الموجودات في عالم الاعتبار الحاصلة بتباني العقلاء عليها.

وكذا الأحكام الشرعية ، فانها أمور اعتبارية سواء أكانت تأسيسية كما في الأحكام المتعلقة بالماهيات المخترعة من الصلاة والصيام والحج ونحوها ، أم إمضائية كما في كثير من الاعتباريات المتداولة بين العقلاء كالبيوع. وأما متعلقات الأحكام من الماهيات المخترعة فهي وان كانت مما اعتبرها الشارع وعيّن حدودها ، إلّا أن صدق الحكم الوضعي عليها لا يخلو من تعسف.

وأما الأمور الانتزاعية فحيث إنها اعتبارات متقومة بالتصور ليس لها ما يحاذيها في الخارج أو في وعاء الاعتبار فهي غير موجودة بالذات ، وإنما يكون التقرر لمنشإ الانتزاع ، ولذا تعدّ من الخارج المحمول ، سواء انتزعت من الحقائق المتأصلة الخارجية كانتزاع عنوان العلية والمعلولية من ذات العلة والمعلول الخارجيتين ، والفوقية المنتزعة من ذات السقف لا من عرض قائم به كما قيل. أم من قيام عرض بمحل كالأبيضية المنتزعة عن الجدار الأبيض ، وكذا من قيام المقولات بمحالِّها. أم من الأمور الاعتبارية كانتزاع السببية من العقد المملِّك في وعاء الاعتبار ، لوضوح عدم ترتب الملكية تكوينا على الإيجاب والقبول ، وإنما هو بالجعل والاعتبار ، وعليه فوجود الاعتبارات الانتزاعية بالعرض لا بالتبع.

وقد تحصل مما تقدم اختلاف الحكم الشرعي والأمر الانتزاعي حقيقة ، وعدم جامع بينهما ، وأن عدّ بعض الأمور من الأحكام الوضعيّة مع كونها اعتبارات ذهنية محضة ـ لعدم تطرق الجعل إليها لا أصالة ولا تبعا ـ غير ظاهر. كما ظهرت المسامحة في عدّ بعض الوضعيات المستقلة في الجعل كالملكية والزوجية من الانتزاعيات.

إلّا أن يوسع في المعنى الانتزاعي بشموله للموجودات الاعتبارية أيضا. لكنك عرفت الاختلاف بين سنخي الوجودين ، ولا ينبغي الخلط بينهما.

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إذا عرفت ما ذكرناه تعرف أن ما أفاده المصنف (قده) ـ من انتزاع السببية من ذات السبب وكونها من خارج المحمول ـ لا يخلو من شيء ، لما أفيد من أنه خلط بين موضوعات التكاليف وملاكاتها ، فان الخصوصية التكوينية المقتضية لتشريع الحكم وان امتنع انتزاعها عن الحكم ، لتأخره عنها ، إلّا أنه ليس محل البحث ، إذا الكلام في سبب المجعول لا الجعل ، ومن المعلوم عدم ترتب الحكم على موضوعه إلّا بعد وجوده وفعليته ، ويكون تأخره عنه رتبيا لا زمانيا ، وهو بمنزلة المعلول في عدم انفكاكه عن العلة زمانا ، وحينئذ يكون منشأ انتزاع السببية ـ أعني الحكم ـ مقارنا لوجود الموضوع.

وأورد المحقق الأصفهاني على المصنف (قدهما) بعد نفي سببية الدلوك وكونه شرطا أو معدّا حقيقة ـ كما تقدم في بعض التعاليق ـ بما محصله : أن الشرط إما مصحح فاعلية الفاعل أو متمم قابلية القابل ، والشرطية إما أن تكون ما هوية كاستعداد طبيعة النار باستعداد ماهوي للإحراق إذا كانت محاذية للمحترق مع خلوه عن الرطوبة ولو لم يكن في العالم نار ولا إحراق. وإما تكوينية وهي ظرف وجود الشرط والمشروط خارجا كتحقق النار والوضع والمحاذاة ويبوسة المحل خارجا ، وكتحقق الصلاة عن طهارة ، حيث ينتزع عنوان الشرطية والمشروطية مما هو موجود بالذات. ولا كلام في هذين النحوين.

إنما الكلام في الجعل القائم بالشارع ، فالصلاة كما أنها مشروطة واقعا بالطهارة ، لدخلها في فاعلية الصلاة في النهي عن الفحشاء أو في قابلية النّفس للتأثر بأثرها ، كذلك لها شرطية أخرى حاصلة بتعلق الأمر بها بمثل «صل متطهرا» إذ لو لا دخلها في ذلك كان تقييد الطلب والبعث بها لغوا ، وأخذها كاشف عن دخلها في الغرض ، ومن المعلوم أن شرطية الطهارة للمطلوب بما هو مطلوب منوطة بتقيد الطلب وإناطة المطلوب بها ، إذ مع إطلاق الطلب لا تتصف الطهارة إلّا بالشرطية للغرض لا للمطلوب كما هو واضح ، هذا في الشرطية للواجب والمتعلق.

٢٦٩

وأما النحو الثاني (١) فهو

______________________________________________________

(١) يعني : ما لا يمكن الجعل فيه إلّا تبعاً للحكم التكليفي ، وهو كل ما له دخل في المكلف به بأن يكون جزءاً أو شرطا أو مانعا أو قاطعا له ، وحاصل ما أفاده في هذا القسم هو : أن جزئية شيء للمأمور به وأخواتها لا تنتزع إلّا من أمر يتعلق بأمور متعددة تقوم بها مصلحة واحدة تدعو الشارع أو غيره ممن بيده الاعتبار إلى إنشاء أمر واحد وحكم فارد بتلك الأمور ، وما لم يتعلق أمر وحداني بها لا يتصف شيء منها بالجزئية للمكلف به ، بداهة أن اتصاف شيء بكونه مأمورا به منوط بتعلق الأمر به ، فاتصاف ما له دخل في متعلق الأمر بالجزئية ونحوها موقوف أيضا على تعلق الأمر بجملة تلك الأمور. نعم لا يتوقف اتصاف شيء بجزئيته للمتصوّر أو لذي المصلحة على تعلق أمر بتلك الأمور ، لكون دخله فيه تكوينيا لا اعتباريا.

__________________

وكذا في الشرطية للتكليف ، فالدلوك مثلا كما أنه شرط تأثير المصلحة المقتضية لإيجاب الصلاة كذلك شرط لكون إنشاء الأمر بالصلاة مصداقا حقيقيا للبعث ، ومن المعلوم أن اتصاف الدلوك بالمصداقية للإنشاء بداعي جعل الداعي لا موقع له إلّا مرحلة الطلب المنوط بالدلوك ، وهو أمر زائد على توقف تأثير المصلحة عليه ، فالدلوك كالطهارة ، فكما أنها ما لم يتقيد الأمر بها لا تتصف بالشرطية للواجب كذلك دلوك الشمس ، فهو متمم قابلية الإنشاء لانتزاع البعث منه.

وبهذا ظهر أن ما لا يقبل الجعل هو العلية بمعنى دخل شيء في التأثير واقعا ، فانها ماهوية لا جعلية تكوينا ولا تشريعا ، وما يقبل الجعل هو الدخل في اتصاف الإنشاء بكونه بعثا حقيقيا ، فانها مجعولة بتبع جعل منشأ الانتزاع (١).

وهذا إشكال متين ، وعليه فما أفاده المصنف في القسم الأول من عدم تطرق الجعل إليها لا يخلو من شيء.

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ ـ ٥٣

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومن هنا يظهر اندفاع توهم كفاية اختراع الماهيات الشرعية وجعلها في اعتبار الجزئية ونحوها مما له دخل في تلك الماهيات ، حيث ان الجعل فيها مستلزم لتحقق وحدة تقع موضوعا للأمر ، فكل واحد من ذوات الأجزاء متصف بالجزئية بالقياس إلى الوحدة الاعتبارية الناشئة من قبل الجعل ، فلا حاجة إلى انتزاع عنوان الجزئية من الأمر المتعلق بالمتكثرات.

توضيح الاندفاع : أن معنى اختراع الماهيات هو تصورها ولحاظها بما هي مشتملة على مصلحة مهمة باعثة على الأمر ، ويكون كل واحد من تلك الأمور المتكثرة دخيلا في تحصلها ، وبهذه الملاحظة وان طرأ على الملحوظ وحدة ناشئة من قبل وحدة اللحاظ ، وبه يتصف كل واحد من الأجزاء بالجزئية للملحوظ ، لكنه ليس جزءا للمأمور به ، بل هو جزء للملحوظ وجزء محصِّل المصلحة. وأما الجزئية للمأمور به فتتوقف على الأمر المتعلق بالكل ، ومن المعلوم عدم كفاية مجرد اللحاظ في صحة اعتبار الجزئية ونحوها للمتكثرات بعنوان كونها أجزاء المأمور به ، بل لا بد من تعلق الأمر بالماهية حتى يتصف كل واحد من أجزائها بالجزئية للمكلف به ، فلو قال ألف مرة : «جعلت الشيء الفلاني جزءا» لم يصر جزءا للمأمور به ما لم يؤخذ في متعلق الأمر ، وبمجرد أخذه فيه يصح انتزاع الجزئية له ، ولا ترتفع إلّا برفع الأمر بالكل بنسخ الحكم الشرعي.

فالمتحصل : أن الجزئية للمأمور به وكذا الشرطية والمانعية والقاطعية له منتزعة عن الأمر المتعلق بعدة أمور متشتتة يجمعها غرض واحد ، مقيدة بأمر وجودي كالطهارة في الصلاة ، أو عدمي كعدم لبس الحرير وما لا يؤكل فيها.

وعليه فالقسم الثاني من الأحكام الوضعيّة لا يكون إلّا مجعولا بتبع الحكم التكليفي ، ولا جعل لها بالاستقلال ، لأن جزئية السورة مثلا لا تنتزع إلّا عن الأمر المتعلق بجملة أمور ، فبدون هذا الأمر لا تنتزع جزئيتها للمأمور به وان قال الشارع : «جعلت السورة جزءا للصلاة» لما عرفت من توقف جزئية شيء للمأمور به

٢٧١

كالجزئية (١) والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء (٢) المكلف به وشرطه (٣) ومانعة (٤) وقاطعه (٥) ، حيث (٦) ان اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أمور (٧) مقيدة بأمر وجودي (٨)

______________________________________________________

على تعلق الأمر بعدة أمور.

(١) ليس المراد بها الجزئية للمصلحة بمعنى الدخل في الغرض ، ولا الجزئية في مقام اللحاظ المتقدم على الإنشاء ، بل المراد الجزئية التي ينتزعها العقل بعد اعتبار المولى وجعله بالأمر بمركّب ، وكذا الكلام في أخواتها.

(٢) كالسورة في الصلاة.

(٣) كالستر والطهارة والاستقبال في مثل قوله : «صل متسترا ومتطهرا ومستقبلا» فان تقيد الصلاة بهذه الأمور لأجل دخلها إمّا في تمامية فاعلية الفاعل بصيرورة الصلاة ناهية عن الفحشاء ، وإما في قابلية القابل وهي نفس المكلف المنزجرة بها عن المنكر.

(٤) كما إذا قال : «صلّ غير لابس للحرير وما لا يؤكل» والفرق بينه وبين القاطع هو : أن الشيء الّذي يتقيد الصلاة بعدمه ان كان المطلوب منه عدم اقتران خصوص الأجزاء به فهو مانع ، وان كان مبطليته لأجل هدم الهيئة الاتصالية المعتبرة في الصلاة كان قاطعا وان وقع في الأعدام المتخللة بين الأجزاء.

(٥) كما إذا قال : «صلّ غير مستدبر القبلة».

(٦) تعليل لقوله : «وأما النحو الثاني فهو ...» وقد عرفت توضيحه ، والأولى أن يقال : «بجزئيته للمأمور به أو شرطيته أو غيرهما له».

(٧) أي : الأمور الدخيلة في المركب قيدا وتقيدا وهي الأجزاء ، كالصلاة التي تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم ، فينتزع الجزئية لكل واحد من ذوات الأجزاء.

(٨) المراد به خصوص الشرط ، لدخول الجزء في قوله : «بجملة أمور».

٢٧٢

أو عدمي (١) ، ولا يكاد يتصف شيء بذلك ـ أي كونه جزءا أو شرطا (٢) للمأمور به ـ إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما (٣) يشتمل عليه مقيدا بأمر (٤) أخر ، وما لم يتعلق بها (٥) الأمر كذلك لما كاد اتصف (٦) بالجزئية (٧) أو الشرطية

______________________________________________________

(١) المراد به المانع والقاطع ، فأخذ عدم كل واحد منهما منشأ لانتزاع المانعية والقاطعية.

(٢) أو مانعا أو قاطعا ، وان أمكن شمول الشرط ـ بمعنى أوسع ـ للمانع والقاطع ، بأن يراد بالشرط مطلق ما لخصوصيته دخل في المشروط وجوديا كان أو عدميا.

(٣) متعلق بالأمر ، وضمير «عليه» راجع إلى «شيء» والضمير الفاعل المستتر في «يشتمل» راجع إلى الأمر ، و «مقيدا» حال من فاعل «يشتمل» وغرضه أن منشأ انتزاع الجزئية وأخواتها هو تعلق الأمر بشيء كالركوع والسجود والسورة مقيدا بكونها عن طهارة وبعدم الاستدبار وبعدم وقوعها في شعر ما لا يؤكل ووبره ، فينتزع الجزئية للركوع والشرطية للطهارة والقاطعية للاستدبار والمانعية للبس ما لا يؤكل من الأمر بالصلاة المشتملة على الركوع ونحوه مع تقيدهما بالطهارة.

(٤) أي : بشيء آخر كالطهارة ، وليس المراد منه الطلب.

(٥) أي : إذا لم يتعلق الأمر بجملة من الأمور مقيدا بأمر آخر وجودي أو عدمي لم ينتزع الجزئية والشرطية وغيرهما ، فقوله : «كذلك» أي مقيدا.

(٦) الأولى : «يتصف» لكونه خبرا لفعل المقاربة ، أو حذف «كاد».

(٧) الأولى حذفها ، لأن عنوان الجزئية ينتزعها العقل من نفس الأمر بجملة أمور سواء قيدت بشرط وجودي أو عدمي أم لا ، فان جزئية الركوع للصلاة تنتزع من نفس الأمر بماهية أولها التكبير وآخرها التسليم. وإنما المنوط بلحاظ الأمر مقيدا بشيء آخر هو الشرطية والمانعية والقاطعية. وأوامر الأجزاء وان كانت ارتباطية ، لتقيد وجوب السورة بوقوعها بعد التكبير وقبل الركوع ، فكل منها

٢٧٣

وان أنشأ الشارع له (١) الجزئية أو الشرطية. وجعل (٢) الماهية وأجزائها ليس إلّا تصور [تصوير] ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها ، فتصورها [فتصويرها] بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطيته [شرطه] قبل الأمر بها (٣) ، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه (٤) بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها (٥)

______________________________________________________

ملحوظ بشرط شيء ، لكن هذه المتكثرات قد عرض عليها الوحدة بتعلق أمر واحد نفسي بالمركب منها ، ولا يتوقف انتزاع الجزئية على تقيد ذلك الأمر بالمركّب بشيء آخر ، وإنما يتوقف انتزاع الشرطية على التقيد بأن يقال : «صلِّ متطهرا».

(١) أي : لذلك الشيء ، وحاصله : أن إنشاء الجزئية ونحوها بالاستقلال لا يجدي في اتصاف شيء بالجزئية ونحوها ما لم يتعلق أمر بجملة أمور قائمة بمصلحة واحدة كالنهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الأمر بماهية الصلاة ، لما عرفت من كون اتصاف مركب بعنوان المأمور به متقوماً بتعلق الأمر والطلب به ، فما لم يتعلق أمر بمركّب لا يتصف أجزاؤه بكونها أجزاء المأمور به وان اتصفت بكونها أجزاء المركب والماهية وذي المصلحة كما لا يخفى.

(٢) متبدأ خبره «ليس إلّا» وهذا إشارة إلى التوهم المزبور أعني كفاية مجعولية الماهيات المخترعة للشارع في صحة انتزاع الجزئية لأجزائها ، وقد عرفت نفس التوهم ودفعه بقولنا : «ومن هنا يطهر اندفاع توهم كفاية اختراع الماهيات ... إلخ».

(٣) الضمائر المؤنثة من «بها» إلى هنا راجعة إلى الماهية ، و «قبل الأمر» ظرف لـ «اتصاف».

(٤) هذا الضمير وضميرا «له ، لجزئه» راجعة إلى المأمور به.

(٥) أي : بلا حاجة إلى جعل الجزئية والشرطية لذلك الشيء جعلا مستقلا ، فان منشأ الانتزاع تعلق الأمر بالكل الموجب لاتصاف جزئه وشرطه بالجزئية

٢٧٤

له ، وبدون الأمر به (١) لا اتصاف بها أصلا وان اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة (٢) كما لا يخفى (*).

______________________________________________________

والشرطية ، وضمير «جعلها» راجع إلى الجزئية والشرطية ، فالأولى تأنيثه ، إلّا أن يرجع إلى كل من الجزئية أو الشرطية.

(١) يعني : وبدون الأمر بالمأمور به لا اتصاف بالجزئية لأجزائه أصلا.

(٢) وهو خارج عن محل البحث ، لما عرفت من أن منشأ انتزاع جزئية السورة مثلا للصلاة ليس دخلها في الوفاء بالغرض ولا في كونها بعض الملحوظ ، وإنما هو اتصاف الكل بالمطلوبية الناشئة من تعلق الطلب به المنبسط على كل جزء منه.

فتحصل مما ذكره المصنف في القسم الثاني : أن الشيء الّذي له دخل في متعلق الأمر لا ينتزع عنوان الجزئية ونحوها له إلّا بعد تعلق الأمر بجملة أمور مؤثرة في غرض واحد وملاك فارد ، فهذا القسم الثاني من الأحكام الوضعيّة ليس مجعولا بالاستقلال بل بالتبع والعرض ، لكونها منتزعة عن التكليف ، فافترقت عن القسم الأول غير القابل للجعل أصلا والأجنبي عن الحكم الوضعي قطعا ، وعن القسم الثالث الآتي بيانه ، لأنه مما يصح تطرق كل من الجعل الاستقلالي والعرضي إليه.

__________________

(*) فرّق شيخنا المحقق العراقي (قده) بين الجزئية والشرطية بانتزاع الأولى من التكليف دون الثانية ، وذلك لأن الجزئية الحقيقية منتزعة من الوحدة الاعتبارية الطارئة على المتكثرات الناشئة من تعلق تكليف واحد بها ، فالتكليف بالنسبة إليها محقِّق حقيقة المضاف وهي الجزئية وإضافتها إلى الواجب بحيث لولاه لا يكون منشأ لاعتبار أصل الجزئية للواجب ، بل للملحوظ أو غيره. وهذا بخلاف الشرطية والمانعية ، فانهما أمران واقعيان منتزعان من الإضافة والربط الخاصّ بين الشيء وذات الواجب في المرتبة السابقة على تعلق التكليف ، بحيث كان الوجوب قائما بالربط المزبور كقيامه بذات العمل ، فهما كعنوان المقدمية للواجب ، فان ما هو طرف إضافة المقدمية ، وما يصدق عليه بالحمل الشائع أنه مقدمة يكون في رتبة

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

سابقة على تعلق الوجوب ، ولذا يسري إليها الوجوب من ذي المقدمة بمجرد تعلقه به. نعم صدق عنوان «مقدمة الواجب» منوط بتعلق الخطاب بذي المقدمة ومتأخر عنه ، لكن طرف هذه الإضافة وما هو بالحمل الشائع شرط أو مقدمة ليس متوقفا على تعلق الخطاب المقيد بذلك الشيء ، لوضوح أن الشيء قد يكون قيدا لآخر وطرفا لإضافته ولو لم يكن في العالم حكم كالرقبة المؤمنة وزيد العالم.

وعليه ففرق بين الجزئية للواجب والشرطية والمانعية له ، إذ لا واقع للجزئية قبل الأمر بالمركب ، فانتزاعها منوط بتعلق الوجوب بعدة أمور. وأما الشرطية للواجب فتنتزع عن الخصوصية التكوينية القائمة بذات الشرط ، وليست حكما وضعيا تابعا للتكليف (١).

لكن لم يظهر مرامه رفع مقامه في الفرق بين الجزئية وبين الشرطية والمانعية ، حيث ان مناط الاتصاف في جميعها هو الدخل التكويني في الغرض المترتب على المتكثرات ، إذ لا يتصف شيء بالجزئية والشرطية والمانعية إلّا بهذا الدخل ، ومن المعلوم أجنبية الطلب المتعلق بهذه المتكثرات عن الاتصاف بالجزئية الحقيقية ، وكذا الشرطية والمانعية ، لما مر من أن مناط هذا الاتصاف الحقيقي هو الدخل التكويني في الملاك ، دون الأمر الوجداني المتعلق بالمتكثرات.

نعم اتصافها بالجزئية وغيرها لذي المصلحة بوصف كونه مأمورا به يتوقف على تعلق الأمر الواحد بتلك المتكثرات ، فالركوع جزء حقيقي للصلاة ، لدخله تكوينا في مصلحتها ، وجزء انتزاعي لها بعد تعلق الأمر بالصلاة ، فقبل الأمر يكون الركوع جزءا حقيقيا لذي المصلحة ، وبعده يصير جزءا انتزاعيا أيضا للمأمور به. وكذا الحال في الشرط والمانع ، فان دخلهما تكوينا في الغرض أوجب اتصافهما بالشرطية والمانعية ، فالإضافة والربط الخاصّ بين الجزء والشرط والمانع وذات الواجب في الرتبة السابقة على تعلق الوجوب الشرعي ثابتة ، كعنوان المقدمة ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٩١

٢٧٦

وأما النحو الثالث (١) فهو

______________________________________________________

(١) وهو ما يكون قابلا للجعل أصالة بإنشائه مستقلا وتبعا للتكليف وان كان الصحيح كونه مجعولا بالاستقلال كما سيأتي. وضابط هذا القسم كل أمر اعتباري له أثر شرعا وعرفا كالحجية والقضاوة والولاية والإمامة والخلافة والضمان وغيرها ، فان هذا النحو من الأحكام الوضعيّة يحتمل فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون منتزعا عن الحكم التكليفي ، لإمكان انتزاعه عن الأحكام الشرعية التي تكون في مواردها ، فيقال : الزوجية مثلا منتزعة عن جواز المباشرة والنّظر واللمس ونحوها ، وإليه ذهب شيخنا الأعظم (قده) حيث أنكر جعل هذه الأمور الاعتبارية أصالة وادعى كونها منتزعة من التكليف ، قال في مجعولية الصحة والفساد في المعاملات وعدمها : «فان لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي كالبيع لإباحة التصرفات ، والنكاح لإباحة الاستمتاعات ، فالكلام فيهما يعرف مما سبق في السببية وأخواتها. وان لوحظت لأمر آخر كسببية البيع للملكية والنكاح للزوجية والعتق للحرية وسببية الغسل للطهارة ، فهذه الأمور بنفسها ليست أحكاما

__________________

فان المحمول بالحمل الشائع عليها هو عنوان المقدمة. نعم لا يحمل عليها مقدمة الواجب ، كما لا تتصف بالوجوب أيضا بناء على وجوبها إلّا بعد تعلق الوجوب بذيها.

فالمتحصل : أن الجزئية والشرطية والمانعية أمور واقعية غير متوقفة على تعلق الطلب بما يقوم به الغرض. نعم الاتصاف بالجزئية ونحوها للواجب منوط بتعلق الأمر به ، وهذا الاتصاف انتزاعي.

فقد ظهر أنه لا فرق بين الجزئية وغيرها في الحقيقية والانتزاعية ، وكلّها على وزان واحد.

ومما ذكرنا يظهر حال الرقبة المؤمنة وزيد العالم ، فان قيدية المؤمنة للرقبة والعالم لزيد ثابتة قبل تعلق الوجوب بعتق الرقبة المؤمنة وبإكرام زيد العالم ، وبعد تعلقه بهما يتصفان بقيديتهما لموضوع الواجب.

٢٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

شرعية ، نعم الحكم بثبوتها شرعي ، وحقائقها إما أمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية كما يقال : الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب والصلاة ، نقيض النجاسة. وإما أمور واقعية كشف عنها الشارع ، فأسبابها على الأول في الحقيقة أسباب للتكاليف ، فيصير سببية تلك الأسباب في العادة كمسبباتها أمورا انتزاعية ...».

وفي موضع آخر حكم بانتزاع ضمان الصبي لما أتلفه من خطاب تعليقي وان لم يكن مخاطبا حال صباه بوجوب الأداء ، وذلك الخطاب التعليقي هو : وجوب غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار. وأما الحجية فتنتزع من وجوب العمل بقول الثقة أو المفتي ، وليست مجعولة بالأصالة ، وهكذا.

ثانيهما : أن يكون مجعولا بالاستقلال ، يعني : جعل كل واحد من هذه الأمور الاعتبارية بالذات ، وجعل أحكامها المترتبة عليها تبعا ، فان هذا القسم من الوضعيات لمّا كان من الأمور الاختراعية التي يدور وجودها في وعاء الاعتبار مدار لحاظ معتبرها وجعله كان المهم في ترتب أحكامها عليها إنشاؤها سواء أكان بعقد أم إيقاع على اختلافها ، فتنتزع الملكية الواقعية من جعله تعالى شيئا ملكا لأحد كأمره جل وعلا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعطاء فدك لبضعته الطاهرة سيدة نساء العالمين عليها الصلاة والسلام ، ومن إجازة التصرف وإباحته بأنحائه في مال معين ، فان كل واحد من هذين النحوين منشأ لانتزاع الملكية.

واختار المصنف (قده) الوجه الثاني. وعليه فمدعاه مؤلف من عقدين إيجابي وهو كون هذا القسم الثالث مجعولا بالاستقلال كالأحكام التكليفية ، وسلبي وهو عدم كونه مجعولا بتبع الحكم التكليفي ومنتزعا منه. واستدل على العقد الإيجابي بوجه واحد وعلى السلبي بوجوه ثلاثة سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

فان قلت : اختيار الوجه الثاني ينافي ما أفاده في أول كلامه بقوله : «ما يمكن

٢٧٨

كالحجية (١) والقضاوة (٢) والولاية (٣)

______________________________________________________

فيه الجعل استقلالا بإنشائه وتبعا للتكليف» فان الجزم بخصوص الجعل الاستقلالي ينافي عدّ جملة من الأحكام الوضعيّة قسما ثالثا وهو ما يتطرق فيه نحوان من الجعل.

قلت : لا منافاة بين الكلامين ، فان قوله هناك : «وان كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ...» مما يدل على أن إمكان الانتزاع من التكليف مجرد احتمال لم يقم عليه دليل ، ومن المعلوم أن باب الاحتمال لا يسده قيام الدليل على الأصالة في الجعل. نعم كلامه هنا لا يخلو من تهافت مع مختاره في حاشية الرسائل حيث استقر رأيه على جواز كلا الجعلين ، فلاحظ.

(١) المراد بها ما يوجب انقطاع العذر عن العبد أو ما يصح احتجاجه به على المولى ، وذلك بجعل طريق له عند جهله بالواقع من خبر الثقة أو فتوى الفقيه ونحوهما. واختار الشيخ انتزاعها من نفس وجوب الجري على وفق الحجة ، وقد تقدم كلامه في أول بحث الأمارات ، واختار المصنف أنها مجعولة بالأصالة. ويمكن أن يكون الوجه فيه ما روي عن مولانا الإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه في الإرجاع إلى رواة الأحاديث بقوله : «فانهم حجتي عليكم» فان تعليله عليه‌السلام لوجوب الرجوع إليهم بكونهم حجة يدل على أن حجية قولهم ليست منتزعة من إيجاب الرجوع إليهم ، لعدم صحة جعل معلول الحكم علة له ، فيدور الأمر بين كون التعليل إنشاءً للحجية بعد ما لم تكن مجعولة قبل ، وهو بعيد ، لأن تعليل وجوب الرجوع بأمر متأخر الثبوت لا يستقيم ، وبين الاخبار عن جعلها سابقا قبل إيجاب الرجوع إليهم ، ولا يتحقق إلّا بجعلها سابقا مستقلا.

(٢) وهي منصب فصل الخصومة ، فتنتزع من جعل نفس المنصب بمثل قوله عليه الصلاة والسلام : «فارضوا به حكما ، فاني قد جعلته عليكم حاكما» وأخرى من التكليف بأن يقال : «يا فلان افصل نزاع المترافعين».

(٣) كجعل الولاية الإلهية المطلقة لمولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين ، وكالولاية المجعولة على الصغير للأب ، والجد ، وعلى غيره لغيرهما.

٢٧٩

والنيابة (١) والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك (٢) ، حيث إنها وان كان من الممكن (٣) انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها ـ كما قيل ـ ومن (٤) جعلها بإنشاء أنفسها ، إلّا (٥) أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى ، أو من بيده الأمر (٦)

______________________________________________________

(١) كجعل الوكالة لشخص ، فان الوكيل نائب عن الموكّل فيما وكّل فيه.

(٢) كالتسالم المنشأ بعقد الصلح ، والبينونة الحاصلة بالطلاق ، والضمان بالإتلاف وغيرها من الاعتباريات المنشأة بالعقود والإيقاعات ، وكالطهارة والنجاسة والصحة والفساد.

(٣) أي : من المحتمل وان كان هذا الاحتمال ضعيفا كما أشار إليه بقوله : «كما قيل» وفي هذا تعريض بما تقدم عن الشيخ الأعظم (قده) من انتزاع الوضع من التكليف حتى مثل ضمان الصبي لما أتلفه مع عدم مخاطبته بوجوب الأداء فعلا.

(٤) معطوف على «من الأحكام» وهذا إشارة إلى الاحتمال الثاني. وضمائر «أنها ، جعلها ، أنفسها ، انتزاعها» راجعة إلى المذكورات من الحجية وما تلاها.

(٥) هذا شروع في إثبات العقد الإيجابي ، ومحصله : عدم الإشكال في صحة انتزاع الملكية والزوجية والحرية ونحوها من مجرد جعله تعالى أو من جعل من بيده الاعتبار بإنشاء مفاهيمها من دون إناطتها بتكليف يصلح لانتزاعها منه ، بل توجد هذه الاعتبارات بصرف إنشائها ، كوجود الأحكام التكليفية بنفس إنشائها كإنشاء الملكية بالبيع أو الهبة وغيرهما من النواقل ، وكإنشائها بمثل «ما تركه الميت فلوارثه» لدلالة اللام على اعتبار الشارع مالكية الوارث لتركة مورثه ، وكإنشاء الزوجية بعقد النكاح ، وهكذا ، ومن المعلوم أن المنشأ بالعقد وغيره نفس المفاهيم بلا دخل للحكم التكليفي.

(٦) وهو النّفس المقدسة النبوية والولويّة صلوات الله وسلامه عليهما.

٢٨٠