منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

ان قلت : نعم (١) ، ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلق ،

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه التي احتج بها المنكرون لحجية الاستصحاب التعليقي ، وهو يرجع إلى وجود المانع عن حجيته ، ومحصله : أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب الحكم الفعلي الّذي هو ضد الحكم المعلق ، فلا أثر لهذا الاستصحاب التعليقي مع ابتلائه دائما بالمعارض ، ففي مثال العصير الزبيبي يكون حكمه الفعلي الثابت له قبل عروض الزبيبية للعنب هو الإباحة ، وبعد عروضها كما تستصحب حرمته المعلقة على الغليان كذلك تستصحب حليته المطلقة الثابتة له قبل الزبيبية ، وبعد تعارض الاستصحابين يرجع إلى قاعدة الحل. ففي جميع موارد الاستصحابات التعليقية يكون الحكم الفعلي المعارض للحكم المعلق ثابتا ، لعدم خلوّ الموضوع قبل حصول المعلق عليه عن الحكم لا محالة. وعليه فقوله : «نعم» تصديق لاجتماع أركان الاستصحاب في الاستصحاب التعليقي ، وأن الثبوت التقديري لا يوجب تفاوتا في أركان الاستصحاب كما توهمه المتوهم. ولكنه مع ذلك لا مجال لاستصحاب الحكم المعلق ، لابتلائه بالمعارض دائما ، فهذا الوجه راجع إلى وجود المانع عن الحجية ، كما أن الوجه السابق كان راجعا إلى عدم المقتضي لها ، وضمير «لكنه» للشأن ، وضمير «لمعارضته» راجع إلى «استصحاب» وضمير «ضده» إلى «المعلق» وضمير «حليته» إلى «العصير». وقوله : «باستصحاب» متعلق بـ «فيعارض».

__________________

له كلمات المصنف في عدّ مراتب أربع للأحكام الشرعية ، مع أن محط الكلام هو الأحكام المنشأة على نحو القضايا الحقيقية لا غير.

وعليه فلم يظهر وجه أوضحية جريان الاستصحاب في مثل «العصير المغلي حرام» من مثل «العصير العنبي إذا غلى يحرم» مع تحقق التعليق والإناطة في مرتبة الفعلية في كلا التعبيرين. ولعل مقصود المصنف أمر آخر لم نقف عليه ، فتدبر في كلامه زيد في علو مقامه.

٤٦١

لمعارضته باستصحاب ضده المطلق ، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير باستصحاب حليته المطلقة (١).

قلت (٢) : لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شك (*) في بقاء حكم المعلق بعده (٣) ،

______________________________________________________

(١) أي : غير المشروطة بشيء ، وهي التي كانت ثابتة له قبل الغليان ، فتستصحب للشك في ارتفاعها بالغليان.

(٢) هذا إشارة إلى دفع الوجه الثاني من الوجوه المانعة عن حجية الاستصحاب التعليقي ، والجواب عنه ، وحاصله : أن كل حكمين متضادين أنيط أحدهما بشيء فلا بد أن يناط الآخر بنقيضه ، لاقتضاء تضاد الحكمين ذلك ، كحرمة النكاح المنوطة بالرضاع بشرائطه المقررة ، فلا محالة تكون حلية النكاح منوطة بعدم الرضاع ، فيكون الرضاع غاية لحلية النكاح وشرطا لحرمته ، ومن المعلوم عدم التنافي بين جعل الحل والحرمة للنكاح بهذا النحو. ففي مثال العنب كما يكون الغليان غاية لحليته في حال كونه عنبا ، وشرطا لحرمته في تلك الحالة ، كذلك يكون غاية وشرطا لهما في حال الزبيبية ، فكما يصح اجتماع الحلية المغياة بالغليان مع الحرمة المعلقة عليه قطعا من دون تضاد بينهما في حال العنبية ، فكذلك يصح بقاؤهما في حال الزبيبية استصحابا من غير تضاد بينهما أصلا.

وعليه فاستصحاب الحرمة المعلقة يوجب انتفاء الإباحة مع فرض وجود الغليان خارجا الّذي هو شرط الحرمة وغاية أمد الحلية ، فليس حكم فعلي إلّا الحرمة ، فلا مجال لاستصحاب الحلية الفعلية حتى يعارض استصحاب الحرمة المعلقة.

(٣) أي : بعد عروض الحالة ، وضمير «استصحابه» راجع إلى «ضده» يعني : لا يكاد يضر استصحاب ضده المطلق ـ وهو الحلية ـ في مثال العنب على نحو كان قبل عروض حالة الزبيبية مثلا الموجبة للشك في بقاء الحكم المعلق وهو الحرمة

__________________

(*) لمّا كانت تلك الحالة كالزبيبية موجبة للشك في بقاء الحكم المعلق

٤٦٢

ضرورة (١) أنه (٢) كان مغيّا بعدم ما علق عليه المعلّق ، وما كان كذلك (٣) لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع فضلا عن الاستصحاب ، لعدم (٤)

______________________________________________________

بعد عروض حالة الزبيبية ، والمراد بقوله : «على نحو» هو الحلية المغياة بالغليان ومن المعلوم ارتفاع الحلية بهذا النحو بحصول غايته.

(١) تعليل لقوله : «لا يكاد يضر» وحاصله : أن الضرر إنما يكون بين الحل والحرمة إذا كانا مطلقين أو مشروطين بشيء واحد. وأما إذا لم يكونا كذلك ـ بأن كان أحدهما مطلقا والآخر مشروطا ، أو كان أحدهما مشروطا بأمر وجودي والآخر بنقيضه كمثال العنب ، حيث ان حرمته مشروطة بالغليان وحليته منوطة بعدم الغليان ـ فلا ضير في اجتماعهما ، لعدم تضادهما أصلا ، بداهة جواز اجتماع حلية العنب منوطة بعدم الغليان مع حرمته المعلقة على الغليان ، وعدم تنافيهما أصلا مع العلم بهما بهذا النحو فضلا عن ثبوتهما بالاستصحاب.

(٢) أي : أن ضده المطلق وهو الحلية ، يعني : أن الحلية كانت مغياة بعدم الغليان الّذي علق عليه الحرمة ، والحكم المغيا بعدم الغليان لا يضر ثبوته بعد عروض الحالة كالزبيبية للعنب بالقطع الوجداني فضلا عن التعبد الاستصحابي ، إذ لا مضادة بين هذين الحكمين المشروط أحدهما بعدم الغليان والآخر بوجوده.

(٣) أي : كان مغيّا بعدم ما علق عليه الحكم بالحرمة ، وضميرا «ثبوته ، عليه» راجعان إلى «ما» الموصول ، وضمير «بعده» إلى «عروض الحالة» و «بالقطع» متعلق بـ «ثبوته» و «المعلق» صفة للحكم المحذوف المراد به الحرمة في المثال.

(٤) تعليل لقوله : «لا يكاد يضر ثبوته» وقد اتضح آنفا وجه عدم المضادة بينهما ، لاشتراط الحل بعدم الغليان والحرمة بوجوده ، وضمير «بينهما» راجع إلى الحلية المغياة بعدم الغليان والحرمة المعلقة على الغليان.

__________________

فالأولى أن يقال : «قبل عروض الحالة التي أوجبت الشك في بقاء الحكم المعلق ...» كما أن الصواب تعريف «حكم» ليوافق نعته وهو «المعلق» ورعاية الإيجاز تقتضي حذف «حكم» كما صنعه قبل ذلك وبعده.

٤٦٣

المضادة بينهما ، فيكونان (١) بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا (٢) معا بالقطع قبل (٣) بلا منافاة أصلا ، وقضية ذلك (٤) انتفاء حكم المطلق بمجرد ثبوت ما علّق عليه المعلق ، فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلية ، فإذا شك (٥) في حرمته المعلقة بعد عروض حالة عليه شكّ (٦)

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على اشتراط الحكمين ، يعني : فيكون الحل المغيا بالغليان والحرمة المشروطة به ـ بعد عروض وصف الزبيبية الموجب للشك ـ مجتمعين بالاستصحاب كما كانا مجتمعين بالقطع للعنب قبل عروض حالة الزبيبية عليه.

وضمير «عروضها» راجع إلى «الحالة» وقوله : «بالاستصحاب» متعلق بـ «فيكونان» (٢) خبر «فيكونان» يعني : فيكون وجود الحكمين بالاستصحاب بعد عروض حالة الزبيبية كوجودهما معا بالقطع قبل عروض وصف الزبيبية بلا منافاة بينهما أصلا كما مر آنفا ، و «بالقطع» متعلق بـ «كانا».

(٣) أي : قبل عروض الحالة كالزبيبية ، و «بلا منافاة» متعلق بـ «كانا».

(٤) أي : كون الحل مغيا بالغليان والحرمة مشروطة به يقتضي انتفاء الحكم المطلق وهو الحل بمجرد ثبوت ما علق عليه الحرمة وهو الغليان ، حيث إنه كما يكون شرطا للحرمة كذلك يكون غاية لأمد الحلية ، فوجود الغليان رافع للحلية وموجب للحرمة.

(٥) هذا من نتائج غائية الغليان للحلية وشرطيته للحرمة ، وحاصله : أنه إذا شك في حرمته المعلقة على الغليان بعد طروء الزبيبية على العنب كان ذلك مساوقا للشك في بقاء حليته المغياة به ، إذ مرجع الشك إلى أن الغليان في حال الزبيبية هل هو شرط وغاية كما كان كذلك في حال العنبية أم لا؟ ففي حال الزبيبية يشك في حليته وحرمته بعد الغليان ، للشك في شرطيته وغائيته في حال الزبيبية.

(٦) جواب «إذا» والملازمة بين هذين الشكين نشأت من وحدة وزان شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية ، فان كان ثبوتهما له في حال الزبيبية كثبوتهما له في

٤٦٤

في حليته المغياة لا محالة أيضا (١) ، فيكون الشك في حليته أو حرمته فعلا بعد عروضها متحدا (٢) خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة بنحو كانتا (٣) عليه ، فقضية (٤) استصحاب حرمته

______________________________________________________

حال العنبية فلا إشكال في ثبوت الحرمة الفعلية له بمجرد الغليان ، وإلّا بأن شك في ثبوتهما له في حال الزبيبية كان الحكم الفعلي من الحلية والحرمة مشكوكا فيه.

(١) يعني : كالشك في الحرمة ، لما عرفت من الملازمة بين الشكين ، وقوله : «لا محالة» إشارة إلى الملازمة ، وضميرا «حليته ، حرمته» راجعان إلى العصير ، وضمير «عروضها» إلى «حالة» و «بعد عروضها» متعلق بـ «شك».

(٢) يعني : أن الشك في الحكم الفعلي من الحلية والحرمة بعد طروء الزبيبية مثلا على العنب متحد خارجا مع الشك في بقاء العنب على ما ثبت له من الحلية المغياة والحرمة المعلقة ، والاختلاف بينهما إنما هو في كون أحدهما بلحاظ الحالة السابقة دون الآخر. وقوله : «متحدا» إشارة إلى رد الحكومة التي أفادها الشيخ (قده) جوابا عن إشكال معارضة الاستصحاب التعليقي مع الاستصحاب التنجيزي ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى عند التعرض لحاشية المصنف على المقام.

(٣) أي : كانت الحرمة والحلية على النحو المزبور ، وهو كون الحرمة معلقة على الغليان والحلية مغياة به ، وضمير «بقائه» راجع إلى العصير ، وضمير «عليه» إلى «ما» في قوله : «ما كان عليه».

(٤) هذه نتيجة شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية ، فانه بعد عروض وصف الزبيبية للعنب وتحقق الغليان خارجا يكون مقتضى استصحاب حرمته المعلقة فعلية الحرمة وانتفاء الحلية ، لأنه مقتضى استصحاب حليته المغياة بغاية متحققة خارجا كما هو المفروض.

ولا يخفى أنه يستفاد من قوله : «فقضية استصحاب حرمته» إلى قوله : ««وانتفاء حليته» الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها المنكرون لحجية

٤٦٥

المعلقة بعد عروضها الملازم (١) لاستصحاب حليته المغياة حرمته فعلا بعد غليانه وانتفاء (٢) حليته ، فانه (٣) قضية نحو ثبوتهما

______________________________________________________

الاستصحاب التعليقي ، ومحصله : أن الاستصحاب التعليقي من الأصول المثبتة التي لا نقول باعتبارها. بيانه : أن الحرمة المعلقة حكم شأني ، وليست حكما فعليا حتى تكون بنفسها موردا للاستصحاب ، ولا موضوعا ذا أثر شرعي حتى يجري فيه الاستصحاب. نعم بقاء الحرمة المعلقة إلى أن يصير زبيبا غاليا مستلزم عقلا لفعلية الحرمة. وضمير «حرمته» راجع إلى العصير ، وضمير «عروضها» إلى «حالة».

(١) صفة لـ «استصحاب حرمته» وجه الملازمة هو شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية ، واستصحاب الحلية المغياة يقتضي ارتفاعها بمجرد حصول الغاية وكون الحكم الفعلي هي الحرمة.

(٢) معطوف على «حرمته» التي هي خبر «فقضية» وضمائر «حليته ، غليانه حليته» راجعة إلى العصير ، و «بعد غليانه» قيد لفعلية حرمته.

(٣) يعني : أن ما ذكر من ثبوت الحرمة الفعلية وانتفاء الحلية المغياة هو مقتضى كيفية جعل الحكمين ، إذ لازم شرطية الغليان للحرمة وغائيته للحلية هو ذلك. وهذا إشارة إلى جواب الوجه الثالث ، ومحصله : أن اللوازم على قسمين : أحدهما لوازم الشيء بوجوده الواقعي كحكم العقل بضدية الأضداد الوجودية للصلاة واستحالة اجتماعها معها كضدية النوم والأكل مثلا للصلاة ، فان الصلاة بوجودها الواقعي مضادة لهما.

ثانيهما : لوازم الشيء بمطلق وجوده من الواقعي والظاهري كحكم العقل بلزوم الامتثال للتكليف الثابت ولو بأمارة غير علمية أو أصل ، ووجوب المقدمة وحرمة الضد بناء على كونهما من الأحكام العقلية.

فان كانت اللوازم العقلية من قبيل القسم الأول لم يكن الأصل الجاري في الملزوم مثبتا لها إلّا على القول بحجية الأصل المثبت. وإن كانت من قبيل القسم

٤٦٦

كان (١) بدليلهما أو بدليل الاستصحاب كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب ، فالتفت (*) ولا تغفل.

______________________________________________________

الثاني كان الأصل الجاري في ملزوماتها مثبتا لها بلا إشكال ، والحرمة الفعلية المذكورة وإن كانت من اللوازم العقلية ، لكنها من القسم الثاني الثابت لما هو أعم من الواقع والظاهر ، فتترتب على الحرمة المعلقة بالغليان مطلقا من غير فرق بين ثبوتها بالدليل ، كقوله : «ماء العنب إذا غلى يحرم» وبالأصل كاستصحاب حرمته المعلقة بعد صيرورته زبيبا ، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى في الأصل المثبت.

(١) يعني : سواء أكان ثبوت الحكمين ـ اللذين أحدهما مشروط والآخر مغيا ـ بدليل اجتهادي أم أصل عملي كالاستصحاب ، وغرضه الإشارة إلى كون الحرمة الفعلية من اللوازم العقلية لمطلق وجود الحرمة المعلقة أي الأعم من الوجود الواقعي والظاهري ، فلا مانع من ترتبها على الحرمة المعلقة الثابتة بالاستصحاب من دون إشكال لزوم الإثبات ، كعدم مانع قطعا من ترتبها على الحرمة المعلقة الثابتة بالدليل الاجتهادي كما عرفت غير مرة.

__________________

(*) كي لا تقول في مقام التفصي عن إشكال المعارضة : ان الشك في الحلية فعلا بعد الغليان يكون مسببا عن الشك في الحرمة المعلقة ، فيشكل بأنه لا ترتب بينهما عقلا ولا شرعا ، بل بينهما ملازمة عقلا. لما عرفت من أن الشك في الحلية أو الحرمة الفعليتين بعده متحد مع الشك في بقاء حرمته وحليته المعلقة ، وأن قضية الاستصحاب حرمته فعلا ، وانتفاء حليته بعد غليانه ، فان حرمته كذلك وإن كان لازما عقلا لحرمته المعلقة المستصحبة ، إلّا أنه لازم أعم لها كان ثبوتها بخصوص خطاب أو عموم دليل الاستصحاب ، فافهم (*)

(*) قد أشار المصنف في هذه التعليقة إلى أمور :

الأول : الحكومة التي ادعاها الشيخ (قده) لدفع إشكال معارضة الاستصحاب التعليقي للتنجيزي ، حيث قال في التنبيه الرابع : «والثاني ـ أي المعارضة المزبورة ـ فاسد ، لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الإباحة قبل

٤٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الغليان» تقريب الحكومة على ما في حاشية تلميذة المحقق الآشتياني (قده) هو أنه «لا معنى للمعارضة المذكورة ، إذ الأصل في الحكم المعلق حاكم على الأصل في ضده ، فكيف يعارض معه؟ إذ الشك في ثبوت ضده وعدمه مسبب عن الشك في بقائه» هذا.

وحاصله : أن الشك في بقاء حلية ماء الزبيب المغلي ناش عن الشك في بقاء حرمته المعلقة على الغليان ، فبثبوتها بالاستصحاب ينتفي الشك في الحلية. ويقرر الحكومة بوجوه أخر ، لكن جميعها يرجع إلى التقريب المذكور في الحاشية المذكورة.

الثاني : الاعتراض الّذي أورده غير واحد على الحكومة المزبورة ، وقد تعرض له المصنف في حاشية الرسائل وأشار إليه أيضا في حاشية الكتاب بقوله : «فيشكل بأنه لا ترتب بينهما عقلا ولا شرعا» وحاصل الاعتراض : إنكار مبنى الحكومة وهو الترتب ، وعلّية أحد الشكين للآخر ، وإثبات عرضيتهما وكونهما متلازمين.

توضيح ذلك : أن الشك في بقاء الحلية ليس مسببا عن الشك في الحرمة المعلقة ، لأن التسبب يقتضي تعدد الرتبة كما هو شأن العلية والمعلولية ، وقد ثبت في محله وحدة رتبة الضدين ، وأن عدم أحدهما ليس مقدمة لوجود الآخر ، وكذا العكس بل هما متلازمان. وعليه فليس عدم الحرمة مقدمة وعلّة للحلية حتى يقال : «ان الشك في بقاء الحلية مسبب عن الشك في بقاء الحرمة ، ويكون الأصل الجاري في بقاء الحرمة رافعا للحلية» بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر ، ومع التلازم ـ وعدم تعدد الرتبة وعدم تسبب أحد الشكين عن الآخر ، وكونهما معلولين لعلة ثالثة وهي تأثير الغليان الحاصل حال الزبيبية في الحرمة وعدمه ـ يتعارض الأصلان لا محالة وينتفي حديث الحكومة.

ولذا عدل المصنف عما أجاب به الشيخ في رسائله وطهارته معبّرا عنه في

٤٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأول بالحكومة ، وفي الثاني بالورود مع إبدال استصحاب الحرمة فيه أيضا باستصحاب النجاسة ، وأجاب هو عن الإشكال بوجه آخر ، وهو قوله : «لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل ... إلخ» وقد مر توضيحه ، وملخصه : أن الشك في حرمته أو حليته فعلا متحد مع الشك في بقاء الحرمة المعلقة والحلية المغياة ، وليس شكا آخر مغايرا له ، ومقتضى شرطية الغليان للحرمة المفروض وجوده خارجا وغائيته للحلية هو ارتفاع الحلية وثبوت الحرمة فعلا ، فان هذا مقتضى كيفية جعل الحكمين وتشريعهما ، هذا.

لكنك خبير بأن هذا الوجه الّذي أفاده المصنف (قده) جواب عن الحكومة وعن الاعتراض المزبور ، لأنه أنكر تعدد الشك فضلا عن تعدد الرتبة ، وأثبت أن الشك في الحكم الفعلي من الحلية والحرمة هو عين الشك في الحكم الّذي كان بعد عروض وصف الزبيبية للعنب ، حيث انه بعد عروضه صار كل من حليته المغياة بالغليان وحرمته المعلقة عليه مشكوكا ، وبعد تحقق الغليان خارجا يكون الشك في الحكم الفعلي عين ذلك الشك لا غيره ، ضرورة أن المشكوك فيه أعني الحلية الفعلية أو الحرمة كذلك هو عين الحلية المغياة والحرمة المعلقة قبل الغليان ، فليس هنا شكّان حتى يكون أحدهما سببا للآخر وحاكما عليه كما أفاده الشيخ (قده) أو يكونا متلازمين حتى يصير أصلاهما متعارضين كما هو مقصود المستشكلين على الحكومة.

ثم إن المصنف (قده) أشار إلى منع الملازمة بين الشكين التي أثبتها منكروا الحكومة في حاشيته على المتن بقوله : «لما عرفت من أن الشك في أن الحلية أو الحرمة الفعليتين بعده متحد ... إلخ» حيث ان الاتحاد ينفي موضوع الملازمة المتقومة بالتعدد ، ومع فرض الاتحاد لا يبقى موضوع للتلازم ، كما لا يبقى موضوع للحكومة المتقومة بشيئين حاكم ومحكوم ، فإثبات الاتحاد ينفي موضوع كل من الحكومة والتلازم ، ويدفع كليهما.

وبهذا يظهر التهافت بين كلاميه أعني قوله : «باتحاد الشك في الحلية المغياة

٤٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مع الشك في الحرمة المعلقة» وقوله : «فان حرمته كذلك وان كان لازما عقلا لحرمته المعلقة المستصحبة» وذلك لاقتضاء الملازمة تعدد المشكوكين أعني الحلية المغياة والحرمة المعلقة ، ومع هذا التعدد لا يتصور اتحاد الشكين.

مضافا إلى : أنه لا يفي بحل إشكال المعارضة ، لاجتماع أركان الاستصحاب في كل من الحلية الفعلية للعنب بعد تبدله بالزبيب قبل الغليان ، والحرمة المعلقة عليه ، ولمكان التضاد بين المستصحبين فالتعبد بكل منهما في ظرف الشك ينفى الآخر بالملازمة ، ومقتضى استصحاب الحلية الفعلية بعد غليان الزبيب حلية العصير المغلي ، كما أن مقتضى استصحاب حرمة العصير العنبي المعلقة على الغليان حرمة نقيع الزبيب. وعليه فلم يظهر وجه تحكيم استصحاب الحرمة المعلقة على استصحاب الحلية المغياة.

وقد يقال في بيان مرام المصنف : بعدم جريان الاستصحاب في الحلية الفعلية للزبيب قبل الغليان ، لوجود أصل حاكم عليه ، وذلك للفرق بين حلية العنب والزبيب ، فحلية العنب المطلقة قبل الغليان لا تجتمع مع الحرمة المعلقة. وحلية الزبيب وإن كانت متيقنة ، إلّا أنها مرددة بين كونها نفس الحلية الثابتة للعنب حتى تكون مغياة بالغليان ، أو أنها حادثة للزبيب بعنوانه كحلّية التمر في قبال الرطب فتكون باقية ولو بالاستصحاب ، ومن المعلوم انتفاء احتمال حدوث حلية أخرى بعنوان الزبيب بأصالة عدمه. فحلية الزبيب هي حلية العنب المغياة بالغليان ، وهي ترتفع به ، ولا تكون قابلة للاستصحاب حتى يعارض بها حرمته بعد الغليان. وهذا نظير ما تقدم في استصحاب الكلي من أن المحدث بالحدث الأصغر إذا رأى بللا مرددا بين البول والمني فتوضأ لم يجر استصحاب كلي الحدث في حقه ، لوجود الأصل الحاكم وهو أصالة عدم حدوث الجنابة. وعليه فجواب المصنف (قده) متين جدا (١)

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ١٤٢

٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لكنه لا يخلو من تأمل ، ضرورة أن حلية الزبيب المغياة بالغليان مرددة بين كونها نفس حلية العنب المفروض زوالها بتغير الوصف وكونها حلية حادثة بعنوان الزبيب وهي باقية ، ولا مانع من استصحاب الحلية على ما هي عليها في نفس الأمر. وأصالة عدم حدوث حلية بعنوان الزبيب قاصرة عن نفي الحلية المرددة ، لما تقدم في استصحاب الكلي من أن أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لا تصلح لنفي الكلي ، لعدم الترتب الشرعي الّذي هو شرط الحكومة. نعم في مسألة المحدث بالحدث الأصغر إنما نحكم بكفاية الوضوء من جهة اندراج المورد تحت الموضوع المركب من أمر وجودي وعدمي ، حيث يحرز الأول بالوجدان والثاني بالتعبد. وليس في المقام موضوع مركب لينطبق ضابطه عليه. وعليه فمشكلة المعارضة باقية بحالها ، ولا ترتفع بما أفاده المصنف (قده) كما لا ترتفع بالحكومة التي ذكرها شيخنا الأعظم (قده).

فتلخص من هذا الأمر الثاني مطلبان : أحدهما بطلان الحكومة ، ثانيهما : بطلان الملازمة التي أوردوها على الحكومة.

الثالث : أن الاستصحاب ليس مثبتا حتى لا يكون من هذه الجهة حجة ، وقد عرفت توضيحه سابقا في توضيح قوله : «فقضية استصحاب حرمته» وقد أشار إليه المصنف في الهامش بقوله : «فان حرمته كذلك وان كان لازما عقلا لحرمته المعلقة المستصحبة ... إلخ» هذا ما يتعلق بحاشية المصنف (قده) على الكتاب.

ولا بأس بالتعرض لوجوه أخرى استدل بها المنكرون لحجية الاستصحاب التعليقي غير الوجوه الثلاثة المتقدمة في المتن ، فنقول :

الوجه الرابع : ما في شرح المحقق الآشتياني (قده) من قوله : «وقد يدعي من لا خبرة له في قبال القائلين بحجية الاستصحاب التعليقي أن الوجود التعليقي وان كان نحوا من الوجود ، إلّا أن أخبار الاستصحاب منصرفة إلى الوجود التنجيزي ولا تشمل الوجود التعليقي. وأنت خبير بما فيه» (١) وضعفه ظاهر ، ولذا اكتفى

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٣ ـ ١٢٢

٤٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في دفعه بقوله : «وأنت خبير بما فيه» فان الانصراف إن كان لكثرة الأحكام المطلقة وقلة الأحكام المعلقة ، ففيه منع صغرى وكبرى. أما الصغرى فلما فيها من أن كثرة المطلقة وقلة المعلقة دعوى بلا بينة ، لكثرة الأحكام المعلقة ، إذ لا أقل من إناطتها بالشرائط العامة ، بل جميع الأحكام معلقة ، إذ المشروط بعد تحقق شرطه لا يصير مطلقا ، لأن معنى الإطلاق هو عدم تقيد الحكم بوجود شيء وعدمه ، وهذا مناف للاشتراط والتقييد ، فوجوب الحج مثلا بعد تحقق شرطه وهو الاستطاعة لا يصير مطلقا بأن يخرج الوجوب عن المشروطية بحيث يصير وجود الاستطاعة وعدمها بالنسبة إليه وإلى ملاكه على حد سواء.

وأما الكبرى فلما فيها من : أن كثرة الوجود بنفسها لا توجب الانصراف الصالح لتقييد الإطلاق ، إذ الصالح منه للتقييد لا بد أن يكون بمنزلة القرينة الحافة بالكلام المانعة عن انعقاد ظهوره في الإطلاق ، وهذا الانصراف لو لم يقطع بعدمه فالشك في وجوده كاف في لزوم التمسك بالإطلاق وعدم رفع اليد عنه ، لكونه من الشك في التقييد الّذي يرجع فيه إلى الإطلاق.

وإن كان الانصراف لعدم أنس الذهن بالوجود التعليقي كأنسه بالوجود التنجيزي ، ففيه : أنه من الانصراف البدوي الزائل بالتأمل ، وذلك لا يصلح للتقييد أيضا ، كانصراف الماء في قوله للكوفي : «توضأ» إلى ماء الفرات ، فإذا نزل بها مسافر من مصر مثلا ومعه شيء من ماء مصر فهل يصح القول بعدم جواز الوضوء به لانصراف الماء إلى ماء الفرات؟ فالمتحصل : أن دعوى انصراف أخبار الاستصحاب عن الوجود التعليقي غير مسموعة.

الوجه الخامس : انتفاء الموضوع في الاستصحاب التعليقي ، ومن البديهي اعتبار بقائه في كل استصحاب ، فالعنب المتبدل بالزبيب يعدّ معدوما ، فلا وجه لجريان الاستصحاب التعليقي فيه. وقد أشار إلى هذا الوجه شيخنا الأعظم (قده) بقوله : «نعم ربما يناقش الاستصحاب المذكور تارة بانتفاء الموضوع وهو العنب».

٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وفيه : أن مفروض الكلام في حجية الاستصحاب التعليقي وعدمها إنما هو فيما إذا اجتمعت فيه شرائط حجية الاستصحاب ، وكان الفارق بين الاستصحاب التنجيزي والتعليقي منحصرا في التعليقية ، ففي مثال العنب المتبدل بالزبيب إن كان التبدل به موجبا لانتفاء الموضوع منع ذلك عن استصحاب أحكامه المطلقة كالملكية أيضا ، ولذا قال الشيخ (قده) في دفعه : «لكن الأول لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر».

الوجه السادس : أن الأصل عدم حجية الاستصحاب التعليقي ، لأنه المرجع في كل ما شك في حجيته كما ثبت في محله. وفيه : أن إطلاق أدلة الاستصحاب لا قصور فيه ، فيشمل الاستصحاب التعليقي كما يشمل التنجيزي ، ومع الإطلاق لا تصل النوبة إلى الأصل المزبور.

فتلخص من جميع ما تقدم ضعف الوجوه التي أقيمت على عدم حجية الاستصحاب التعليقي ، وأن الحق حجيته ، لوجود المقتضي لها وفقد المانع عنها.

تكملة : لا يخفى أن الشيخ (قده) ممن أصرّ على حجية الاستصحاب التعليقي وأثبتها على من نفاها ، قال تفريعا على عدم الإشكال في حجيته وأن وجود كل شيء بحسبه ما لفظه : «فإذا قلنا : العنب يحرم ماؤه إذا غلى أو بسبب الغليان ، فهناك لازم وملزوم وملازمة. أما الملازمة وبعبارة أخرى سببية الغليان لتحريم ماء العصير فهي متحققة بالفعل من دون تعليق. وأما اللازم وهي الحرمة فله وجود مقيد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديري أمر متحقق في نفسه في مقابل عدمه ، وحينئذ فإذا شككنا في أن وصف العنبية له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ، فأي فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في بقائها بعد صيرورته زبيبا؟».

وحاصله : أن المستصحب في هذه القضية هو الحرمة المعلقة على الغليان ، وأن لهذه الحرمة وجودا مقيدا متحققا في نفسه في مقابل عدمه ، فإذا شك في بقائه

٤٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

جرى الاستصحاب فيه كجريانه في الوجود الفعلي غير المعلق على شيء.

ثم ان الشيخ (قده) أرجع الاستصحاب التعليقي إلى التنجيزي حتى لا يرد عليه إشكال التعليقية ، حيث قال : «مع أنك قد عرفت أن الملازمة وسببية الملزوم للّازم موجود بالفعل ، وجد الملزوم أم لم يوجد ، لأن صدق الشرطية لا يتوقف على صدق الشرط ، وهذا الاستصحاب غير متوقف على وجود الملزوم» وقال أيضا في طهارته في تاسع النجاسات في ردّ من جعل المستصحب في غليان ماء الزبيب حكما تعليقيا : «وفيه : أن هذا ليس من الاستصحاب التعليقي ، بل هو استصحاب حكم شرعي تنجيزي وهي سببية غليانه للحرمة واستلزامه لها ، فالمستصحب هو الاستلزام المنجز ، لا ثبوت اللازم المعلق ، وتمام الكلام في محله».

وهاتان العبارتان صريحتان في أن السببية حكم فعلي منجز لا تعليق فيه ، واستصحابها تنجيزي لا تعليقي ، وهما تدلان على كون السببية عنده مجعولة لا منتزعة عن الحكم التكليفي ، ضرورة أن فعليتها لا تلائم انتزاعيتها عن الحكم التكليفي الّذي ليس هو موجودا فعليا ، لتوقفه على الغليان في المثال ، إذ الحكم الصالح لانتزاع السببية عنه في المقام هي الحرمة المشروطة بالغليان ، ومع عدم فعلية منشأ الانتزاع لا يعقل فعلية ما ينتزع عنه.

ولذا لا يرد عليه ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) : «أولا : أن الملازمة وان كانت أزلية ، إلّا أنك قد عرفت في الأحكام الوضعيّة عدم تعقل الجعل الشرعي للملازمة والسببية ، فلا يجري استصحاب السببية في شيء من الموارد. وثانيا : من أن الملازمة بعد تسليم كونها من المجعولات الشرعية فانما هي مجعولة بعد تمام الموضوع والحكم ، بمعنى أن الشارع جعل الملازمة بين العنب المغلي وبين نجاسته وحرمته ، والشك في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم لا يعقل إلّا بالشك في نسخ الملازمة ، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ ولا إشكال فيه ، وهو غير الاستصحاب التعليقي المصطلح عليه. فالإنصاف : أن الاستصحاب التعليقي

٤٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مما لا أساس له ، ولا يرجع إلى معنى محصل» (١).

أقول : أما وجه عدم ورود الإشكال الأول فهو أنه مبنائي ، إذ بناء على عبارتي الشيخ المتقدمتين تكون السببية مجعولة بالاستقلال ، وليست منتزعة عن الحكم غير الفعلي الّذي لم يتحقق شرطه حتى يقال : ان منشأ انتزاعها ليس حكما فعليا فكيف يكون ما ينتزع عنه فعليا؟ نعم يرد هذا الإشكال على الشيخ (قده) بناء على ما في الرسائل في الأحكام الوضعيّة من كون السببية منتزعة عن الحكم التكليفي وعدم استيلاء يد التشريع الاستقلالي عليها حتى تكون من المجعولات الشرعية المستقلة.

مضافا إلى : أن منشأ انتزاع السببية هو جعل الشارع للحكم المشروط كما صرح به في الأحكام الوضعيّة. ولو كان منشأ انتزاعها فعلية المنشأ المنوطة بوجود الموضوع بجميع قيوده كالعنب المغلي في مفروض البحث توجه عليه إشكال استحالة وجود الأمر الانتزاعي قبل فعلية منشئه.

وأما وجه عدم ورود الإشكال الثاني فهو : أن الشك في الاستصحاب التعليقي ليس منشؤه الشك في النسخ حتى يقال : ان الاستصحاب التعليقي أجنبي عنه ، ولا أظن من أحد ادّعاء رجوعه إلى استصحاب عدم النسخ. وكيف كان فلا إشكال في أن الملازمة مجعولة بين تمام الموضوع والحكم ، والمستصحب هو هذه الملازمة المجعولة ، والشك في بقائها نشأ من تبدل حال من حالات الموضوع ، لا أنه نشأ من احتمال نسخها حتى يكون استصحاب الملازمة من صغريات استصحاب عدم النسخ.

وبناء على مجعولية الملازمة بالاستقلال لا يرد على الاستصحاب التعليقي ما تقدم سابقا في أدلة المنكرين من عدم الوجود للمستصحب ، وذلك لأن المفروض كون المستصحب حينئذ نفس الملازمة التي هي من الموجودات الفعلية ، لا الحرمة المعلقة على شرط غير موجود فعلا كالغليان ، ضرورة أن صدق القضية الشرطية

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ ـ ١٧٣

٤٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا يتوقف على وجود الشرط فعلا ، فقولنا : «ان كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا» قضية صادقة وإن كان التكلم به في الليل ، وكذا قولنا : «ماء الزبيب إذا غلى يحرم» قضية صادقة وان لم يكن فعلا زبيب أو غليان أو شيء منهما ، هذا.

ثم ان في التقريرات المذكورة إشكالا آخر ، وهو «مع أن القائل به لا أظن أن يلتزم بجريانه في جميع الموارد ، فانه لو شك في كون اللباس متخذا من مأكول اللحم أو من غيره ، فالحكم بصحة الصلاة فيه تمسكا بالاستصحاب التعليقي بدعوى أن المكلف لو صلّى قبل لبس المشكوك كانت صلاته صحيحة ، فتستصحب الصحة التعليقية إلى ما بعد لبس المشكوك ، والصلاة فيه ، مما لا أظن أن يلتزم به القائل بالاستصحاب التعليقي ، ولو فرض أنه التزم به فهو بمكان من الغرابة» (١).

لكن لا يخفى أن عدم الالتزام بجريان الاستصحاب التعليقي فيه وفي نظائره إنما هو لإشكال المثبتية ، حيث ان لبس ما يؤكل إما شرط للصلاة ، وإما لبس ما لا يؤكل مانع عنها ، وأي واحد منهما كان تتوقف صحة الصلاة على إحرازه ولا يحرز باستصحاب الصحة أن لباسه كان واجدا للشرط وهو كونه مما يؤكل ، أو فاقدا للمانع وهو كونه مما لا يؤكل ، إلّا على القول بحجية الأصل المثبت.

والحاصل : أن استصحاب الصحة ـ التي هي حكم ـ لا يثبت الموضوع وهو كون اللباس من المأكول أو من غيره. هذا إذا كان مركز الاشتراط نفس الصلاة. وأما إذا كان نفس اللباس ، فلا مجال فيه للاستصحاب أصلا لا التعليقي ولا التنجيزي لعدم الحالة السابقة له.

وأما إذا كان مركز الاشتراط نفس المصلي ، فيجري فيه الاستصحاب التنجيزي لعدم كونه لابسا لما لا يؤكل قبل لبس هذا اللباس المشكوك فيه ، فيستصحب عدم لابسيته له. وكذا إذا وقع على لباسه ما يشك في كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فانه يجري فيه استصحاب عدم لابسيته له ، هذا.

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ ـ ١٧٣

٤٧٦

السادس (١) : لا فرق

______________________________________________________

(التنبيه السادس : استصحاب عدم النسخ)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر تعميم حجية استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى كل حكم إلهي سواء أكان من أحكام هذه الشريعة أم من أحكام الشرائع السابقة ، واختار المصنف وفاقا لشيخنا الأعظم (قدهما) عدم اختصاص أدلة الاستصحاب بما إذا كان المستصحب ـ حكما محتمل النسخ ـ من شرائع الإسلام ، بل يجري فيما إذا احتمل نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة أيضا ، وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وخالف فيه جمع كالمحقق في الشرائع وصاحبي القوانين والفصول على ما حكي عنهما ، ومثّلوا له بجملة من الفروع التي ذكرها شيخنا الأعظم :

منها : مشروعية ضمان ما لم يجب ، وجهالة الجعل ، استشهادا بقوله تعالى في حكاية قصة مؤذن يوسف على نبينا وآله وعليه‌السلام : «ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم».

ومنها : جواز الترديد في إنشاء الزوجية لإحدى المرأتين حكاية عن قول شعيب في مخاطبته لموسى عليهما‌السلام : «اني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين» بناء على كونه في مقام إنشاء الزوجية ، لا الإخبار عن رغبته في أصل التزويج.

ومنها : استحباب النكاح نفسيا لخصوص من تاقت نفسه إليه في شريعة يحيى عليه‌السلام. قال المحقق في آداب عقد النكاح : «فالنكاح مستحب لمن تاقت نفسه من الرّجال والنساء. ومن لم تتق فيه خلاف ، المشهور استحبابه ... وربما احتج المانع بأن وصف يحيى عليه‌السلام بكونه حصورا يؤذن باختصاص هذا الوصف بالرجحان ، فيحمل على ما إذا لم تتق النّفس. ويمكن الجواب بأن المدح بذلك في شرع غيرنا لا يلزم منه وجوده في شرعنا» (١) ولا يخفى ظهور الجملة الأخيرة في إنكار استصحاب أحكام الشرائع السالفة.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ٢ ـ ٢٦٦ الطبعة الحديثة

٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وينبغي تحرير محل النزاع ـ أي مورد جريان استصحاب عدم النسخ وعدمه ـ قبل توضيح المتن ، فنقول : ان حقيقة النسخ عندنا لمّا كانت تقييد الحكم زمانا وكان دليل النسخ كاشفا عن انتهاء أمده ، فلا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ إلّا بعد فرض أمرين ، أحدهما : فقدان الإطلاق الأزماني لدليل الحكم ، ثانيهما : ثبوت الحكم في الشريعة السابقة بنحو القضية الحقيقية لعامة المكلفين لا لخصوص تلك الملة. أما الأمر الأول فلأنه لو كان لدليل الحكم إطلاق أزماني كان هو المرجع عند الشك في النسخ لا الاستصحاب ، لحكومته على الاستصحاب.

وبيانه : أن حكم الشريعة السابقة إما أن يكون دليله وافيا بإثباته لعامة المكلفين في جميع الأزمنة للتصريح بإطلاقه الأزماني ، أو ما هو كالصريح فيه ، وفي مثله لا يحتمل النسخ ، وهذا نظير وجوب أصل الصلاة والصوم ونحوهما من الفرائض. وإما أن يكون دليله وافيا بإثباته للعموم إلى الأبد بإطلاقه المستند إلى مقدمات الحكمة ، وفي مثله يحتمل النسخ بالشريعة اللاحقة ، إلّا أن الدافع لاحتمال النسخ هو الإطلاق لا الاستصحاب ، ونسخه منوط بورود الناسخ الّذي هو مقيد لإطلاق الخطاب زمانا. وإما أن يكون متكفلا لثبوت الحكم في تلك الشريعة بنحو الإجمال كبعض الآيات الواردة لبيان أصل تشريع الأحكام بلا نظر إلى خصوصياتها ، كقوله تعالى : «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم» حيث إنها ليست في مقام بيان تمام ما له الدخل في الصوم ، فلو ثبت أصل الحكم في شريعة سابقة وشك في نسخه في الشريعة اللاحقة فحيث إنه لا إطلاق له حتى بمعونة المقدمات كان مورد النزاع في المقام من حيث جريان الاستصحاب فيه وعدمه.

وأما الثاني ـ أعني اعتبار أن يكون الحكم ثابتا بنحو القضية الحقيقية ـ فلأنه مع ثبوته للمكلفين بنحو القضية الخارجية لا يجري فيه الاستصحاب إذا شك في بقائه لأشخاص آخرين ، لاختلاف الموضوع حينئذ ، وكونه من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، ومن المعلوم أنه أجنبي عن الاستصحاب ، فلا تعمه

٤٧٨

أيضا (١) بين أن يكون المتيقن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة إذا شك في بقائه وارتفاعه بنسخة (٢) في هذه الشريعة ، لعموم (٣) أدلة الاستصحاب.

______________________________________________________

أدلته. مثلا إذا ورد حكم في التوراة بعنوان «يا أيها اليهود» ونحوه ، فليس للمسلم استصحاب ذلك الحكم ، لتعدد الموضوع ، إلّا إذا أحرز كون اليهود عنوانا مشيرا إلى كل مكلف.

ثم ان الفرق بين هذا البحث وما سيأتي في التنبيه الثاني عشر من استصحاب النبوة هو : أن المقصود بالبحث في هذا التنبيه استصحاب بعض أحكام الشريعة السابقة بعد اليقين بورود شريعة أخرى ، للشك في أن المنسوخ جميع الأحكام أو بعضها ، بخلافه في التنبيه الثاني عشر ، إذ المقصود بالبحث عن الاستصحاب فيه إثبات عدم منسوخية الشريعة السابقة ، وإنكار تشريع دين آخر ، كإنكار اليهودي بعثة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتمادا على استصحاب نبوة موسى عليه‌السلام ، على تقدير إرادة الأحكام الفرعية من النبوة ، لا نفس الصفة الملكوتية القائمة بنفس النبي ، وسيجيء تفصيله هناك إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : كما لا فرق في اعتبار الاستصحاب بين كون المستصحب حكما فعليا وتعليقيا كذلك لا فرق في اعتباره بين كون الحكم المشكوك نسخه من أحكام هذه الشريعة وبين كونه من أحكام الشرائع السابقة إذا شك في نسخه في هذه الشريعة المقدسة.

(٢) متعلق بقوله : «وارتفاعه» يعني : أن يكون الشك في ارتفاعه بسبب نسخه في هذه الشريعة ، لا بسبب آخر كتبدل حال من حالات الموضوع مثلا ، فان ذلك أجنبي عن الشك في النسخ ، فالشك في النسخ إنما يكون مع تمامية الموضوع ووجود جميع ما يعتبر فيه شطرا وشرطا.

(٣) تعليل لقوله : «لا فرق» وغرضه إقامة الدليل على حجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة كحجيته في أحكام هذه الشريعة ، ومحصله : أن

٤٧٩

وفساد (١) توهم اختلال أركانه فيما كان المتيقن من أحكام الشريعة السابقة

______________________________________________________

أركان الاستصحاب ـ وهي اليقين السابق والشك اللاحق ووحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وكون المستصحب حكما شرعيا ـ موجودة في استصحاب الشرائع السابقة ، فتشمله أدلته ، لكونه من أفراد عموم مثل «لا تنقض اليقين بالشك».

وإن شئت فعبّر عن عموم أدلة الاستصحاب بوجود المقتضي كما عبّر به الشيخ (قده) إذ المقصود هو اجتماع أركان الاستصحاب ، ولذا قيل : ان مفروض الكلام هنا إنما هو بعد تحقق جميع ما يعتبر في الاستصحاب ، وليس محط البحث عدم اجتماع أركان الاستصحاب ، بل محطه هو عدم كون المتيقن من أحكام هذه الشريعة. لكنه محل التأمل كما يظهر من أدلة المانعين.

وبالجملة : فالمصنف (قده) يدعي عموم أدلة الاستصحاب ، وعدم المانع عن شمولها لاستصحاب أحكام الشرائع السابقة ، وينكر صحة الوجوه التي تمسك بها المنكرون لحجيته كما سيظهر.

(١) معطوف على «عموم» أي : ولفساد توهم ... إلخ ، وهذا إشارة إلى أول الوجوه التي احتج بها المنكرون لحجية استصحاب عدم النسخ في أحكام الشرائع السابقة ، وحاصل هذا الوجه هو : أن المقتضي لجريان استصحاب عدم النسخ فيها مفقود ، لاختلال أحد ركنيه من اليقين السابق أو الشك اللاحق. أما الأول ـ وهو الّذي تعرض له الشيخ (قده) بقوله : «منها ما ذكره بعض المعاصرين من أن الحكم الثابت في حق جماعة لا يمكن إثباته في حق آخرين ، لتغاير الموضوع فان ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه» ـ فلكون الموضوع للأحكام أهل تلك الشرائع فلا يجري فيها الاستصحاب بالنسبة إلى غيرهم ، لتعدد الموضوع ، مع بداهة تقوم الاستصحاب بوحدته ، وإلّا يلزم تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر. وهذا ينفي اليقين بثبوت أحكام تلك الشرائع بالنسبة إلينا ، فان احتمال اختصاصها بأهل تلك الشرائع كاف في عدم حصول اليقين بثبوتها في حقنا ، والإخلال بأول ركني الاستصحاب. وأما الثاني فسيأتي بيانه.

٤٨٠