منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

بملاك (١) مقارن أو حادث.

لا يقال (٢) : الأمر وإن كان كما ذكر (٣) ،

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «الاستحباب» يعني : كما إذا شك في الاستحباب بملاك مقارن لوجود الوجوب أو بملاك حادث مع حدوث الفرد بحيث يكون كل من الاستحباب وملاكه حادثا بعد ارتفاع الوجوب.

(٢) غرض المستشكل إيراد إشكال صغروي لا كبروي ، توضيحه : أن عدم جريان استصحاب الكلي فيما إذا علم بارتفاع الفرد المعلوم الحدوث وشك في فرد آخر وان كان صحيحا ، لعدم كون الشك في البقاء ، بل في الحدوث ، إلّا أن التمثيل له بالشك في حدوث الاستحباب بعد القطع بارتفاع الوجوب غير سديد ، لأن الاستحباب ليس وجودا مغايرا للوجوب حتى يكون الشك فيه شكا في وجود فرد آخر ، لا شكا في بقاء الوجود السابق ، حيث ان الوجوب والاستحباب نظير السواد من الأعراض الخارجية ، فكما لا يكون السواد الضعيف مغايرا للسواد الشديد ، بل يعدان موجودا واحدا لا يتفاوتان إلّا بالشدة والضعف ، فكذلك الوجوب والاستحباب ، فانهما لا يتفاوتان إلّا بشدة الطلب وضعفه ، فإذا ارتفعت شدته وهي الوجوب تبقى مرتبته الضعيفة وهي الاستحباب ، فوجود الاستحباب بعد ارتفاع الوجوب ليس إلّا بقاء لوجود الجامع بينهما وهو الطلب ، فلا مانع من استصحابه.

وعليه فالقسم الثالث وهو الشك في حدوث فرد مقارنا لارتفاع غيره وان قلنا بعدم جريان الاستصحاب فيه ، إلّا أنه إذا كان من قبيل الوجوب والاستحباب بأن كان المشكوك بقاء من مراتب المعلوم المرتفع صحّ استصحابه. وقد أشرنا سابقا إلى هذا القسم بقولنا : «ثانيهما : كونهما بنظر العرف أيضا من مراتب حقيقة واحدة كالسواد الشديد والضعيف».

(٣) في وجه عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من مغايرة وجود الطبيعي في ضمن الفرد الزائل لوجوده في ضمن الفرد المشكوك الحدوث ، ومع هذه المغايرة لا يكون الشك في بقاء الوجود السابق حتى يجري فيه الاستصحاب ،

٣٦١

إلّا أنه (١) حيث كان التفاوت بين الإيجاب والاستحباب ، وهكذا (٢) بين الكراهة والحرمة ليس إلّا بشدة الطلب بينهما وضعفه (٣) ، كان (٤) تبدّل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد وجود الطبيعي بينهما ، لمساوقة (٥) الاتصال مع الوحدة ، فالشك في التبدل حقيقة شك في

______________________________________________________

بل يكون الشك في حدوث وجود فرد آخر للطبيعي.

(١) الضمير للشأن ، هذا بيان الإشكال الصغروي وهو المناقشة في المثال ، وقد تقدم تفصيله آنفا بقولنا : «إلّا أن التمثيل له بالشك في حدوث الاستحباب ... إلخ».

(٢) يعني : وهكذا كان التفاوت بين الكراهة والحرمة بشدة الكراهة في الحرمة وضعفها في الكراهة.

(٣) يعني : ضعف الطلب في الاستحباب وشدته في الوجوب ، وضمير «بينهما» راجع إلى الإيجاب والاستحباب.

(٤) جواب «حيث» وغرضه من قوله : «مع عدم تخلل العدم» إثبات أن الشك في وجود المرتبة الضعيفة ليس شكا في وجود الطبيعة في ضمن فرد آخر مغاير لوجودها في ضمن الفرد المعلوم الارتفاع حتى يكون شكا في الحدوث ، ولا يجري فيه الاستصحاب. بيانه : أن المرتبة الضعيفة متصلة بالمرتبة الشديدة ، والاتصال مساوق للوحدة كما ثبت في محله ، وتعدد وجود المرتبتين منوط بتخلل العدم بينهما ، ومع الاتصال المحقّق للوحدة يكون الشك في وجود المرتبة الضعيفة شكا في بقاء ما علمنا به ، لا شكا في حدوث فرد آخر حتى لا يجري فيه الاستصحاب. وضمير «أحدهما» راجع إلى «الإيجاب والحرمة» والمراد بـ «الآخر» هو الاستحباب والكراهة.

(٥) تعليل لعدم كون التبدل موجبا لتعدد وجود الطبيعي بين الإيجاب والاستحباب والحرمة والكراهة. وقد مر آنفا توضيحه بقولنا : «بيانه : أن المرتبة الضعيفة متصلة بالمرتبة الشديدة ... إلخ».

٣٦٢

بقاء الطلب (١) وارتفاعه ، لا في حدوث وجود آخر.

فانه يقال (٢) : الأمر وإن كان كذلك (٣) ، إلّا أن العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين

______________________________________________________

(١) أي : طبيعة الطلب التي كانت متيقنة ، لا أنه شك في حدوث طلب في ضمن فرد آخر. هذا في الطلب الوجوبيّ المتبدل بطلب استحبابي ، وكذا طبيعة الكراهة في ضمن الحرمة المرتفعة مع الشك في تبدلها بالكراهة المصطلحة. وضمير «ارتفاعه» راجع إلى الطلب.

(٢) هذا دفع الإشكال ، ومحصله : أن الاستحباب وان كان بحسب الدقة العقلية من مراتب الوجوب ، وكذا الكراهة بالنسبة إلى الحرمة ، لكن العرف يرى الإيجاب والاستحباب فردين متباينين لكلي الطلب ، نظير زيد وعمرو في كونهما فردين متباينين من أفراد كلي الإنسان ، وكذا الحرمة والكراهة ، ولذا اشتهر تضاد الأحكام الخمسة ، ولا يرى العرف الإيجاب والاستحباب فردا واحدا مختلفا بالشدة والضعف حتى يصح استصحابه عند الشك في بقاء الطلب مع القطع بارتفاع الإيجاب ، نظير استصحاب السواد عند العلم بارتفاع شدته والشك في بقاء مرتبته الضعيفة. ولمّا كان المدار في وحدة القضيتين موضوعا ومحمولا نظر العرف فلا يجري الاستصحاب في الطلب بعد ارتفاع الوجوب والشك في تبدله بالاستحباب.

نعم يجري في مثل السواد من الأعراض الخارجية إذا شك في تبدل مرتبته الشديدة بالضعيفة ، لوحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة فيه عرفا كوحدتهما عقلا.

(٣) أي : كون التفاوت بين الإيجاب والاستحباب بشدة الطلب وضعفه ، وكذا الحرمة والكراهة ، ولازم ذلك رجوع الشك في التبدل بالاستحباب إلى الشك في بقاء الطلب ، لا إلى الشك في حدوث فرد آخر حتى لا يجري فيه الاستصحاب.

لكنه بنظر العرف ليس كذلك ، لكون الإيجاب والاستحباب بنظره متباينين.

٣٦٣

متباينين (١) لا واحد (*) مختلف الوصف في زمانين لم يكن (٢) مجال للاستصحاب ، لما (٣) مرت الإشارة إليه (٤) ويأتي (٥) من أن قضية إطلاق أخبار

______________________________________________________

(١) يعني : فلا يجري الاستصحاب ، لانتفاء شرطه وهو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، إذ المفروض كون الوجوب والاستحباب عرفا فردين متباينين كتباين زيد وعمرو ، وعدم كون وجود أحدهما وجودا للآخر ، فالشك في تبدل الوجوب بالاستحباب ليس شكا في البقاء ، بل يكون شكا في حدوث فرد آخر ، لكون وصفي الوجوب والاستحباب من مقوِّمات الطلب الموجبة لتعدد الموضوع المانع عن جريان الاستصحاب ، لا من الحالات المتبادلة التي لا تنثلم بها وحدة الموضوع كالفقر والغنى والصحة والمرض وأمثالها العارضة لزيد مثلا ، فانه في جميع هذه العوارض لا يتعدد ، بل وحدته محفوظة فيها ، وهذا هو المراد بقوله : «لا واحد مختلف الوصف» لجريان الاستصحاب في هذا الواحد الشخصي.

(٢) جواب «حيث يرى» وقد مر توضيحه.

(٣) تعليل لعدم المجال لجريان الاستصحاب ، وحاصله : اعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة عرفا.

(٤) مرّ ذلك في أوائل الاستصحاب ، حيث قال : «وكيف كان فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده ... ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلّا مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول».

(٥) يعني : في الخاتمة ، وكلمة «من» بيان لـ «ما» الموصول ، ومحصله : أن مقتضى إطلاق أخبار الاستصحاب لإلقائها إلى العرف كون المعيار في جريان الاستصحاب هو صدق إبقاء الحالة السابقة عرفا على العمل بها حال الشك ، وصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنها ، وهذا الصدق العرفي يتوقف على وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة عندهم ، إذ مع تعدد القضية لا يصدق النقض والإبقاء

__________________

(*) الصواب «لا واحدا» بالنصب ، لأنه معطوف على «فردين» يعني : أن العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب فردين ، لا فردا واحدا مختلف الوصف ... إلخ.

٣٦٤

الباب أن العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه مع الشك بنظر العرف نقضا (١) وان لم يكن (٢) بنقض بحسب الدقة ، ولذا (٣) لو انعكس الأمر ولم يكن نقض عرفا لم يكن الاستصحاب جاريا وإن كان هناك نقض عقلا.

______________________________________________________

حقيقة.

وعليه فإذا كان الوجوب والاستحباب فردين متغايرين بحيث يعدان موضوعين لا يصح إجراء الاستصحاب لإثبات الاستحباب بعد ارتفاع الوجوب ، لعدم كون الشك حينئذ في البقاء ، بل في حدوث فرد غير ما علم بارتفاعه ، فلا يكون استصحاب الاستحباب إبقاء للمتيقن السابق ، كما لا يكون عدم إجرائه فيه نقضا ، وسيأتي في الخاتمة إن شاء الله تعالى مزيد توضيح لذلك.

(١) خير «يكون» و «لا بنظر العرف» متعلق به ، وضمير «فيه» راجع إلى الاستصحاب.

(٢) يعني : وإن لم يكن رفع اليد عن اليقين السابق نقضا بحسب الدقة العقلية كالتدريجيات من الزمان كالليل والنهار والأسبوع والشهر والسنة ، والزماني كنبع الماء وسيلان الدم والتكلم ونحوها ، فان رفع اليد عن اليقين بها حال الشك نقض عرفا لا عقلا ، لأن المتدرج في الوجود يكون وجوده اللاحق مغايرا للسابق ، لتوقف وجوده على انعدام ما قبله ، ومع تعدد الوجود لا يصدق النقض بحسب النّظر الدقي العقلي ، وأما بحسب النّظر العرفي فيصدق النقض على رفع اليد عن اليقين السابق في التدريجيات ، ولذا يجري الاستصحاب فيها كما سيأتي تفصيله في التنبيه الرابع إن شاء الله تعالى ، بل ادعى المصنف فيه صدق بقاء الأمر التدريجي حقيقة في بعض الموارد.

(٣) أي : ولأجل كون العبرة في جريان الاستصحاب بنظر العرف لا يجري الاستصحاب فيما لا يصدق النقض عرفا على رفع اليد عن اليقين السابق ، لمغايرة المشكوك فيه للمتيقن وجودا وان صدق عليه النقض عقلا كالاستحباب المشكوك حدوثه عند ارتفاع الوجوب ، فان الاستحباب بنظر العرف مغاير للوجوب ، فرفع اليد عنه

٣٦٥

ومما ذكرنا في المقام (١) يظهر أيضا حال الاستصحاب في متعلقات الأحكام (*) في الشبهات

______________________________________________________

ليس نقضا لليقين بالشك ، لكنه نقض بحسب النّظر العقلي.

(١) من انقسام استصحاب الكلي في الأحكام إلى ثلاثة أقسام. غرضه أن ما تقدم من أقسام استصحاب الكلي في الأحكام يجري في متعلقاتها أي موضوعاتها ، فاستصحاب الكلي بأقسامه لا يختص بالأحكام ، بل يجري في كل من الموضوعات والأحكام كما هو ظاهر عنوان الشيخ على ما مر في صدر التنبيه ، بخلاف المصنف فانه جعل العنوان جريان استصحاب الكلي في الأحكام.

ثم ان المراد بالمتعلق هو ما لا يتعلق به الجعل الشرعي مطلقا من التأسيسي كالأحكام الخمسة التكليفية والطهارة والنجاسة والولاية من الأحكام الوضعيّة ، والإمضائي كتنفيذ العقود والإيقاعات ، إذ لو كان مما يتعلق به الجعل الشرعي اندرج

__________________

(*) قد يشكل جريان الاستصحاب فيها كالوجوب المردد بين الظهر والجمعة أو المردد بين النفسيّ والغيري أو الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب ونحوها بناء على مختار المصنف (قده) من اقتضاء أخبار الباب إنشاء الحكم المماثل للمستصحب ، فانه كما يستحيل جعل الوجوب الواقعي مجردا عن خصوصية النفسيّة والغيرية وعن تعلقها بخصوص الظهر أو الجمعة ، كذلك يستحيل جعل الوجوب الظاهري مجردا عن إحدى الخصوصيّتين ، فالجامع لمّا امتنع جعله واقعا امتنع جعل المماثل له ظاهرا أيضا ، وهذا بخلاف استصحاب القدر المشترك في الموضوعات ، فانه يجري فيه بلحاظ أثره كحرمة مس المصحف بالنسبة إلى كلي الحدث.

وأما بناء على إنكار جعل الحكم المماثل هنا وكون مفاد أخبار الاستصحاب الأمر بالمعاملة مع اليقين الزائل أو المتيقن معاملة الباقي من حيث الجري العملي فلا مانع من التعبد ببقاء الجامع المتيقن سابقا أو ببقاء اليقين به على اختلاف في تعريف الاستصحاب.

٣٦٦

الحكمية (١) والموضوعية (٢)

______________________________________________________

في الحكم الّذي صدّر به التنبيه.

(١) يعني : كالموضوع الّذي شك في بقائه للشبهة الحكمية ، كالشك في كرية ماء أخذ منه مقدار لأجل الشك في أن الشارع جعل الكرّ ألفا ومائتي رطل عراقي أو تسعمائة رطل مدني ، وكالشك في تحقق الرضاع المحرّم بعشر رضعات أو خمس عشر رضعة ، فيستصحب الكرية وعدم الحرمة ، وقد مُثّل بهما للقسم الثاني ، فليتأمل ، كما مُثّل له بالشك في أن الواجب في الكفارة مدّ أو مدّان ، فبإعطاء المدّ يشك في وجوب المدِّ الآخر أيضا.

ولكن الأولى جعله مثالا للقسم الأول من القسم الثالث ، حيث ان الواجب لو كان مدّين فالمد الآخر مجتمع وجودا مع المد الأول ، لا أنه حادث مقارنا لارتفاع الأول. وقد ذكر هنا فروع كثيرة لا تخلو من البحث والنّظر من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.

(٢) وقد ذكروا لها أمثلة يرجع كثير منها إلى القسم الثالث.

منها : ما إذا علم باشتغال ذمته بفريضة واحتمل اشتغالها بفريضة أخرى ، وأتى بالفريضة المعلوم فوتها ، فعلى القول باستصحاب اشتغال ذمته بفريضة أخرى لا يجوز له التطوع بناء على عدم جوازه لمن اشتغلت ذمته بفريضة. لكن القول بجريان الاستصحاب هنا بعيد (*).

ومنها : ما لو علم بالحدث الأصغر كالنوم وشك في وجود الأكبر قبله أو معه أو بعده ، وأتى بما يرفع الأصغر وشك في بقاء الحدث ، فان استصحابه يقتضي عدم جواز المسّ وعدم جواز دخوله فيما يشترط فيه الطهارة.

ومنها : ما لو احتمل خروج ما يعتبر الدلك في تطهيره مع البول أو الغائط وشك بعد غسل المخرجين في بقاء النجاسة.

ومنها : غير ذلك مما يقف عليه المتتبع متأمّلا ومتدبرا فيه.

__________________

(*) هذا نقض أورده المصنف (قده) في الحاشية على ما ذهب إليه

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

شيخنا الأعظم (قده) من جريان استصحاب الكلي فيما لو احتمل حدوث فرد آخر من الكلي مقارنا لوجود الفرد المعلوم (١). والنقوض الأخرى وجّهها عليه تلميذه المحقق الميرزا الآشتياني في الشرح (٢). والظاهر أنها واردة على مقالة الشيخ ، ولمّا لم يمكن الالتزام بها فلا مناص من إنكار استصحاب الكلي في هذا القسم.

إلّا أن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) دفع النقض الثاني بما محصله عدم جريان استصحاب كلي الحدث لأجل محكوميته بأصل موضوعي ، وبيانه : أن وجوب الوضوء لم يترتب في الشرع على المكلف المحدث مطلقا سواء أكان حدثه أصغر أم أكبر ، بل يتقيد موضوعه بمن أحدث بالأصغر ولم يحدث بالأكبر وذلك لقوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم» وقوله تعالى : «فان كنتم جنبا فاطهروا» حيث ان التفصيل قاطع للشركة ، فيختص وجوب الوضوء بصنف من المكلفين كما يختص وجوب الغسل بصنف آخر منهم. وعليه فالمخاطب بالوضوء هو المحدث الّذي لا يكون جنبا ، فموضوع الحكم مؤلف من جزءين ، ومن المعلوم أن من استيقظ من نومه محدث بالأصغر وجدانا وغير جنب تعبدا ، فوضوؤه رافع للحدث ، ومعه لا مجال لاستصحاب كلي الحدث ، هذا (٣).

لكنه لا يخلو من غموض ، فان موضوع وجوب الوضوء وان قيل بكونه مؤلفا من أمرين أحدهما وجودي والآخر عدمي ، إلّا أن استصحاب كلي الحدث المقتضي للجمع بين الوضوء والغسل لا مانع من جريانه ، ضرورة أن أصالة عدم الجنابة وان كانت محقِّقة لجزء موضوع وجوب الوضوء ، لكنها لا ترفع احتمال بقاء طبيعي الحدث بعد الوضوء ، أما وجدانا فواضح ، وأما تعبدا فلعدم الترتب الشرعي بين ارتفاع هذا الطبيعي وأصالة عدم الجنابة ، فان انتفاء طبيعة الحدث بارتفاع فرديها

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٠٣

(٢) بحر الفوائد ، ٣ ـ ٩٩ و ١٠٠

(٣) فوائد الأصول ٤ ـ ١٥٦ ، أجود التقريرات ، ٢ ـ ٣٩٦

٣٦٨

فلا تغفل (١).

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى ما تقدم آنفا من عدم وضوح جريان استصحاب الكلي في متعلقات الأحكام كوضوح جريانه في نفس الأحكام ، ضرورة أن جريان الاستصحاب في بعض المتعلقات مستلزم لبقاء التكليف المتعلق به مع أنه مورد جريان الأصل النافي للتكليف قطعا ، كما عرفت في مثال اشتغال الذّمّة بفريضة فائتة وغيره مما تقدم بيانه قبل أسطر. وعليه فلا بد من التفصيل بين الشبهات الحكمية إذا كان منشأ الشك الشك في بقاء المتعلق والموضوع بجريانه في بعضها دون بعض ، لا الحكم بجريانه مطلقا.

هذا ما يتعلق بتوضيح ما أفاده الماتن في هذا التنبيه. وقد تحصل منه جريان

__________________

تكويني كانعدام كل طبيعة نوعية بانعدام أفرادها ، لا تشريعي ، ومن المعلوم اعتبار الترتب الشرعي في حكومة أحد الأصلين على الآخر ، والمفروض أن ارتفاع كلي الحدث ليس من آثار ارتفاع الجنابة. وعليه فالنقض وارد على الشيخ ، فتدبر.

إلّا أن يقال : إنه لم يثبت كون طبيعي الحدث حكما شرعيا ولا موضوعا له حتى يجري فيه الاستصحاب ، ويترتب عليه الأثر المشترك ، بل هو عنوان انتزاعي عقلي لا يترتب عليه أثر شرعي ، إذ النصوص المتضمنة لأحكامه لا تدل على كون موضوعها عنوان الحدث ، بل تدل على أحكام موجبات الحدث الأصغر وموجبات الحدث الأكبر ، فيكون كل من الحدثين ذا أحكام خاصة مع تماثلهما في بعض الأحكام أيضا كحرمة مس المصحف الشريف. ومجرد التماثل في بعض الأحكام لا يوجب وحدة متعلقيهما واندراجهما تحت جامع واحد ، وإلّا لزم اندراج الصوم والصلاة مثلا تحت جامع واحد. فالنزاع في جريان الاستصحاب في كلي الحدث ساقط من أصله ، لا أنه محكوم بأصل موضوعي كما عن المحقق النائيني (قده) حتى يورد عليه بعدم ارتفاع احتمال طبيعي الحدث بأصالة عدم الجنابة.

لكن ما أفاده من تركب موضوع وجوب الوضوء من جزءين لا يخلو من وجه وان كان أيضا لا يخلو من النّظر والإشكال ، فتدبر.

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستصحاب في القسم الأول والثاني ، وفاقا للشيخ الأعظم ، وعدم جريانه في القسم الثالث إلّا في اختلاف الفردين بالمرتبة ، خلافا للشيخ حيث قوّى جريانه في القسم الأول من أقسام القسم الثالث وهو احتمال وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم ، وقد تقدم بيانه وبيان إشكال المصنف عليه في توضيح قوله : «أظهره عدم جريانه» فلاحظ (*).

__________________

(*) ثم إنه ينبغي تذييل استصحاب الكلي بالبحث عن أمرين : الأول استصحاب الفرد المردد ، الثاني استصحاب المفهوم المردد. وقبل بيانهما لا بأس بالتعرض للمسألة المعروفة بالمسألة العبائية التي ألقاها السيد الفقيه الجليل السيد إسماعيل الصدر قدس‌سره حين تشرفه بزيارة النجف الأشرف أيام حياة المصنف (قده) في بعض مجالسه ، وهي :

أنه إذا وقعت نجاسة على أحد طرفي عباءة ، ولم يعلم أنه الطرف الأعلى أو الأسفل ، ثم غسل الطرف الأعلى غسلا يوجب طهارته على تقدير نجاسته ، فصارت النجاسة المعلومة بسبب هذا الغسل مشكوكة الارتفاع ، ثم لاقى بدن المصلي كلا طرفي العباءة ، فان المنسوب إلى الفقيه المتقدم عدم جريان استصحاب نجاسة العباءة ، إذ لازم جريانه هو الحكم بنجاسة البدن الملاقي للعباءة ، وهو خلاف ما تسالموا عليه من طهارة الملاقي لبعض أطراف الشبهة المحصورة ، فان المقام منها ، حيث ان البدن لاقى الطرف الّذي كان هو أحد طرفي الشبهة مع صيرورة الطرف الآخر طاهرا ، وبطلان اللازم وهو نجاسة الملاقي لبعض أطراف الشبهة المحصورة يكشف عن بطلان الملزوم وهو جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني. فنتيجة ما أفاده السيد الصدر (قده) هي عدم جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني وكون الحكم بطهارة البدن الملاقي لطرفي العباءة شاهدا على عدم جريانه فيه ، هذا.

وأجاب عنه المحقق النائيني (قده) بأن استصحاب النجاسة في العباءة أجنبي

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عن استصحاب الكلي ، حيث إن مورده هو تردد الكلي بهويّته بين ما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع كدوران الحيوان بين الفيل والبق. وأما إذا وجد فرد معين من الكلي وتردد بين مكانين ، كما إذا دخل زيد الدار ولم يعلم أنه استقر في الطرف الشرقي منها الّذي انهدم أو في الطرف الغربي منها الّذي لم ينهدم فيشك في حياته لأجل عدم العلم بمكانه ، فان هذا ليس من دوران الكلي بين فردين ، بل من تردد مكان فرد معين بين مكانين ، وهذا التردد يوجب الشك في بقائه لا تردده بين فردين ، فهذا أشبه بالفرد المردد ، وقد ثبت في محله عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد (١).

أقول : بل ليس هذا من الفرد المردد أيضا ، إذ المراد به هو دوران وجود الكلي بين فردين من أفراده كدوران وجود الإنسان بين زيد وعمرو ، فالمقام نظير دوران فرد معين من الكلي كزيد بين حالين كالصحة والمرض ، أو بين مكانين ككونه في الطرف الشرقي من الدار أو في الطرف الغربي منها.

وكيف كان فقد أورد عليه المحقق العراقي (قده) بما ملخصه : أنه لا مانع من استصحاب شخص النجاسة الواقعة على العباءة ، ولا وجه لمنع جريانه مطلقا ، فعدم جريان استصحاب الكلي ـ لعدم انطباق ضابطه عليه ـ وكذا عدم جريان استصحاب الفرد المردد في العباءة لا يمنع عن جريان استصحاب الشخص فيها ، فان الترديد في مكان فرد أو حال من حالاته لا يقدح في استصحاب شخصه ، فإذا شرب زيد مائعا مرددا بين الماء والسّم أو لا نعلم أنه كان في الطرف الشرقي الّذي انهدم فمات أو في الطرف الغربي الّذي لم ينهدم فهو حيّ فلا مانع من استصحاب حياته (٢) هذا.

ثم أجاب المحقق النائيني (قده) في الدورة الأخيرة أيضا بوجه آخر ، وهو هذا : «ولكن التحقيق عدم جريان استصحاب النجاسة في المثال أصلا ، لعدم أثر شرعي مترتب عليها ، إذ عدم جواز الدخول في الصلاة وأمثاله إنما يترتب

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ ـ ١٥٤

(٢) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١١٣

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على نفس الشك بقاعدة الاشتغال ، ولا يمكن التمسك بالاستصحاب في موردها كما أشرنا إليه. وأما نجاسة الملاقي فهي مترتبة على أمرين : أحدهما إحراز الملاقاة ، وثانيهما إحراز نجاسة الملاقى بالفتح ، ومن المعلوم أن استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الّذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي ، والمفروض أن أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما» (١)

 ولكن تعرض حضرة السيد المقرر دام ظله وتأييده لهذا الجواب فيما حرّر عنه من تقرير بحثه الشريف ببيان آخر ، وهو : «أن الاستصحاب المدعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد كان الناقصة ، بأن يشار إلى طرف معين من العباءة ويقال : ان هذا الطرف كان نجسا وشك في بقائها ، فالاستصحاب يقتضي نجاسته ، وذلك لأن أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أول الأمر ، وليس لنا يقين بنجاسة طرف معين يشك في بقائها ليجري الاستصحاب فيها. نعم يمكن إجراؤه في مفاد كان التامة ، بأن يقال : ان النجاسة في العباءة كانت موجودة وشك في ارتفاعها فالآن كما كانت. إلّا أنه لا تترتب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلّا على القول بالأصل المثبت ، لأن الحكم بنجاسة الملاقي يتوقف على نجاسة ما لاقاه وتحقق الملاقاة خارجا ، ومن الظاهر أن استصحاب وجود النجاسة في العباءة لا يثبت ملاقاة النجس إلّا على القول بالأصل المثبت ، ضرورة أن الملاقاة ليست من الآثار الشرعية لبقاء النجاسة ، بل من الآثار العقلية. وعليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباءة.

ونظير ذلك ما ذكره الشيخ (ره) في استصحاب الكرية فيما إذا غسلنا متنجسا بماء يشك في بقائه على الكرية من أنه إن أجرى الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بأن يقال : ان هذا الماء كان كرّا فالآن كما كان ، فيحكم بطهارة

__________________

(١) أجود التقريرات ، ٢ ـ ٣٩٥

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المتنجس المغسول به ، لأن طهارته تتوقف على أمرين : كرية الماء والغسل فيه ، وثبت الأول بالاستصحاب والثاني بالوجدان ، فيحكم بطهارته. بخلاف ما إذا أجرى الاستصحاب في مفاد كان التامة ، بأن يقال : كان الكرّ موجودا والآن كما كان ، فانه لا يترتب على هذا الاستصحاب الحكم بطهارة المتنجس إلّا على القول بالأصل المثبت ، لأن المعلوم بالوجدان هو غسله بهذا الماء ، وكرّيته ليست من اللوازم الشرعية لوجود الكر بل من اللوازم العقلية له» (١).

ثم ناقش دام ظله على ما في مصباح الأصول في هذا الجواب بما محصله : إمكان جريان الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بدون تعيين موضع النجاسة ، بأن نشير إلى الموضع الواقعي ونقول : خيط من هذه العباءة كان نجسا والآن كما كان ، فهذا الخيط محكوم بالنجاسة للاستصحاب ، والملاقاة ثابتة بالوجدان ، لفرض تحقق الملاقاة مع طرفي العباءة ، ولازم ذلك الحكم بنجاسة الملاقي لا محالة. والمنع عن جريان الاستصحاب بمفاد كان الناقصة للقطع بطهارة أحد طرفي العباءة والشك في نجاسة الطرف الآخر من أول الأمر جار في جميع صور استصحاب الكلي ، لعدم العلم بالخصوصية في جميعها ، ففي دوران الحدث بين الأكبر والأصغر يكون الأصغر بعد الوضوء مقطوع الارتفاع والأكبر مشكوك الحدوث من أول الأمر ، وليس هذا مانعا عن جريان الاستصحاب في الكلي ، لتمامية أركانه من اليقين والشك.

فالإنصاف في مثل مسألة العباءة هو الحكم بنجاسة الملاقي ، لا لرفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة على ما ذكره السيد الصدر (ره) من أنه على القول بجريان استصحاب الكلي لا بد من رفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة ، بل لعدم جريان القاعدة التي نحكم لأجلها بطهارة الملاقي في المقام ، لأن الحكم بطهارته إما أن يكون لاستصحاب الطهارة فيه ، وإما لجريان استصحاب عدم ملاقاته للنجس.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ١١١

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكيف كان فالأصل الجاري في الملاقي في مثل المسألة العبائية محكوم باستصحاب النجاسة في العباءة ، فيحكم بنجاسة الملاقي. ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في المقام ، وذلك للأصل الحاكم على الأصل الجاري في الملاقي ، فان التفكيك في الأصول كثير جداً ، فبعد ملاقاة الماء مثلا لجميع أطراف العباءة نقول : ان الماء قد لاقى شيئا كان نجسا ، فيحكم ببقائه على النجاسة للاستصحاب فيحكم بنجاسة الماء.

أقول : أما ما أورده المحقق العراقي (قده) على الجواب الّذي أفاده المحقق النائيني (قده) فلا يرد عليه ، لأن هذا الكلام من الميرزا ناظر إلى نفي ما أفاده السيد الصدر (قده) من كون استصحاب نجاسة العباءة من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، وإثبات أنه أجنبي عنه ، لعدم انطباق ضابطه عليه ، وليس ناظرا إلى منع جريان جميع أنحاء الاستصحاب في العباءة. وأما إجراؤه في الشخص فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وأما الجواب الثاني الّذي أفاده المحقق النائيني (قده) في الدورة الأخيرة فهو الحق الّذي ينبغي المصير إليه. ولا يرد عليه ما في مصباح الأصول تارة من جريان الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بدون تعيين موضع النجاسة ، بأن يقال : خيط من هذه العباءة كان نجسا والآن كما كان ، فذلك الخيط محكوم بالنجاسة للاستصحاب ، والملاقاة ثابتة بالوجدان ، إذ المفروض تحقق الملاقاة مع طرفي العباءة ، فيحكم بنجاسة الملاقي لا محالة. وأخرى بأن المنع عن جريان الاستصحاب بمفاد كان الناقصة لأجل القطع بطهارة أحد طرفي العباءة والشك في نجاسة الطرف الآخر من أول الأمر يوجب انسداد باب الاستصحاب في جميع صور استصحاب الكلي ، لعدم اليقين بالخصوصية في جميعها ، فلازم ذلك عدم جريان استصحاب كلي الحدث في صورة دورانه بين الأكبر والأصغر بعد الإتيان بالوضوء ، للقطع بارتفاع الأصغر لو كان ، والشك في حدوث الأكبر من أول الأمر. مع

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن من المسلم جريان استصحاب كلي الحدث فيه.

وذلك لما في المناقشة الأولى من : أن الأثر الشرعي وهو نجاسة الملاقي في المقام مترتب على نجاسة خصوص الطرف غير المغسول ، إذ المفروض طهارة الطرف المغسول ، ولا أثر لملاقاته ، فلا بد من إثبات نجاسة الطرف غير المغسول بالخصوص بالوجدان أو بالتعبد حتى يصح الحكم بنجاسة ملاقيه ، وكلاهما مفقود.

أما الأول فواضح. وأما الثاني فيتوقف على اليقين بنجاسته والشك في بقائها حتى يجري الاستصحاب فيها ، ومن المعلوم عدم اليقين بها وكون الشك في حدوثها. واستصحاب نجاسة خيط من العباءة بضمّ وجدانية الملاقاة لطرفيها إليه لا يثبت نجاسة الملاقي إلّا بالأصل المثبت ، ضرورة أن الملاقاة الوجدانية إنما هي مع العباءة ، وهذه الملاقاة تستلزم عقلا ملاقاة الخيط المتنجس ، وهذا غير الملاقاة مع المحل المعين المستصحبة نجاسته ، بداهة أنها ملاقاة وجدانية لمستصحب النجاسة ، فيندرج في كبرى شرعية وهي نجاسة ملاقي النجس.

كما أن استصحاب النجس في العباءة بنحو مفاد كان التامة لا يجدي في نجاسة الملاقي ، إذ نجاسته مترتبة على نجاسة الملاقي بنحو كان الناقصة دون النجاسة الجامعة بين طرفي العباءة ، إذ المفروض طهارة الطرف الأسفل منها ، ولا يثبت الوجود الناقصي باستصحاب الوجود التامي ، نظير استصحاب الوجود المحمولي للكرّ في البيت لإثبات كرية ماء غسل به المتنجس الملقى فيه كما مر آنفا.

ونظير ما عن المحققين في كتاب الوديعة من : أنه لو قال : «عندي ثوب لفلان» ومات ولم يكن في تركته إلّا ثوب واحد ، وشك الورثة في بقاء الوديعة عنده ، لا يحكم بكون هذا الثوب وديعة ، فان استصحاب بقاء الوديعة لا يثبت كون هذا الثوب وديعة إلّا على القول بالأصل المثبت.

بل يمكن منع استصحاب نجاسة الخيط مع الغض عن إشكال المثبتية أيضا ، بتقريب عدم إحراز وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، توضيحه : أن النجس

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المتيقن هو نجاسة خيط من خيوط العباءة التي هي مجموع طرفيها الأعلى والأسفل ، وبعد غسل الأسفل يصير النجس المشكوك فيه خصوص خيط من خيوط الطرف الأعلى وتخرج خيوط الطرف الأسفل عن الطرفية ، فالمشكوك فيه غير المتيقن ، وهذا قادح في صدق وحدة القضيتين ، ولا أقل من احتمال القدح المانع عن إحراز الوحدة الموجب للشك في شمول دليل الاستصحاب له.

فالمقام نظير الملاقاة لأحد أطراف الشبهة المحصورة في عدم تنجس الملاقي له وان كان الملاقي كالبدن ملاقيا لكلا طرفي العباءة ، إلّا أن ملاقاته للطرف الأسفل كالعدم ، إذ لا أثر لها بعد فرض غسله المطهّر له على تقدير تنجسه ، فملاقاته للطرف الأعلى كملاقاة شيء لأحد أطراف الشبهة المحصورة في عدم تنجس ملاقيه ، بل المقام من صغروياتها. فالإنصاف أن الملاقي للعباءة محكوم بالطهارة كغيره مما يلاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة.

ونظير المقام من حيث ترتب الأثر على الفرد دون الكلي ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) من أنه «لو كان إنسان وكيلا لزيد ولعمرو على الإنفاق على عيالهما ، ثم علم بموت زيد وبحياة عمرو ، وقد حضره إنسان واجب النفقة على أحدهما ، فتردد بين أن يكون عيالا لزيد وأن يكون عيالا لعمرو ، فعلى الأول لا يجب عليه إنفاقه عليه لموت معيله ، وعلى الثاني يجب لحياة معيله ، ففي جواز استصحاب حياة معيله لإثبات وجوب إنفاقه عليه إشكال. والّذي يجري على ألسنة بعض أهل العصر ذلك ، لاجتماع أركان الاستصحاب فيه من اليقين بالوجود والشك في البقاء كالكلي المردد بين فردين في القسم الثاني.

لكن الظاهر المختار لجماعة من مشايخنا المعاصرين هو المنع ، والوجه فيه : أنه يعتبر في صحة جريان الاستصحاب تعلق اليقين والشك بنفس موضوع الأثر الشرعي ، ومثل عنوان المعيل في المثال المذكور ليس كذلك ، لأنه إن أخذ عنوانا حاكيا عن زيد كان معلوم الوفاة ، وان أخذ حاكيا عن عمرو كان معلوم

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحياة. وان أخذ مرددا لم يكن موضوعا للأثر ، لكون المفروض ترتب الأثر على مصداق الفرد لا على مفهومه المردد الصالح للانطباق على كل واحد منهما ولو على البدل. وبهذا يظهر الفرق بين الاستصحاب هنا واستصحاب الكلي في القسم الثاني مع تردده بين فردين أيضا ، فان نفس متعلق اليقين والشك هناك وهو الكلي موضوع للأثر الشرعي ، وليس كذلك هنا ، لكون الأثر للشخص لا للكلي» (١)

وما اختاره هو ومشايخه قدس الله تعالى أرواحهم الطاهرة هو الحق الّذي لا محيص عنه. هذا ما يرجع إلى المناقشة الأولى من المناقشتين المذكورتين في مصباح الأصول.

وأما وجه عدم ورود المناقشة الثانية فهو : أن المفروض في مثل الحدث بناء على موضوعية كلي الحدث لأحكام شرعية اجتماع أركان الاستصحاب من اليقين والشك والأثر الشرعي في الكلي ، فلا مانع من استصحابه. والشك في كل من الخصوصيّتين قادح في استصحاب الشخص لا في استصحاب الكلي. فاستصحاب كلي الحدث بعد الوضوء لا مانع منه بعد اليقين بحدوثه والشك في بقائه وكونه موضوعا للأثر الشرعي ، وكل مورد يكون مثل الحدث في ترتب الأثر الشرعي على الكلي يجري فيه استصحاب الكلي بلا مانع ، ولا يقدح في استصحابه القطع بارتفاع أحد الفردين ، لما مر آنفا من اجتماع أركانه في نفس الكلي. وهذا بخلاف المقام ، فان الأثر الشرعي وهو نجاسة ملاقي العباءة مترتب على نجاسة خصوص الطرف غير المغسول ، لا على كلي النجاسة ، ومن المعلوم توقف نجاسة الملاقي على نجاسة الملاقي سواء قلنا بالسراية أم بالتعبد ، وقد عرفت أنه لا سبيل إلى إحرازها لا وجدانا ولا تعبدا ، هذا.

بل قد تقدم في بعض تعاليق هذا التنبيه منع جريان استصحاب الكلي في الحدث رأسا ، لما مرّ من أن كلي الحدث لم تثبت موضوعيته لحكم شرعي حتى يجري

__________________

(١) حقائق الأصول ، ٢ ـ ٤٥٦ و ٤٥٧

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فيه الاستصحاب ، لعدم كون عنوان الحدث الجامع موضوعا في الأدلة النقليّة لأحكام شرعية ، بل الحدث عنوان انتزاعي ، وليس بنفسه موضوعا للحكم الشرعي ، فلا يجري فيه الاستصحاب حتى يستند إليه تنجز الحكم ، بل تنجزه يستند إلى العلم الإجمالي.

وقد أجاب المحقق العراقي (قده) عن الشبهة العبائية ـ بعد بيان مقدمتين : إحداهما : كون الطهارة والنجاسة من سنخ الأعراض الخارجية الطارئة على الموجودات الخارجية بحيث لا تعرض شيئا إلّا بعد الفراغ عن وجوده خارجا ، لا من سنخ الأحكام التكليفية المتعلقة بالطبيعة الصرفة القابلة للانطباق خارجا. وثانيتهما : توقف صحة استصحاب الشيء على ترتب الأثر الشرعي عليه بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة ـ بأن عدم الحكم بنجاسة الملاقي في الفرض المزبور إنما هو لأجل ترتب نجاسته على نجاسة الملاقي بالفتح بمفاد كان الناقصة ، لا من آثار وجود النجاسة بمفاد كان التامة ، ومن المعلوم أن مثل هذا العنوان لم يتعلق به اليقين السابق حتى يجري فيه الاستصحاب ، ضرورة أن كل واحد من طرفي العباءة من الأعلى والأسفل مشكوك النجاسة من الأول ، والجامع بين المحلين بمقتضى المقدمة الأولى لا يكون معروضا للنجاسة ، وإنما المعروض لها هو الطبيعي الموجود في ظرف انطباقه على هذا الطرف أو ذاك الطرف الّذي عرفت عدم تعلق اليقين به. وأما استصحاب نجاسة القطعية الشخصية المرددة فهو من استصحاب الفرد المردد الّذي عرفت عدم جريانه فيه.

وأما صرف الوجود من النجاسة في العباءة بمفاد كان التامة فاستصحابه وان كان جاريا ، لتمامية أركانه من اليقين بالوجود والشك في البقاء ، لكنه بهذا العنوان لا يجدي في الحكم بنجاسة الملاقي بالكسر ، لأنه من آثار كون الملاقى بالفتح نجسا بمفاد كان الناقصة حتى تسري النجاسة منه إلى الملاقي. نعم هذا العنوان موضوع للمانعية عن صحة الصلاة ، فيجري الاستصحاب بمفاد كان التامة بلحاظ هذا

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأثر في ثوب المصلي أو بدنه ، لا بلحاظ الحكم بنجاسة الملاقي. وحينئذ تندفع الشبهة المعروفة ، إذ لا يلزم من استصحاب طبيعة النجاسة المرددة بين طرفي الأعلى والأسفل من العباءة بلحاظ أثر المانعية بعد تطهير الجانب المعين منه نجاسة الملاقي لطرفيه المغسول وغيره كي ترد الشبهة المعروفة ، فافهم واغتنم» (١).

ويمكن إرجاع جلّ ما أفاده إلى الجواب الثاني المتقدم الّذي ألقاه المحقق النائيني قدس الله تعالى سرهما وجزاهما عن العلم وأهله خير الجزاء في دورته الأصولية الأخيرة.

وكيف كان فجواب شيخنا المحقق العراقي متين. إلّا أن الظاهر عدم الحاجة إلى استصحاب النجاسة بمفاد كان التامة لترتيب أثر المانعية أيضا ، لكفاية نفس العلم الإجمالي في تنجيز وجوب الاجتناب عن العباءة المذكورة في الصلاة كوجوب الاجتناب عقلا عن الثوبين المشتبهين فيها.

وعليه فلا يجري الاستصحاب بأنحائه في العباءة. أما بمفاد كان التامة فلإشكال الإثبات بالنسبة إلى نجاسة الملاقي ، ولعدم الحاجة إليه لترتيب المانعية. وأما بمفاد كان الناقصة ففي خصوص الطرف المغسول للقطع بالطهارة ، وفي الطرف الآخر لعدم اليقين السابق ، وفي الموضع غير المعين ـ الّذي عبّر عنه المحقق العراقي (قده) بالقطعة الشخصية المرددة ـ لكونه من استصحاب الفرد المردد الّذي لا يجري في نفسه. مضافا إلى أنه لا يثبت نجاسة الملاقي حتى يحكم بنجاسة ملاقيه.

فتلخص من هذا البحث الطويل أمور :

الأول : أن الاستصحاب في مسألة العباءة ليس من القسم الثاني من استصحاب الكلي كما زعمه السيد الفقيه الصدر (قده) حتى يكون بطلان لازم جريانه في العباءة ـ وهو نجاسة ملاقيه التي هي خلاف ما تسالموا عليه من طهارة ملاقي بعض

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١٣٢

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أطراف الشبهة المحصورة ـ دليلا على عدم صحة جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني رأسا.

الثاني : أن الاستصحاب في المقام على تقدير جريانه يكون من القسم الأول من استصحاب الكلي ، للعلم بوجود النجاسة في العباءة والشك في ارتفاعها ، فيجوز استصحاب كل من الكلي والشخص كالعلم بوجود زيد في الدار والشك في خروجه عنها في جواز استصحاب كلي الإنسان وخصوص زيد فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على الكلي ، إلّا أن الاستصحاب في المقام كما عرفت لا يجري مطلقا لا في الكلي ولا في الشخص ، لما مر من تفصيله.

الثالث : أن الملاقي للعباءة كغيره مما يلاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة محكوم بالطهارة ، ولا يكون الحكم بطهارته مؤيّدا لعدم اعتبار استصحاب الكلي في القسم الثاني فضلا عن كونه دليلا عليه ، لما عرفت من أجنبية مورد كل منهما عن الآخر.

الرابع : أن ما أفاده بعض أعاظم العصر دامت أيامه الشريفة من : أن المستصحب هو الوجود بمفاد كان الناقصة ، ولعدم كونه قابلا للإشارة الحسية ، بأن يقال : كان هذا هو النجس ، والآن كما كان ، لعدم اليقين بلوازم وجوده الموجبة لتشخصه حتى يكون استصحابه من استصحاب الفرد المعين ، ضرورة أن اليقين بتلك اللوازم وان لم يكن دخيلا في تشخصه واقعا ، لكنه دخيل في صحة استصحابه بعنوان الفرد المعين ، لتقوم الاستصحاب باليقين والشك المتعلقين بالمستصحب (يرجع) لا محالة إلى الفرد المردد المعبّر عنه في لسان شيخنا العراقي (قده) بالقطعة الشخصية المرددة ، وقد ثبت عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد.

الخامس : عدم جريان استصحاب نجاسة الخيط بمفاد كان الناقصة ، لما مر من عدم إحراز اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة مع الغض عن إشكال المثبتية ،

٣٨٠