منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لأنه مجعول بجعل نفس الإنسان الّذي هو مورد التعبد ، فان الإمكان لازم لماهيته وغير منفك عنها وإن كان غيره لا عينه ، بخلاف سابقه ، فان الفرد عين وجود الطبيعي بناء على مذهب أكثر المحققين من كونه كالآباء مع الأولاد.

ومنه يظهر حكم العناوين المشتقة من المبادئ العرضية من كون الاستصحاب الجاري في نفس الذوات المتصفة بتلك المبادئ لإثبات الآثار الشرعية التي موضوعاتها تلك المبادئ مثبتا ، فإذا شك في حياة زيد العادل لا يكفي استصحاب حياته في ترتيب آثار عدالته إلّا إذا كان معلوم العدالة على تقدير الحياة ، وإلّا كان اللازم إجراء الاستصحاب في نفس العدالة أيضا. وهذا من غير فوق بين كون المبدأ مما لا يكون له ما بحذاء في الخارج كالعلم والعدالة وغيرهما من الملكات ، أو يكون له ما يحاذيه في الخارج كالسواد والبياض ونحوهما ، فانه مع عدم فردية المستصحب وعينيته لموضوع الحكم وعدم كفاية ذات المستصحب في انتزاعه كما في الذاتي البرهاني يكون الاستصحاب مثبتا.

وأما الأمر الانتزاعي الّذي لا وجود إلّا لمنشإ انتزاعه ، فاستصحاب منشئه لا يكون مثبتا ، كاستصحاب عدم إذن المالك في تصرف الغير في ماله ، لأنه موضوع حرمة التصرف حقيقة دون ما ينتزع عنه من عنوان الغصب ، إلّا إذا فرض موضوعية نفس العنوان الانتزاعي للحكم في لسان الدليل ، فان جريان الاستصحاب في منشئه حينئذ لا يجدي في ترتب الحكم المترتب على العنوان الانتزاعي ، لأنه ليس مورد التعبد ، فترتبه عليه موقوف على مثبتية الأصل.

وإنكار مثبتيته بدعوى صغرويته لكبرى الأصل السببي الحاكم على المسببي بتقريب : أن منشأ انتزاع الغصب هو التصرف غير المأذون فيه ، وأصله حاكم على الأصل الجاري في الغصب ، وذلك الأصل كاف في ترتب الأثر الشرعي المترتب على الغصب (غير مسموع) لفقدان الترتب الشرعي الّذي هو شرط حكومة الأصل السببي على المسببي فيما نحن فيه ، ضرورة أن ترتب الأمر الانتزاعي

٥٦١

.................................................................................................

__________________

كالغصب ليس شرعيا حتى يكون الأصل الجاري في منشئه حاكما على أصله.

فتلخص مما ذكرنا : أنه لا وجه لحجية الأصل المثبت في شيء من الموارد أصلا. وثبوت الحكم بالاستصحاب فيما إذا كان المستصحب فردا للطبيعي الّذي هو موضوع الحكم ، أو كان موضوع الحكم من لوازم ذاته ومجعولا بجعله ، أو كان منشأ لأمر انتزاعي فيما لم يكن نفس ذلك الأمر الانتزاعي موضوعا للحكم أجنبي عن الأصل المثبت ، لما مر آنفا.

فما عن الشيخ الأعظم والمصنف (قدهما) من اعتباره مع خفاء الواسطة أو مع جلائها أيضا كما عليه المنصف ، استنادا في الأول إلى كون الأثر بالمسامحة العرفية أثرا لذي الواسطة ، وفي الثاني إلى عدم إمكان التفكيك في التعبد بين المستصحب ولازمه عرفا كامتناع التفكيك بينهما واقعا كالعلة والمعلول والمتضايفين على ما أفاده في حاشية الرسائل غير ظاهر. أما خفاء الواسطة التي هي موضوع الأثر الشرعي حقيقة فلأنه لا يوجب اعتبار المسامحة العرفية في مقام التطبيق ، ضرورة أن العرف مرجع في تعيين مفاهيم الألفاظ وظواهرها الناشئة من الأوضاع أو القرائن ، دون تطبيقاتها المبنية على المسامحة ، ولذا لا يعتد بتطبيقهم المفاهيم المعلومة بحدودها على ما ليس من مصاديقها حقيقة ، كإطلاق الكر الّذي هو ألف ومائتا رطل عراقي على ماء ينقص عن هذا المقدار بقليل. وكإطلاق النصاب في باب الزكاة وفي بعض ما يتعلق به الخمس مما له يقدر شرعا والمسافة المعتبرة في تقصير الصلاة وإفطار الصوم ، وعدة المرأة في الطلاق والفسخ وغير ذلك على الناقص منها بقليل ، فان هذه الإطلاقات العرفية لما كانت مبنية على المسامحة لا يعتد بها ، ولا يترتب عليها أحكام تلك المفاهيم ، لعدم كونها مصاديق حقيقية لتلك المفاهيم التي هي موضوعاتها.

وعليه فاستصحاب عدم الحاجب مع صب الماء على البدن يجدي في صحة الغسل إن كان موضوع صحته مركبا من الصّب وعدم الحاجب ، والأول محرز بالوجدان والثاني بالتعبد ، لأن المستصحب حينئذ جزء الموضوع ، ولا يكون

٥٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مثبتا أصلا. ولا يجدي إن كان موضوع صحته وصول الماء إلى البشرة وانغسالها به ، وذلك لأن الصحة التي يترتب عليها ارتفاع الحدث أو الخبث بالانغسال المزبور ، وليست من آثار عدم الحاجب حتى يجري فيه الاستصحاب ، فلا وجه للتعبد بعدم الحاجب الّذي لا يترتب عليه أثر شرعي ، بل يترتب على وصول الماء إلى البشرة الّذي هو لازم عادي لعدم الحاجب ، وجعله أثرا لعدم الحاجب مبني على المسامحة العرفية في مقام التطبيق ، وقد مر عدم اعتبارها.

وأما جلاء الواسطة بمعنى كون الملازمة بينها وبين ذيها بمثابة لا يمكن التفكيك بينهما تعبدا كعدم إمكانه واقعا ـ وقد ذكر له المصنف (قده) في الحاشية صورتين تقدم بيانهما في التوضيح ، إحداهما أن يكون مورد التعبد الاستصحابي العلة التامة ، فان استصحابها يوجب ترتب أثر المعلول ، وثانيتهما : أن يكون مورده أحد المتضايفين كاستصحاب أبوة زيد لعمرو ، فان التعبد بأبوته له يستلزم التعبد ببنوة عمرو له ، وترتيب آثارها من وجوب إطاعته لزيد ، وحرمة تزويج زوجته بعد خروجها عن زوجيتها لزيد بطلاق أو غيره ، وغير ذلك من الآثار الشرعية المترتبة على الولد بالنسبة إلى والده. فضابط جلاء الواسطة هو عدن إمكان التفكيك بين الواسطة وذيها واقعا وتنزيلا ، وكل ما كان كذلك يكون الأصل المثبت فيه معبّرا ـ فلما فيه من أن جلاء الواسطة بالمعنى المزبور خارج عن محل النزاع في الأصل المثبت ، لأن مورده كما تقدم سابقا هو ما يكون لازما للمستصحب بقاء ، وأما ما يكون لازما له حدوثا فهو بنفسه مورد للاستصحاب ، لاجتماع أركانه من اليقين والشك فيه ، وأجنبي عن الأصل المثبت ، فان اليقين بأبوة زيد لعمرو يستلزم اليقين ببنوة عمرو له ، فلو فرض شك في بقاء الأبوة لزيد فلا محالة تصير بنوة عمرو له أيضا مشكوكة ، فيجري فيها الاستصحاب كجريانه في أبوة زيد ، فليس هنا أصل مثبت.

نعم يتصور المثبتية فيما إذا جرى الاستصحاب في ذات أحد المتضايفين كزيد لإثبات ولد له ، بأن يقال : ان بقاء زيد إلى هذا الزمان يلزمه عادة تكوّن ولد منه ،

٥٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فان إثبات الولد له بهذا الاستصحاب من أوضح الأصول المثبتة ، ولا يظن من أحد التزامه باعتباره ، إذ لا ملازمة بين بقائه واقعا ووجود الولد له فضلا عن بقائه التعبدي.

وبالجملة : فالاستصحاب حينئذ مثبت بلا إشكال ، ولا مجال للقول بحجيته. وليس مراد المصنف من المتضايفين ذاتهما ، بل مراده عنوانهما ، ومن المعلوم أن المتضايفين متكافئان قوة وفعلا وعلما وظنا.

ومما ذكرنا في المتضايفين يظهر حال العلة التامة والمعلول ، ضرورة أن العلم بالعلة التامة لا ينفك عن العلم بمعلولها ، فمع الشك يجري الاستصحاب في كل منهما ، لاجتماع أركانه في كليهما من دون شبهة مثبتية الأصل فيها. وكذا الحال في لوازم الوجود ، كضوء الشمس ، فان نفس الضوء مما يجري فيه الاستصحاب ، لكونه بنفسه متيقنا ومشكوكا ، ويترتب عليه طهارة ما جفّفه من دون لزوم إشكال المثبتية. نعم إثبات الضوء باستصحاب بقاء القرص في قوس النهار يتوقف على الأصل المثبت. لكن قد عرفت جريان الاستصحاب في نفس الضوء.

وأما العلة الناقصة فلا ملازمة واقعا بينها وبين معلولها ، فكيف تمكن دعوى الملازمة عرفا بين التعبد بالعلة الناقصة والتعبد بالمعلول؟ والاستصحاب الجاري في الموضوعات المركبة كإثبات موضوع الضمان باستصحاب عدم إذن المالك في تصرف من استولى على ماله أجنبي عن الأصل المثبت كما لا يخفى.

ثم إنه قد ظهر مما ذكرنا : أن كثيرا من الفروع التي توهم ابتناؤها على الأصل المثبت ليست مبنية عليه ، إمّا لاندراج بعضها في الموضوع المركب كمسألة الضمان الّذي موضوعه الاستيلاء على مال الغير بدون إذنه ، فان الاستيلاء والاذن عرضان لجوهرين. وإما لكون بعضها مما يجري في نفسه الاستصحاب كضوء الشمس من اللوازم ، وبنوّة الابن ونحوها من الملازمات والمتضايفات ، فان ما لا ينفك عن المستصحب حدوثا من اللوازم والملازمات يكون بنفسه مجرى الاستصحاب ، ولا يرتبط ثبوته بالأصل المثبت ، لما مر من أن مورده هو ما يكون

٥٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لازما أو ملازما لبقاء المستصحب ، إذ لو كان كذلك لحدوثه لثبت باستصحاب نفسه لا باستصحاب ملزومه أو ملازمه حتى يعد من صغريات الأصل المثبت.

ونظير ضوء الشمس إسكار الخمر ، فإذا فرض أن الحرمة مترتبة على عنوان المسكر ، فإذا شك في بقاء خمرية مائع لا يكفي استصحابها في ترتب الحرمة المترتبة على المسكر وإن اتحد وجودا مع الخمر ، بل لا بد من إجرائه في نفس الإسكار ، لكونه من لوازم حدوث الخمر. نعم إذا كان موضوع الخمرية في ترتب الحرمة ، إذ المراد بالواسطة في الأصل المثبت هو الواسطة في العروض ، لأنها موضوع الحكم ، لا الواسطة في الثبوت ، وإن كانت الوسائط الثبوتية والجهات التعليلية هي الموضوعات الواقعية لدى العقل ، إلّا أن المراد بالموضوع هنا هو ما أخذ في الدليل الشرعي موضوعا للحكم ، فالملاكات خارجة عن حيّز الموضوعات وإنما هي دواع وعلل لتشريع الأحكام لها كما لا يخفى.

وإما لدعوى قيام السيرة على اعتبار الأصل المثبت في بعض الموارد ، كالشك في وجود الحاجب عن وصول الماء إلى البشرة. وإما لكون اعتبار الاستصحاب من باب الظن كما عليه قد ماء الأصحاب رضوان الله عليهم ، وإن كانت كلتا الدعويين محل النّظر والمنع.

إذ في الأولى : عدم ثبوت اعتبار هذه السيرة ، لعدم إحراز اتصالها بزمان المعصوم عليه‌السلام ، والشك في اعتبارها كاف في عدم اعتبارها.

وفي الثانية : ظهور الروايات المتقدمة المستدل بها على حجية الاستصحاب في كونه أصلا عمليا ، لأخذ الشك في موضوعه ، لا أمارة.

والحاصل : أنه يمكن توجيه كثير من الفروع التي فرّعوها على الأصل المثبت بما يمنع عن تفريعها عليه. وما يبتنى منها على الأصل المثبت لا يخلو إما أن يكون للبناء على كون الاستصحاب من الأمارات التي تكون مثبتاتها حجة كما عن القدماء ،

٥٦٥

وكذا (١) لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتب

______________________________________________________

(المورد الثاني : استصحاب الشرط لترتيب الشرطية عليه)

(١) هذا إشارة إلى المورد الثاني من الموارد الثلاثة التي توهم كون الأصل فيها مثبتا. أما التوهم فحاصله : أن استصحاب وجود شرط شيء ـ كالوضوء أو طهارة البدن أو الثوب ، أو استصحاب وجود ما لا يؤكل معه ، أو استصحاب عدمه ـ من الأصول المثبتة ، إذ لا أثر لها شرعا يترتب عليها ، والجزئية والشرطية والمانعية وعدمها من الأحكام الوضعيّة ، وهي عند أرباب التحقيق غير مجعولة. وجواز الدخول في الكل أو المشروط وعدم جواز الدخول حكمان عقليان مترتبان على وجود الجزء أو الشرط ووجود المانع ، وليسا من الأحكام الشرعية حتى يصح ترتبهما على استصحاب وجود الجزء وأخويه ، والمراد بالجزئية والشرطية والمانعية التي هي مورد التوهم وليست مجعولة بالاستقلال هي ما يرجع إلى المكلف به ، وأما التي ترجع إلى مبادئ التكليف فهي خارجة عن حريم البحث ، لاستحالة تعلق الجعل بها.

وعليه فلا وجه لجريان الاستصحاب في وجود جزء شيء أو شرطه أو مانعة وجودا وعدما ، إذ المترتب عليه ليس حكما شرعيا (*).

__________________

وإما أن يكون للبناء على حجية الأصل المثبت مع الالتزام بكون الاستصحاب من الأصول كما عن بعض المتأخرين. وضعف كلا هذين الوجهين ظاهر ، فلاحظ تلك الفروع وما ذكروه فيها من المباحث.

(*) لا يخفى أن سوق الكلام يقتضى أن يكون منشأ الإشكال في هذا المورد من الموارد الثلاثة مثبتية استصحاب مثل وجود الشرط للحكم الشرعي المترتب على لازم المستصحب. لكن ظاهر كلامه هنا وفي حاشية الرسائل أن منشأ الإشكال هو انتفاء الأثر أصلا ، قال فيها : «إذ يتخيل أنه لا أثر شرعا يترتب على وجود أحدهما ـ أي وجود الشرط وعدم المانع ـ أو عدمه» وهذا هو الصحيح ، لأن

٥٦٦

عليه (١) بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف وبعض أنحاء

______________________________________________________

وأما دفع التوهم فتوضيحه : أنه لا يعتبر في الاستصحاب مطلقا سواء أكان مجراه موضوعا أم حكما أن يكون الحكم الثابت به مجعولا شرعا بالاستقلال كالأحكام الخمسة التكليفية بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام ، بل يعتبر أن يكون الثابت به ما تناله يد التشريع من غير فرق بين وقوعه بنفسه تحت يد الجعل وبين وقوع منشأ انتزاعه تحتها كالجزئية للمأمور به ، وكذا الشرطية والمانعية له ، حيث إنها غير مجعولة بالاستقلال ، وإنما المجعول كذلك هو منشأ انتزاعها كوجوب الصلاة والأمر بالوضوء والنهي عن لبس ما لا يؤكل مثلا في الصلاة. وعليه فاستصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية ليس بمثبت.

(١) هذا في استصحاب الموضوع ، وما قبله في استصحاب الحكم ، وضمير

__________________

ضابط الأصل المثبت هو ترتب الأثر الشرعي على المستصحب بواسطة عقلية أو عادية كما تقدم في التنبيه السابق. وأما إذا لم يترتب على المستصحب أثر شرعي أصلا فلا وجه لجعله من الأصل المثبت ، إذ المحذور حينئذ لغوية التعبد الاستصحابي.

نعم قد يوجه مثبتية الأصل هنا بأن الأثر الشرعي مترتب على المشروط مثلا كالأمر بالصلاة إلى القبلة ، والمفروض ترتب هذا الأثر باستصحاب ذات الشرط كالاستقبال ، ويثبت الأمر بالمشروط حينئذ ، وقد توسط الأمر غير المجعول لإثبات المجعول ، ومن المعلوم أن إثبات أحد المتلازمين بإجراء الأصل في الآخر داخل في الأصل المثبت ، والمراد من أحد المتلازمين هو الأمر الانتزاعي الّذي يكون لازما لأمر شرعي ، وهو منشأ الانتزاع.

لكنه يندفع بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) أوّلا : من أنه لا اثنينية بين الأمر الانتزاعي ومنشئه وجودا بنظر المصنف حتى يتوهم الوساطة الموجبة لكون الأصل مثبتا. وثانيا : من أنه إذا كانت الشرطية متيقنة كان منشؤها ـ وهو الأمر بالمقيد ـ كذلك ، فلا حاجة إلى إجراء الأصل في الأمر الانتزاعي ، وإثبات منشئه المجعول ليتوهم الإثبات بالأصل (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٠٤

٥٦٧

الوضع (١) ، أو بمنشإ (٢) انتزاعه كبعض أنحائه كالجزئية والشرطية والمانعية (٣) ، فانه (٤)

______________________________________________________

«عليه» راجع إلى «المستصحب» وضميرا «بنفسه» والمستتر في «يكون» راجعان إلى «الأثر».

(١) أما الوضع فكالحجية والقضاوة والولاية والحرية والرقية وغيرها مما تقدم منه في الأحكام الوضعيّة. وأما التكليف فكالوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام التكليفية التي هي مستقلة في الجعل.

(٢) معطوف على «بنفسه» وضمير «انتزاعه» راجع إلى «الأثر» وضمير «أنحائه» إلى الوضع.

(٣) وهي القسم الثاني من الوضعيات كما تقدم في تقسيم الأمور الوضعيّة إلى أقسام ثلاثة ، وقد اتضح هناك أن الجزئية وتاليتيها ليست مجعولة بالاستقلال ، وإنما المجعول هو منشأ انتزاعها أعنى الأمر الضمني المتعلق بالجزء كالركوع مثلا ، والأمر المتعلق بالوضوء ، والنهي المتعلق بلبس الحرير وما لا يؤكل في الصلاة. لكن لا يخفى أنه بناء على تعلق التكليف بنفس الجزء أو الشرط أو المانع لا حاجة إلى إثبات الجزئية وغيرها حتى يستشكل في مثبتية الاستصحاب بالنسبة إليها ، ضرورة أن الجزء وأخويه تكون حينئذ من الموضوعات ذوات الأحكام كالعدالة التي يترتب على استصحابها حكمها من جواز الاقتداء وقبول الشهادة وغيرهما من دون لزوم إشكال مثبتية استصحابها أصلا. وعليه فيترتب على استصحاب وجود الجزء مثلا حكمه وهو وجوب إتمام المركب.

(٤) تعليل لقوله : «لا تفاوت» وضمير «فانه» راجع إلى «الأثر» وحاصله : أن وجه عدم التفاوت في الأثر الشرعي بين كونه مجعولا بنفسه أو بمنشإ انتزاعه هو اشتمال كل منهما على ما يعتبر في الاستصحاب من كون الأثر الثابت به مما تناله يد التشريع سواء أكان تناولها له بالاستقلال أم بمنشإ الانتزاع كما في الجزئية وأخويها.

٥٦٨

أيضا (١) مما تناله يد الجعل شرعا ، ويكون (٢) أمره بيد الشارع وضعا ورفعا ولو (٣) بوضع منشأ انتزاعه ورفعه. ولا وجه (٤) لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب (٥) مجعولا مستقلا (٦) كما لا يخفى ،

______________________________________________________

(١) أي : كالأثر المجعول بنفسه ، يعني : فان الأثر المجعول بمنشإ انتزاعه كالأثر المجعول بنفسه مما تناله يد الجعل شرعا.

(٢) معطوف على «تناله» يعني : ويكون أمر الأثر المجعول بمنشإ انتزاعه بيد الشارع.

(٣) هذا بين كيفية تناول يد الجعل للأثر المجعول بمنشإ انتزاعه ، وضمير «انتزاعه» راجع إلى «الأثر» وضمير «رفعه» راجع إلى «منشأ» والأولى إسقاط كلمة «ولو» لانحصار كيفية تناول يد التشريع لهذا الأثر بتناولها له ، لا أن لتناولها له فردين يكون أحدهما أخفى من الآخر.

(٤) إشارة إلى منشأ توهم مثبتية استصحاب الجزء وأخويه ، وحاصله : أنه يعتبر في الحكم الثابت بالاستصحاب أن يكون بنفسه مجعولا شرعا ، ولا يكفى مجعولية منشأ انتزاعه. وقد أشار المصنف إلى فساد هذا التوهم بقوله : «ولا وجه» وغرضه أنه لا دليل على اعتبار الاستقلال في الجعل في باب الاستصحاب ، فان غاية ما يعتبر فيه من حيث كونه أصلا عمليا أن يثبت به ما يصح إسناد إلى الشارع ولو تبعا ، فان الجزئية والشرطية والمانعية وان لم تكن مجعولة بالاستقلال لكنها مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها. والمصنف (قده) ذكر لدفع الإشكال في حاشية الرسائل هذا الوجه ووجها آخر سيأتي بيانه.

(٥) أي : نفس المستصحب. هذا في الاستصحاب الجاري في نفس الحكم ، والمراد بقوله : «المترتب» هو الحكم المترتب على المستصحب ، وهذا في الاستصحاب الجاري في الموضوع ذي الحكم.

(٦) فيكفي جعله التبعي كما عبّر به المصنف في الأحكام الوضعيّة ، وقد تقدم

٥٦٩

فليس (١) استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية بمثبت كما ربما توهم (٢) ، بتخيل أن الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية ، بل (٣)

______________________________________________________

هناك أن الصحيح التعبير بالجعل العرضي دون التبعي ، وإنما يتجه التعبير بالتبعي في قبال الجعل بالأصالة والاستقلال في القسم الثالث من الأحكام الوضعيّة ، إذ لها وجود في وعاء الاعتبار ، دون مثل الجزئية ، فلاحظ.

(١) هذه نتيجة عدم اعتبار الاستقلال في الجعل في صحة الاستصحاب ، وكفاية الجعل مطلقا ولو بجعل منشأ الانتزاع في صحته.

وعليه فاستصحاب الشرط كالطهارة أو المانع كالنجاسة الخبثية ـ لترتيب آثار الشرطية وهي جواز الدخول في الصلاة مثلا ، والمانعية وهي عدم جواز الدخول فيها ـ ليس بمثبت ، إذ المفروض كون الشرطية والمانعية مجعولتين شرعا بجعل منشأ انتزاعهما ، وعدم كونهما من اللوازم غير الشرعية حتى يكون استصحاب وجود الشرط والمانع لإثباتهما من الأصل المثبت.

(٢) لا يخفى أن الشيخ الأعظم (قده) ممن صرّح في غير موضع بأن الجزئية والشرطية والمانعية ليست مجعولة بجعل مستقل مغاير للحكم التكليفي المتعلق بالمركب كالصلاة ، قال عند نقل حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب : «وكذا الكلام في غير السبب ، فان شرطية الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة. وكذا مانعية النجاسة ليست إلّا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس. وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب» وقريب منه عباراته في الأقل والأكثر الارتباطيين وفي مسألة ترك الجزء سهوا.

(٣) يعني : بل تخيل أن هذه الأمور الانتزاعية ليست من الآثار الشرعية ، فلا تثبت بالاستصحاب إلّا بناء على الأصل المثبت. والفرق بين الآثار الشرعية والأمور الانتزاعية واضح ، إذ المجعول الشرعي موجود في وعاء الاعتبار ، بخلاف الأمر الانتزاعي ، فانه موجود تصوري محض ينعدم بمجرد الذهول عنه. هذا كله بالنسبة إلى الشرطية والمانعية للمكلف به. وأما شرط التكليف ومانعة إذا فرض

٥٧٠

من الأمور الانتزاعية ، فافهم (١).

______________________________________________________

الظفر بمقتضيه وشك فيهما ، ففي جريان الاستصحاب فيهما إشكال تعرض له ولجوابه في الحاشية (١) ، فراجع.

(١) لعله إشارة إلى : أنه بعد تسليم اعتبار مجعولية الأثر بنفسه وعدم كفاية كونه مجعولا بتبع منشأ انتزاعه نقول : بعدم مانع أيضا من جريان استصحاب الجزء والشرط والمانع ، ضرورة وأن الأثر الشرعي المترتب على استصحابها هو التكليف النفسيّ المنتزع عنه الجزئية والشرطية والمانعية ، قال (قده) في حاشية الرسائل : «وان أبيت إلّا عن عدم كفاية استصحاب الجزء والشرط لترتيب الجزئية والشرطية ، فالأثر الشرعي المترتب بالاستصحاب هو نفس التكليف المنتزع عنه الشرطية والمانعية ، وعدمه ، لأن للشرط والمانع دخلا وجودا وعدما فيه كذلك ، ولا يعتبر في مثل باب الاستصحاب أزيد من كون الشيء ذا دخل في موضوع الأثر الّذي أريد ترتيبه عليه باستصحابه وإن لم يكن تمامه ، بل كان قيده وبه قوامه» وهذا هو الوجه الثاني الّذي وعدنا نقله في دفع الإشكال.

أو إشارة إلى : أن مراد الشيخ من نفي مجعولية الجزئية ونحوها هو نفى استقلال الجعل عنها ، لا نفي أصل الجعل ولو تبعا لمنشإ انتزاعها ، فيتحد حينئذ مراد الشيخ والمصنف (قدهما). لكنه بعيد ، لأن كلام الشيخ في مسألة ترك الجزء سهوا يأبى عن هذا التوجيه ، حيث قال هناك : «ان جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعا ، بل هي ككلية الكل ، وإنما المجعول الشرعي وجوب الكل ضرورة أن كلية الكل منتزعة عن دخل اجتماع أمور في غرض كالمعاجين من دون دخل للحكم الشرعي في ذلك ، فتشبيه الجزئية بالكلية يدل على إنكار الجعل ولو بنحو التبعية للجزئية ونحوها.

مضافا إلى : أن الحصر المستفاد من النفي والإثبات عدم الجعل للجزئية أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢١٥

٥٧١

وكذا (١) لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر

______________________________________________________

(المورد الثالث : استصحاب البراءة من التكليف لنفي العقاب)

(١) معطوف على قوله : «وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب» وإشارة إلى المورد الثالث من الموارد التي توهم كون الأصل فيها مثبتا ، وتوضيحه منوط ببيان التوهم ثم دفعه. أما التوهم فهو ينحل إلى إشكالين :

أحدهما : عدم كون المستصحب حكما ولا موضوعا ذا حكم ، مع وضوح اعتبار كون المستصحب واحدا منهما ، والآخر كون الاستصحاب مثبتا.

توضيح ذلك : أن بعض الأصوليين استدل على البراءة باستصحابها ، والشيخ في مبحث أصل البراءة ناقش في هذا الاستدلال بأنه يتوقف على حجية الأصل المثبت ، حيث ان المستصحب أحد أمور ثلاثة : براءة الذّمّة أو عدم المنع عن الفعل أو عدم استحقاق العقاب عليه. والأثر المترتب على هذه المستصحبات أمران :

أحدهما : عدم ترتب العقاب على الفعل في الآخرة ، والآخر الاذن في الفعل. أما عدم ترتب العقاب عليه في الآخرة فليس من الأحكام المجعولة الشرعية لتلك المستصحبات حتى يثبت بالاستصحاب. وأما الاذن في الفعل فهو من المقارنات لتلك المستصحبات ، فذلك نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم.

فملخص هذه المناقشة : أن استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر لا يصح الاستدلال به على البراءة ، لكونه مثبتا ، إذ لا أثر له إلّا عدم ترتب العقاب أو الترخيص في الفعل ، وشيء منهما لا يثبت بالاستصحاب ، إذ الأول ليس أثرا شرعيا ، والثاني من المقارنات لتلك المستصحبات ، لأن عدم المنع ـ مع القطع بعدم خلوّ الواقعة عن أحد الأحكام الخمسة ـ يلازم الترخيص المستلزم لعدم العقوبة ، لا أن الترخيص من لوازمها الشرعية ، وعليه فإثبات الترخيص باستصحابها نظير إثبات أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم.

وبالجملة : فاستصحاب البراءة سواء أكان أثره عدم ترتب العقاب أم الترخيص

٥٧٢

ووجوده أو نفيه وعدمه (١) ،

______________________________________________________

في الفعل يكون مثبتا ، فلا مجال للاستدلال بالاستصحاب على البراءة.

والمصنف (قده) دفع الإشكال الأول بقوله : «لا تفاوت في المستصحب أو المترتب عليه ... إلخ» ومحصله : أن المستصحب في استصحاب البراءة وعدم المنع ليس أجنبيا عن حكم الشرع ، إذ كما أن ثبوت الحكم كالوجوب والحرمة بيد الشارع ، كذلك نفيه ، فان إبقاء العدم كنقضه بالوجود بيد الشارع وتحت قدرته ، وإلّا لخرجت الأحكام الشرعية عن كونها أفعالا اختيارية للشارع ، فكما يصح استصحاب وجود الحكم على تقدير الشك في بقائه ، فكذلك يصح استصحاب عدمه لو شك في انتقاضه بالوجود ، فلا فرق في المستصحب بين كونه وجود الحكم وعدمه ، فالإشكال على استصحاب البراءة من ناحية عدم كون المستصحب أثرا شرعيا ولا موضوعا لأثر شرعي مندفع.

والحاصل : أن نقطة الخلاف في هذه المسألة بين الشيخ والمصنف (قدهما) هي مجعولية عدم الحكم في أصالة البراءة وعدمها ، فصريح الشيخ في ثاني تنبيهات «لا ضرر» هو عدم مجعولية عدم التكليف ، وأن حكمه بعدم الوجوب أو عدم الحرمة ليس إنشاء منه وجعلا ، بل هو إخبار حقيقة ، كما أنه لا أثر مجعول له ، ومن المعلوم أن مورد الاستصحاب هو خصوص المجعول الشرعي أو موضوعه. والمصنف يدعي أن عدم الحكم كعدم الوجوب وعدم الحرمة ونحوهما وإن لم يصدق عليه الحكم ، لظهور الحكم في الإنشائي والوجوديّ ، إلّا أن هذا العدم مجعول أيضا. وهذا المعنى وإن لم يصرّح به هنا ، ولكنه صرّح به في التنبيه العاشر بقوله : «فانه وان لم يكن لحكم مجعول في الأزل ولا ذا حكم ، إلّا أنه حكم مجعول فيا لا يزال» وكذا في حاشية الرسائل في بحث البراءة. وحيث كان عدم الحكم مجعولا صح جريان الاستصحاب فيه الموجب لترتب الأثر عليه وهو عدم استحقاق العقوبة على المخالفة.

(١) هذا الضمير وضمائر «وجوده ، نفيه ، عدمه» راجعة إلى «الأثر».

٥٧٣

ضرورة (١) أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته. وعدم (٢) إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر ، إذ ليس (٣) هناك ما دل على اعتباره بعد (٤) صدق نقض اليقين بالشك برفع (٥) اليد عنه كصدقه (٦) برفعها من طرف ثبوته كما هو واضح ، فلا وجه (٧) للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب (٨) البراءة من التكليف وعدم المنع عن الفعل

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم التفاوت بين ثبوت الأثر ونفيه ، وحاصله : أن ملاك شرعية الحكم هو كون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع وإن لم يطلق عليه الحكم ، إذ لا دليل على اعتبار إطلاق الحكم عليه في جريان الاستصحاب ، بل المعتبر في جريانه في كل مورد هو صدق نقض اليقين بالشك.

(٢) هذا إشارة إلى الإشكال الأول وهو عدم كون المستصحب حكما ، وضمائر «نفيه ، كثبوته ، عدمه» راجعة إلى الأثر.

(٣) تعليل لقوله : «غير ضائر» وقد مر تقريبه بقولنا : «إذ لا دليل على اعتبار إطلاق الحكم عليه ... إلخ» وضمير «اعتباره» راجع إلى الطلاق.

(٤) غرضه أن المعتبر في جريان الاستصحاب صدق نقض اليقين بالشك ، وهو حاصل هنا سواء أطلق الحكم على المستصحب أم لم يطلق.

(٥) متعلق بـ «صدق» وضمير «عنه» راجع إلى «عدمه».

(٦) يعني : كصدق نقض اليقين بالشك برفع اليد من طرف ثبوت الأثر ، وغرضه أن دليل الاستصحاب يشمل كلّا من الأثر الوجوديّ والعدمي على نهج واحد.

(٧) هذا إشارة إلى دفع الإشكال المذكور ، وهو عدم كون عدم استحقاق العقاب من الآثار الشرعية حتى يترتب على استصحاب البراءة من التكليف وعدم المنع عن الفعل.

(٨) متعلق بـ «الاستدلال» وقوله : «عدم المنع» معطوف على «البراءة من التكليف».

٥٧٤

بما (١) في الرسالة من (٢) «أن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم (*) المجعولة الشرعية» فان (٣) عدم استحقاق العقوبة وإن كان غير

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «للإشكال» والمراد بالرسالة هو رسالة البراءة من رسائل شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) قال بعد الفراغ من الدليل الرابع وهو الدليل العقلي الّذي أقيم على البراءة : «وقد يستدل على البراءة بوجوه غير ناهضة ، منها : استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر والجنون. وفيه : أن الاستدلال به مبني على اعتبار الاستصحاب من باب الظن ... إلى أن قال : وأما لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك فلا ينفع في المقام ، لأن الثابت بها ـ أي بالأخبار ـ ترتب اللوازم المجعولة الشرعية على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلّا براءة الذّمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه ، والمطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل ، أو ما يستلزم ذلك ، إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه حتى يحصل الأمن من العقاب ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة والسابقة ، ومن المعلوم أن المطلوب المذكور لا يترتب على المستصحبات المذكورة ، لأن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية حتى يحكم به الشارع في الظاهر».

(٢) بيان لـ «ما» الموصول ، وحاصل الإشكال الّذي تقدم توضيحه هو : أن عدم استحقاق العقاب ليس من الأحكام الشرعية حتى يستصحب بنفسه أو يترتب على المستصحب كالبراءة من التكليف.

(٣) تعليل لقوله : «فلا وجه للإشكال» ومحصله : أن عدم استحقاق العقوبة ،

__________________

(*) لا يخفى أن جهة إشكال الشيخ في جريان استصحاب البراءة عن التكليف وعدم المنع ليست هي عدم كون المنع مجعولا شرعيا حتى يرد عليه : أن عدم التكليف كثبوته مجعول بمعنى أنه مما تناله يد التشريع ، كيف؟ وقد التزم شيخنا الأعظم (قده) بجريان الاستصحاب في الوجوديّ والعدمي ، وردّ القول الثالث

٥٧٥

مجعول ، إلّا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع.

______________________________________________________

وإن لم يكن مجعولا ، إلّا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع ، لما عرفت من أن نفس عدم المنع مما تناله يد التشريع ، إذ كما أن وجود المنع بيده كذلك عدمه ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك في الاستصحاب وإن لم يطلق عليه الحكم كما مر آنفا ، وضمير «انه» للشأن.

__________________

الّذي استظهره التفتازاني من كلا العضدي من «أن خلاف منكري الاستصحاب إنما هو في الإثبات دون النفي». وكذا مقتضى كلامه في خامس تنبيهات الشبهة الحكمية التحريمية من مبحث البراءة مجعولية عدم الحرمة ، حيث أجاب عن إشكال حصر المحللات بما لفظه : «أن التحريم محمول في القرآن على الخبائث والفواحش ، فإذا شك فيه فالأصل عدم التحريم ، ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة» لاقتضاء التعارض جريان الأصل في نفسه ، ومن المعلوم إناطة جريانه بمجعولية عدم المنع ، فلاحظ.

بل جهة الإشكال هي : أن عدم استحقاق العقاب ليس مترتبا على عدم المشكوك واقعا ـ وهو التكليف ـ حتى يحرز بالاستصحاب ، بل هو مترتب على نفس الشك المفروض إحرازه وجدانا ، وهو مورد قاعدة قبح العقاب بإلا بيان. ويدل عليه قوله : «إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب ... إلخ» كما أن الشك في بقاء التكليف بعد العلم بحدوثه ليس موردا للاستصحاب ، بل يكون مجرى قاعدة الاشتغال ، حيث ان نفس الشك في فراغ الذّمّة عن التكليف بعد القطع باشتغالها وبه تمام الموضوع لحكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ من دون حاجة إلى استصحاب بقاء التكليف ، إلّا إذا احتيج إليه لجهة أخرى كلزوم قصد الوجه وغيره.

والحاصل : أن إشكال الشيخ على الاستدلال باستصحاب البراءة هو : أن الأثر المطلوب وهو عدم العقاب لا يترتب على عدم المنع واقعا حتى يستصحب ، بل يترتب على نفس الشك في المنع ، وهو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وعليه

٥٧٦

وترتب (١) عدم الاستحقاق ـ مع كونه عقليا ـ على استصحابه (٢) إنما (٣)

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني وهو توهم مثبتية الاستصحاب ، ومحصله : أن عدم المنع الّذي هو المستصحب وإن كان مجعولا ، وقلنا انه لا يرد عليه عدم كون المستصحب أثرا شرعيا ، لكنه لا يدفع إشكال المثبتية ، وذلك لأن الأثر المقصود من استصحاب عدم المنع هو الأمن من العقوبة ، ومن البديهي أن هذا الأثر عقلي لا شرعي ، فاستصحاب عدم المنع لإثباته مثبت ، هذا تقريب التوهم.

(٢) أي : على استصحاب عدم المنع ، وضمير «كونه» راجع إلى عدم الاستحقاق.

(٣) هذا دفع التوهم المزبور وهو مثبتية استصحاب عدم المنع ، وتوضيحه : أن الحكم بعدم استحقاق العقوبة وإن كان عقليا ، لكنه لمّا كان من الأحكام العقلية المترتبة على الحكم مطلقا سواء أكان واقعيا أم ظاهريا كوجوب الموافقة وحرمة المخالفة المترتبين على الحكم بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري لم يكن ترتبه على استصحاب عدم المنع ضائرا ، حيث ان عدم استحقاق العقوبة من لوازم عدم المنع مطلقا ولو ظاهريا كالمقام ، إذ الثابت بالاستصحاب عدم المنع ظاهرا.

نعم لو كان عدم استحقاق العقاب من لوازم عدم المنع الواقعي كان استصحاب عدم المنع قاصرا عن إثباته.

وبالجملة : فتوهم مثبتية استصحاب عدم المنع لعدم العقاب مندفع ، فالاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر صحيح ، ولا يرد عليه إشكال

__________________

فلا مجال لقول المصنف (قده) : «إنما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر» إذ على ما أفاده الشيخ يكون عدم العقاب من آثار نفس الشك في المنع ، لا من آثار عدم المنع حتى يقال : انه أعم من العدم الواقعي والظاهري كي يترتب على عدم المنع الظاهري الثابت بالاستصحاب من دون لزوم إشكال المثبتية. وإلّا فلو ثبتت الإباحة الشرعية باستصحاب عدم التكليف ترتب عليه عدم استحقاق العقاب كما حكي صراحة كلامه فيه.

٥٧٧

هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر ، فتأمل (١).

______________________________________________________

المثبتية. وضمير «هو» راجع إلى «ترتب» وضمير «لكونه» إلى «عدم الاستحقاق».

(١) لعله إشارة إلى ما ذكرناه في التعليقة. أو إلى : أن البراءة المتيقنة حال الصغر عقلية ، والاستصحاب بناء على كونه حجة من باب التعبد حكم شرعي ، فلا يجري فيما ليس له أثر شرعي. أو إلى : أن عدم استحقاق العقوبة من آثار الترخيص والاذن ، لا من آثار عدم المنع كما هو مسلّم عند العرف ، ضرورة أن مجرد عدم منع المالك عن التصرف في ماله لا يمنع عن استحقاق المؤاخذة ، وإنما المانع عنه هو إذنه في التصرف ، وإثبات الترخيص باستصحاب البراءة وعدم المنع مبنى على الأصل المثبت.

٥٧٨

التاسع (١) أنه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الأثر

______________________________________________________

(التنبيه التاسع : ترتب بعض الآثار العقلية والعادية على الأصل)

(١) هذا الأمر كسابقه مما يتعلق بالأصل المثبت ، فلا ينبغي جعله من تنبيهات الاستصحاب. وكيف كان فالغرض من عقده تمييز اللازم العقلي أو العادي ـ الّذي يترتب على استصحاب الحكم من دون أن يكون الاستصحاب مثبتا ـ عن اللازم غير الشرعي الّذي يكون ترتبه على الاستصحاب مبنيا على الأصل المثبت. وبهذا التمييز يندفع إشكال أورد على عدم حجية الأصل المثبت. وحاصل الإشكال : أن عدم حجيته مستلزم لعدم اعتبار الاستصحاب مطلقا موضوعيا كان أم حكميا ، لعدم انفكاك استصحاب عن أثر عقلي ، كنفي الأضداد في استصحاب الحكم كالوجوب الموجب لحرمة الضد ووجوب المقدمة ، وكوجوب الإطاعة في استصحاب الموضوع ، حيث إنها مترتبة على الحكم الشرعي بوساطة الموضوع ، نظير استصحاب الحياة المترتب عليها وجوب الإنفاق على الزوجة ، ثم لزوم إطاعة هذا الوجوب عقلا.

وتوضيح ما أفاده في دفع الإشكال هو : أن اللازم العقلي أو العادي على قسمين :

أحدهما : أن يكون لازما للحكم المستصحب بوجوده الواقعي كالأجزاء ، فان إجزاء الصلاة مع استصحاب الطهارة الحدثية حكم عقلي مترتب على الطهارة الواقعية ، لا الأعم منها ومن الطهارة الظاهرية.

ثانيهما : أن يكون لازما له بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري كحسن الإطاعة وقبح المعصية ووجوب المقدمة بناء على كونه عقليا. واللازم الّذي لا يثبت نفسه ولا أثره الشرعي بالاستصحاب إلّا بناء على الأصل المثبت هو القسم الأول دون الثاني ، فانه يثبت باستصحاب الحكم من دون إشكال المثبتية.

والوجه في عدم المثبتية في هذا القسم الثاني هو : وضوح تبعية كل حكم لموضوعه وعدم تخلفه عنه ، لكونه بمنزلة العلة للحكم ، والمفروض في المقام

٥٧٩

غير الشرعي (١) ولا الشرعي (٢) بوساطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب (٣)

______________________________________________________

أن المستصحب بمطلق وجوده ولو ظاهرا موضوع لذلك اللازم ، فبمجرد الاستصحاب يثبت وجود المستصحب ظاهرا ، وهو الموضوع لذلك اللازم ، فيترتب عليه من دون حاجة إلى تعبد وتنزيل آخر يخصه ، لعدم قابليته للتعبد الشرعي ، بل بنفس التعبد بالملزوم ـ لكونه سببا لوجوده ولو ظاهرا ـ يترتب عليه لازمه قهرا من باب ترتب الحكم على موضوعه ، ولو كان للّازم حكم شرعي ترتب عليه أيضا لتحقق موضوعه.

وهذا بخلاف القسم الأول ، فانه لا موجب لترتبه على المستصحب لا من جهة ترتب الحكم على موضوعه ولا من جهة سراية التعبد من المستصحب إلى لازمه. أما الأول فلعدم تحققه ، إذ الثابت بالاستصحاب هو الوجود الظاهري ، والمفروض أنه ليس بموضوع. وأما الثاني فلما مر سابقا من أن المستفاد من أخبار الاستصحاب تنزيل المستصحب وحده بلحاظ أثره الشرعي دون العقلي والعادي. وعليه فلا وجه لترتيب اللازم غير الشرعي ولا حكم هذا اللازم على المستصحب إلّا بناء على القول بالأصل المثبت.

(١) وهو العقلي أو العادي. ولا يخفى أن حديث الأصل المثبت لا يجري في هذا الفرض ، لأن الأصل المثبت هو الأصل الجاري في الملزوم لإثبات الأثر الشرعي المترتب على لازمه. وهذا بخلاف إثبات نفس اللازم العقلي والعادي ، فانه حيث لا يكون واسطة بين المستصحب ولازمه العقلي والعادي فلا ينطبق عليه ضابط الأصل المثبت. وإنما الوجه في عدم ترتب لازمه أن التعبد الاستصحابي يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المستصحب ، لا مطلق أثره ولو كان عقليا أو عاديا.

(٢) يعني ولا الأثر الشرعي الثابت بوساطة غير الأثر الشرعي وهو اللازم العقلي أو العادي.

(٣) متعلق بـ «ترتب» أي : باستصحاب الملزوم سواء أكان المستصحب موضوعا

٥٨٠