منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فلا محالة يكون الطلب مشروطا به ، وحينئذ لا إشكال في استصحاب الزمان وترتب الوجوب عليه ، إذ يثبت به الموضوع وهو صرف الوجود من الزمان ، لكون الواجب في الموسع هو صرف الوجود منه ، وكذا الوقت فان الموضوع منه هو صرف وجوده.

لا يقال : إن جعل الوقت شرطا للوجوب ينافي ما بنوا عليه في الفقه من أهمية الوقت الموجبة لسقوط غيره من الشرائط وغيرها كترك السورة عند المزاحمة ، إذ بناء على كون الوقت شرطا للوجوب لا وجه للمزاحمة المتقومة بتعلق الطلب بشيئين عجز المكلف عن امتثالهما ، فانه بناء على شرطيته للوجوب لم يتعلق به طلب حتى يقع التزاحم بملاحظته.

فانه يقال : لا تنافي بين الأمرين ، إذ عدم لزوم رعاية شرط الوجوب إنما يكون من ناحية نفس ذلك الوجوب المشروط به ، لعدم اقتضاء الحكم حفظ موضوعه ولا إيجاده ، ولذا يجوز تبديله كصيرورة المسافر حاضرا ، إلّا أنه لا يمتنع وجوب حفظه من ناحية حكم آخر كما هو الحال في الاستطاعة ، فانه لو لا الدليل على وجوب إبقائها في أشهر الحج لجاز تفويتها. وعليه فيمكن أن يستفاد مما دل على تقديم الوقت على غيره في مقام المزاحمة وجوب مراعاة الوقت وتحقق الاضطرار بوجوب مراعاته ، ولا ينافي هذا كونه شرطا للوجوب.

وهذا الوجه يتم بناء على القول بالواجب المشروط والمعلق ، وهو واضح على الأول. وكذا على الثاني ، لعدم كون الوقت ونحوه من القيود غير الاختيارية متعلقا للطلب وان كان دخيلا في الواجب. وعلى هذا يكفي استصحاب الوقت بمفاد كان التامة لترتب الحكم الشرعي عليه ، إذ التعبد ببقائه تعبد بترتب الحكم عليه كنفس الحكم الواقعي.

ومنها : ما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) من : أن القيد المقوّم هو الزمان بوجوده المحمولي لا الناعتي ، وبيانه : أن الزمان ان كان مقوما ـ لا ظرفا ـ بحيث يكون

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

دخيلا في مصلحة الفعل المقيد به كصوم شهر رمضان ، فتارة يكون قيدا للملاك بوجوده المحمولي كما إذا قال : «أمسك في النهار» وأخرى بوجوده الناعتي كما إذا قال : «يجب الإمساك النهاري» واستصحاب الزمان بمفاد كان التامة ينفع في الصورة الأولى ، إذ به يحرز وقوع الإمساك الوجداني في النهار التعبدي. بخلاف الصورة الثانية ، فانه لا يجدي في تعنون الإمساك بعنوان كونه في النهار لا وجدانا ولا تعبدا ، لفرض دخل عنوان الاتصاف في الدليل ، وعدم تعلق الحكم بالإمساك مع وقوعه في النهار ليكفي إحراز النهار بالتعبد (١). ولا يبعد ظهور أدلة الموقتات في الأول. وعليه يكفي استصحاب الزمان بمفاد كان التامة. فيكون وزان الوقت وزان سائر الشرائط كالطهارة والستر ونحوهما من قيود الواجب في كفاية إحرازها بالاستصحاب بناء على كون جواز الدخول في الصلاة أثرا شرعيا للطهارة مثلا.

كما يمكن دفع الإشكال بجعل قيود الواجب شرائط للمصلي حال صلاته ، كما لعله يستفاد من قوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم» اعتبار الطهارة لمن يريد الصلاة ، فيقال : ان هذا الشخص كان متطهرا والآن كما كان فيصلي وهو متطهر ، ولو انكشف الخلاف وجبت الإعادة ، لعدم كونه متطهرا بالفرض. مضافا إلى : أن مورد صحيحة زرارة الأولى كفاية هذا المقدار من إحراز الطهارة ، وإلّا يلزم عدم حجيتها في موردها.

وبناء على عدم جريان الاستصحاب أصلا لا في الحكم ولا في المقيد ولا في القيد ، فالظاهر أن المرجع هو أصالة البراءة من التكليف عند الشك في الوقت كالشك في بقاء النهار مثلا ، مع الغض عن الأدلة الاجتهادية المعينة للوظيفة ، لفرض دخل الزمان في الملاك وقيام الغرض به ، ومع الشك في الوقت يشك في كون الفعل المقيد به مركبا للمصلحة ، والأصل براءة الذّمّة منه. وليس المقام من

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٨١

٤٢٢

وإن كان (١) من الجهة الأخرى فلا مجال إلّا لاستصحاب الحكم

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «فان كان» يعني : وان كان الشك في الحكم من جهة أخرى غير الشك في بقاء القيد ، بأن يشك فيه مع القطع بانتفاء القيد. وقد عرفت تعدد منشأ الشك في بقاء الحكم مع القطع بانقضاء الوقت من كون الزمان قيدا بنحو تعدد المطلوب أو وحدته مع احتمال حدوث مصلحة ملزمة في الفعل أوجبت وجوبه بعد ذلك الزمان ، والمصنف ذكر صورتين :

إحداهما : كون الزمان ظرفا ، لا قيدا مقوّما لموضوع الحكم ودخيلا في ملاكه ، والحكم فيه جريان الاستصحاب في نفس الحكم ، فإذا وجب الجلوس مثلا في يوم الجمعة ولم يؤخذ يوم الجمعة قيدا بل ظرفا وشك في وجوب الجلوس يوم السبت جرى استصحابه ، لعدم تعدد الموضوع.

ثانيتهما : كون الزمان قيدا مقوما لموضوع الحكم ، كتقيد الصوم بشهر رمضان في قوله تبارك وتعالى : «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» والأصل الجاري فيه بعد انقضاء الزمان هو استصحاب عدم الحكم ، لأن التقييد بالزمان يوجب تعدد الموضوع ، وكون الصوم في غير شهر رمضان مغايرا لصوم شهره ، ومع تعدد الموضوع يكون الشك في حدوث التكليف ، وهو مجرى استصحاب عدم التكليف إذ المتيقن من انتقاض عدم وجوب الصوم هو الزمان الخاصّ ، ويشك في انتقاضه في غير ذلك الزمان ، فيستصحب عدم الوجوب ، ولا يجري استصحاب الوجوب ، إذ المفروض تعدد الموضوع وكون الصوم المقيد بشهر رمضان مغايرا لصوم غيره ، ومع تعدد الموضوع لا يكون الشك في البقاء حتى يجري فيه استصحاب الوجوب.

__________________

موارد العلم بالغرض والشك في القدرة كدفن الميت عند احتمال صلابة الأرض حتى يكون من موارد قاعدة الاشتغال ، وذلك للفرق الواضح بينهما ، لتقوم المصلحة في الموقتات بالفعل المقيد ، ومع الشك في الوقت لا علم بالغرض حتى يندرج في قاعدة الشغل ، لأن الشك فيه مستتبع للشك في الحكم ، والأصل عدمه.

٤٢٣

في خصوص (١) ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفا لثبوته ، لا قيدا مقوّما لموضوعه ، وإلّا (٢) فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه (*) فيما بعد

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الصورة الأولى ، وضمائر «فيه ، لثبوته ، لموضوعه» راجعة إلى «الحكم» ثم إن عدّ هذه الصورة الأولى وهي كون الزمان ظرفا من أقسام الفعل المقيد بالزمان مبني على المسامحة ، لمباينة الظرفية للقيدية ، لوضوح عدم كون الظرف قيدا.

إلّا أن يقال : ان مراده بقوله : «وأما الفعل المقيد بالزمان ... إلخ» الفعل المقترن بالزمان في لسان الدليل ، كما إذا قال : «أكرم العلماء يوم الجمعة» مثلا وقيدية الزمان أو ظرفيته تحرز من قرينة داخلية أو خارجية ، فتدبر. ويؤيده تصريحه في «لا يقال» بقوله : «يكون من قيود الموضوع وان أخذ ظرفا لثبوت الحكم» حيث انه أراد بالتقييد مجرد الاقتران بالزمان. لكن الإنصاف تقابل القيدية والظرفية وتغايرهما ، وهو (قده) أعلم بما قال.

(٢) أي : وان لم يؤخذ الزمان ظرفا بل أخذ قيدا مقوما لموضوع الحكم ... إلخ ، وهذا إشارة إلى الصورة الثانية المتقدمة آنفا بقولنا : «ثانيتهما : كون الزمان قيدا ... إلخ».

__________________

(*) بل لا مجال لاستصحاب عدم الحكم مطلقا وإن كان الزمان قيدا ، وذلك لأن العدم الأزلي الّذي كان في حال الصغر قد انتقض قطعا حين البلوغ ، لصيرورة كل واقعة ذات حكم في الشريعة ، فالإباحة بعد البلوغ شرعية ، وقبله عقلية ، وهما متغايرتان. وعليه فعدم وجوب الجلوس بعد الزوال مغاير لعدم وجوبه قبل البلوغ ، وليس هو ذلك العدم حتى يكون الشك في انتقاضه بوجوب الجلوس بعد الزوال كي يستصحب.

وهذا المقدار من الميز بين العدمين كاف في التغاير المانع عن الاستصحاب المتقوم بالشك في بقاء عين ما كان ، ومن المعلوم عدم الفرق في مانعية ذلك عن الاستصحاب بين ظرفية الزمان وقيديته. والعدم الآخر الّذي يمكن استصحابه لا يقين

٤٢٤

ذلك الزمان ، فانه (١) غير ما علم ثبوته له ، فيكون الشك في ثبوته

______________________________________________________

(١) هذا تعليل لقوله : «وإلّا فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه» وحاصل التعليل : مغايرة الوجوب الّذي يكون بعد زمان الفعل للوجوب الّذي يكون في زمان الفعل ، ومغايرة الوجوبين تمنع عن جريان الاستصحاب ، لكون الشك في حكم الفعل بعد ذلك الزمان شكا في حدوث التكليف ، لا شكّا في بقائه حتى يجري فيه استصحاب التكليف ، وضمائر «عدمه ، ثبوته» في الموضعين راجعة إلى «الحكم» وضميرا «له» في الموضعين راجعان إلى «الفعل» المستفاد من الكلام ، يعني : فان الحكم الثابت بالاستصحاب فيما بعد ذلك الزمان غير الحكم الّذي علم ثبوته للفعل قبل ذلك الزمان ، وتغاير الفعلين يوجب تعدد الموضوع ، وكون الحكم الثابت لما بعد ذلك الزمان مغايرا للحكم الثابت لما قبله ، وكون الشك فيه شكا في حدوث الحكم لا بقائه.

__________________

به حتى يشك فيه ويستصحب ، إذ لا بد أن يكون ذلك هو عدم وجوب الجلوس في الآن الأول بعد الزوال حتى يشك فيه بعده ، ومن المعلوم عدم العلم بذلك العدم.

فالنتيجة : أنه لا مجال لاستصحاب العدم مطلقا وان كان الزمان قيدا ، فما أفاده الشيخ الأعظم (قده) دفعا لتعارض استصحابي الوجود والعدم ـ على ما سيأتي في كلام العلامة النراقي (قده) ـ من «جريان استصحاب العدم دون الوجود في صورة قيدية الزمان ، وجريان استصحاب الوجود دون العدم في صورة ظرفية الزمان ، وعدم جريان كلا الاستصحابين في مورد حتى يتعارضا» لا يخلو من الغموض.

نعم لا مانع من استصحاب الوجود في صورة الظرفية ، لاجتماع أركانه من اليقين والشك الفعليين ، ووحدة القضيتين. وأما في صورة قيدية الزمان فالمرجع فيها أصالة البراءة ، لكون الشك فيها في التكليف ، ولا مجال لجريان الاستصحاب فيها أصلا ، لا العدمي ولا الوجوديّ.

٤٢٥

له أيضا (١) شكّا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه.

لا يقال (٢) : إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وان أخذ ظرفا (*) لثبوت الحكم في دليله ، ضرورة (٣) (**) دخل مثل (٤) الزمان فيما هو المناط لثبوته ، فلا (٥) مجال إلّا لاستصحاب عدمه.

______________________________________________________

(١) يعني : كما أن الشك في التكليف قبل تشريعه في ذلك الزمان يكون شكا في حدوث التكليف لا في بقائه ، كذلك يكون الشك فيه بعد ذلك الزمان شكا في حدوث التكليف لا في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب ، بل لا محيص عن جريان استصحاب عدم التكليف فيه. وضميرا «ثبوته ، بعدمه» راجعان إلى الحكم.

(٢) هذا إشكال على التفصيل الّذي أفاده من جريان استصحاب ثبوت التكليف فيما إذا كان الزمان ظرفا ، واستصحاب عدم التكليف فيما إذا كان الزمان قيدا ، تقريب الإشكال : أن الزمان وغيره من الزماني مما أخذ في حيّز الخطاب يصير قيدا للموضوع ودخيلا في ملاك الحكم على مبنى تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد ، وإذا صار الزمان قيدا من قيود الموضوع فانتفاؤه مانع عن جريان الاستصحاب ، إذ لا أقل من كون انتفائه موجبا للشك في بقاء الموضوع ، ومن المعلوم أنه مع هذا الشك لا يجري الاستصحاب ، فلا فرق في عدم جريانه في ثبوت التكليف بين ظرفية الزمان وقيديته.

(٣) تعليل لقوله : «لا محالة» وحاصله : أن قيديته للموضوع إنما هي لأجل دخله في ملاك الحكم. وضمائر «دليله ، لثبوته ، عدمه» راجعة إلى الحكم.

(٤) التعبير بالمثل للتنبيه على عدم خصوصية في الزمان ، بل هو شأن كل قيد أخذ في موضوع الحكم وان لم يكن زمانا كالتستر والاستقبال في الصلاة.

(٥) هذه نتيجة دخل الزمان في ملاك الحكم وكونه قيدا للموضوع ، لأن

__________________

(*) قد عرفت منافاة الظرفية للتقييد وتقابلهما.

(**) الاستدلال لقيدية الزمان بالظهور اللفظي ـ حيث ان كل ما يقع في

٤٢٦

فانه يقال : نعم (١) لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر

______________________________________________________

انتفاء القيد يوجب تعدد الموضوع وانثلام وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، فلا يجري استصحاب التكليف ، بل يجري استصحاب عدمه ، لأن المتيقن انتقاضه هو زمان التكليف ، وما بعده مشكوك الانتقاض ، فيستصحب عدمه. وضمير «هو» راجع إلى الموصول المراد به المصلحة الداعية إلى الجعل.

(١) هذا دفع الإشكال المزبور ، ومحصله : أن دخل كل قيد في الموضوع إنما هو بنظر العقل المبني على الدقة. وأما بنظر العرف المسامحي الّذي هو المعيار في باب الاستصحاب فلا ريب في أن الفعل الّذي أخذ الزمان ظرفا لا قيدا له يكون بهذا النّظر العرفي في كلا الزمانين واحدا ، ولا تنثلم وحدته باختلاف الزمان ، فإذا شك في ثبوت الحكم بعد مضي الزمان المأخوذ ظرفا له لا يجري فيه (إلّا استصحاب التكليف المعلوم حدوثه في الزمان الأول ، لكون الشك فيه شكا في بقاء التكليف لا في حدوثه ، فإذا علم بوجوب إكرام العلماء مثلا يوم الجمعة مع العلم بظرفية الجمعة للحكم ، وشك في بقاء الوجوب بعدها جرى استصحاب وجوب الإكرام بلا مانع ، إذ المفروض ظرفية يوم الجمعة للحكم لا قيديته له.

وبالجملة : فالعرف يحكم بوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة في صورة ظرفية الزمان ، ووحدة الفعل في الزمانين.

__________________

حيز خطاب من الخطابات الشرعية ظاهر في القيدية والدخل في موضوع الحكم ـ أولى من الاستدلال لها بدخله في الملاك وإن كان هو في نفسه حسنا ، لكونه برهانا لميّا. لكنه تخرص بالغيب ، إذ لا سبيل إلى إحراز الدخل في الملاك حتى يصح جعله دليلا على قيديته للموضوع.

وكيف كان ، فما أفاده من القيدية بناء على رجوع كل قيد إلى الموضوع واضح. لكن هذا المبنى يوجب انسداد باب الاستصحاب في جلّ الأحكام بل كلها فتدبر.

٤٢٧

العقل. وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف (١) فلا شبهة في أن الفعل بهذا النّظر موضوع واحد في الزمانين (٢) قطع (٣) بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل ، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني ، فلا يكون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته (٤).

لا يقال (٥) (*) : فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم يجري ،

______________________________________________________

(١) يعني : كما هو كذلك في باب الاستصحاب ، وأنه لا عبرة فيه بنظر العقل أصلا.

(٢) أي : زمان الفعل وما بعده.

(٣) صفة لـ «موضوع واحد» هذا تقريب الاستصحاب وتطبيقه على المقام وبيان ركنيه من اليقين والشك.

(٤) هذا الضمير وضمير «ارتفاعه» راجعان إلى «الحكم» وضميرا «له» في الموضعين راجعان إلى «الفعل» أو إلى «موضوع واحد» باعتبار قربه إلى الضمير ، والمعنى واحد ، وقوله : «فلا يكون» تفريع على اعتبار النّظر العرفي في الاستصحاب.

(٥) غرض هذا المستشكل إسقاط استصحاب ثبوت التكليف عن الاعتبار في صورة ظرفية الزمان بمعارضته لاستصحاب عدمه ، ببيان : أن كلّا من ثبوت التكليف وعدمه مسبوق باليقين والشك ، فكلا ركني الاستصحاب في كلّ من وجود التكليف

__________________

(*) لا يخفى أنه لا وقع لهذا الإشكال أصلا بعد حصر الاعتبار في النّظر العرفي وإسقاط النّظر العقلي عن الاعتبار في باب الاستصحاب ، ضرورة أن دليل الاستصحاب مع الغض عن المعارضة أيضا لا يشمله ، ومع قصور الدليل عن شموله له لا تصل النوبة إلى المعارضة. وظنّي أن التعرض له تمهيد لرد كلام الفاضل النراقي تبعا للشيخ (قدس‌سرهما) الّذي تعرض له ولما يتوجه عليه من الإشكال فلاحظ.

٤٢٨

لثبوت كلا النظرين (١) ويقع التعارض بين الاستصحابين كما قيل (٢).

فانه يقال (٣) : إنما يكون

______________________________________________________

وعدمه موجود ، فيجري فيهما الاستصحاب ، ويسقط بالتعارض. توضيحه : أن وجود الحكم فيما بعد الزمان المأخوذ في دليله مشكوك فيه بعد القطع بوجوده في ذلك الزمان ، كما أن عدم الحكم قبل التشريع كان معلوما وانتقض في قطعة من الزمان قطعا ، ولم يعلم انتقاضه فيما بعده ، فبعد انقضاء ذلك الزمان يشك في وجود الحكم ، لاحتمال بقائه وعدم اختصاصه بذلك الزمان ، فيستصحب وجوده. كما أنه يشك في بقاء عدمه الأزلي ، حيث ان المعلوم انتقاضه هو العدم في خصوص تلك القطعة من الزمان ، وانتقاضه في غيرها مشكوك فيه ، فيستصحب عدمه ، ويسقط الاستصحابان بالتعارض.

(١) وهما نظر العرف ونظر العقل ، كما اعترف بوجود هذا النّظر العقلي بقوله : «نعم لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ... إلخ» فيجري الاستصحاب الوجوديّ للنظر العرفي والعدمي للنظر العقلي.

(٢) القائل هو الفاضل النراقي (قده) في المناهج ، حيث قال فيما حكي عنه : «إذا علم أن الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنه واجب إلى الزوال ، ولم يعلم بوجوبه فيما بعده ، فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع ، وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة وعلم ارتفاعه ، والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال ، وصار بعده موضع شك ، فهاهنا شك ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر» وحاصله كما أوضحناه آنفا : معارضة استصحاب وجود الحكم الثابت قبل زوال يوم الجمعة باستصحاب عدمه الأزلي.

(٣) هذا دفع الإشكال ، توضيحه : أن اعتبار نظري العقل والعرف في باب الاستصحاب منوط بشمول أدلته لهما حتى يوجب شمولها لكلا النظرين وقوع التعارض بين النظرين. لكنه ليس فيها لفظ يشملهما ويجمعهما ، بل يستحيل ذلك ،

٤٢٩

ذلك (١) لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين ، وإلّا (٢) فلا يكاد يصح إلّا إذا سيق بأحدهما ، لعدم إمكان الجمع بينهما ، لكمال المنافاة بينهما (٣) ، ولا يكون في أخبار الباب (٤) ما بمفهومه

______________________________________________________

لأنه بناء على القيدية لا يكون رفع اليد عن الحكم فيما بعد ذلك الزمان نقضا للحكم السابق ، وبناء على الظرفية يكون رفع اليد عنه بعد ذلك الزمان نقضا له. فبناء على اعتبار النظرين يلزم التناقض ، إذ رفع اليد نقض وليس بنقض. فلا بد أن تكون العبرة بأحد النظرين وهو نظر العرف كما تقدمت الإشارة إليه ، ويأتي تفصيله في خاتمة هذا الفصل إن شاء الله تعالى.

وببيان آخر أفاده في حاشية الرسائل : أن لحاظ تقييد الجلوس بالزوال غير لحاظ إطلاقه ، وهذان اللحاظان يمتنع اجتماعهما ، فلا بد أن يكون الدليل بأحد اللحاظين ، كما أنه لا يمكن أن يكون مهملا ، إذ لازمه سقوطه عن الاعتبار ، قال : «وكأن المتوهم ـ أي الفاضل النراقي ـ نظر في كل استصحاب إلى لحاظ ، وغفل عن امتناع الجمع بينهما» ويستفاد هذا من عبارة الشيخ أيضا ، فراجع الرسائل.

والحاصل : أنه بناء على ظرفية الزمان لا يجري إلّا استصحاب الوجود ، ولا يجري استصحاب العدم حتى يرد عليه إشكال المعارضة.

(١) أي : تعارض الاستصحابين إنما يكون فيما إذا عم الدليل بمفهومه كلا النظرين.

(٢) أي : وإن لم يكن في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين فلا يصح جريان الاستصحاب إلّا بلحاظ أحد النظرين وهو النّظر العرفي ، إذ الخطابات ملقاة إليهم.

(٣) هذا الضمير وضميرا «بينهما ، بأحدهما» راجعة إلى النظرين ، ووجه كمال المنافاة بين النظرين هو ما عرفت من التناقض ، وقوله : «لعدم إمكان الجمع بينهما» تعليل لقوله : «فلا يكاد يصح الا ... إلخ».

(٤) ولو فرض ظهور دليل في ذلك فلا بد من رفع اليد عنه ، لما مر من امتناع

٤٣٠

يعمّهما (١) فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فيما أخذ قيدا ، لما (٢) عرفت من أن العبرة في هذا الباب (٣) بالنظر العرفي ، ولا شبهة (٤) في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع [معه] قبله متحد في الأول (٥) ومتعدد

______________________________________________________

الأخذ بالنظرين معا ، وضمير «بمفهومه» راجع إلى «ما» الموصول المراد به الخبر.

(١) أي : يعم النّظر العرفي والعقلي.

(٢) تعليل لقوله : «فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد» وحاصل التعليل كما تقدم هو : أن العبرة في تعيين الموضوع في الاستصحاب هو العرف ، ففيما إذا كان الزمان بنظره ظرفا يجري استصحاب الثبوت ، وفيما إذا كان قيدا يجري استصحاب العدم.

وبالجملة : فالجاري في المقام استصحاب واحد ، وهو إما وجودي على تقدير ، وإما عدمي على آخر ، لا استصحابان حتى يتعارضا ، فقوله : «الا استصحاب واحد» تعريض بمن يجري استصحابين ويلقي بينهما التعارض ، وقوله : «فلا يكون» نتيجة عدم دليل يعم بمفهومه النظرين.

(٣) أي : الاستصحاب ، ووجه العبرة بالنظر العرفي في ذلك هو كون الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف ، فلا بد من الرجوع إليهم في فهم معانيها.

(٤) غرضه بيان ما يفهمه العرف في الفعل المقرون بالزمان من اتحاده في صورة الظرفية وتعدده في صورة القيدية ، فالفعل مع الزمان موضوع وبدونه موضوع آخر ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بخلاف ظرفية الزمان ، فان الفعل معه وبدونه موضوع واحد ، فيجري فيه الاستصحاب.

(٥) وهو ما إذا أخذ الزمان ظرفا ، وضمير «قبله» راجع إلى «ذلك الوقت» و «متحد» خبر «أن الفعل».

٤٣١

في الثاني (١) بحسبه ، ضرورة (٢) أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر ولو (٣) بالنظر المسامحي العرفي. نعم (٤) لا يبعد أن يكون

______________________________________________________

(١) وهو ما إذا أخذ الزمان قيدا ، وضمير «بحسبه» راجع إلى العرف ، يعني : ولا شبهة في أن الفعل بحسب نظر العرف متحد في الأول ومتعدد في الثاني.

(٢) تعليل للتعدد في صورة قيدية الزمان ، وحاصله : أن القيد يضيق دائرة موضوع الحكم ويخرج الإطلاق عن تمام الموضوعية ، فإذا قال الشارع : «الماء الكر لا ينفعل أو عاصم» اختص الحكم بعدم الانفعال بالماء البالغ كرا دون غيره ، فالموضوع وهو الماء الكر مغاير للماء غير الكر ولا يتحدان. ومن القيود الزمان إذ لا فرق في القيد المأخوذ في لسان الدليل موضوعا للحكم بين الزمان وغيره.

(٣) يعني : حتى بالنظر المسامحي العرفي فضلا عن النّظر الدقي العقلي ، غرضه أن العرف مع سعة نظره ومسامحته في تشخيص المفاهيم يحكم بتعدد الفعل المقيد بالزمان كالجلوس إلى الزوال إذا فرض تقيده بزمان آخر ، فان العرف يرى تعدده وتغايره باعتبار تقيده بزمانين.

(٤) استدراك على قوله : «ومتعدد في الثاني» وإشارة إلى الصورة الرابعة التي أشرنا إليها في صدر البحث عن الفعل المقيد بالزمان بقولنا : «ثانيتهما : كون الزمان قيدا للحكم بنحو تعدد المطلوب ... إلخ» وتوضيحه : أن التعدد المانع عن الاستصحاب في صورة قيدية الزمان إنما هو فيما إذا كان قيدا للحكم بنحو وحدة المطلوب ، وأما إذا كان بنحو تعدد المطلوب ، بأن يكون الجلوس مطلقا مطلوبا ، وتقيده بزمان خاص مطلوبا آخر بحيث لا تنثلم وحدة الموضوع وهو الجلوس بانقضاء ذلك الوقت ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، بعد كون الفعل واحدا عرفا ، لكون الشك شكّا في بقاء مطلوبيته وان كانت مطلوبيته بقاء لاستنادها إلى مصلحة في ذات المطلق غير المصلحة القائمة بالمقيد بالزمان الخاصّ.

وبالجملة : فتكون إحدى صورتي التقييد ـ وهي التقييد بنحو تعدد المطلوب ـ كصورة الظرفية في وحدة الموضوع.

٤٣٢

بحسبه أيضا (١) متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي ، وأن (٢) حكمه بتلك المرتبة التي كان (*) مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده (٣) قطعا ، إلّا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة (٤) من مراتبه ، فيستصحب (٥)

______________________________________________________

(١) أي : كاتحاد الفعل في الزمانين بنظر العقل ، وضمير «بحسبه» راجع إلى «النّظر المسامحي» والضمير المستتر في «يكون» راجع إلى الفعل.

(٢) معطوف على «أنه» ومفسّر له ، وبيان لاحتمال كونه بنحو تعدد المطلوب ، وضمائر «حكمه» في الموضعين و «أنه» راجعة إلى الفعل ، يعني : أن حكم الفعل الّذي كان مع ذلك الوقت بتلك المرتبة القصوى من المطلوبية وإن لم يكن باقيا بعد ذلك الوقت على تلك المرتبة من المطلوبية لدخل الوقت فيها ، إلّا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة ، إذ مع القطع بعدم بقائه بانقضاء الوقت يكون من باب وحدة المطلوب دون تعدده.

(٣) أي : بعد الوقت ، وضمير «بقاؤه» راجع إلى «حكمه».

(٤) أي : المرتبة العليا من المراتب التي كان الحكم واجدا لها في ذلك الزمان.

(٥) بدعوى : أن الحادث على فرض حدوثه يكون وجودا بقائيا بنظر العرف للموجود السابق ، نظير السواد الضعيف بالنسبة إلى الشديد منه ، ولا يعد بنظرهم موجودا مباينا للموجود السابق ، هذا في الأعراض الخارجية. ويمكن أن يكون منه وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة بناء على وجوبها التخييري بدعوى أن هذا الوجوب عرفا وجود استمراري لوجوبها في عصر الحضور وإن كان ذلك الوجوب تعيينا وهذا تخييريا ، فتدبر.

__________________

(*) الظاهر أن الصواب «كانت» بدل «كان» لكونه صلة لـ «التي» إذ المرتبة القصوى من المطلوبية نشأت من الوقت ، فكأنه قيل : «وان حكمه بتلك المرتبة التي كانت مع ذلك الوقت ... إلخ».

٤٣٣

فتأمل جيدا (١).

إزاحة وهم (٢) : لا يخفى أن الطهارة

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى منع جريان الاستصحاب فيما إذا أخذ الزمان قيدا ، ضرورة أن القيد دخيل في الموضوع أو المحمول ، وانتفاؤه على كلا التقديرين قادح في وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، ومع هذا القدح كيف يجري الاستصحاب؟ وتشابه الحكمين لفعل في زمانين لا يوجب وحدة الموضوع المصحّحة لجريان الاستصحاب ، فان حكم الصلاة والصوم وهو الوجوب متحد سنخا مع تغاير متعلقيهما وتباينهما. بل الشك في القدح أيضا يمنع عن جريان الاستصحاب ، لكون الشك في وحدة الموضوع موجبا للشك في صدق النقض المانع عن صحة التمسك بدليل الاستصحاب ، كما لا يخفى.

(٢) هذا الوهم من الفاضل النراقي (قده) فانه بعد بيان تعارض استصحابي الوجود والعدم في مثال وجوب الجلوس يوم الجمعة إلى الزوال على ما تقدم في عبارته ذكر أمثلة أخرى للتعارض المزبور :

منها : ما إذا عرض للمكلف مرض يوجب الشك في وجوب الصوم عليه ، فان استصحاب وجوب الصوم قبل عروض المرض واستصحاب عدمه الأصلي قبل تشريع وجوب الصوم يجريان ويتعارضان.

ومنها : ما إذا خرج المذي من المتطهّر ، فانه يجري فيه استصحاب الطهارة قبل خروجه ، واستصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، ويتعارضان.

ومنها : ما إذا غسل ثوبه المتنجس مرة وشك في حصول الطهارة له بذلك ، فانه يجري فيه استصحاب النجاسة قبل الغسل ، واستصحاب عدم كون ملاقاة البول مثلا سببا للنجاسة بعد الغسل مرة ، فيتعارضان ويتساقطان.

ففي هذه الأمثلة ونظائرها تسقط الاستصحابات بالتعارض ، إلّا أن يكون هناك استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم كاستصحاب عدم جعل مشكوك الرافعية رافعا ، حيث أن منشأ الشك في بقاء الوضوء بعد خروج المذي هو الشك في

٤٣٤

الحدثية (١) والخبثية (٢) وما يقابلها (٣) يكون ممّا إذا وجدت بأسبابها لا يكاد يشك في بقائها إلّا من قبل الشك في الرافع لها (٤) لا من قبل الشك

______________________________________________________

رافعية المذي للطهارة ، فإذا جرى الاستصحاب في عدم رافعيته منع ذلك عن جريان استصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي.

ثم قال الفاضل : «هذا في الأمور الشرعية. وأما الأمور الخارجية كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها مما لا دخل لجعل الشارع في وجودها فاستصحاب الوجود فيها حجة بلا معارض ، لعدم تحقق استصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها».

هذا حاصل الوهم وهو بعض كلام الفاضل (قده) وقد تعرض الشيخ له ولجملة أخرى من كلامه ودفعه بوجوه ثلاثة ، والمصنف (قده) اختار ثانيها هنا وسيأتي بيانه ، وأشار إلى أولها في الفعل المقيد بالزمان ، حيث فصّل بين كونه ظرفا وقيدا بقوله : «في خصوص ما لم يؤخذ الزمان إلّا ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما لموضوعه» وسيأتي بيانه في التعليقة الآتية بعد نقل جملة من كلام الفاضل. وأما الوجه الثالث فلم يتعرض له الماتن فمن أراد الوقوف عليه فليراجع الرسائل.

(١) إشارة إلى المثال الثاني الّذي ذكره الفاضل النراقي (قده) من الوضوء المتعقب بالمذي.

(٢) إشارة إلى المثال الثالث المذكور في كلام الفاضل المتقدم ، وهو الشك في طهارة الثوب المتنجس المغسول مرة ، ولم يتعرض المصنف (قده) للمثال الأول وهو وجوب الصوم بعد عروض المرض.

(٣) أي : ما يقابل الطهارة الحدثية هي القذارة النفسانيّة المسماة بالحدث الأكبر والأصغر ، وما يقابل الطهارة الخبثية هي القذارات الصورية والنجاسات الظاهرية التي جعل الماء والشمس وغيرهما مطهّرة لها. والأولى تثنية ضمير «يقابلها» لرجوعه إلى الطهارة الحدثية والخبثية ، إلّا أن يرجع إلى جنس الطهارة.

(٤) توضيح هذا الجواب الّذي هو مختار الشيخ أيضا يتوقف على الإشارة

٤٣٥

في مقدار تأثير أسبابها ،

______________________________________________________

إلى أمور :

الأول : أن المراد بالمقتضي في باب الاستصحاب هو مقدار بقاء المستصحب في الزمان ، حيث إن لكل موجود إمكاني حيواني أو نباتي أو جمادي بحسب طبعه قابلية البقاء في عمود الزمان بمقدار جرت عليه مشية الله تبارك وتعالى كما تقدم تفصيله في شرح الصحيحة الأولى من صحاح زرارة عند التعرض لتفصيل الشيخ وغيره في حجية الاستصحاب بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.

الثاني : أن إطلاق دليل السببية ـ ولو مقاميا ـ يقتضي وجود المسبب مرسلا وبلا شرط ، بحيث لو شك في دخل شيء في وجود المسبب صح التمسك بالإطلاق ونفي الشك في دخل المشكوك شطرا أو شرطا فيه به.

الثالث : أن إطلاق الناقض على بعض الأحداث يدل على أمرين :

أحدهما : اقتضاء المنقوض للبقاء لو لا الناقض ، فلو شك في ارتفاعه بوجود حادث كالمذي في المثال المذكور كان من الشك في الرافع لا من الشك في المقتضي ، إذ المفروض دلالة الناقض على وجود المقتضي للبقاء في المنقوض ، فلا محالة يكون الشك في ارتفاعه من ناحية الشك في الرافع.

ثانيهما : أن المنقوض طهارة تامة موجبة لجواز الدخول في الصلاة ونحوها ، والناقض يرفعها ويمنع عن جواز الدخول في المشروط بالطهارة.

إذا عرفت هذه الأمور اتضح ما في المتن ، حيث إن للأحكام الشرعية التي هي من الموجودات الإمكانية الحادثة عند وجود أسبابها أيضا اقتضاء البقاء في الجملة في عمود الزمان على ما يقتضيه الأمر الأول ، كما أن مقتضى إطلاق الأمر الثاني ـ وهو عدم تقيد أدلة السببية بالزمان ـ بقاء الأحكام المترتبة على أسبابها ، وعدم ارتفاعها بمرور الزمان ، وانحصار رافعها في الحادث الزماني ، فلو شك في بقائها كان ذلك من جهة الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود كما هو مقتضى الأمر الثالث ، لا من جهة الشك في وجود المقتضي ، إذ الناقض الّذي أطلق على

٤٣٦

ضرورة (١) أنها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها ، كانت من الأمور الخارجية (٢) أو الأمور الاعتبارية التي كانت لها آثار

______________________________________________________

بعض موجبات الحدث يدل على اقتضاء المنقوض للبقاء ، ولزوم ترتيب أثره عليه لو لا الناقض.

وبالجملة : الأمور المذكورة تثبت السببية التامة للأسباب وعدم اعتبار شيء وجودي أو عدمي في تأثيرها ، واقتضاء مسبباتها للبقاء في جميع الأزمنة الموجب لكون الشك في ارتفاعها لأجل الشك في الرافع ، لا في المقتضي حتى يكون مرور الزمان مفنيا لها. وعليه فلا يجري الاستصحاب في مثل عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، إذ المفروض انتفاء الشك في اعتبار عدم خروج المذي في سببية الوضوء للطهارة بالدليل الاجتهادي ، فلا وجه لإجراء الاستصحاب العدمي حتى يعارض بالاستصحاب الوجوديّ في الأمثلة التي ذكرها الفاضل النراقي (قده) وغيرها من نظائرها.

(١) تعليل لكون الشك في بقائها لأجل الشك في وجود رافعها ، لا لأجل الشك في مقدار تأثير أسبابها ، وحاصل التعليل الحكم ببقاء المسبب عند وجود سببه وعدم ارتفاعه إلّا بحدوث رافع ، وقد عرفت تفصيل هذا المجمل قبل أسطر. وضميرا «أسبابها ، أنها» راجعان إلى «الطهارة» وضمير «بها» راجع إلى «أسبابها» وضمير «لها» إلى «الطهارة».

(٢) يعني : لا فرق فيما ذكرناه من بقاء الطهارة إذا وجدت بأسبابها وعدم ارتفاعها إلّا بحدوث رافع بين كون الطهارة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع كما احتمله بعض ، وبين كونها من الأمور الاعتبارية التي اعتبرها الشارع ، وعلى الاحتمال الأول تكون موضوعا لأحكام شرعية ، وعلى الثاني الّذي هو مذهب الجلّ تكون بنفسها حكما شرعيا إن كان معتبرها الشرع ، وإن كان معتبرها العرف كما هو ظاهر قوله : «أو الأمور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية» تكون موضوعا لأحكام شرعية كالاحتمال الأول.

٤٣٧

شرعية (١) فلا أصل (٢) لأصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وأصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرة كما حكي عن بعض الأفاضل (٣) ، ولا يكون

______________________________________________________

وكيف كان ، فغرض المصنف (قده) الإشارة إلى بطلان تفصيل الفاضل النراقي بين الأمور الشرعية والخارجية بتعارض استصحابي الوجود والعدم في الأول ، وجريان استصحاب الوجود فقط في الثاني من دون جريان استصحاب العدم فيه حتى يتعارضا. ووجه البطلان ما تقدم من عدم كون الشك في المقتضي مطلقا سواء أكان المسبب أمرا خارجيا أم اعتباريا حتى يجري فيه استصحاب العدم ويعارض استصحاب الوجود ، فاستصحاب العدم لا يجري مطلقا من دون فرق بين كون الطهارة من الأمور الخارجية والاعتبارية في أنها تبقى متى وجدت بأسبابها.

(١) هذا التقييد لتصحيح جريان الاستصحاب في الطهارة ، إذ لو لم تكن موضوعا لآثار شرعية لم يجر فيها الاستصحاب.

(٢) هذه نتيجة تأثير الأسباب في مسبباتها بنحو الإطلاق بحيث لا يشك في بقائها إلّا من ناحية الشك في وجود الرافع لها ، لا من جهة الشك في مقتضيها حتى يبقى مجال لمثل أصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي.

والحاصل : أن غرض المصنف (قده) منع جريان مثل هذا الأصل في الموارد المذكورة في كلام الفاضل ، لكون الشك الموضوع في تلك الأصول شكا في المقتضي ، والمفروض أن الدليل الاجتهادي بمقتضى إطلاقه الأزماني ينفي هذا الشك ويثبت استعداد الطهارة ونظائرها للبقاء في سلسلة الزمان ، وأنها لا ترتفع إلّا بحدوث رافع لها ، فعدم جريان الاستصحاب العدمي في تلك الأمثلة وأشباهها إنما هو لعدم الموضوع أعني الشك ، لا لكونه شكا في المقتضي حتى يقال بعدم قدح ذلك في جريان الاستصحاب فيه كما هو مذهب جماعة ومنهم المصنف (قده).

(٣) وهو العلامة النراقي (قده) وقد تقدم نقل بعض كلامه ، ويأتي نقل بعضه الآخر في التعليقة.

٤٣٨

هاهنا (١) أصل إلّا أصالة الطهارة أو النجاسة (*).

______________________________________________________

(١) أي : في الطهارة الحدثية والخبثية ، فانه بعد خروج المذي يستصحب الطهارة الحدثية ، وبعد غسل الثوب المتنجس مرة يستصحب نجاسته ، وكلاهما استصحاب وجودي ، ولا يجري فيهما استصحاب عدمي حتى يعارض الوجوديّ.

__________________

(*) ينبغي التعرض لكلام الفاضل النراقي أزيد مما تقدم في توضيح المتن خصوصا بعد اعتماد بعض الأجلة عليه في إنكار الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية ، ولا بأس بنقل جملة مما أفاده في المناهج أوّلا ثم تحقيق الأمر ، قال في محكيِّها : «والتحقيق أن تعارض الاستصحابين ان كان في حكم وموضوع واحد فلا يمكن العمل بشيء منهما ، ويتساقطان ، فيرجع إلى أصل البراءة وشبهه ، وذلك كما إذا قال الشارع في ليلة الجمعة : صم ، وقلنا بأن الأمر للفور ، وكنّا متوقفين في إفادته المرة أو التكرار ، فنقطع بوجوب صوم يوم الجمعة ، ونشك في السبت ، وفيه يتعارض الاستصحابان ، لأنّا كنّا يوم الخميس متيقنين بعدم وقوع التكليف بصوم يوم الجمعة ولا السبت ، وبعد ورود الأمر قطعنا بتكليف صوم يوم الجمعة وشككنا في السبت ، وهذا شك مستمر من حين ورود الأمر إلى يوم السبت ، فنستصحب عدم تكليف يوم السبت بالصوم. وكذا يقطع يوم الجمعة بالصوم ، ويشك في السبت فيستصحب التكليف أي وجوب الصوم ، فيحصل التعارض.

فان قلت : عدم التكليف المعلوم قبل الأمر إنما يستصحب لو لا الدليل على التكليف ، واستصحاب الوجوب المتيقن في الجمعة دليل شرعي ، فيرتفع عدم التكليف وينقض اليقين باليقين. قلنا : مثله يجري في الطرف الآخر ، فيقال : وجوب صوم الجمعة إنما يستصحب لو لا الدليل على عدمه ، واستصحاب عدمه المتيقن قبل الأمر دليل شرعي ، فيرتفع الوجوب.

لا يقال : ان العلم بالعدم قد انقطع ، وحصل الفصل ، فكيف يستصحب؟ لأنا نقول : لم يحصل فصل أصلا ، بل كنا قاطعين بعدم إيجاب صوم السبت يوم الخميس ، وشككنا فيه بعد الأمر ولم نقطع بوجوب صومه أصلا ، فيجب

٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

استصحابه ... إلى أن قال : ويعلم عدم حجية الاستصحاب في القسم الثالث مطلقا وهو الّذي علم ثبوت الحكم في الجملة أو في حال وشك فيما بعده ، لأنه بعد ما علم حكم في وقت أو حال وشك في ما بعده وان كان مقتضى اليقين السابق واستصحاب ذلك الحكم وجوده في الزمان الثاني أو الحالة الثانية ، لكن مقتضى استصحاب حال العقل عدمه ، لأن هذا الحكم قبل حدوثه كان معلوم العدم مطلقا ، علم ارتفاع عدمه في الزمان الأول ، فيبقى الباقي ، مثلا إذا علم أن الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه فيما بعده ...» إلى آخر ما حكاه الشيخ عنه وقد تقدم في التوضيح.

ومقتضى هذا الكلام وإن كان منع حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية ، ولذا نسب إليه القول بالمنع مطلقا ، إلّا أن صريح كلامه في المستند في استصحاب نجاسة ما جففته الشمس التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعيّة ، حيث قال في ما أورده بعض على الاستصحاب المذكور ما لفظه : «وتحقيق المقام وتوضيحه : أن الأمور الشرعية على قسمين : أحدهما ما يمكن أن يكون المقتضي لثبوته مقتضيا له في الجملة أو إلى وقت كالوجوب والحرمة ونحوهما ، فانه يمكن إيجاب شيء أو تحريمه ساعة أو يوما أو إلى زمان أو مع وصف. وثانيهما ما ليس كذلك ، بل المقتضي لثبوته يقتضي وجوده في الخارج ، فإذا وجد فيه لا يرتفع إلّا بمزيل ... وذلك كالملكية ... وشأن النجاسة في الشرعيات من هذا القبيل ... وعلى هذا فبعد ثبوت النجاسة في الموضع يحتاج دفعه إلى مزيل ، وما لم يعلم المزيل يستصحب» (١).

ونحوه كلامه في العوائد (٢) ، حيث جعل الأحكام الوضعيّة كالولاية والقضاوة ونحوهما مما يحتاج رفعها إلى مزيل ، فلاحظ. وبهذا يتضح عدم صحة ما نسب إلى الفاضل النراقي من إنكار حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقا تكليفية

__________________

(١) مستند الشيعة ، ١ ـ ٥٥

(٢) عوائد الأيام ، العائدة الحادية والعشرين ، ص ٧٠

٤٤٠