منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعن رجوعه إلى استصحاب الفرد المردد. هذا تمام الكلام في المسألة العبائية.

(استصحاب الفرد المردد)

أما الأمر الأول وهو استصحاب الفرد المردد فله صورتان :

إحداهما : أن يكون الشك في بقاء المعلوم بالإجمال من جهة ارتفاع أحد الفردين أو خروجه عن مورد الابتلاء.

وثانيتهما : أن يكون الشك في بقائه من جهة أخرى.

أما الصورة الأولى ، فالحق وفاقا لجمع من المحققين عدم اعتباره فيها ، خلافا للسيد الفقيه الطباطبائي (قده) على ما في حاشية المكاسب في التعليق على استدلال الشيخ الأعظم (قده) على لزوم المعاطاة باستصحاب القدر المشترك بين الملكية الجائزة واللازمة ، حيث قال : «بأنه من استصحاب القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، والحق عدم جريانه فيه ... إلى أن قال : ثم إن التحقيق إمكان استصحاب الفرد الواقعي المردد بين الفردين ، فلا حاجة إلى استصحاب القدر المشترك حتى يستشكل عليه بما ذكرنا. وتردّده بحسب علمنا لا يضر بتيقن وجوده سابقا ، والمفروض أن أثر القدر المشترك أثر لكل من الفردين ، فيمكن ترتيب ذلك الأثر باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا كما في القسم الأول الّذي ذكره في الأصول ، وهو ما إذا كان الكلي موجودا في ضمن فرد معين فشك في بقائه ، حيث إنه حكم فيه بجواز استصحاب كل من الكلي والفرد ، فتدبر» (١).

وحيث كان قيام الأمور الاعتبارية بالمردد معقولا بنظره الشريف فلذا قوّى في وقف العروة جواز الوقف لأحد الشخصين أو أحد المسجدين ونحوهما ، فلاحظ كلامه هناك (٢).

أقول : أما ما نسبه (قده) في حاشية المكاسب إلى الشيخ من التزامه باستصحاب

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧٣

(٢) العروة الوثقى ٢ ـ ٢١٣

٣٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الفرد لترتيب أثر القدر المشترك عليه فلعله سهو من قلمه الشريف ، لظهور الكلام في خلافه ، أي ترتيب أثر الكلي باستصحابه وأثر الفرد باستصحابه ، لا ترتيب أثر الكلي على استصحاب الفرد ، لكون المناط في جريانه موضوعية المستصحب للأثر الشرعي كما سبق التنبيه عليه في صدر هذا التنبيه ، قال الشيخ : «أما الأول فلا إشكال في جواز استصحاب الكلي ونفس الفرد ، وترتيب أحكام كل منهما عليه».

وأما أصل مدعاه من جريان الأصل في الفرد المردد فقد نوقش فيه تارة بمنع ثاني ركني الاستصحاب كما عن المحقق النائيني (قده) وأخرى بمنع ركن اليقين بالحدوث كما في حاشية المحقق الأصفهاني ، وثالثة باختلال شرط جريانه وهو ترتب الأثر الشرعي على استصحاب الفرد المردد ، ورابعة بغير ذلك.

وكيف كان ، فما قيل أو يمكن أن يقال في وجه عدم جريان الاستصحاب في الصورة الأولى وجوه :

الأول : انتفاء ثاني ركني الاستصحاب فيه وهو الشك في البقاء ، بتقريب : أن الفرد بما له من التشخص مردد بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع ، فلا شك في بقاء الفرد الواقعي المعلوم الحدوث ، إذ المفروض أنه إما معلوم البقاء أو مقطوع الارتفاع ، ومن المعلوم أن الشك في البقاء أحد ركني الاستصحاب.

وفيه : أن القطعين المزبورين إنما ينافيان الشك في البقاء إذا كانا فعليين ، وأما إذا كانا تقديريين فلا منافاة بينهما أصلا ، بداهة أن القطع على تقدير غير معلوم الحصول ليس قطعا فعلا بالحمل الشائع ، بل هو شك حقيقة ، فالحالة الفعلية حينئذ هي الشك في بقاء ما علم بحدوثه إجمالا بعد تحقق رافع أحدهما ، كالوضوء ممن علم بحدث مردد بين البول والمني ، فان الوضوء يوجب الشك وجدانا في ارتفاع ما علم به إجمالا من الحدث المردد.

الثاني : انهدام أول ركني الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث ، بتقريب :

٣٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن الخصوصية المفرّدة مجهولة ، لترددها بين خصوصيتين ، ومع التردد بينهما لا يحصل العلم التفصيليّ بأحدهما ، فالمتيقن هو القدر المشترك والجامع بينهما ، ومتعلق الجهل كل واحدة من الخصوصيّتين ، كما هو شأن سائر العلوم الإجمالية ، ومع فرض عدم موضوعية القدر المشترك للأثر الشرعي لا وجه لجريان الاستصحاب فيه وان اجتمعت فيه أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، إذ المفروض كون الأثر الشرعي مترتبا على إحدى الخصوصيّتين المفرّدتين ، لا على الجامع بينهما. فما اجتمع فيه أركان الاستصحاب وهو الكلي لا يترتب عليه أثر شرعي وما هو موضوع الأثر الشرعي أعني مصداق الفرد بماله من العنوان التفصيليّ كصلاة الظهر والجمعة ونجاسة هذا الإناء وذاك لا يجتمع فيه أركان الاستصحاب لعدم اليقين السابق بالخصوصية.

وأما ما أفيد لمنع ركن اليقين بالحدوث من «أن اليقين أمر تعلقي بطبعه فلا بد من تعين المتعلق كي يصير معلوما ، واليقين مساوق للوجود والتشخص ، فان أريد بتيقن وجود الفرد المردد اليقين بالطبيعي الموجود بوجود أحد الفردين مع قطع النّظر عن الخصوصية المفرِّدة له فهو يقين بالكلي دون الفرد. وإن أريد به اليقين بالخصوصية المفردة المرددة بين الخصوصيّتين ، فأصل هذا اليقين محال ، لأن أحد الفردين المصداقي لا ثبوت ولا ماهية ولا وجود له حتى يصير معلوما ، ولا معنى لتحقق الأمر الإضافي مع عدم ما يضاف إليه. كما لا معنى لوجود العلم المطلق في أفق النّفس.

ومنه يعلم أن الإشارة إلى الموجود الشخصي المبهم عندنا واقعا لا يجعل الفرد بما هو معلوما ، إذ التشخص الّذي هو بعين حقيقة الوجود لأنه المتشخص بذاته المشخّص لغيره غير مفيد ، لأن المستصحب على أي حال هو الموجود المضاف إما إلى الماهية الشخصية أو الكلية» (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٧١

٣٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ففيه : أنه لا وجه لحصر المعلوم في الفرد المعين والطبيعي ، إذ لازم ذلك إنكار منجزية العلم الإجمالي وعدم وجوب الموافقة القطعية ، لفرض عدم كون المعلوم بالإجمال وجها للفرد. ومن المعلوم أن العلم بالجامع لا يتعدى عن متعلقه إلى صورة أخرى في أفق النّفس ، والمفروض أن العلم الإجمالي لا يختلف عن العلم التفصيليّ في حد العلمية كما صرح به ، ومع فرض الجهل بالخصوصيتين يكون تنجيز العلم الإجمالي منوطا بكفاية وصول الخصوصية بواسطة وصول العنوان المعلوم إجمالا القابل للانطباق على كل واحد من الفردين.

وعليه فلا وجه للإشكال على استصحاب الفرد المردد بمنع ركن اليقين بالحدوث بالبيان المتقدم عن المحقق الأصفهاني (قده).

الثالث : أن الشك في الاستصحاب لا بد من رجوعه إلى الشك في بقاء الحادث ، لا في كون الباقي هو الحادث ، بأن لا يرجع الشك إلى الشك في حدوث الفرد الباقي ، فإذا علم إجمالا بوجوب إحدى الصلاتين الظهر والجمعة وأتى بالجمعة وأراد إجراء الاستصحاب ، فان الشك فيه يرجع إلى الشك في حدوث الفرد الباقي لا في بقاء الفرد الحادث ، إذ المفروض القطع بارتفاع الوجوب على تقدير تعلقه بالجمعة ، فالشك إنما يتعلق بحدوث الفرد الآخر. وقد عرفت أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون الشك في بقاء الحادث لا في حدوث الباقي ، فان جرى الاستصحاب في الفرد المردد على ما هو عليه من الترديد اقتضى ذلك الحكم ببقاء الحادث على كل تقدير سواء أكان هو الفرد الباقي أم المرتفع. وهذا ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير كونه هو الفرد المأتي به ، فلا وجه لاستصحاب الفرد المردد بما هو مردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد.

نعم أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء بالنسبة إلى الكلي الجامع بين الفردين موجودة ، ففي مثل الحدث المردد بين الأكبر والأصغر لا مانع من إجراء الاستصحاب في كلي الحدث بعد الإتيان بالوضوء مثلا وترتيب

٣٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

آثاره من المانعية عن الصلاة وحرمة مس كتابة القرآن عليه. لكن هذا أجنبي عن استصحاب الفرد المردد الّذي هو مورد البحث.

فالمتحصل : أن مرجع هذا الوجه الثالث إلى أن الشك هنا في حدوث الباقي ، وليس شأن الاستصحاب إثبات حدوثه ، بل شأنه إثبات بقاء الحادث. وعليه فلا مجال لجريان الاستصحاب في الفرد المردد أصلا بعد ارتفاع أحد فردي الترديد.

إلّا أن يقرر بنحو يرجع فيه الشك إلى بقاء ما حدث ، ببيان : أنه بإتيان أحد الفردين يشك في سقوط الواجب الّذي اشتغلت به الذّمّة ، ومقتضى الاستصحاب بقاؤه ، فتأمل.

الرابع : ما يظهر من تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) من : أنه يعتبر في الاستصحاب تعلق اليقين والشك بموضوع ذي أثر شرعي ، فلو تعلقا بعنوان لا يترتب عليه أثر شرعي فلا وجه لجريانه فيه ، إذ التعبد الاستصحابي لا بد أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المستصحب. وهذا الشرط مفقود في المقام ، ضرورة أن عنوان إحدى الصلاتين أو أحد الإناءين مثلا ليس موضوعا للأثر الشرعي ، بل الموضوع له هو العنوان التفصيليّ كالظهر أو الجمعة ، أو خصوص هذا الإناء أو ذاك الإناء في الإناءين المشتبهين ، ومن المعلوم أن هذا العنوان التفصيليّ لم يتعلق به اليقين والشك حتى يجري فيه الاستصحاب ، وإنما تعلقا بعنوان إجمالي عرضي كأحد الفردين أو الفرد المردد ، ومن المعلوم أن هذا العنوان العرضي وإن تعلق به اليقين والشك ، إلّا أنه لأجنبيته عما هو موضوع الأثر الشرعي لا يجري فيه الاستصحاب ، فما هو الموضوع للحكم الشرعي أعني العنوان التفصيليّ لم يتعلق به اليقين والشك ، وما تعلقا به ليس موضوعا للأثر الشرعي (١).

وملاك هذا الوجه الرابع عدم تعلق اليقين والشك بما هو موضوع الأثر الشرعي ، وملاك الوجه الثالث عدم تعلق الشك ببقاء الحادث الّذي هو من شرائط

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١١٤

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاستصحاب.

ثم إنه قد ظهر مما ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد ـ لعدم ترتب الأثر الشرعي عليه ـ وجه جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني مع تردد الكلي بين فردين كالحدث المردد بين الأكبر والأصغر بعد الغسل أو الوضوء بناء على موضوعية كلي الحدث لأحكام شرعية ، وذلك لوضوح ترتب الأثر الشرعي على نفس الكلي الّذي تعلق به اليقين والشك هناك. بخلاف الفرد المردد ، فانه ليس موضوعا للأثر الشرعي ، ولذا لا يجري فيه الاستصحاب وإن تعلق به اليقين والشك. ففرق واضح بين الفرد المردد واستصحاب الكلي في القسم الثاني في أنه يجري في الكلي ولا يجري في الفرد المردد مطلقا لا الشخصي ولا الكلي.

أما الشخصي فلما مر من كون الشك هنا في حدوث الفرد ، لا في بقاء الفرد الحادث الّذي هو مورد الاستصحاب ، دون الأول. مضافا إلى : أن استصحابه بعنوان كونه مرددا مرجعه إلى بقاء الحادث على كل تقدير سواء أكان هو الفرد الزائل أم الباقي ، ومن المعلوم أنه ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير كونه هو الفرد الزائل ، ومع العلم بارتفاع أحد فردي الترديد كيف يجري الاستصحاب في الفرد بوصف كونه مرددا؟ هذا.

وأما الكلي فان أريد باستصحابه إثبات أن الباقي هو متعلق التكليف ، ففيه : أنه مبني على الأصل المثبت الّذي لا نقول به. وان أريد باستصحابه لزوم الإتيان بالباقي تحصيلا للعلم بفراغ الذّمّة عما اشتغلت به ، ففيه : أنه يكفي في ذلك حكم العقل بعد تنجز التكليف الفعلي بالعلم الإجمالي بلزوم الإطاعة وإحراز فراغ الذّمّة من دون حاجة في ذلك إلى الاستصحاب ، بل من المعلوم أنه لا مورد له مع قاعدة الاشتغال ، لأن موضوعها وهو الشك حاصل بالوجدان ، والاستصحاب محرز تعبدي له ، ومن البديهي أنه لا مجال لإحراز الموجود وجدانا بالتعبد ، لأنه من أردإ وجوه تحصيل الحاصل ، حيث انه لا سنخية بين الإحراز التعبدي والوجداني.

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فالمقام من موارد قاعدة الاشتغال لا الاستصحاب ، لعدم ترتب الأثر وهو لزوم تحصيل العلم على الواقع حتى نحتاج في إحرازه إلى الاستصحاب كما حقق ذلك مفصلا في محله.

لا يقال : إن الأثر وهو لزوم الامتثال عقلا من الآثار المترتبة على الأعم من الحدوث والبقاء ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في البقاء.

فانه يقال : لا مجال للاستصحاب أيضا ، لاستناد الشيء إلى أسبق علله ، وحكم العقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ مستند إلى العلم الإجمالي بحدوث التكليف ، ومن المعلوم تقدم الحدوث على البقاء.

ثم إنه قد يتوهم أن عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد إنما هو فيما إذا كان العنوان الإجمالي مقصودا بالأصالة وبنحو الموضوعية. وأما إذا كان مقصودا بالعرض وبنحو العنوان المشير إلى ما هو الموضوع للأثر الشرعي فلا مانع من التعبد ببقائه للوصول إلى التعبد ببقاء ما هو الموضوع للحكم.

لكنه فاسد ، إذ فيه أولا : عدم صلاحية المردد المجهول للحكاية عن الفرد المعين والعلم به ، لأن التردد مساوق للجهل الّذي يمتنع أن يكون موجبا للعلم.

وثانيا : عدم إمكان تعنون المحكي بالعنوان الحاكي عنه ، مع أن تعنونه بذلك ضروري ، مثلا عنوان «من في الصحن» لا يجعل مشيرا إلى أشخاص إلّا إذا كانوا داخلين في الصحن ، ولا يصح جعله مشيرا إلى الخارجين عنه وان كان المقصود ذواتهم دون هذا العنوان العرضي ، ومن المعلوم امتناع تعنون المحكي بعنوان الفرد المردد بهذا العنوان ، لأن المحكي معين وهو مضاد للفرد المردد ، فلا يصلح المردد للحكاية عن المعين الّذي هو موضوع الأثر.

وثالثا : ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من : أنه ان أخذ عنوانا لهذا الفرد كان مقطوع البقاء ، وان أخذ عنوانا للفرد الآخر كان مقطوع الارتفاع ، فلا شك في البقاء إلّا بعنوان الفرد المردد الّذي ليس هو موضوع الأثر بالفرض حتى

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يجري فيه الاستصحاب.

وأما الصورة الثانية ، وهي الشك في بقاء الفرد المردد لا من جهة اليقين بارتفاع أحد الفردين ، بل من جهة أخرى ـ كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم شك في زوال نجاسته بسبب احتمال ورود مطهّر من مطر أو غيره عليه ـ فقد ظهر حكمها مما تقدم ، حيث ان عنوان الفرد المردد لم يرد في دليل موضوعا لحكم شرعي حتى يجري فيه الاستصحاب ، كما لا يجري في كل واحد من الفردين معينا ، لانتفاء اليقين بالخصوصية ، إذ لم يتعلق ذلك إلّا بعنوان أحدهما المردد الّذي لا أثر له إلّا لزوم الاجتناب عنهما ، وهو حكم عقلي مترتب على تنجيز العلم ، ومعه لا حاجة إلى جريان الاستصحاب فيه ، بل لا وجه له ، لما أشير إليه سابقا من عدم جريانه في موارد قاعدة الاشتغال. هذا ما يتعلق بمهمات مباحث الأمر الأول أعني استصحاب الفرد المردد.

(استصحاب المفهوم المردد)

وأما الأمر الثاني وهو استصحاب المفهوم المردد ـ كتردد مفهوم الكرّ بين ما بلغ مكسرة ثلاثة وأربعين شبرا إلّا ثمن شبر كما هو المشهور بناء على كون كل بعد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار ونصف شبر. أو ستة وثلاثين شبرا بناء على كون بعده العمقي أربعة أشبار ، وكل واحد من بعديه الآخرين ثلاثة أشبار. أو سبعة وعشرين شبرا بناء على كون كل من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار. وكتردد مفهوم النهار بين ما ينتهي باستتار القرص أو بذهاب الحمرة المشرقية. وكتردد مفهوم الرضاع الناشر للحرمة بين ما بلغ عشر رضعات أو خمس عشرة رضعة. وكتردد مفهوم العدالة بين ترك الكبائر فقط أو مع الاجتناب عن منافيات المروة. وكتردد مفهوم الغناء بين الصوت المشتمل على مطلق الترجيع أو خصوص الترجيع المطرب المناسب لمجالس اللهو ومحافل الطرب ، إلى غير ذلك من المفاهيم المرددة بين ما يعلم بارتفاعه وما يعلم ببقائه ـ فقد ظهر مما تقدم في الفرد المردد عدم صحة

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

جريان الاستصحاب فيه أيضا ، لأن المفهوم المردد ليس موضوعا للأثر الشرعي حتى يجري فيه الاستصحاب ، بل لا يعقل أن يكون بوصف التردد موضوعا له ، إذ لا مطابق له في الخارج ، لأن الموجود في الخارج هو الفرد المعين المتشخص بلوازم الوجود ، وهو من أفراد الطبيعي لكن لا بقيد كونه مرددا ، إذ لا يعقل التشخص الموجب للتعين مع التردد ، ويمتنع انطباق المردد عليه. فإذا أخذ مقدار من ماء يساوي ثلاثة وأربعين شبرا إلّا ثمن شبر حتى صار مساويا لسبعة وعشرين شبرا مثلا لا يصح ترتيب آثار الكرِّ عليه باستصحاب كريته ، لما مر من عدم ترتب أثر شرعي على المفهوم المردد ان كان هو المستصحب ، ومن كون الشك في الحدوث دون البقاء ان كان المستصحب هو الباقي ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك في حدوثه ، ضرورة أنه على تقدير الحدوث قطعي البقاء ، بمعنى : أن الكرَّ ان كان ما يساوي سبعة وعشرين شبرا فهو باق قطعا وليس مشكوك البقاء ، لكن الشأن في أن مفهوم الكر هل هو هذا أم غيره؟

ومثله الشك في بقاء عدالة شخص كان تاركا للكبائر ومنافيات المروة ثم ارتكب بعض منافيات المروة ، فلا يصح استصحاب عدالته وترتيب آثارها عليه.

وكذا الحال في سائر المفاهيم المرددة بين العلم بارتفاع أحد المفهومين وبقاء الآخر ، فانه لا سبيل إلى جريان الاستصحاب فيها أصلا ، لما تقدم آنفا من عدم موضوعية المفهوم المردد للأثر الشرعي حتى يجري فيه الاستصحاب. ومن عدم اجتماع أركانه في المعين ، لعدم كون الشك فيه في البقاء بل في الحدوث بالبيان المتقدم.

هذا كله في الاستصحاب الوجوديّ كاستصحاب النهار عند استتار القرص ، أو العدالة عند ارتكاب بعض منافيات المروّة ، وغير ذلك من الموارد التي يكون الشك فيها لترددها بين مفهومين يعلم بارتفاع أحدهما وببقاء الآخر.

وأما الاستصحاب العدمي فالظاهر عدم الإشكال في جريانه ، فلو زيد في ماء

٣٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

قليل حتى صار ما يساوي سبعة وعشرين شبرا وشك في أنه بلغ كرّا أولا ، فلا مانع من استصحاب عدم كريته بعد كون الموضوع في الاستصحاب عرفيا ، فيصح أن يقال : ان هذا الماء لم يكن كرا ، والآن كما كان ، أو : هذا الرضيع قبل عشر رضعات لم يكن ابناً أو بنتاً لهذه المرضعة أو أخا أو أختا لأولادها ، وبعد تحقق الرضعات العشر كما كان ، أو : هذا الزمان قبل استتار القرص لم يكن ليلا ، وبعد استتاره يستصحب عدم الليلية.

وبالجملة : ففي المفاهيم المرددة لا يجري الاستصحاب في وجوداتها ، لكن يجري في أعدامها ويترتب عليها آثارها ، فإذا كان الماء أقل من سبعة وعشرين شبرا وزيد عليه حتى صار بهذا المقدار ، وشك في أنه بلغ كرا أو لا جرى استصحاب عدم كريته. وان نوقش في الاستصحاب الموضوعي فلا مانع من جريان الاستصحاب الحكمي. وكذا في سائر المفاهيم المرددة كالعدالة والرضاع والنهار والغناء وغيرها.

والحاصل : أن وزان المفاهيم المرددة وزان الفرد المردد في عدم جريان الاستصحاب فيها.

٣٩٠

الرابع (١) : أنه لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الأمور القارة (٢) أو التدريجية (٣) غير القارة ، فان الأمور غير القارة وإن كان (٤) وجودها

______________________________________________________

(التنبيه الرابع : استصحاب الأمور التدريجية)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر التنبيه على حجية الاستصحاب في الأمور التدريجية كحجيته في الأمور القارة ، ودفع الإشكال الوارد على حجية في الأمور التدريجية ، والإشارة إلى أن التدريجي إما زمان وإما زماني وإما قيد لشيء مستقر. كما أن الشيخ (قده) أيضا تعرض لذلك كله في التنبيه الثاني ، فهذا التنبيه راجع إلى المتيقن ، وأن الاستصحاب حجة فيه مطلقا سواء أكان تدريجيا أم قارّا.

(٢) وهي ما تجتمع أجزاؤه بعضها مع بعض في الوجود زمانا من غير فرق بين الجواهر كزيد وعمرو وغيرهما من نوع الإنسان ، والأعراض كالعلم والعدالة والسواد والبياض.

(٣) وهي ما لا تجتمع أجزاؤه في الزمان ، فلا يوجد جزء منه إلّا بعد انعدام الجزء الّذي قبله ، كنفس الزمان ، فان ساعات النهار توجد تدريجا بحيث يتوقف وجود كل ساعة منها على انعدام سابقتها ، وكذا الليل والأسبوع والشهر وأمثالها من الأزمنة. وكذا الزماني كجريان الماء وسيلان الدم والتكلم والكتابة ونحوهما من الأمور المتدرجة في الوجود.

(٤) هذا إشارة إلى منشأ الإشكال الّذي أشرنا إليه في صدر هذا التنبيه في جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية. أما نفس الإشكال فمحصله : اختلال أحد ركني الاستصحاب وهو الشك في البقاء فيها ، وذلك لأن الجزء المعلوم الوجود في الزمان الأول قد انعدم قطعا ، فلا شك في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب ، والجزء الثاني مشكوك الحدوث ، وهو بمقتضى أصالة عدمه محكوم بالعدم.

وأما منشأ الإشكال فهو ملاحظة كل واحد من أجزاء التدريجي شيئا مستقلا ، ومن المعلوم أن لحاظ كل جزء بحياله يوجب هذا الإشكال.

٣٩١

ينصرم ، ولا (١) يتحقق منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم ، إلّا أنه (٢)

______________________________________________________

وبتقرير آخر : شرط جريان الاستصحاب وهو اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة مفقود في الأمور التدريجية ، لأن هوية الموجود التدريجي متقومة بالتصرم والتجدد وعدم اجتماع أجزائه في الوجود ، فماهية الأمر غير القار متقومة بالأخذ والترك أي بوجود جزء منه وانعدامه ثم وجود جزء آخر منه وهكذا ، ومن المعلوم مغايرة أحد الكونين للآخر ، فاليقين تعلق بوجود في حدّ معين ، وقد زال وانعدم ، والشك تعلق بحدوث كون في حد آخر ، ومعه لا مجال للاستصحاب.

ولا يخفى أن تقرير الإشكال بما تقدم من عدم صدق البقاء في الأمر التدريجي أولى من تقريره بما في الرسائل وبعض شروحه من «أن البقاء هو وجود ما كان موجودا في الزمان الأول في الزمان الثاني» لأنه مخدوش بما أفاده المصنف في حاشية الرسائل (١) من : أن مرجعه إلى أن الزمان حيث لا زمان له فليس له بقاء. وهو ممنوع ، لأن البقاء ينسب إلى الخارج عن أفق الزمان كالمجردات. وعليه فعدم صدق البقاء إنما هو لعدم قرار الموجود واستقراره ، فيتعلق اليقين بوجود زائل والشك بحدوث موجود آخر. وضمير «وجودها» راجع إلى الأمور غير القارة.

(١) هذا إلى قوله : «وانعدم» شرح وتفسير للأمور غير القارة ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وهي ما لا تجتمع أجزاؤه في الزمان ... إلخ» وضمير «منه» في الموضعين راجع إلى «الأمور» فالأولى تأنيثه.

(٢) أجاب المصنف (قده) عن إشكال جريان الاستصحاب في الأمور غير القارة بوجهين ، والغرض منهما إثبات وحدة القضيتين عقلا أو عرفا كما سيظهر ، وبيان الوجه الأول منوط بتقديم أمر ، وهو : أن الأمور التدريجية من الزمان والزمانيات التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود موجودات متقومة في مرتبة ذواتها بالأخذ والترك ، والتركب من الوجود والعدم ، فهي عين التجدد والانقضاء والخروج من القوة إلى الفعل ، فالزمان هو سلسلة الآنات المتعاقبة على نهج الاتصال ، فيوجد آن وينعدم ثم يوجد آن آخر وينصرم ، وهكذا ، وليس الزمان

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٠٥

٣٩٢

ما لم يتخلل في البين

______________________________________________________

شيئا وراء هذه الآنات المتصلة. وكذا الحال في الزماني كالتكلم وجريان الماء ونحوهما ، فان وجود كل جزء من الكلام يتوقف على انعدام جزئه السابق.

وعلى هذا فالأمر التدريجي سنخ وجود يتقوم في ذاته بالتركب من الوجود والعدم ، والاشتباك بينهما ، ومن المعلوم أن هذا العدم المقوّم للأمر التدريجي لا يعقل أن يكون رافعا له ، لاستحالة كون مقوّم الشيء رافعا له ، بل رافعه هو العدم البديل له أي القاطع للحركة ، كما إذا تحرك من داره إلى المسجد ، فان نفس حركته متقومة بالوجود والعدم أي بوضع قدم ورفع أخرى ، فهذا العدم دخيل في صميم الحركة وحاقها ، وعادمها هو التوقف في الطريق أو الجلوس فيها للاستراحة مثلا ، وما لم يتحقق هذا العدم النقيض فالحركة واحدة حقيقة ، فإذا شرع فيها فالتجددات المتصلة بالاتصال التعاقبي كلها بقاء ذلك الحادث الوحدانيّ ، لأن تعدد الوجود ينشأ من تخلل العدم بين الوجودات ، وما لم يتخلل العدم بينها لا يتعدد الأمر التدريجي.

إذا عرفت هذا اتضح جريان الاستصحاب في الأمور غير القارة كجريانه في القارة ، لكون مدار حجية الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك عرفا ، ولمّا كان الأمر التدريجي واحدا بنظرهم بحيث يعد أوّله حدوثا وما بعده بقاء كالأمر القار ، فلا محالة يجري الاستصحاب ، لاجتماع أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء واتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة.

ولا يخفى أن صدق النقض عرفا وان كان كافيا في التمسك بدليل الاستصحاب ، إلّا أن المصنف (قده) يدعي وحدة القضيتين عقلا في مثل الزمان ، لاتصال أجزائه وعدم تخلل العدم بينها أصلا. نعم لا يصدق الوحدة العقلية في بعض الزمانيات كالتكلم والقراءة ، لما يتخلل في أثنائهما من التنفس والتنحنح ونحوهما مما يوجب انثلام الوحدة العقلية ، لكن الوحدة العرفية صادقة قطعا ، وهذا الصدق العرفي كاف في جريان الأصل.

٣٩٣

العدم (١) ، بل وإن تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفا (٢) وإن انفصل حقيقة (٣) كانت (٤) باقية

______________________________________________________

وعليه ، فإنكار الوحدة العقلية في الزمان «لأن الأزمنة المتعاقبة وجودات متعددة متحدة سنخا ، فالوحدة تكون عرفية لا عقلية» (١) مشكل ، لما عرفت من إناطة تعدد الوجود بتخلل العدم بين الأجزاء ، وما لم يتخلل فالموجود واحد حقيقة.

قال في الأسفار في الجواب عن بعض الإيرادات على معنى الحركة ما لفظه : «ان الحركة والزمان من الأمور الضعيفة الوجود التي وجودها يشابك عدمها ، وفعليتها تقارن قوّتها ، وحدوثها عين زوالها ، فكل جزء منها يستدعي عدم جزء آخر ، بل هو عدمه بعينه ، فان الحركة هي نفس زوال شيء بعد شيء ، وحدوث شيء قبل شيء ، وهذا النحو أيضا ضرب من مطلق الوجود ، كما أن للإضافات ضربا من الوجود» (٢)

(١) كقطعات الزمان من الليل والنهار والأسبوع والشهر ، فانه لا يتخلل بين أجزائها عدم.

(٢) كتخلل التنفس في أثناء القراءة ، وانقطاع الدم لحظة في الأيام الثلاثة ، ونحو ذلك ، فان تخلل هذا المقدار من العدم لا يخل عرفا بالاتصال المساوق للوحدة ، والمراد بـ «ما» الموصول هو العدم.

(٣) أي : بالنظر العقلي ، فان تخلل العدم مطلقا مخلّ بالوحدة العقلية ، لكونه مانعا عن تحقق الاتصال بنظره.

(٤) جواب «ما» في «ما لم يتخلل» يعني : كانت الأمور غير القارة في صورة عدم تخلل العدم أصلا أو العدم غير المخل بالاتصال عرفا باقية إمّا مطلقا أي بنظر العقل والعرف معا كما في صورة عدم تخلل العدم أصلا بين الأجزاء كما في الزمان على ما مر آنفا ، وإما بنظر العرف فقط كما في صورة تخلل العدم غير المخل بالاتصال عرفا كالسكوت اليسير المتخلل بين أجزاء القراءة وغيرها من التكلمات ، ومع صدق الشك في البقاء في الأمور التدريجية يجري فيها الاستصحاب على حذو جريانه

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١٤٦

(٢) الأسفار الأربعة ، ٣ ـ ٣٧

٣٩٤

مطلقا أو عرفا (١) ، ويكون (٢) رفع اليد عنها مع الشك في استمرارها وانقطاعها نقضا (٣) ، ولا يعتبر (٤) في الاستصحاب بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلته غير صدق النقض والبقاء كذلك (٥) قطعا ، هذا. مع (٦)

______________________________________________________

في الأمور القارة.

(١) قد عرفت المراد بهاتين الكلمتين بقولنا : «اما مطلقا أي بنظر العقل والعرف معا ... إلخ».

(٢) معطوف على قوله : «كانت» والأولى تبديله بـ «وكان» أو «فيكون» يعني : بعد إثبات صدق الشك في البقاء على الأمور التدريجية يشمله دليل الاستصحاب ، لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين حال الشك في بقائها واستمرارها ، وصدق إبقاء اليقين السابق على العمل بمقتضاه حين الشك ، ومع صغروية الشك في بقاء الأمور التدريجية لكبرى «لا تنقض اليقين بالشك» لا وجه للتوقف في إجراء الاستصحاب فيها.

(٣) خبر «يكون» وضمائر «عنها ، استمرارها ، انقطاعها» راجعة إلى «الأمور غير القارة».

(٤) هذا بمنزلة الكبرى لما قبلها من صدق الشك في البقاء ، فكأنه قيل : الشك في الأمور غير القارة شك في البقاء ، وكلما كان كذلك يجري فيه الاستصحاب.

(٥) أي : عرفا ، وحاصله : أن ما يعتبر في الاستصحاب وهو صدق النقض والبقاء عرفا متحقق في الأمور غير القارة ، فالمقتضي لجريانه فيها موجود والمانع مفقود. ثم إن الأولى ذكر لفظ «عرفا» عقيب قوله : «نقضاً» حتى يشار إليه بقوله : «كذلك». وكيف كان فالجواب المذكور عن الإشكال مما تعرض له الشيخ أيضا في الرسائل ببيان آخر مرجعه إلى ما أفاده المصنف قدس‌سرهما.

(٦) هذا جواب آخر عن الإشكال المذكور ، ومرجعه إلى خروج الأمور غير القارة عن التصرم واندراجها في الأمور القارة ، ومعه لا يبقى موضوع للإشكال ،

٣٩٥

أن الانصرام والتدرج في الوجود في الحركة في الأين

______________________________________________________

لفرض وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة حقيقة ، وتوضيح هذا الجواب : أن الحركة المتوقفة على أمور ستة ـ وهي المبدأ ، والمنتهى ، والعلة الفاعلية ، والجسم المتحرك ، وما فيه الحركة من المقولات ، والزمان الّذي يكون مقدار الحركة ـ تنقسم إلى قسمين قطعية وتوسطية.

أما القطعية فهي كون الشيء في كل آن في مكان إذا كانت الحركة في المكان كحركة السائر بين نقطتين ، فان مكانه في كل آن غير مكانه في الآن السابق. أو كون الشيء في حدّ غير الحد السابق إذا كانت الحركة في غير المكان ، كما إذا كانت في الكم ، كحركة الجسم النامي كالشجر والطفل إذا أخذا في النموّ أو الذبول. أو في الكيف كصيرورة الماء البارد حارّا أو الورق الأخضر من الشجر أصفر ، ونحو ذلك. أو في الوضع كصيرورة القائم قاعدا أو العكس ، فان حدود المتحرك في النموّ والذبول وغيرهما تختلف ، فانه في كل آن يكون بحد خاص غير حد الآن السابق ، فهو يخلع حدا ويلبس حدا آخر.

وعليه فالحركة القطعية في أي مقولة كانت هي الصورة المرتسمة في الخيال المنتزعة عن الأكوان المتعاقبة الموافية للحدود الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، فهذه الأكوان أجزاء لهذه الحركة ، وهي متفرقة في الخارج ومجتمعة في الخيال.

وأما التوسطية فهي كون الشيء بين المبدأ والمنتهى كالسائر بين بلدين كالسائر بين النجف الأشرف وكربلاء المقدسة ، وكالنهار الّذي هو عبارة عن كون الشمس بين المشرق والمغرب ، وكالليل الّذي هو عبارة عن كون الشمس بين المغرب والمشرق ، وهكذا.

وتختلف هذه الحركة عن الأولى بأن الأكوان المتصلة المتعاقبة تكون جزئيات لها ، لأن كل واحد من الأكوان الموافية للحدود واقع بين المبدأ والمنتهى ، والكون بين الحدين واحد شخصي لا تعدد فيه. والتدرج والانصرام في الوجود المانع عن جريان الاستصحاب إنما هو في القسم الأول أعني الحركة القطعية التي يلاحظ

٣٩٦

وغيره (١) إنما هو في الحركة القطعية ، وهي كون الشيء في كل آن في حدّ أو مكان [وهي كون الأول في حدّ أو مكان آخر في الآن الثاني] لا التوسطية وهي كونه بين المبدأ والمنتهى (*) ، فانه (٢) بهذا

______________________________________________________

فيها كون الشيء في كل آن في حد غير حدّيه السابق واللاحق ، دون القسم الثاني وهو الحركة التوسطية ، فانه من الأمور القارة ، ولذا يصح أن يقال عند طلوع الشمس : «وجد النهار» وعند غروبها : «انعدم» ، وكذا «وجد الليل عند غروبها وانعدم عند طلوعها».

وبالجملة : فلا إشكال في جريان الاستصحاب في مثل الليل والنهار وغيرهما من الأمور التدريجية إذا كان الشك في بقائها ناشئا من الشك في حركتها التوسطية ووصولها إلى منتهاها ، فإذا شك في وصول الشمس مثلا إلى النقطة التي تغرب فيها جرى الاستصحاب في عدم وصولها إليها ، ويقال : النهار باق بمقتضى الاستصحاب. وكذا يستصحب عدم وصول المسافر من النجف الأشرف إلى كربلاء إذا شك في وصوله إلى كربلاء ، ويعدّ أنه بعد في الطريق ولم يصل إلى كربلاء.

(١) من المقولات الأخر كالكم والكيف والوضع كما مر آنفا ، بل الجوهر.

(٢) أي : فان الحركة بهذا المعنى ـ وهو كون الشيء بين المبدأ والمنتهى ـ من الأمور القارة المستمرة لا الأمور التدريجية المتصرمة. والأولى تأنيث ضمير «فانه» وكذا المستتر في «يكون» وقوله : «لا التوسطية» معطوف على «القطعية».

__________________

(*) هذا تعريف لمطلق الحركة ، لا لخصوص القطعية ، غايته أن الكون في كل آن في حد يكون جزءا للحركة القطعية وجزئيا للتوسطية ، فان الحركة كما عرّفها في الأسفار عبارة عن «موافاة حدود بالقوة على الاتصال ، والسكون هو أن تنقطع هذه الموافاة» وعليه فلا وجه لتخصيص التعريف المذكور في المتن بالحركة القطعية.

٣٩٧

المعنى يكون قارّا مستمرّا (١) (*).

______________________________________________________

(١) حقيقة ، عقلا أو عرفا ، ومعه لا حاجة إلى التصرف في معنى البقاء كما أفاده الشيخ الأعظم في مقام حل الإشكال ، قال (قده) : «وإنما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في الزمانيات ، حيث جعلوا الكلام في استصحاب الحال ، أو لتعميم البقاء لمثل هذا مسامحة» وحاصله : حلّ الإشكال إما بالتصرف في المستصحب بجعل الليل والنهار أمرا خارجيا واحدا بنظر العرف ، والمراد ببقائه عدم تحقق جزئه الأخير ، أو عدم حدوث جزء مقابله. وإما بالتصرف في لفظ البقاء بإرادة البقاء المسامحي ، يعني : أن النهار وان لم يصدق عليه البقاء حقيقة ، لتجدد الآنات والأكوان ، وكلها حدوثات ، إلّا أنه يصدق البقاء عليها مسامحة ، هذا.

والمصنف وان ارتضى الجواب الأول ، لكنه ناقش في الثاني بما محصله : أن المعتبر في الاستصحاب هو صدق بقاء ما كان حقيقة عرفية ، ولا عبرة بالنظر المسامحي ، والمفروض صدقه في الزمان ونحوه حقيقة عرفية. ومع الغض عنه فلا عبرة بمسامحتهم في التطبيق. وكان الأنسب أن يناقش الشيخ في هذا الوجه الثاني لا في كلا الوجهين ، مع أنه قال : «إلّا أن هذا المعنى على تقدير صحته والإغماض عما فيه» فلاحظ.

__________________

 (*) أورد شيخنا المحقق العراقي عليه بمنع صدق القارّ على الحركة بمعنى التوسط كي يتصور فيها البقاء الحقيقي ، لما عرفت من أن البقاء الحقيقي للشيء عبارة عن استمرار وجوده في ثاني زمان حدوثه بماله من المراتب والحدود المشخّصة له في آن حدوثه ، ومثله غير متصور في الحركة التوسطية في مثل الزمان ونحوه ، إذ الموجود منها في الخارج إنما هو الحصول في حد معين ، وهو أمر آني لا قرار له ، فلا يتصور له البقاء الحقيقي (١).

ويمكن أن يقال : ان الحركة وإن كانت في ذاتها متقومة بالتجدد والانصرام ، إلّا أن المفروض عدم لحاظ الموافاة للحدود في التوسطية ، بل مجرد وقوعها

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١٤٧

٣٩٨

فانقدح بذلك (١) أنه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار ، وترتيب ما لهما من الآثار (٢).

______________________________________________________

(١) أي : بكون الوحدة العرفية محفوظة في الأمور السيالة ما دامت متصلة. اعلم : أن المصنف (قده) بعد دفع إشكال الاستصحاب عن الأمور التدريجية أشار إلى ما تعرض له الشيخ (قده) في مقامات ثلاثة :

الأول : جريان الاستصحاب في نفس الزمان كالليل والنهار والأسبوع والشهر ونحوها ، وقد أشار إلى هذا المقام بقوله : «انه لا مجال للإشكال ... إلخ».

الثاني : جريانه في الزماني الّذي لا استقرار لوجوده كالتكلم.

الثالث : جريانه في الفعل المقيد بالزمان ، والكلام فعلا في المقام الأول.

(٢) فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على وجود الزمان بمفاد كان التامة أو عدمه بمفاد ليس التامة ، بأن يكون الزمان شرطا للوجوب ، كما إذا نذر التصدق بدرهم أو زيارة إمام ونحوهما إذا كان النهار باقيا ، فلو شك حينئذ في بقاء النهار جرى استصحابه وترتب عليه وجوب الوفاء بالنذر.

وأما إذا أخذ الزمان قيدا لمتعلق الحكم الشرعي بحيث اعتبر وقوع الفعل فيه كوقوع الصوم في شهر رمضان ووقوع الظهرين في النهار ونحو ذلك ، فإجراء الاستصحاب فيه ـ لإحراز عنوانه من الرمضانية والنهارية ـ مشكل جدا ، لأن المستصحب وجود محمولي ، والمقصود إحراز الوجود النعتيّ ، وهو اتصاف الزمان المشكوك بالرمضانية والنهارية حتى يحرز وقوع الصوم في شهر رمضان ، والصلاة في النهار. وإثبات الوجود النعتيّ باستصحاب الوجود المحمولي منوط بحجية الأصل المثبت ، ولذا تقل فائدة استصحاب الوقت والزمان ، وتختص بمثل النذر كما أشرنا إليه.

__________________

بين المبدأ والمنتهى أي كون الشيء بين الحدين ، وهو الكلي الموجود بعين الوجودات المتجددة ، ولا انصرام في هذه الحركة ما لم يبلغ المتحرك الحدّ المفروض. وعليه فما في المتن من صدق الموجود القارّ المستمر على المتحرك بالحركة التوسطية متين.

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الأثر المهم وهو إثبات وقوع الموقتات في أوقاتها فلا يترتب على استصحاب الزمان بمفاد «كان» التامة ، لأن ما يثبت به هو بقاء التكليف بالموقتات ووجوب الإتيان بها ، وأما إثبات وقوعها في أوقاتها ليترتب عليه الامتثال فلا ، لعدم ثبوت نهارية الزمان الحاضر أو ليليته حتى يحرز وقوع الفعل الموقت به فيه ، قال شيخنا الأعظم (قده) في أوائل التنبيه الثاني : «أما نفس الزمان فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل والنهار لأن نفس الجزء لم يتحقق في السابق فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا» (*).

__________________

(*) لكن تصدى شيخنا المحقق العراقي (قده) لدفع إشكال استصحاب الزمان بمفاد كان الناقصة بما محصله : أن ذوات الآنات المتعاقبة كما تكون تدريجية ، كذلك وصف الليلية والنهارية الثابتة لها أيضا تدريجية ، وتكون حادثة بحدوث الآنات وباقية ببقائها ، فإذا اتصف بعض هذه الآنات بالليلية أو النهارية وشك في اتصاف الزمان الحاضر بالليلية أو النهارية ، فكما يجري الاستصحاب في نفس الزمان ، ويدفع شبهة الحدوث فيما كان اسما لمجموع ما بين الحدّين ، كذلك يجري الاستصحاب في وصف الليلية أو النهارية الثابتة للزمان ... فلا قصور في استصحاب الليلية الثابتة للآنات السابقة وجرّها إلى الزمان الحاضر ، لرجوع الشك المزبور بعد اليقين باتصاف الآنات السابقة بالليلية أو النهارية إلى الشك في البقاء لا في الحدوث ، فيقال بعد إلغاء خصوصية القطعات ولحاظ مجموع الآنات من جهة اتصالها أمرا واحدا مستمرا : ان هذا الزمان الممتد كان متصفا بالليلية أو النهارية سابقا والآن كما كان ، فيثبت بذلك اتصاف الآن المشكوكة ليليته أو نهاريته بالليلية أو النهارية.

وإلّا فلو فتحنا باب هذا الإشكال يلزم سدّ باب الاستصحاب في الزمان في مثل الليل والنهار ولو بمفاد كان التامة ، لجريان الإشكال المزبور فيه أيضا من حيث عدم تصور اليقين بالحدوث في مثل الليل والنهار الّذي هو اسم لمجموع ما بين الحدين من حيث المجموع ، وكون القطعة الحاضرة من الزمان غير القطعة

٤٠٠