منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

لا محالة إما (١) لعدم اليقين بثبوتها في حقهم [في حقنا] وإن (٢) علم بثبوتها سابقا في حق آخرين ، فلا شك (٣) في بقائها

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى اختلال الركن الأول أعني به اليقين بالثبوت الّذي هو أول وجهي التوهم ، وقد عرفت توضيحه ، و «لعدم» متعلق بـ «اختلال» وضمير «بثبوتها» راجع إلى «أحكام» وضمير «حقهم» إلى ما يفهم من العبارة ، وهو أهل هذه الشريعة الذين يريدون إجراء استصحاب أحكام الشرائع السابقة.

ولا يخفى أن في بعض نسخ الكفاية «بثبوتها في حقنا» وهو الأوفق بقوله بعده : «في حق آخرين» والظاهر أن المراد واحد ، يعني : أن المسلمين لا يقين لهم بأصل ثبوت الأحكام التي يدعي أهل الكتاب اشتمال كتبهم السماوية عليها بعد علمنا بتحريفها ، كما يشهد لهذا المعنى عدة من الآيات الموبّخة لليهود على تحريمهم ما لم يحرمه الله تعالى فيما أنزله في التوراة. لكن هذا الوجه مخدوش لوفاء أحاديثنا بجملة كثيرة من أحكام شريعة موسى عليه‌السلام ، فحينئذ لا بد من ملاحظة خطاباتها وأنها بعنوان عام نحو «يا أيها الناس» مثلا أو بعنوان خاص نحو «يا أيها اليهود» ونحو ذلك.

فالنتيجة : أنّا إما قاطعون بالبقاء على تقدير الإمضاء ـ كما هو حال جملة من الأحكام ـ وإما بالارتفاع على تقدير النسخ ، كما هو حال جملة أخرى من الأحكام ، فلا شك لأهل الملة اللاحقة على كل حال حتى يجوز لهم استصحاب أحكام الشريعة السابقة. وقوله : «لا محالة» قيد لـ «اختلال».

(٢) كلمة «وان» وصلية ، يعني : أن اليقين بثبوت الأحكام وان كان حاصلا لأهل الشريعة السابقة وهم المقصودون بقوله : «آخرين» لكنه غير حاصل لأهل هذه الشريعة ، لعدم ثبوتها في حقهم ، وضمير «بثبوتها» راجع إلى «أحكام».

(٣) هذا متفرع على عدم اليقين بثبوت أحكام تلك الشرائع لأهل هذه الشريعة ، وغرضه بيان انتفاء الركن الثاني أيضا وهو الشك في البقاء بسبب عدم اليقين السابق ، لأن الشك في بقاء شيء واستمراره فرع اليقين بحدوثه ، وإلّا كان الشك

٤٨١

أيضا (١) بل (٢) في ثبوت مثلها كما لا يخفى. وإما (٣) لليقين بارتفاعها (٤) بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة ، فلا شك (٥) في بقائها حينئذ (٦)

______________________________________________________

في حدوثه لا في امتداده وبقائه.

(١) يعني : كما لا يقين بثبوتها ، وعليه فكلا ركني الاستصحاب من اليقين والشك مفقود.

(٢) يعني : بل الشك يكون في ثبوت مثل تلك الأحكام في حقنا ، لا في بقائها ، إذ لازم عدم اليقين بثبوتها في حق أهل هذه الشريعة هو عدم كون الشك فيها شكّا في بقائها بالنسبة إليهم ، ومن المعلوم أنه مجرى الاستصحاب ، دون الشك في الحدوث ، وضميرا «بقائها ، ثبوتها» راجعان إلى «أحكام».

(٣) معطوف على قوله : «اما لعدم اليقين» وهذا إشارة إلى ثاني وجهي التوهم أعني اختلال الركن الثاني وهو الشك في البقاء ، وتقريبه : أن الشك في البقاء الّذي هو مورد الاستصحاب مفقود في أحكام الشرائع السابقة ، للقطع بارتفاعها بعد ورود هذه الشريعة ، حيث إنها ناسخة لتلك الشرائع ، ومع القطع بارتفاعها يختل ما هو قوام الاستصحاب أعني الشك في البقاء.

وبالجملة : فلا مقتضي لاستصحاب عدم نسخ أحكام تلك الشرائع ، إما لعدم اليقين بالحدوث بناء على تعدد الموضوع ، وإما لعدم الشك في البقاء بناء على النسخ. وقد أشار إلى هذا الوجه الثاني شيخنا الأعظم بقوله : «ومنها : ما اشتهر من أن هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم بالبقاء».

(٤) أي : بارتفاع أحكام الشريعة السابقة ، و «بنسخ» متعلق بـ «بارتفاعها» و «بهذه» متعلق بـ «بنسخ».

(٥) هذا متفرع على نسخ الشرائع السابقة بهذه الشريعة ، حيث ان نتيجة النسخ القطع بعدم بقاء تلك الأحكام ، ومع هذا القطع لا مقتضي لجريان الاستصحاب فيها ، لانتفاء الشك في البقاء ، وضمير «بقائها» راجع إلى «أحكام».

(٦) أي : حين اليقين بارتفاع الأحكام بسبب النسخ بهذه الشريعة.

٤٨٢

ولو (١) سلم اليقين بثبوتها في حقهم [في حقنا] وذلك (٢) لأن

______________________________________________________

(١) وصلية ، يعني : ولو سلم وجود أول ركني الاستصحاب وهو اليقين السابق بثبوت تلك الأحكام لأهل هذه الشريعة كثبوتها لنفس أهل الشريعة السابقة ، لكن الركن الثاني وهو الشك في البقاء مفقود ، للقطع بارتفاعها بسبب النسخ ، ومع علم أهل هذه الشريعة بارتفاعها بالنسخ يرتفع الشك في البقاء الّذي هو أحد ركني الاستصحاب.

(٢) أي : فساد التوهم ، ومحصل ما أجاب به عن أول وجهي التوهم ـ أعني به اختلال اليقين بثبوت أحكام الشريعة السابقة في حق أهل هذه الشريعة ـ هو : أن الاختلال المزبور مبني على تشريعها لأهل تلك الشريعة بنحو القضية الخارجية كقوله : «أكرم هؤلاء العشرة» حيث ان الموضوع حينئذ أشخاص معينون ، فتختص تلك الأحكام بالأفراد الموجودة حال تشريعها ، ولا تسري إلى غيرهم ، لأنه حينئذ من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب المتقوم بوحدة الموضوع ، فالإشكال على الاستصحاب من ناحية اختلال اليقين في محله.

وأما إذا كان تشريعها بنحو القضية الحقيقية بحيث لوحظ في مقام الجعل كلّي المكلف الصادق على جميع أفراده المحققة والمقدرة ، كقوله تعالى : «ولله حج البيت من استطاع إليه سبيلا» فلا تختص أحكام شريعة بأهلها ، بل تعم غيرهم أيضا ، فإذا شك غير أهلها في نسخ حكم من تلك الأحكام جرى فيه الاستصحاب ، لكونه من أفراد طبيعي المكلف الذين شملتهم الخطابات الصادرة في تلك الشرائع ، فاليقين بثبوتها لأهل هذه الشريعة حاصل ، فلا يختل الركن الأول وهو اليقين بالثبوت ، فلا مانع من هذه الجهة من جريان استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة. وقد أشار الشيخ إلى هذا الجواب الّذي جعله جوابا ثانيا بقوله : «وحله : أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ، فان الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الأولى ، إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعا ، غاية الأمر احتمال مدخلية بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم ، ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب

٤٨٣

الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لأفراد المكلف كانت (١) محققة وجوداً ومقدرة كما هو (٢) قضية القضايا المتعارفة المتداولة وهي قضايا حقيقية ، لا خصوص (٣) الأفراد الخارجية كما هو قضية القضايا الخارجية ، وإلّا (٤)

______________________________________________________

لقدح في أكثر الاستصحابات ، بل في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع».

(١) يعني : سواء أكانت أفراد كلي المكلف محققة فعلا وموجودة خارجا ، أم مقدرة أي مفروضة الوجود ، كالمستطيع الكلي الّذي هو موضوع لوجوب الحج ، فانه شامل للمستطيع الموجود فعلا أي حين الخطاب ، ولمن يوجد بعد ذلك ، فكل فرد فعلي واستقبالي من أفراد كلي المستطيع يجب عليه الحج.

(٢) أي : ثبوت الحكم للأفراد الموجودة والمقدرة مقتضى القضايا المتعارفة.

(٣) يعني : لا لخصوص الأفراد الخارجية ، فقوله : «خصوص» معطوف على مقدر وهو «مطلقا» يعني : أن الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لأفراد المكلف مطلقا لا لخصوص الأفراد الخارجية ... إلخ.

(٤) أي : وإن لم تكن الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية بل كانت من القضايا الخارجية ترتّب عليه لا زمان لا يمكن الالتزام بهما ، أحدهما : امتناع استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة أيضا بالنسبة إلى من لم يدرك صدر الإسلام ، لتغاير الموضوع ، فان الموجود في الأعصار المتأخرة عن عصر صدوره مغاير موضوعا للموجود في صدر الإسلام بناء على القضية الخارجية ، مع أن من الواضح صحة جريان الاستصحاب في أحكام هذه الشريعة في جميع القرون والأعصار.

ثانيهما : امتناع النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في وقت التشريع ، ولو لم يكن موضوعا للحكم لم يصح النسخ في حقه ، وموضوعيته للحكم منوطة بكون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية ، إذ لو كانت من القضايا الخارجية لم يكن غير الموجود في صدر الإسلام موضوعا للحكم ، وكان الموضوع خصوص المدرك لأول الشريعة ، ولازم ذلك امتناع النسخ ، وامتناع الاستصحاب بالنسبة إلى من

٤٨٤

لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ (١) بالنسبة (٢) إلى غير الموجود في زمان ثبوتها كان (٣) الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامة أفراد المكلف ممن وجد أو يوجد ،

______________________________________________________

لم يدرك صدر الإسلام ، لعدم كونه موضوعا للحكم بناء على القضية الخارجية. وأما بناء على القضية الحقيقية فلا مانع من النسخ والاستصحاب في حقه ، لكونه موضوعا كموضوعية من أدرك صدر الإسلام.

وهذان اللازمان ـ أي امتناع النسخ والاستصحاب ـ باطلان ، وبطلانهما يكشف عن بطلان الملزوم وهو كون الأحكام من القضايا الخارجية ، فقول المصنف (قده) : «وإلّا لما صح» كما أنه إشارة إلى برهان إنّي على كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية لا الخارجية ، كذلك إشارة إلى ما أجاب به الشيخ نقضا عن إشكال اختلال اليقين بثبوت أحكام الشرع السابق بالنسبة إلى أهل هذه الشريعة بقوله : «وفيه أولا : انا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فإذا حرم في حقه شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلا. وفرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدد اللاحقة نادر ، بل غير واقع».

(١) معطوف على «الاستصحاب» وهذا هو اللازم الباطل الثاني الّذي أوضحناه بقولنا : «ثانيهما امتناع النسخ بالنسبة إلى غير الموجود ...».

كما أن قوله : «لما صح الاستصحاب» هو اللازم الباطل الأول الّذي مر توضيحه بقولنا : «أحدهما امتناع استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة ... إلخ»

(٢) قيد لكل من الاستصحاب والنسخ ، يعني : لما صح كل منهما بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ... إلخ.

(٣) جواب قوله : «حيث كان» وضمير «ثبوتها» راجع إلى «الشريعة» أو «الأحكام».

٤٨٥

وكان (١) (*) الشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته. والشريعة السابقة (٢) وان كانت منسوخة

______________________________________________________

(١) معطوف على «كان الحكم» وحاصله : أنه بناء على كون الأحكام الإلهية مطلقا سواء أكانت من أحكام هذه الشريعة أم من الشرائع السابقة من القضايا الحقيقية لا فرق في اعتبار استصحاب عدم النسخ في حق غير الموجود في زمان التشريع بين أحكام هذه الشريعة وغيرها من الشرائع ، وذلك لاجتماع ركني الاستصحاب من اليقين والشك في كلا الموردين. وعليه فوزان استصحاب الشاك غير الموجود في زمان ثبوت الدين من الأمم السابقة في حكم من أحكامهم وزان استصحاب الشاك غير الموجود من هذه الأمة في صدر الإسلام في بقاء حكم من أحكام هذه الشريعة في صحة جريانه في كلا الموردين ، لاجتماع أركانه من اليقين والشك. وضمير «فيه» راجع إلى الحكم في الشريعة السابقة ، وضمير «ثبوته» راجع إلى الحكم الثابت ، و «لغير» قيد لـ «بقاء» و «في زمان» متعلق بـ «وجد».

(٢) هذا إشارة إلى بطلان ثاني وجهي التوهم ، وهو اختلال الركن الثاني أعني به الشك في البقاء ، للقطع بالارتفاع بسبب النسخ. توضيح وجه البطلان : أن انهدام الركن الثاني وهو الشك في البقاء بسبب النسخ منوط بنسخ جميع أحكام تلك الشرائع بهذه الشريعة ، إذ يقطع حينئذ بارتفاعها ، ولا يبقى شك في بقائها حتى تستصحب. ولكنه ممنوع ، إذ ليس معنى نسخ شريعة رفع تمام أحكامها بنحو السلب الكلي ، بل معنى نسخها رفعها بنحو رفع الإيجاب الكلي ، فيصدق نسخ شريعة بنسخ جملة من أحكامها ، ففي الحكم الّذي لم يعلم نسخه يجري الاستصحاب.

__________________

(*) في كفاية اليقين بثبوته بحيث لو كان باقيا ولم ينسخ لعمّه ، ضرورة صدق أنه على يقين منه فشك فيه بذلك ، ولزوم اليقين بثبوته في حقه سابقا بلا ملزم.

وبالجملة : قضية دليل الاستصحاب جريانه لإثبات حكم السابق للّاحق وإسرائه إليه فيما كان يعمه ويشمله لو لا طروء حالة معها يحتمل نسخه ورفعه ، وكان دليله قاصرا عن شمولها من دون لزوم كونه ثابتا له قبل طروئها أصلا كما لا يخفى.

٤٨٦

بهذه الشريعة يقينا ، إلّا أنه (١) لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها ، ضرورة (٢) أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك (٣)

______________________________________________________

ثم ان الشيخ (قده) أجاب أيضا عن الإشكال بهذا الوجه ، حيث قال : «وفيه : أنه إن أريد نسخ كل حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة ، فهو ممنوع. وإن أريد نسخ البعض ، فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب».

(١) يعني : إلّا أن اليقين بالنسخ لا يوجب اليقين بارتفاع أحكام الشريعة السابقة بتمامها بحيث لا يبقى شك في بقاء حكم منها حتى يجري فيه الاستصحاب. وضمير «أحكامها» راجع إلى «الشريعة» وضمير «بتمامها» إلى «أحكامها».

(٢) تعليل لعدم كون نسخ شريعة رفع جميع أحكامها بحيث لا يبقى شيء منها ، توضيحه : أن نسخ الشريعة وإن كان بمعنى رفعها ، ورفع الشيء عن صفحة الوجود ظاهر في إعدامه بتمامه ، فإذا كان الشيء مرآة لعدة أمور كالشريعة فرفعه عبارة عن رفع تمام تلك الأمور ، وليس هذا كالمركّب الّذي ينتفي بانتفاء بعض أجزائه ، لأن المنفي وهو المركب كما يصدق على انتفاء كله كذلك يصدق على انتفاء بعضه ، بداهة تقوم عنوان المركب بتمام أجزائه ، فإذا انتفى جزء منه صدق انتفاء المركب. وعليه فنسخ الشريعة ـ التي هي عنوان مشير إلى عدة أحكام إلهية ـ عبارة عن رفع تمام أحكامها بنحو السلب الكلي كما أراده المستشكل.

لكنه يرفع اليد عن هذا الظاهر بلحاظ ما ورد في اتحاد بعض ما في هذه الشريعة مع ما في الشرائع السابقة من الأحكام ، فانه يدل على أن المراد مما دل على نسخ هذه الشريعة لما قبلها من الشرائع هو عدم بقاء تمام أحكام الشريعة المنسوخة بنحو رفع الإيجاب الكلي الّذي لا ينافي الإيجاب الجزئي ، لا أن المراد رفع جميع أحكامها بنحو السلب الكلي بحيث علم بارتفاع جميعها حتى يختل ثاني ركني الاستصحاب وهو الشك في البقاء كما يدعيه صاحب الفصول قدس‌سره.

(٣) أي : بتمامها ، بل مقتضى نسخ الشريعة هو عدم بقاء الشريعة المنسوخة

٤٨٧

بل عدم بقائها بتمامها (*).

______________________________________________________

بتمامها ، ومن المعلوم صدق نسخها برفع جملة من أحكامها وبقاء بعضها ، فقوله : «بل» في مقابل «ليس ارتفاعها» وضميرا «بقائها ، بتمامها» راجعان إلى «الشريعة» وقد عرفت أن عدم بقائها بتمامها ليس هو معنى نسخ الشريعة ، إذ نسخها ظاهر في رفع تمامها ، بل عدم بقائها بتمامها يستفاد من الخارج كما مر آنفا.

__________________

 (*) نعم يمكن توجيه ارتفاع جميع أحكام الشريعة المنسوخة بما عن سيدنا الفقيه الأعظم صاحب الوسيلة قدس‌سره من : «أنه بناء على تقوم كل حكم بصدوره عن نبي ـ بحيث يتميز الحكم الصادر من نبي عن الحكم الصادر من نبي آخر ، ويكونان مجعولين بجعلين وان كانا متماثلين كما إذا كان كلاهما من سنخ واحد كالوجوب أو الحرمة ـ تصح دعوى نسخ تمام أحكام الشريعة السابقة وارتفاع جميعها. ومماثلة بعض أحكام هذه الشريعة لها لا تكشف عن الاتحاد الموجب لبقاء بعض أحكامها ، بل هو حكم جديد مجعول في هذه الشريعة.

لكن في هذا التوجيه ما لا يخفى ، ضرورة أنه مبني على كون أمر التشريع وجعل الأحكام مفوّضا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحيث كانوا هم المشرّعين للأحكام حتى يكون حكم كل نبي مغايرا لحكم يشرعه نبي آخر. وهذا غير ثابت بل المسلّم أن الجاعل والمشرّع هو الله تبارك وتعالى ، والأنبياء كلهم مبلغون لأحكامه عزوجل فالحكم الباقي من الشريعة المنسوخة في هذه الشريعة الناسخة واحد لا تعدد ولا تغاير فيه.» (١) هذا ملخص ما حكي عن سيدنا الأجل المتقدم رفع في الجنان مقامه.

أقول : تفويض تشريع الأحكام إلى سائر الأنبياء غير ثابت. وأما بالنسبة إلى نبينا خاتم الرسل وسيدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمقتضى جملة من الروايات تفويض تشريعها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شرّع أحكاما إلزامية وغيرها في هذا الشرع الأقدس ، ففي الحسن أو الصحيح عن فضيل بن يسار عن أبي عبد الله

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ١٢٣

٤٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عليه‌السلام : «ان الله عزوجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات ، فأضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الركعتين ركعتين ، وإلى المغرب ركعة ، فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلّا في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر ، فأجاز الله عزوجل له ذلك كله ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ، ثم سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة ، فأجاز الله عزوجل له ذلك ، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعد بركعة مكان الوتر. وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان ، وسنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة ، فأجاز الله عزوجل له ذلك. وحرّم الله عزوجل الخمر بعينها وحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسكر من كل شراب ، فأجاز الله له ذلك كله» الحديث (١).

وفي رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ان الله تبارك وتعالى أدّب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما انتهى به إلى ما أراد قال له : إنك لعلى خلق عظيم ، ففوّض إليه دينه فقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وان الله عزوجل فرض الفرائض ولم يقسم للجد شيئا ، وان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أطعمه السدس ، فأجاز الله جلّ ذكره له ذلك ، وذلك قول الله عزوجل : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب» (٢).

وفي رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دية العين ودية النّفس وحرّم النبيذ وكل مسكر ، فقال له رجل : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال : نعم ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه» (٣).

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ص ٢٦٦ ، طبع دار الكتب الإسلامية طهران

(٢) المصدر ، ص ٢٦٧ ، بحار الأنوار ، ج ١٧ ، الباب ١٣ ، ص ٣ وما بعدها

(٣) المصدر ، ص ٢٦٧ ، بحار الأنوار ، ج ١٧ ، الباب ١٣ ، ص ٣ وما بعدها

٤٨٩

والعلم إجمالا (١) بارتفاع بعضها

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى ثاني الوجوه التي استدل بها المنكرون لحجية استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام الشرائع السابقة ، ومرجع هذا الوجه إلى وجود المانع عن حجيته ، كما أن مرجع الوجه الأول إلى عدم المقتضي لها ، لاختلال ركنيه وهما اليقين والشك. وتقريب هذا الوجه الثاني هو : أنه بعد تسليم وجود المقتضي وهو اليقين والشك في هذا الاستصحاب لا يجري أيضا ، لوجود المانع وهو : أنه ـ بعد البناء على كون نسخ شريعة رفع جملة من أحكامها وعدم بقائها بتمامها لا رفع تمامها ـ يحصل علم إجمالي بنسخ بعضها ، وحيث ان ذلك البعض غير معلوم لنا تفصيلا ، فهو مانع عن جريان الاستصحاب في كل حكم شك في نسخه ، لما ثبت في محله من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، إما للمعارضة مع الاستصحاب في الطرف الآخر ، وإما لمنافاته لنفس العلم مع الغض عن المعارضة ، على اختلاف المسلكين في الشبهة المحصورة.

والحاصل : أن النسخ بالمعنى المزبور وإن لم يكن قادحا في وجود المقتضي وهو اليقين والشك ، لكنه يوجد مانعا عن جريان الاستصحاب ، وذلك المانع هو العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام الشريعة السابقة كما عرفت ، فانه يمنع عن جريانه.

__________________

وغير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب ، من أراد الوقوف عليها ، فليراجع أصول الكافي ، باب التفويض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الأئمة عليهم الصلاة والسلام في أمر الدين.

لكن المفوّض إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحكام خاصة تأسيسية ليست في الشرائع السابقة حتى يقع فيها نزاع جريان استصحاب عدم النسخ فيها وعدمه.

وبالجملة : فما أفاده سيدنا الأجل المتقدم رفع في الجنان مقامه من أن جميع الأنبياء عليهم‌السلام مبلغون عن الله عظمت آلاؤه لا ينافي تفويض تشريع بعض الأحكام إلى سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله مما يكون خارجا عن حريم البحث عن استصحاب أحكام الشرائع السابقة ، فتدبر.

٤٩٠

إنما (١) يمنع عن استصحاب ما شك

______________________________________________________

وقد تعرض الشيخ (قده) لهذا الوجه المانع عن حجية استصحاب عدم النسخ بقوله : «فان قلت : انا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية فيعلم بوجود المنسوخ في غيره» والغرض من قوله (قده) : «والمعلوم تفصيلا منها قليل» عدم انحلال العلم الإجمالي بالنسخ بما علم تفصيلا نسخه من الأحكام ، لعدم كونه بمقدار المعلوم بالإجمال حتى ينحل به العلم الإجمالي ، ويصير الشك في نسخ غير المعلوم بالتفصيل بدويا موردا للاستصحاب.

وعليه فمقتضى عدم انحلال العلم الإجمالي عدم جريان استصحاب عدم النسخ في كل حكم شك في نسخه ، لاحتمال كونه مما نسخ بهذه الشريعة ، فان كل علم إجمالي منجز مانع عن جريان الاستصحاب في أطرافه كما أشرنا إليه آنفا.

(١) هذا إشارة إلى دفع إشكال مانعية العلم الإجمالي بالنسخ عن جريان استصحاب عدمه فيما شك في نسخه من أحكام الشرائع السابقة. ومحصل ما أفاده في دفع الإشكال هو : أن تنجيز العلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصول في أطرافه منوط بأمرين ، أحدهما : كون مورد الأصل من أطرافه. ثانيهما : عدم انحلاله بعلم تفصيلي ، فمع اختلال هذين الأمرين لا يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الأصول في أطرافه. وهذا الأمر الثاني مفقود في المقام ، حيث ان العلم الإجمالي بالنسخ إنما يكون قبل مراجعة الأدلة ، وتمييز الناسخ من أحكامنا لأحكام الشريعة السابقة. وأما بعد المراجعة إليها وحصول العلم بالناسخ من أحكامنا لها لا يبقى في دائرة المشكوكات علم إجمالي بالنسخ حتى يمنع عن جريان استصحاب عدم النسخ فيها ، بل يكون الشك حينئذ في نسخ حكم بدويا.

وهذا التقريب ناظر إلى خروج المشكوكات عن دائرة المعلوم بالإجمال من أول الأمر ، لا سبب انحلاله بالعلم التفصيليّ بمقداره ، كما إذا علم إجمالا بحرمة بعض أفراد البيض من قطيع الغنم لبعض موجبات الحرمة كالغصبية أو غيرها ، وشك في حرمة السود منها من دون علم إجمالي بها ، فلا إشكال في جريان

٤٩١

في بقائه (١) منها فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا ، لا (٢)

______________________________________________________

الأصل النافي للحرمة في السود ، لعدم كونها من أطراف العلم الإجمالي ، حيث ان أطرافه خصوص البيض. ويمكن أن يكون خروج المشكوكات عن دائرة المعلوم بالإجمال بالانحلال إلى العلم التفصيليّ ، كما إذا كان المعلوم بالإجمال عددا معينا من البيض ، ثم ثبت بالعلم التفصيليّ أو الحجة غير العلمية حرمة مقدار معين منها يساوي ذلك العدد المعلوم بالإجمال ، فحينئذ ينحل العلم الإجمالي بحرمة بعض البيض ، ويخرج بعضها الآخر من أطراف العلم الإجمالي ويصير مشكوكا فيه بعد أن كان من أطرافه في الابتداء ، فيجري فيه الأصل بلا مانع ، فلو شك في حرمة فرد من أفراد البيض غير ما ثبتت حرمته بالعلم التفصيليّ أو الأمارة المعتبرة ، فلا مانع من جريان الأصل النافي للحرمة فيه ، لخروجه عن أطراف العلم الإجمالي بسبب الانحلال ، وصيرورة الشك في حرمته بدويا.

وكيف كان فخروج المشكوكات من أطراف العلم الإجمالي سواء أكان ابتداء أم بالانحلال يوجب جريان الأصل فيها بلا مانع ، إذ لا معارض له ، بعد وضوح عدم جريانه فيما علم تفصيلا حرمته. وفيما نحن فيه يقال : ان المعلوم بالإجمال من الأحكام المنسوخة هي التي ظفرنا بناسخها فيما بأيدينا من أحكام هذه الشريعة ، فإذا شك في نسخ حكم من أحكام الشرع السابق مما لم نعثر على ناسخه في هذه الشريعة كان ذلك خارجا عن دائرة العلم الإجمالي ، بمعنى : أنه لا علم لنا بوقوع النسخ في غير ما علم نسخه في شرعنا ، فلا موجب للمنع عن جريان استصحاب عدم النسخ فيه ، إذ الشك فيه بدوي ، وليس مقرونا بالعلم الإجمالي حتى يمنع عن جريان الأصل فيه.

(١) أي : بقاء ما شك فيه من أحكام الشريعة السابقة.

(٢) هذا إشارة إلى أول شرطي تنجيز العلم الإجمالي المانع عن جريان الأصول في أطرافه ، وقد أشرنا إليه بقولنا : «أحدهما : كون مورد الأصل من أطرافه»

٤٩٢

فيما إذا لم يكن (*) من أطرافه ، كما إذا (١) علم بمقداره تفصيلا

______________________________________________________

ضرورة أنه مع عدم كونه من أطراف العلم الإجمالي لا يكون الشك فيه مقرونا بمنجز حتى لا يجري فيه الأصل ، بل الشك فيه بدوي ، فيجري فيه الأصل بلا مانع. مثلا إذا كان العلم الإجمالي بالنسخ في خصوص أحكام العبادات لا يجري استصحاب عدم النسخ في حكم من أحكام العبادات ، لكونه من أطراف العلم الإجمالي. وأما إذا كان الحكم الّذي شك في نسخه من أحكام المعاملات مثلا فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ فيه ، لكون الشك في نسخه بدويا ، لخروج مورده عن أطراف العلم الإجمالي. والضمير المستتر في «يكن» راجع إلى «ما شك» وضمير «أطرافه» راجع إلى «ما علم».

(١) بيان لعدم كونه من أطراف العلم الإجمالي ، وقد ذكر له صورتين : إحداهما وهي المقصودة بقوله : «كما إذا علم» انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بالنسخ في جملة من الأحكام بمقدار المعلوم بالإجمال ، بحيث لا يبقى في المشكوكات علم إجمالي ، بل الشك في نسخها بدوي ، نظير مثال الغنم المتقدم آنفا.

ثانيتهما : عدم كون المشكوك فيه من أطراف العلم الإجمالي من ابتداء الأمر كما إذا كانت دائرة الأحكام المنسوخة ـ المعلومة إجمالا ـ في دائرة خصوص العبادات مثلا ، بحيث كان العلم الإجمالي بالنسخ متعلقا بأحكامها ، وكان النسخ في غيرها مشكوكا فيه بالشك البدوي. ففي كلتا الصورتين يجري استصحاب عدم النسخ

__________________

(*) حق العبارة أن تكون هكذا : «فيما إذا خرج من أطرافه كما إذا علم بمقداره تفصيلا» فانه بقرينة قوله : «كما إذا علم» في مقام بيان خروج المشكوك فيه عن أطراف العلم بالانحلال حتى يكون في قبال خروجه عنها ابتداء المدلول عليه بقوله : «أو في موارد ليس المشكوك منها» إذ لو لم يرد بالعبارة الأولى الخروج الانحلالي بل أريد منها الخروج الابتدائي لزم التكرار أوّلا ، وعدم ملاءمته لقوله : «كما إذا علم بمقداره تفصيلا» ثانيا ، لكونه كالصريح في إرادة الخروج الانحلالي لا الابتدائي.

٤٩٣

أو في (١) (*) موارد ليس المشكوك منها ، وقد (٢) علم بارتفاع

______________________________________________________

بلا مانع ، حيث ان المانع عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي سواء أكان هو نفس العلم أم تعارض الأصول مفقود هنا. أما العلم فلأن المفروض فقدانه في المشكوكات. وأما الأصل فلعدم جريانه فيما علم تفصيلا نسخه بالضرورة حتى يعارض الأصل الجاري في المشكوكات ، فعليه يجري استصحاب عدم النسخ في المشكوكات بلا مانع.

وبالجملة : فغرض المصنف (قده) هو : أن الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة يجري بلا إشكال ، إذ العلم الإجمالي بنسخها بهذه الشريعة لا يصلح للمنع عنه ، إما لانحلاله وخروج المشكوكات عن أطرافه بسبب الانحلال ، وإما لخروج المشكوكات عن أطرافه ابتداء ، لكون المعلوم بالإجمال في غير المشكوكات.

(١) معطوف على «بمقدار» يعني : أو علم النسخ إجمالا في موارد ليس المشكوك منها ، وهذا إشارة إلى الصورة الثانية المتقدمة بقولنا : «ثانيتهما عدم كون المشكوك من أطراف العلم الإجمالي من ابتداء الأمر ... إلخ» فكأن العبارة هكذا : «لا فيما إذا لم يكن من أطرافه» إما بالانحلال وهو المقصود بقوله : «كما إذا علم تفصيلا» وإما ابتداء وهذا مراده ظاهرا بقوله : «أو في موارد ليس المشكوك منها» فعدم كون الحكم المشكوك النسخ من أطراف العلم الإجمالي إما حقيقي وإما انحلالي.

(٢) هذا متمم لقوله : «أو في موارد ... إلخ» وبيان للموارد التي ليس الحكم المشكوك النسخ منها ، توضيحه : أن دائرة العلم الإجمالي بالنسخ إنما هي الأحكام الثابتة في هذا الشرع بالكتاب والسنة ، للقطع الإجمالي بارتفاع بعض أحكام الشرائع السابقة فيها ، وأما في غيرها فلا علم فيه بالنسخ ، بل هو مشكوك بدوي يجري فيه استصحاب عدم النسخ. وأما في مورد العلم الإجمالي بالنسخ ـ وهو الأحكام الثابتة في شرعنا ـ فلا يجري فيه الاستصحاب ، إذ المفروض ثبوت الحكم

__________________

(*) قد جعل هذا في تقريرات سيدنا الفقيه الأعظم صاحب الوسيلة معطوفا

٤٩٤

ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.

______________________________________________________

فيه في هذه الشريعة بالدليل ، وكون وظيفتنا العمل على طبقه ، فلا وجه لجريان استصحاب عدم النسخ فيه. وعليه فيجري الاستصحاب في الأحكام التي شك في نسخها بلا معارض ، لكون الشك فيها بدويا ، إذ المفروض خلوّها عن العلم الإجمالي. فغرض المصنف (قده) أن مشكوك النسخ خارج عن أطراف العلم ، حيث ان أطرافه هي خصوص موارد الأحكام الثابتة في شرعنا المعلومة عندنا بالدليل ، فالمشكوكات خارجة عن أطرافه من أول الأمر. والعلم بارتفاع الأحكام السابقة يمنع عن جريان الاستصحاب فيها ، لما عرفت من وجوب العمل بما ثبت في هذه الشريعة على كل حال ، ولا أثر لاستصحاب عدم النسخ فيه.

هذا كله بناء على إرادة خروج المشكوك النسخ من أول الأمر عن أطراف العلم الإجمالي بالنسخ على أن يكون قوله : «في موارد» معطوفا على قوله : «بمقداره» فيكون الخروج إما بالانحلال وإما بعدم كونه من أطراف العلم حقيقة كما بيناه. وأما بناء على ما حرّرناه في التعليقة عن تقريرات سيدنا الأعظم الأصفهاني (قده) من عطف قول المصنف : «في موارد» على قوله : «تفصيلا» لا يكون الخروج في أحدهما ابتدائيا وفي الآخر انحلاليا ، بل يكون في كليهما انحلاليا ، فراجع التعليقة.

__________________

على قوله : «تفصيلا» ليكون بيانا للانحلال بوجه آخر ، إذ مرجع العبارة حينئذ إلى هذا «إذا علم بمقداره تفصيلا أو إجمالا في موارد ليس المشكوك منها» وعليه فملخص ما في تلك التقريرات هو : أن الانحلال على ثلاثة أقسام :

الأول : أن يعلم تفصيلا بمقدار يساوي المعلوم بالإجمال ، كما إذا علم تفصيلا بحرمة عشرة أغنام معينة بعد العلم الإجمالي بوجود ذلك العدد المحرّم في مجموع القطيع ، فإذا شك في حرمة غيرها كان ذلك خارجا عن دائرة المعلوم بالإجمال وجرى فيه الأصل ، لكون الشك فيه بدويا.

الثاني : أن يعلم إجمالا بحرمة عشرة أغنام في خصوص السود مثلا ، وشك

٤٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في حرمة فرد من البيض ، فان العلم الإجمالي الأول الكبير ـ وهو العلم بحرمة العشرة في القطيع ـ ينحل بالعلم الإجمالي الثاني الصغير ، وهو العلم بحرمة العشرة في خصوص السود ، وبعد انحلاله يصير الشك في الزائد عليها بدويا.

الثالث : أن تقوم بينة على كون الحرام هو العدد المعين تفصيلا أو إجمالا في جملة السود ، وهذا هو الانحلال الحكمي ، فقوله : ـ كما إذا علم بمقداره تفصيلا ـ ناظر إلى القسم الثاني ، وقوله : ـ وقد علم ... إلخ ـ بيان لوجه الانحلال بالقسم الثاني ، يعني : بعد العلم الإجمالي بارتفاع أحكام من الشريعة السابقة في موارد أحكام شرعنا بمقدار العلم الإجمالي الأول ينطبق العلم الإجمالي الكبير عليه ، ويكون الزائد مشكوكا بالشك البدوي» (١).

ومحصله : أن الانحلال الأول يكون بعلم تفصيلي كانحلال العلم الإجمالي بحرمة عشرين غنما في مجموع القطيع بعلم تفصيلي بحرمة عشرين غنما معينة من السود مثلا. والانحلال الثاني يحصل بعلم إجمالي ثانوي صغير كانحلال العلم الإجمالي بحرمة عشرين غنما في مجموع القطيع ـ التي عددها مائة ـ مثلا بعلم إجمالي بحرمة هذا العدد في خصوص السود التي عددها خمسون مثلا ، فان هذا العلم الثاني الصغير الّذي تكون أطرافه خصوص السود يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير الّذي دائرته مجموع القطيع.

ففيما نحن فيه يمكن أن يقال : ان العلم الإجمالي بنسخ جملة من أحكام الشرائع السابقة المنتشرة في جميع التكاليف الإلهية إما ينحل بعلم تفصيلي بها في شرعنا ، وإما بعلم إجمالي بها في ضمن الأحكام الثابتة في شرعنا ، إذ نعلم إجمالا بوجود تلك الأحكام المنسوخة المعلومة إجمالا فيها ، وهذا العلم الإجمالي الثاني يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير المتقدم الّذي دائرته أوسع ، لعدم انحصار دائرة معلومه وهي الأحكام المنسوخة بخصوص الأحكام الثابتة في هذا الشرع ، بل دائرته جميع الأحكام الإلهية مما علم منها في هذه الشريعة وغيرها.

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ١٢٦

٤٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نظير العلم الإجمالي بحرمة عشرين غنما في مجموع القطيع ، وانحلاله بعلم إجمالي بحرمة هذا العدد في خصوص السود على ما مر آنفا.

ثم إن كل واحد من الاحتمالين مما أفاده سيدنا الأكبر المتقدم قدس‌سره من الخروج الانحلالي ومما بيناه في التوضيح من الخروج الابتدائي يمكن أن يستفاد من قول المصنف : «أو في موارد ليس المشكوك منها».

وكيف كان فالحق أن يقال : انه لا موضوع للبحث عن العلم الإجمالي بالنسخ ثم دعوى انحلاله بالعلم التفصيليّ أو الإجمالي بكون المنسوخات في موارد خاصة معلومة في هذه الشريعة ، وجريان استصحاب عدم النسخ في المشكوكات ، لخلوها عن العلم الإجمالي ، وينبغي أن يعد البحث عن استصحاب عدم النسخ مطلقا حتى بالنسبة إلى أحكام هذا الشرع من الأبحاث الساقطة التي لا يترتب عليها ثمرة عملية. أما بالنسبة إلى الشرائع السابقة ، فلأن دعوى انحلال العلم الإجمالي بالنسخ في أحكامها بالعلم التفصيليّ أو الإجمالي بمنسوخاتها مبنية على معرفة أحكام تلك الشرائع والإحاطة بها حتى يدعى العلم التفصيليّ بمنسوخاتها ، أو العلم الإجمالي بكونها في طائفة خاصة ، وصيرورة النسخ فيما عداها مشكوكا فيه بالشك البدوي كي يجري فيه الاستصحاب ، كما إذا فرض أن أحكام الشرع السابق مائة ، وعلم إجمالا بنسخ جملة منها كثلاثين مثلا بهذه الشريعة ، ثم علمنا تفصيلا بنسخ هذا العدد من تمام المائة أو علمنا به إجمالا في ضمن خمسين منها وهي خصوص أحكام المعاملات مثلا.

لكن الأمر ليس كذلك ، لعدم معرفتنا بأحكام تلك الشرائع ، حيث إن كتبها السماوية قد حرِّفت ودسّ فيها ما ليس فيها ، بحيث لا يمكن الاعتماد عليها والاستناد إليها في معرفة أحكامها ، فلا سبيل إلى معرفتها إلّا الرجوع إلى الكتاب والسنة ، وبعد الرجوع إليهما ومعرفة بعض أحكام تلك الشرائع منهما يعرف حالها أيضا من حيث النسخ وعدمه ، ولا يبقى لنا شك فيها حتى يجري فيه الاستصحاب.

وبالجملة : فقبل مراجعة الكتاب والسنة لا نعلم شيئا من أحكام الشرائع السابقة ،

٤٩٧

ثم لا يخفى أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة (١) أعلى الله في

______________________________________________________

(١) غرضه توجيه ما أفاده الشيخ (قده) من الجواب الثاني عن إشكال تغاير الموضوع المانع عن جريان استصحاب عدم النسخ في حقنا ، إذ الحكم الثابت في حق جماعة ـ وهم أهل الشرائع السابقة ـ لا يمكن إثباته في حق آخرين ، لتغاير الموضوع.

أما عبارة الشيخ في الجواب الثاني فهي : «وثانيا أن اختلاف الأشخاص

__________________

وبعد المراجعة إليهما ومعرفة جملة منها يظهر منهما حالها أيضا نسخا وإمضاء في هذا الشرع ، ولا يبقى حكم منها مشكوك النسخ حتى يبقى مجال للبحث عن جريان استصحاب عدم النسخ فيه وعدمه.

وببيان آخر : بعد تسلّم أمرين ـ أحدهما انحصار طريق العلم بأحكام الشرائع السابقة بالكتاب والسنة ، والآخر إكمال هذه الشريعة والإذعان بمجيء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة ، ووجوب التدين به سواء أكان موافقا للشرع السابق أم مخالفا له ـ لا يبقى شك في حكم واقعة ، لأن أحكام هذه الشريعة ولو بنحو العموم أو الإطلاق معلومة ، فلو علم حكم من أحكام الشرائع السابقة لم يجر فيه الاستصحاب ، لأنه بعد المراجعة إلى أدلة أحكام هذه الشريعة يعلم بقاؤه أو ارتفاعه ، ولا يبقى فيه شك حتى يستصحب.

وحيث انه لا يترتب على هذا البحث ثمرة عملية فلا جدوى في إطالة الكلام فيما ذكره الأعلام هنا من عدم إجداء جعل الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية كما أفاده المصنف ، وذلك لتفاوت نفس هذه القضايا الحقيقية بلحاظ موضوعاتها سعة وضيقا ، فيمكن أن تكون القضية الحقيقية مختصة بأهل الشريعة السابقة كما إذا كانت بعنوان «يا أيها اليهود» أو «يا أيها النصارى». ومن أن استصحاب بقاء الجعل قاصر عن إثبات بقاء المجعول ، لعدم حجية مثبتات الأصول. ومن التمسك بالاستصحاب التعليقي بعد سقوط التنجيزي وغير ذلك ، مع أن للتأمل فيما أفادوه مجالا واسعا.

٤٩٨

الجنان مقامه في الذب (١) عن إشكال تغاير الموضوع في هذا

______________________________________________________

لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلّا لم يجر استصحاب عدم النسخ. وحله : أن المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ، إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعا» وحاصله : أن الموضوع للأحكام مطلقا سواء أكانت من الشرائع السابقة أم هذه الشريعة هو كلي المكلف الصادق على الموجودين في زمان تشريع الأحكام والمعدومين ، لأن هذا الكلي ينطبق على الجميع من الموجود والمعدوم بوزان واحد ، فإذا شك في بقاء حكم من أحكام الشرائع السالفة صح استصحابه ، لوحدة الموضوع.

وأما توجيه المصنف لهذا الجواب فمحصله : أنه لمّا كان ظاهر كلام الشيخ ثبوت الحكم للكلي بنحو القضية الطبيعية ـ التي يكون الموضوع فيها نفس الطبيعة كـ «الإنسان نوع أو كلّي» أو غيرهما من المعقولات الثانية المحمولة على الطبائع ، بحيث لا تكون الأفراد ملحوظة فيها ، لعدم حظّ لها من هذه المحمولات ، حيث ان الأفراد لا تتصف بالكلية والنوعية ونحوهما ـ ولم يمكن إرادة هذا الظاهر في المقام ، ضرورة أن البعث والزجر وكذا ما يترتب على إطاعتهما وعصيانهما من الثواب والعقاب إنما هي من الآثار المترتبة على الأفراد دون الكلي نفسه أي : من دون دخل للأشخاص فيها كما في مالكية كلي الفقير للزكاة ، والوقف على العناوين الكلية كعنوان الزائر والفقيه ونحوهما من الكليات التي لا تلاحظ فيها خصوصيات الأفراد ، في قبال الوقف على الجهات الخاصة كالوقف على الذرية ، حيث ان الملحوظ فيها هو الأفراد الخاصة ، ألجأنا ذلك إلى ارتكاب خلاف الظاهر في كلام الشيخ بإرادة القضية الحقيقية منه حتى يسلم من هذا الإشكال ، لا القضية الطبيعية التي عرفت حالها.

(١) متعلق بـ «ما أفاده» وقد تكرر مثل هذا التعبير من المصنف (قده) والصواب أن يقال : «في ذب الإشكال» أي : دفعه.

٤٩٩

الاستصحاب (١) من الوجه الثاني (٢) إلى ما ذكرنا (٣) ، لا ما يوهمه ظاهر كلامه من (٤) أن الحكم ثابت للكلي ، كما أن الملكية له (٥) في مثل باب الزكاة والوقف العام ، حيث لا مدخل للأشخاص فيها (٦) ،

______________________________________________________

(١) أي : استصحاب عدم نسخ أحكام الشرائع السابقة ، وإشكال تغاير الموضوع هو الّذي جعله الفصول من الوجه المانعة عن جريان استصحاب تلك الشرائع ، حيث ان الموضوع لتلك الأحكام خصوص تلك الأمم ، وليس أهل هذه الشريعة موضوعا لها ومخاطبا بها ، فأول ركني الاستصحاب وهو اليقين بالثبوت مختل ، وقد تقدم توضيحه سابقا.

(٢) هذا بيان لـ «ما» الموصول في قوله : «ما أفاده» والوجه الثاني هو الجواب الثاني الّذي ذكره الشيخ عن إشكال تغاير الموضوع بقوله : «وثانيا : ان اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلّا لم يجر ... إلخ» وقد تقدم نقله عند شرح كلام المصنف : «ثم لا يخفى أنه يمكن ...».

(٣) من كون الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية ، لا ما يوهمه ظاهر كلام الشيخ من كون الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الطبيعية التي تكون موضوعاتها نفس الطبائع ، ومحمولاتها المعقولات الثانية كالجنسية والنوعية والكلية ، مثلا «الإنسان نوع» قضية طبيعية بمعنى : أن الحكم ثابت لنفس الطبيعة ، ولا يسري إلى الأفراد أصلا ، لعدم صحة حمل الكلية والنوعية على زيد وعمرو وغيرهما من أفراد الإنسان.

(٤) بيان لـ «ما» الموصول في قوله : «ما يوهمه» وقد عرفت توضيحه ، وأن ظاهر كلام الشيخ إرادة القضية الطبيعية.

(٥) أي : للكلي ، و «له» خبر لـ «أن» يعني : كما أن الملكية ثابتة للكلي في مثل باب الزكاة ... إلخ.

(٦) أي : في الملكية. استشهد بهذا على ثبوت الحكم للكلي ، ببيان : أن وزان

٥٠٠