منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

وفيه : أن قضية عدم اعتباره ـ لإلغائه (١) أو لعدم (٢) الدليل على اعتباره ـ لا يكاد (٣) يكون إلّا عدم إثبات مظنونه (*) به تعبدا ليترتب

______________________________________________________

متعلقا اليقين والشك ، فتدبر.

(١) كما في الصورة الأولى وهي قيام الدليل الخاصّ على عدم اعتبار الظن كالقياس ، وضميرا «اعتباره ، لإلغائه» راجعان إلى الظن.

(٢) معطوف على «لإلغائه» وهو الصورة الثانية أعني عدم اعتبار الظن لأجل عدم الدليل على اعتباره ، فاللام في «لإلغائه» و «لعدم» تعليل لعدم اعتبار الظن.

(٣) خبر «أن قضية» يعني : لا يكاد يكون مقتضى عدم اعتبار الظن في كلتا الصورتين المزبورتين إلّا عدم إثبات مضمون ذلك الظن به شرعا ، فاعتباره يوجب ثبوت مضمونه كذلك. وتوضيح ما أفاده في الجواب عن الأمر الخامس الّذي ذكره شيخنا الأعظم (قده) هو : أن مقتضى عدم اعتبار ظن ليس عقدا إيجابيا وهو ترتيب آثار الشك المتساوي طرفاه على وجود الظن غير المعتبر حتى يجري فيه الاستصحاب الّذي هو من آثار هذا الشك ، بل مقتضاه عقد سلبي وهو عدم ثبوت المظنون بهذا الظن ليترتب عليه آثاره الشرعية ، فلو كان متيقّنا بطهارة ثوبه مثلا ، ثم شهد عدل واحد بنجاسته ، وقلنا بعدم اعتبار شهادة عدل واحد في الموضوعات ، فان معنى عدم اعتبار شهادته عدم ثبوت نجاسة الثوب بها ، لا ثبوت آثار الشك بها التي منها الاستصحاب ، إذ العقد السلبي لا يستلزم العقد الإيجابي ، وتنزيل الظن غير المعتبر منزلة الشك في الآثار الشرعية.

وبالجملة : فعدم اعتبار الظن ليس معناه ثبوت آثار الشك له ، بل معناه عدم ثبوت مضمونه شرعا ، وعليه فهذا الأمر الخامس لا يصلح لإثبات اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف ، بل لا بد من الرجوع إلى الوجوه الأخر في إثباته.

__________________

(*) الأولى إبداله بـ «المظنون به» يعني : لا يكاد يكون إلّا عدم إثبات الحكم المظنون بالظن غير المعتبر تعبدا.

٧٢١

عليه آثاره (١) شرعا ، لا ترتيب (٢) آثار الشك مع عدمه ، بل لا بد حينئذ (٣) في تعيين أن الوظيفة أيّ أصل من الأصول العملية من الدليل (٤) ، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه (٥) على اعتبار الاستصحاب (٦) ،

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «عليه» راجعان إلى المظنون بالظن غير المعتبر ، وضميرا «مظنونه ، به» راجعان إلى الظن غير المعتبر.

(٢) معطوف على «عدم» فان نفي النفي إثبات ، يعني : أن مقتضى عدم اعتبار الظن عدم إثبات مظنونه به ، لا ترتيب آثار الشك عليه ، فقوله : «لا ترتيب» إشارة إلى العقد الإيجابي ، كما أن قوله : «إلّا عدم إثبات مظنونه» إشارة إلى العقد السلبي ، وضمير «عدمه» راجع إلى «الشك» والمراد بهذا الشك هو المتساوي طرفاه ، بناء على كونه هو الظاهر من أخبار الاستصحاب ، والظن غير الشك ، فلا بد في حكم الظن غير المعتبر القائم على خلاف الحالة السابقة من الرجوع إلى غير الاستصحاب ، ففي مسألة الوضوء مع أمارة النوم يرجع إلى قاعدة الاشتغال القاضية بلزوم إحراز الطهارة للصلاة مثلا.

(٣) أي : حين عدم اقتضاء الظن غير المعتبر العقد الإيجابي.

(٤) متعلق بـ «لا بد» يعني : بعد نفي العقد الإيجابي ـ وهو ترتيب آثار الشك على الظن غير المعتبر ، لا بد في تعيين الوظيفة مع الظن غير المعتبر من الرجوع إلى غير الاستصحاب.

(٥) أي : مع الظن غير المعتبر ، يعني : بناء على دلالة الأخبار على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك المصطلح ـ وهو ما تساوى طرفاه ، وعدم دلالتها على اعتباره مع الظن بالخلاف ـ لا بد في تشخيص الوظيفة من الرجوع إلى غير أخبار الاستصحاب ، لعدم الموضوع لها مع الظن بالخلاف ، إلّا إذا قام دليل آخر على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف كالشك.

(٦) لما فرض من دلالتها على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك المتساوي طرفاه.

٧٢٢

فلا بد (١) من الانتهاء إلى سائر الأصول بلا شبهة ، ولا ارتياب ، ولعله أشير إليه (٢) بالأمر بالتأمل (٣) ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

(١) جواب «فلو» إذ بعد اختصاص اعتبار الاستصحاب بالشك المصطلح فلا محيص عن الرجوع إلى غيره من سائر الأصول العملية في صورة الظن بالخلاف ، ففي الظن بالفراغ يرجع إلى قاعدة الاشتغال ، وفي الظن بالتكليف يرجع إلى أصالة البراءة.

(٢) أي : أشير إلى الإشكال المزبور وهو عدم اقتضاء الظن غير المعتبر للعقد الإيجابي أعني ترتيب آثار الشك عليه ، وضمير «لعله» للشأن.

(٣) حيث قال الشيخ الأعظم : «وان كان ـ يعني الظن غير المعتبر ـ مما شك في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك ، فتأمل جدا».

٧٢٣

تتمة (١) : لا يذهب عليك أنه لا بد في الاستصحاب من بقاء

______________________________________________________

(اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب)

(١) الغرض من بيانها التعرض لشرطين من شرائط الاستصحاب ، وهما : بقاء الموضوع وعدم أمارة معتبرة في مورده ، إذ معها لا تصل النوبة إلى الاستصحاب لحكومتها عليه. ولا يخفى أنه كان المناسب ذكر جميع الشرائط في موضع واحد قبل التنبيهات ، خصوصا بقاء الموضوع ، لتقوم الاستصحاب به ، فالتعبير عنه بالشرط مبني على المسامحة.

وكيف كان فقد تعرض لتفصيل هذين الشرطين في طي مقامين : المقام الأول في اعتبار بقاء الموضوع ، والثاني في عدم أمارة معتبرة ولو على وفاقه.

أما المقام الأول ، فتوضيحه : أنه لمّا كان موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء الموجود السابق في الزمان اللاحق اقتضى ذلك بالضرورة اتحاد متعلقي اليقين والشك وجودا واختلافهما في الحدوث والبقاء فقط ، إذ مع اختلافهما وجودا لا يصدق الشك في بقاء الموجود السابق ، بل يكون شكا في حدوث شيء آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب ، فلا مجال لجريانه سواء أكان اعتباره من باب التعبد أم الظن ، إذ لا يتفاوت هويّة الاستصحاب باختلاف دليل اعتباره ، فإذا كان «زيد عادل» مثلا معلوما لنا يوم الجمعة ، وشككنا يوم السبت في بقاء عدالته كان الشك في بقائها موردا للاستصحاب ، فيبني عليها ، إذ البناء عليها إبقاء لها ، كما أن رفع اليد عن عدالته نقض لليقين بها بالشك فيها. وأما الشك في عدالة عمرو فلا يكون البناء عليها إبقاء لعدالة زيد ، كما أن رفع اليد عنها ليس نقضا لليقين بعدالة زيد بالشك فيها.

هذا بالنسبة إلى وحدة الموضوع. وكذا الحال في اعتبار وحدة المحمول ، فإذا علم بعدالة زيد ثم شك في علمه لم يكن ترتيب آثار عدالته جريا على اليقين السابق بها ، لكونها معلومة بقاء أيضا ، كما أن عدم ترتيب آثار علمه ليس نقضا

٧٢٤

الموضوع وعدم (١) أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه (٢) ، فهاهنا مقامان :

 المقام الأول (٣) : أنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع ، بمعنى (٤)

______________________________________________________

لليقين بعدالته ، وهذا واضح.

وبالجملة : فالبقاء لا يصدق إلّا بوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ، وانحصار اختلافهما باليقين والشك.

(١) معطوف على «بقاء» وهذا إشارة إلى الشرط الثاني وهو عدم أمارة معتبرة ولو على وفاق الاستصحاب ، لحكومتها عليه. كما أن ما قبله إشارة إلى الشرط الأول.

(٢) أي : على وفاق الاستصحاب ، كما إذا كان شيء معلوم الطهارة سابقا وشك في بقائها ، وقامت بينة على طهارته ، فانه يبنى على طهارته للبينة لا للاستصحاب.

(٣) وهو الكلام في بقاء الموضوع ، ومحصله : أنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، لأنه إدامة الوجود السابق في ظرف الشك ، إما بالتعبد وإما بغيره. ثم ان التعبير ببقاء الموضوع مذكور في كثير من الكلمات ، مع أنه لا بد من بقاء المحمول أيضا ، ولعل الاكتفاء بالموضوع لأجل أهميته أو لكون المراد بقاءه بوصف موضوعيته.

(٤) وقريب من هذا التعبير عبارة حاشية المحقق الآشتياني (قده) حيث قال : «المراد من بقاء الموضوع في الاستصحاب هو كون القضية المشكوكة في الآن اللاحق عين القضية المتيقنة في الآن السابق ... إلخ».

وببيان أوضح : يعتبر في الاستصحاب كون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ونسبة كالمثال المتقدم «زيد عادل» من دون اختلاف بين القضيتين إلّا في إدراك النسبة ، لكونها في إحداهما معلومة وفي الأخرى مشكوكة. وبالجملة : فالقضيتان متحدتان في جميع وحدات التناقض إلّا في زمان النسبة باليقين والشك.

وغرضه من التعبير باتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بدلا عن التعبير ببقاء

٧٢٥

اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا كاتحادهما حكما ،

______________________________________________________

الموضوع دفع توهم ، وهو : أن التعبير بالبقاء ظاهر في البقاء الخارجي ، لظهور «البقاء» في استمرار الحادث ، وحينئذ يختص ذلك بما إذا كان المحمول من الأعراض والمحمولات المترتبة كالقيام والقعود والعدالة والاجتهاد ونحوها مما يكون موضوعها موجودا خارجيا. وأما إذا كان المحمول نفس الوجود الّذي هو أول محمول يحمل على الماهيات فاعتبار بقاء الموضوع فيه يغني عن الاستصحاب ، إذ مع العلم بوجود زيد في الزمان الثاني لا معنى لاستصحاب وجوده فيه.

وبالجملة : فإشكال التعبير بالبقاء هو اختصاص اعتبار بقاء الموضوع بما إذا كان المحمول من الأعراض والمحمولات الثانوية ، وعدم كونه عاما لجميع الموارد التي منها كون المحمول نفس الوجود كقولنا : «زيد موجود».

وقد أجاب الشيخ الأعظم (قده) عن هذا الإشكال بما ملخصه : أن المراد ببقاء الموضوع بقاؤه على نحو معروضيته للمستصحب ، ففي استصحاب قيام زيد يكون الموضوع وجوده الخارجي ، لأنه كان سابقا معروضا للقيام ، وفي استصحاب وجود زيد يكون الموضوع تقرره الماهوي لا وجوده الخارجي ، إذ لا يعقل أن يكون زيد بوجوده الخارجي معروضا للوجود ، وإلّا يلزم أن يكون معنى القضية «زيد الموجود موجود» ومن المعلوم فساده.

وبالجملة : فاستصحاب كل من المحمول الأوّلي ـ وهو الوجود ـ والمحمول الثانوي كالقيام والقعود صحيح ، غاية الأمر أن الموضوع في الأول هو الماهية المجردة عن الوجود الذهني والخارجي ، وهي باقية في زمان الشك في وجود زيد مثلا ، فيصح استصحابه ، لبقاء معروضه وهو الماهية الممكنة القابلة للوجود. كما أن الموضوع في المحمول الثانوي كالقيام هو الوجود الخارجي ، فالموضوع في «زيد قائم» مثلا هو «زيد الموجود» ففي ظرف الشك في القيام يكون الموضوع أي معروض المستصحب ـ الّذي هو القيام أيضا ـ وجود زيد في الخارج. هذا محصل ما يستفاد من كلمات الشيخ (قده) في بيان المراد ببقاء الموضوع في

٧٢٦

ضرورة (١) أنه بدونه لا يكون الشك في البقاء (*) بل في الحدوث ،

______________________________________________________

الاستصحاب ، ودفع الإشكال المزبور عنه بما عرفت.

والمصنف (قده) عبّر عن اعتبار بقاء الموضوع بعبارة لا يرد عليها الإشكال المذكور حتى يحتاج إلى دفعه بما أفاده الشيخ ، بل ظاهر تفسير المصنف لكلام الشيخ في حاشية الرسائل إرادة معنى واحد سواء عبر عنه ببقاء الموضوع أم باتحاد القضيتين ، قال فيها : «فالموضوع هو معروض المستصحب كما أفاده ، لكن مع جميع القيود في عروضه عليه عقلا أو شرعا أو عرفا» ومن المعلوم أن وحدة الموضوع بهذا المعنى هي عبارة أخرى عن اتحاد القضيتين.

ولعل التعبير ببقاء الموضوع ناظر إلى أهميته في الكلام لا لاعتبار الاتحاد بلحاظه بالخصوص ، أو إلى بقائه بوصف موضوعيته ، فانه بهذا المعنى لا ينفك عن وحدة المحمول والنسبة ، فيحصل الاتحاد في القضيتين ، والأمر سهل بعد وضوح المطلب.

(١) استدل المصنف على اعتبار وحدة القضيتين بنفس أدلة الاستصحاب الدالة على أن المتيقن سابقا المشكوك لاحقا لا يجوز نقضه ورفع اليد عنه ، وذلك بوجهين : أحدهما : بموضوع تلك الأدلة أعنى الشك في البقاء ، وثانيهما بمحمولها أعني النهي عن النقض ، وقوله : «لا يكون الشك في البقاء» إشارة إلى الوجه الأول ومحصله : أن الشك في البقاء الّذي يتقوم به الاستصحاب لا يصدق إلّا بوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ، إذ بدونها لا يكون الشك في البقاء ، فإذا كانت عدالة زيد متيقنة ثم صارت عدالة عمرو مشكوكة لا يصدق الشك في بقاء عدالة زيد على الشك في بقاء عدالة عمرو ، بل هو شك في أمر آخر. وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «بدونه» راجع إلى «اتحاد القضيتين».

__________________

 (*) قد يقال : ان هذه الكلمة مستدركة ، لكفاية نفس الشك في الدلالة على وحدة القضيتين ، إذ لزوم هذا الاتحاد إنما هو من أجل إضافة الشك إلى المتيقن لا من أجل إضافة الشك إلى بقاء المتيقن ، فلو فرض تعلق الشك بثبوت المتيقن كما في قاعدة اليقين لكان مقتضيا أيضا للاتحاد ، وعليه فكلمة البقاء مستدركة (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٢٠

٧٢٧

ولا رفع (١) اليد عن اليقين في محل الشك نقض اليقين بالشك ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى (٢) لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان.

______________________________________________________

(١) معطوف على «الشك» يعني : ولا يكون رفع اليد عن اليقين السابق في مورد الشك نقض اليقين بالشك ، وهذا هو الدليل الثاني على اعتبار بقاء الموضوع ، وحاصله : أنه مع تعدد الموضوع في القضيتين المتيقنة والمشكوكة لا يصدق محمول أخبار الاستصحاب وهو النهي عن نقض اليقين بالشك.

وبالجملة : هذان الدليلان مما يستفاد من نفس الأخبار.

وقد اعتمد الشيخ على هذا الدليل الثاني ، حيث إنه جعله عدلا لاستحالة انتقال العرض ، وقال : «وإما لأن المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق ، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق».

(٢) وهو ما أفاده بقوله : «بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا ... إلخ». إذا عرفت معنى بقاء الموضوع بكلا تقريبيه اللذين أفادهما العلمان الشيخ والمصنف (قدهما) فاعلم : أن الفرق بينهما هو جريان الاستصحاب في المحمولات المترتبة كالعدالة والقعود والقيام وغيرها ولو مع عدم العلم ببقاء موضوعاتها خارجا ،

__________________

لكنه غير ظاهر ، فان الاستصحاب وإن كان هو التعبد بنفس المتيقن الّذي صار مشكوكا فيه ، إلّا أن الشك المأخوذ في أدلة الاستصحاب حيث لا إهمال فيه ولا إطلاق له بالإضافة إلى الحدوث والبقاء ، فلا بد أن يكون هو الشك المضاف إلى البقاء ، إذ لو لا هذه الإضافة لشمل الشك في ما تيقن به سابقا كلّا من الشك الطارئ والساري ، لصدق الشك في المتيقن على كل من الاستصحاب وقاعدة اليقين ، وإنما يختلفان من حيث المتعلق ، فان كان الحدوث متعلق الشك انطبق على القاعدة ، وإن كان البقاء متعلقه انطبق على الاستصحاب ، ولمّا كان المتسالم عليه دلالة جملة من الأخبار ظهورا أو صراحة بقرينة المورد على الاستصحاب فلا محيص من إضافة الشك إلى البقاء كيلا يلتبس بالشك في الحدوث الّذي هو مورد القاعدة. وعليه فتعبير المصنف بقوله : «الشك في البقاء» متين جدا.

٧٢٨

والاستدلال (١) عليه «باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر ،

______________________________________________________

بل ومع العلم بارتفاعها أيضا ، كما إذا شك في بقاء عدالة زيد مع العلم بموته فضلا عن الشك فيه ، وذلك لأن بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة كما عليه المصنف صادق عليه ، لأن نفس القضية المعلومة وهي «زيد عادل» صارت مشكوكة ، والعلم بموت زيد فضلا عن الشك فيه لا يوجب خللا لا في موضوعها ولا في محمولها كما لا يخفى.

وعدم جريان الاستصحاب في تلك المحمولات مبني على اعتبار بقاء الموضوع في زمان الشك بنحو كان موجودا حال اليقين به كما عليه الشيخ ، لأن الموضوع في زمان اليقين كان موجودا خارجيا ، وفي زمان الشك لا يكون كذلك ، ولذا لا يجري هو (قده) استصحاب العدالة إلّا على فرض الحياة ، والمصنف يجريه فيها باعتبار عينية قضية اليقين بعدالة زيد مثلا مع الشك فيها ولو مع الشك في حياته ، بل ومع العلم بموته ، نظرا إلى عينية القضيتين المتيقنة والمشكوكة عرفا.

والحاصل : أن بقاء الموضوع عند الشيخ (قده) عبارة عن كون الموضوع في القضية المشكوكة على النحو الّذي كان في القضية المتيقنة من الوجود الخارجي والذهني والتقرري ، وعند المصنف (قده) عبارة عن اتحاده عرفا في القضية المتيقنة والمشكوكة سواء أكان وجوده بقاء من سنخ وجوده حدوثا أم لا ، كما إذا شك في عدالة زيد بعد موته ، فان وجوده حال اليقين بعدالته كان خارجيا ، وفي زمان الشك يكون تقرريا.

وهنا احتمال ثالث ، وهو اعتبار بقاء الموضوع خارجا في ظرف الشك ، وسيأتي بيانه عند شرح كلام المصنف إن شاء الله تعالى.

(١) المستدل بهذا الدليل العقلي جمع من الأصحاب كصاحبي الفصول والمناهج وتبعهما شيخنا الأعظم (قدس‌سرهم) حيث قال في الخاتمة : «ثم الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح ، لأنه لو لم يعلم تحققه لاحقا فإذا أريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوم به فإما أن يبقى في غير محل وموضوع ،

٧٢٩

لتقومه (١) بالموضوع وتشخصه (٢) به (٢)»

______________________________________________________

وهو محال.

وإما أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق ، ومن المعلوم أن هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض ، وإنما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ، فيخرج عن الاستصحاب ، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقا بالعدم فهو المستصحب دون وجوده ... إلخ» فانه قد استدل على اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب بما حاصله لزوم أحد محذورين من جريانه مع عدم إحراز موضوعه.

توضيحه : أنه إذا جرى الاستصحاب في بقاء العارض للموضوع الّذي لم يعلم وجوده لاحقا لزم (إما) بقاء العرض بلا موضوع ، وهو محال ، للزوم بقاء المعلول بلا علة ، حيث ان الموضوع من علل تشخص العرض في الخارج ، فيمتنع بقاؤه بلا موضوع. (وإما) انتقاله إلى موضوع آخر ، وهذا أيضا مما لا يمكن الالتزام به ، لعدم كونه إبقاء لنفس ذلك العارض ، بل هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ، إذ البقاء هو الوجود الثانوي لنفس ما كان موجودا أوّلا ، مثلا إذا كانت عدالة زيد متيقنة سابقا وأريد استصحابها مع الشك في بقاء زيد ، فلا يعلم أن استصحابها هل يكون إبقاء لعدالة زيد أم لا؟ هذا.

مضافا إلى : لزوم تحقق العرض ولو آناً ما لا في موضوع ، مع وضوح انعدامه بانتفاء موضوعه كانتفاء كل معلول بانعدام علته.

(١) تعليل لاستحالة انتقال العرض ، وقد أوضحناه بقولنا : «مضافا إلى تحقق العرض ولا آناً ما لا في موضوع» وضمير «لتقومه» راجع إلى العرض.

(٢) قال المحقق الطوسي (قده) في التجريد : «والموضوع من جملة المشخصات» (١) فلو انتقل العرض عن الموضوع زال تشخصه فيزول شخصه كما في الشوارق (٢) ، مثلا امتياز وجود بياض الثلج عن بياض العاج لا يكون إلّا بالمحل والموضوع ، لاشتراكهما في ماهية البياض ولوازمها وأجزائها. وحيث إن الماهية المبهمة لا تتحقق في الخارج ، ولا وجود للعرض بدون معروضه ، كان تشخص

__________________

(١) كشف المراد ، ص ٨٢ ، طبع صيدا

(٢) شوارق الإلهام ، ص ٢٦٦

٧٣٠

غريب (١) ، بداهة أن استحالته (٢) حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبدا ،

______________________________________________________

العرض منوطا بتشخص موضوعه ، فلو انعدم المعروض انتفى العرض القائم به أيضا ، لانتفاء المحتاج عند انتفاء المحتاج إليه. وهذا معنى كون الموضوع من جملة المشخصات. وضمير «تشخصه» راجع إلى العرض ، وضمير «به» إلى الموضوع.

(١) خبر قوله : «والاستدلال» وإشكال عليه بما أفاده المصنف وبعض تلامذة الشيخ كالمحقق الآشتياني (قدس‌سرهم) (١) ومحصله : أن البقاء على قسمين حقيقي وتعبدي والأول لا ينفك عن معروضه ، وإلّا يستلزم أحد المحذورين المذكورين من بقاء العارض بلا محل ، وانتقال العرض من موضوع إلى آخر. والثاني لا يستلزم شيئا من هذين المحذورين ، إذ مفاد الاستصحاب ترتيب آثار وجود المستصحب كالعدالة مثلا في ظرف الشك في بقائها ، وهذا حكم ظاهري مقتضاه ترتيب آثار العدالة شرعا على العدالة المشكوكة ، وليس مقتضى الاستصحاب بقاء العدالة الواقعية حتى يلزم أحد المحذورين المذكورين.

وعليه فلا مانع من الحكم ببقاء المحمول تعبدا بمعنى لزوم ترتيب آثار وجوده مع الشك في بقاء موضوعه كالتعبد بلزوم ترتيب أحكام العدالة والاجتهاد والزوجية وغيرها شرعا مع الشك في موضوعاتها ، كما هو الحال في مثل قاعدتي الطهارة والحلية ، حيث ان الشارع حكم بحلية وطهارة مشكوكهما كاللباس حتى تجوز الصلاة فيه ، وكذا الحال في سائر التنزيلات التعبدية.

(٢) أي : أن استحالة انتقال العرض حقيقة كما هو مقتضى البرهان العقلي المذكور لا تستلزم استحالة انتقال العرض تعبدا كما هو مقتضى الاستصحاب ، لأنه حكم ظاهري كما عرفت آنفا ، وضمير «لاستحالته» راجع إلى «انتقال».

ولا يخفى أن المصنف اقتصر هنا في رد الدليل العقلي بإمكان انتقال العرض تعبدا من موضوعه إلى موضوع آخر كما عرفت توضيحه. ولكنه في الحاشية جعل إمكان التعبد بالعرض ولو بدون إحراز معروضه جوابا عن كلا شقّي الدليل أعني استحالة الانتقال والبقاء بلا موضوع ، قال فيها : «فان المحال إنما هو الانتقال

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٣ ـ ١٦٩

٧٣١

والالتزام (١) بآثاره شرعا (*).

______________________________________________________

والكون في الخارج بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة لا بحسب وجوده تعبدا ...» (١).

(١) عطف تفسيري لقوله : «تعبدا» ، فان التعبد هو الالتزام بالآثار شرعا.

فتحصل : أن البرهان العقلي المزبور يثبت استحالة انتقال العرض حقيقة من موضوع إلى آخر ، ولا يثبتها تعبدا حتى يكون دليلا على اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، بل الدليل على اعتباره هو ما ذكرناه من صدق نقض اليقين مع بقائه وعدم صدقه بدونه.

__________________

 (*) وللمصنف في الحاشية إشكال آخر على هذا الاستدلال وتبعه جمع ، وهو إشكال الأخصية ، قال فيها : «مع أنه أخص من المدعى ، فان المستصحب ليس دائما من مقولات الأعراض ، بل ربما يكون هو الوجود ، وليس هو من إحدى المقولات العشر ، فلا جوهر بالذات ولا عرض وإن كان بالعرض ...» (٢).

لكن يمكن أن يقال : ان ظاهر الدليل العقلي المتقدم وإن كان اختصاصه بالعرض المقابل للجوهر ، وهو يوهم أخصيته من المدعى كما أفاده ، إلّا أنه لا يرد عليه الإشكال بعد ملاحظة أمرين نبّه عليهما الشيخ الأعظم ، أحدهما : تفسير موضوع الاستصحاب بمعروض المستصحب ، وثانيهما : تصريحه بجريان الاستصحاب في الوجود العيني والذهني والأمر الاعتباري الّذي موطنه وعاء الاعتبار الّذي هو برزخ بين الوجودين ، بل وجريانه في العدم أيضا.

وبالنظر إلى هذين الأمرين لا بد أن يكون مقصوده بالعرض المستحيل انتقاله إلى معروض آخر أو بقاؤه بلا معروض هو كل ما يقابل الذات ويحمل عليها ، وهذا المعنى ينطبق على الوجود الجوهري والعرضي وعلى العدم الّذي معروضه الماهية كاستصحاب عدم زيد ، وعلى استصحاب الحكم الشرعي ، ولا مشاحة في إطلاق العرض على ما يقابل الذات ، فان الوجود عارض الماهية ، مع أن الوجود ليس

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٣٠

(٢) حاشية الرسائل ، ص ٢٣٠

٧٣٢

وأما (١) بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجا فلا يعتبر قطعا في جريانه (٢) ، لتحقق (٣) أركانه بدونه.

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة» وهذا إشارة إلى المعنى الثالث لبقاء الموضوع الّذي أشرنا إليه بقولنا : «وهنا احتمال ثالث وهو احتمال بقاء الموضوع خارجا» وقد نسب هذا المعنى إلى صاحب الفصول ، ومحصل ما حكي عنه في ذلك هو : أن الشك في بقاء الموضوع خارجا يمنع عن استصحاب الحكم المترتب عليه ، لكن يرتفع هذا المانع بجريان الاستصحاب أوّلا في نفس الموضوع ثم في حكمه ثانيا ، ففي الشك في عدالة زيد مع الشك في حياته يجري الاستصحاب أوّلا في حياته وثانيا في عدالته.

وبالجملة : فإحراز بقاء الموضوع ولو تعبدا معتبر في استصحاب عارضه ، وهو كاف في جريانه ، فلا وجه لاعتبار العلم ببقاء الموضوع في جريانه.

(٢) أي : في جريان الاستصحاب في المستصحب الّذي هو عارض الموضوع كالعدالة التي هي من عوارض الحياة.

(٣) تعليل لقوله : «فلا يعتبر قطعا» ومحصله : عدم توقف استصحاب العارض على إحراز الموضوع خارجا بعد عدم كون الشك في العارض ناشئا من الشك

__________________

من سنخ المقولات العرضية المصطلحة.

ولعل تعبير شيخنا الأعظم في جملة كلامه : «لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد» قرينة على أن المراد بالعرض هو مطلق المحمول ، لعدم كون العدالة حكما بمعناه المصطلح.

وعليه فمحتمل كلام الشيخ من العرض هو مطلق المحمول ، حيث يستحيل انتقاله من موضوعه كاستحالة بقائه بلا موضوع. ولعله لما ذكرناه أغمض المصنف عن إشكال الأخصية ولم يتعرض له في المتن ، فتأمل. والإشكال الوارد على الدليل العقلي هو ما في المتن من عدم تقوم الإبقاء التعبدي ببقاء الموضوع واقعا ، مضافا إلى إشكال الميرزا من أنه تبعيد للمسافة.

٧٣٣

نعم (١) ربما يكون مما لا بد منه في ترتيب بعض الآثار ، ففي

______________________________________________________

في الموضوع كنشو الشك في عدالة زيد عن صدور فعل منه أوجب الشك في سقوطه عن العدالة ، فان استصحاب العدالة بعد موت زيد يجري إن كان لها أثر كجواز تقليده ولو بقاء على القول به ، فان زيدا كان عادلا سابقا وصارت عدالته مشكوكة لاحقا ، للشك في زوال ملكاته بالموت مثلا ، فأركان الاستصحاب من اليقين والشك متحققة ، ورفع اليد عن عدالته نقض لليقين بالشك.

فان قلت : ان مقتضى قاعدة «ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له» هو تحقق المثبت له في الخارج ، إذ مع عدم وجود مثل زيد في وعاء الخارج كيف يحمل عليه عارضه كالقيام والعدالة ونحوهما من المحمولات المترتبة على الماهية بلحاظ وجودها العيني؟ وعليه فما هو ظاهر عبارة الفصول من اعتبار إحراز وجود المعروض خارجا ليس إلّا مقتضى تفرع وجود العرض على وجود معروضه ، ولا سبيل لإنكاره.

قلت : لا تقتضي قاعدة الفرعية المتقدمة إلّا إناطة ثبوت شيء بثبوت المثبت له في الوعاء المناسب للعروض والحمل ، فان كان ظرف العروض الوجود الخارجي اعتبر وجود المعروض خارجا كما هو الحال في المقولات العرضية كزيد قائم ، وإن كان ظرف العروض الذهن اعتبر وجود المعروض ذهنا كما في «الإنسان نوع» ، فان المتصف بالنوعية ليس مصداق الإنسان حتى يلزم وجوده في الخارج أخذا بقاعدة الفرعية ، بل الموضوع هو الإنسان الكلي لا موطن له إلّا الذهن. وعليه فلا بد من الفرق بين كون المستصحب من الأمور الخارجية والذهنية كما أفاده الشيخ ومن تبعه. وضمير «أركانه» راجع إلى الاستصحاب ، وضمير «بدونه» إلى «إحراز».

(١) استدراك على قوله : «فلا يعتبر قطعا» وتوجيه لكلام الفصول ، ومحصله : أن إحراز وجود الموضوع لازم في بعض الموارد ، وهو ما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على وجود الموضوع خارجا كعدالة زيد للاقتداء به أو إطعامه ونحو ذلك ،

٧٣٤

استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده (١) وإن كان محتاجا إليه (٢) في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه. وإنما (٣) الإشكال كله في هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف أو بحسب دليل الحكم أو بنظر العقل ، فلو كان (٤) مناط الاتحاد هو نظر العقل

______________________________________________________

ففي مثل هذه الموارد لا بد من إحراز وجود الموضوع لترتيب هذه الآثار الشرعية ، لا لأجل اعتباره في جريان الاستصحاب ، بل لأجل اقتضاء تلك الآثار وجود الموضوع خارجا.

(١) يعني : بناء على عدم دخل حياته في جواز تقليده مطلقا كما عن بعض أو بقاء كما عن جماعة.

(٢) الضمير راجع إلى «إحراز» يعني : وإن كان إحراز حياة زيد محتاجا إليه في ترتيب جواز الاقتداء به ، وضميرا «إكرامه ، إنفاقه» راجعان إلى زيد ، والمراد بوجوب الإنفاق وجوبه على من تجب نفقته عليه كالزوجة والأولاد.

(٣) معطوف على قوله : «لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع» بعد أن نفي المصنف الإشكال عن اعتبار اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة تصدّى لبيان المراد من الاتحاد المزبور ، وأنه هل هو بنظر العرف أم بحسب الدليل الدال على الحكم أم بنظر العقل؟ فان هذه الوجوه الثلاثة متصورة ثبوتا ، فهنا مقامان : الأول مقام الثبوت ، والثاني مقام الإثبات.

أما المقام الأول : فهو ما عرفته من الاحتمالات الثلاثة ، وتعرض المصنف (قده) لما يترتب عليها من اللوازم والثمرات. وأما المقام الثاني فسيأتي بعد الفراغ عن المقام الأول.

(٤) هذه إحدى الثمرات ، ومحصلها : أنه لو كان مناط الاتحاد نظر العقل فلازمه عدم جريان الاستصحاب في الأحكام إن كان الشك في بقاء الحكم ناشئا من زوال حال من حالات الموضوع ، لاحتمال دخل الزائل في الموضوع الّذي هو بنظر

٧٣٥

فلا مجال للاستصحاب في الأحكام ، لقيام (١) احتمال تغير الموضوع في كل مقام شك في الحكم بزوال (٢) بعض خصوصيات موضوعه ، لاحتمال (٣) دخله فيه ، ويختص (٤) بالموضوعات ، بداهة (٥) أنه إذا شك

______________________________________________________

العقل مقتض للحكم ، فزواله يوجب الشك في بقاء الموضوع ، ومن المعلوم عدم جريان الاستصحاب مع الشك في بقائه كعدم جريانه مع القطع بارتفاعه. وعليه فيختص الاستصحاب بالموضوعات الخارجية كحياة زيد وغيرها مما يكون الموضوع في القضية المشكوكة عينه في القضية المتيقنة عقلا.

(١) تعليل لقوله : «لا مجال» وحاصله الّذي مر آنفا مفصلة بقولنا : «لاحتمال دخل الزائل في الموضوع» هو : أنه يحتمل تغير الموضوع بزوال بعض خصوصياته ، لاحتمال كون القيود المأخوذة في الحكم حدوثا وبقاء راجعة إلى الموضوع. وعليه فيصير الشك في الرافع ذاتا وصفة سببا للشك في الموضوع ، فلا مجال حينئذ للاستصحاب ، لعدم العلم ببقاء الموضوع. وقد نبّه على ذلك أيضا في أوائل الاستصحاب ، حيث قال : «وأما الأحكام الشرعية ... إلى أن قال : فيشكل حصوله فيها لأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلّا من جهة الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه ... إلخ».

(٢) متعلق بـ «شك» وغرضه كون الشك في الحكم ناشئا من زوال بعض خصوصيات موضوعه ، كالشك في نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره من قبل نفسه.

(٣) متعلق بـ «تغير» يعني : منشأ التغير هو احتمال دخل بعض الخصوصيات في الموضوع ، وضمير «موضوعه» راجع إلى الحكم.

(٤) معطوف على «فلا مجال» يعني : ويختص الاستصحاب بالشبهات الموضوعية.

(٥) تعليل لاختصاص الاستصحاب بالموضوعات ، فان زيدا مثلا الّذي هو معروض الحياة المشكوكة المستصحبة عين زيد الّذي هو معروض الحياة المعلومة. وقوله : «حقيقة» قيد لـ «شك في نفس».

ثم ان المقصود باختصاص الاستصحاب بالموضوعات إذا كان المناط النّظر

٧٣٦

في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين منه حقيقة ، بخلاف (١) ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، ضرورة (٢) أن انتفاء

______________________________________________________

الدّقي العقلي هو جريانه في الموضوعات التي يحكم العقل بوحدتها في القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، فلو لم تحرز وحدتها في بعض الموارد كان حالها حال الشبهات الحكمية في عدم الجريان ، ومن المعلوم أن العرف إذا تردد في حكمه بوحدة القضيتين أحيانا ، فعدم جريان الاستصحاب حينئذ بناء على اعتبار النّظر العقلي يكون بالأولوية القطعية.

وعلى هذا فلا تتوهم منافاة حكم المصنف هنا باختصاص الاستصحاب بالموضوعات بناء على التعويل على نظر العقل لما تقدم منه في صدر الاستصحاب من منعه حتى في بعض الشبهات الموضوعية بقوله : «وهذا مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة» مع أن مبنى المنع عن جريانه فيها هو التعويل على النّظر العرفي. وجه بطلان التوهم : أن منعه (قده) عن جريانه مع كون المناط نظر العرف يقتضي منعه بناء على إناطته بالنظر العقلي بالأولوية القطعية.

(١) يعني : بخلاف ما لو كان مناط الاتحاد بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، وينبّه بهذا على اختلاف الثمرة.

(٢) هذا بيان وجه الفرق بين كون مناط الاتحاد نظر العقل وبين كونه نظر العرف أو لسان الدليل ، وأن الاستصحاب ربما يجري على الأخيرين دون الأول كما سيظهر. وحاصل الفرق هو : أن انتفاء بعض خصوصيات الموضوع وإن كان بدوا موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال دخله في الموضوع كالفرض السابق ، وهو ما إذا كان مناط الاتحاد نظر العقل وزال بعض خصوصيات الموضوع ، إلّا أن نظر العرف الّذي هو المتبع في فهم الخطابات الشرعية ربما يساعد بحسب المناسبات المغروسة في أذهانهم على أن الزائل ليس من مقومات الموضوع حتى يكون له دخل في الحكم ، بل من الحالات المتبادلة عليه ، فيحكم بوجود الحكم مع زواله كالحكم بوجوده مع بقائه.

٧٣٧

بعض الخصوصيات وإن كان موجبا للشك في بقاء الحكم ، لاحتمال (١) دخله في موضوعه ، إلّا أنه ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوماته (٢) ، كما أنه (٣) ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف

______________________________________________________

(١) هذا منشأ الشك في بقاء الحكم ، حيث ان منشأه احتمال دخل الخصوصية الزائلة في موضوع الحكم ، وضمير «دخله» راجع إلى «بعض» وضمير «موضوعه» إلى «الحكم».

(٢) بل يكون بنظر العرف من حالات الموضوع المتبادلة ، وقوله : «إلّا أنه» متعلق بـ «وان كان موجبا».

(٣) بعد بيان الفرق بين كون مناط الاتحاد نظر العقل وبين كونه نظر العرف وبحسب دليل الحكم ، أراد بيان الفرق بين هذين الأخيرين أيضا ، وقبل بيان الفرق بينهما أشار إلى توهم وهو : أنه كيف يكون الموضوع في نظر العرف مغايرا للموضوع في لسان الدليل ، مع أن المرجع في فهم معنى الدليل هو العرف أيضا لأنه المخاطب به؟ ومعه لا يبقى مجال لتوهم تعددهما وتغايرهما حتى يبحث عن الفرق بينهما.

ودفع هذا التوهم بأنه ربما يكون ظاهر الدليل ـ من جهة ظهور العنوان المأخوذ فيه في الموضوعية ـ دوران الحكم مداره وجودا وعدما ، لكن العرف بحسب القرائن المرتكزة والمناسبات المغروسة في أذهانهم يجعلون الموضوع أعم مما أخذ موضوعا في لسان الدليل ، كما إذا جعل «العنب إذا غلى» موضوعا للحرمة ، وحيث ان العنوان المأخوذ في كل دليل ظاهر في الموضوعية التي يدور الحكم معها وجودا وعدما ، فلا محالة يحكم العرف بأن موضوع الحرمة هو عنوان العنب.

هذا بحسب النّظر العرفي البدوي السطحي. وأما بحسب النّظر الثانوي العمقي يرى أن الموضوع ذات العنب ، وليست العنبية مقومة للموضوع ، بل من حالاته المتبادلة والوسائط الثبوتية ، فهذا الجسم موضوع سواء أكان في حال الرطوبة

٧٣٨

بخصوصه موضوعا ، مثلا إذا ورد «العنب إذا غلى يحرم» كان العنب بحسب (١) ما هو المفهوم عرفا هو خصوص العنب ،

______________________________________________________

وهو المسمى بالعنب أم في حال الجفاف وهو المسمى بالزبيب. فمعنى الموضوع العرفي حينئذ هو : أن العرف مرجع في تمييز ما هو مقوم للموضوع عمّا ليس مقوما له ، ومعنى الموضوع الدليلي هو الرجوع إلى العرف في معنى الكلام ومعرفة ظاهره.

وببيان آخر : ان للعرف نظرين ، أحدهما : بما هو من أهل المحاورة ، وبهذا النّظر يرجع إليه في تحديد الموضوع الدليلي ، وثانيهما : بما ارتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم وموضوعه وإن كان على خلاف ظاهر الكلام ، وهذا النّظر الثاني هو مناط الاتحاد في الاستصحاب دون النّظر الأول ، فإذا ورد «الماء المتغير نجس» فظاهر الدليل الشرعي بحسب النّظر البدوي العرفي هو كون الموضوع للنجاسة الماء بوصف كونه متغيرا ، لكن المرتكز في ذهن العرف من المناسبات هو كون معروض النجاسة ذات الماء ، وأن التغير واسطة في الثبوت ، كما أن ملاقاة الماء القليل للنجاسة واسطة ثبوتية في انفعاله ، وبعد زوال التغير بنفسه والشك في بقاء نجاسته لا مانع من استصحابها ، لبقاء موضوعها وهو نفس الماء ، والشك نشأ من احتمال كون التغير علة حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء.

هذا ما أفاده المصنف في الحاشية من الفرق بين الموضوع العرفي والدليلي بعد سؤال الفرق بينهما بقوله : «قلت : الفرق أن المرجع في الوجه السابق هو ما يفهمونه من الدليل ، بخلاف هذا الوجه ، فان المتبع فيه هو نظرهم بحسب ما ارتكز في أذهانهم من الملازمة والمناسبة بين الأحكام والموضوعات بلا توسيط مساعدة الدليل ، بل ولو مع دلالته على خلافه ، مثلا يكون الموضوع في خطاب ـ الكلب نجس ـ حسبما يساعده ظاهر الخطاب حسب فهم العرف منه هو الكلب في حال حياته ، لأنه اسم لحيوان خاص ، وبحسب نظرهم هو جسمه ولو في حال مماته» وراجع بقية كلامه زيد في علو مقامه ، فانه يحتوي على فوائد مهمة.

(١) يعني : كان العنب بحسب الموضوع الدليلي الّذي يفهمه العرف بدوا هو

٧٣٩

ولكن (١) العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيلونه من (٢) المناسبات بين الحكم وموضوعه يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم (*)

______________________________________________________

خصوص العنب وإن تغير بعد ذلك لأجل المناسبات.

(١) هذا إشارة إلى دفع توهم أنه كيف يكون الموضوع العرفي مغايرا لموضوع الدليل؟ مع أن المرجع في فهم معنى الدليل هو العرف أيضا ، وقد أوضحناه بقولنا : «ودفع هذا التوهم بأنه ربما يكون ظاهر الدليل ... إلخ».

(٢) بيان لـ «ما» الموصول.

__________________

(*) ثم إنه لا بأس بالإشارة إلى ما بين الموضوع العقلي والعرفي والدليلي من النسب ، فنقول : ان النسبة بينها عموم من وجه. أما العقلي والعرفي فلتصادقهما على الموضوعات كزيد إذا شك في حياته ، فان الموضوع بنظر كل من العقل والعرف هو ماهية زيد ، وتفارقهما في الشك في الأحكام الناشئ من زوال حال من حالات الموضوع كما في الماء المتغير الزائل تغيره بنفسه ، فانه بناء على الموضوع العرفي يجري الاستصحاب ، وبناء على الموضوع العقلي لا يجري.

وفي الشك في جواز تقليد المجتهد بعد موته ، فانه بناء على الموضوع العقلي يجري الاستصحاب ، لأن موضوع جواز تقليده بنظر العقل هو النّفس الناطقة الباقية بعد الموت ، ولا يجري بناء على الموضوع العرفي ، لأن موضوع جواز التقليد بنظر العرف هو الإنسان المركب من البدن والنّفس الناطقة.

وأما العقلي والدليلي فلتصادقهما على مثل حياة زيد إذا شك فيها ، فان استصحابها يجري ، لكون الموضوع بكلا النظرين أي العقلي والدليلي هو ماهية زيد ، وتفارقهما في جواز التقليد المزبور ، فان الاستصحاب بنظر العقل يجري وبنظر الدليل لا يجري ، لأن ظاهر مثل قوله تعالى : «فاسألوا أهل الذّكر» و «لو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة» وغير ذلك كون الموضوع نفس الأشخاص الذين لا ريب في كونهم أبدانا ونفوسا ناطقة ، والموت يسقطهم عن الموضوعية للمرجعية ، ومع انتفاء الموضوع لا مسرح للاستصحاب.

٧٤٠