منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

فيما (١) رتب عليه أثر شرعا أو عقلا؟ إشكال من (٢) عدم إحراز الثبوت ، فلا يقين ، ولا بد منه (٣) ، بل ولا شك (٤) ،

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «بقاء» يعني : في المورد الّذي رتّب على البقاء التقديري أثر شرعي كاستصحاب الموضوع ذي الأثر الشرعي كالملكية وغيرها من الموضوعات ذوات الآثار الشرعية ، أو أثر عقلي كاستصحاب نفس الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة اللذين يترتب عليهما أثر عقلي وهو وجوب الإطاعة. وأما إذا كان الأثر مترتبا على البقاء الفعلي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لعدم أثر يترتب على مؤداه. وضميرا «ثبوته» في الموضعين راجعان إلى «شيء» وضمير «عليه» إلى «بقاء».

(٢) هذا أحد وجهي الإشكال وهو وجه عدم الكفاية ، توضيحه : أن أول ركني الاستصحاب وهو اليقين بالثبوت مفقود في باب الأمارات غير العلمية ، ضرورة عدم حصول العلم بكون مؤدياتها أحكاما واقعية كعدم العلم بكونها أحكاما ظاهرية أيضا ، إذ المفروض حجية الأمارات غير العلمية بناء على الطريقية المحضة التي لا أثر لها إلّا تنجيز الواقع مع الإصابة والتعذير مع الخطأ ، ومن المعلوم عدم جريان الاستصحاب لعدم اليقين بالثبوت.

بل ركنه الثاني وهو الشك في البقاء أيضا مفقود ، لأنه شك في بقاء المتيقن ثبوته ، وبدون التيقن بثبوته لا يتصور الشك في بقائه ، نعم يتصور احتمال البقاء فيما احتمل ثبوته ، لكنه غير مقصود في الشك في البقاء في باب الاستصحاب.

(٣) أي : من اليقين كما هو مقتضى مثل «لا تنقض اليقين بالشك».

(٤) يعني : بل الركن الثاني وهو الشك في البقاء أيضا مفقود ، لأن الشك في البقاء في مؤديات الأمارات إنما هو على فرض ثبوتها ، وهو غير معلوم ، فالشك في بقاء المتيقن هنا غير ثابت ، فيختل كلا ركني الاستصحاب في مؤديات الأمارات.

__________________

عدم كفاية حدوث المنجز للتكليف لبقائه مطلقا متين جدا ، لعدم الملازمة بينهما لكنه لا يرتبط بما أفاده الماتن من جعل الملازمة شرعا بين حدوث المنجز وبقائه في خصوص الاستصحاب بالدليل المختص به.

٣٢١

فانه (١) على تقدير (٢) لم يثبت. ومن (٣) أن اعتبار اليقين إنما هو لأجل أن التعبد والتنزيل شرعا إنما هو في البقاء لا في الحدوث (٤) ، فيكفى (٥) الشك فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبد به على هذا التقدير (٦) فيترتب عليه

______________________________________________________

(١) هذا تعليل لقوله : «ولا شك» وقد أشرنا إلى بيانه بقولنا : «لأن الشك في البقاء في مؤديات الأمارات ... إلخ» وضمير «فانه» راجع إلى «شك».

(٢) وهو فرض كون مؤديات الأمارات أحكاما واقعية ، وهذا الفرض لم يثبت حتى يكون الشك في بقائها.

(٣) هذا ثاني وجهي الإشكال وهو وجه الكفاية ، ومحصله : أن اليقين في أدلة الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا وإنما أخذ طريقا إلى الثبوت حتى يترتب عليه الشك في البقاء الّذي هو مورد التعبد ، فدليل الاستصحاب يدل على جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي والبقاء ، وقد عبّر عن الثبوت باليقين مع عدم دخله في الحكم ، لأنه أجلى الطرق المحرزة للثبوت. وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب في البقاء على تقدير الثبوت.

(٤) يعني : أن التعبير باليقين إنما هو للتنبيه على أن مورد التعبد وجعل الحكم المماثل هو البقاء ، إذ لو عبّر بغير ذلك التعبير مثل «ابن علي المشكوك» أو «اعمل بالشك» ونظائرهما لم يفهم منها كون محل التعبد هو الحدوث أو البقاء ، لكن التعبير المزبور يدل على أن مورد التعبد هو البقاء ، لأنه متعلق الشك دون الحدوث ، إذ لا وجه للتعبد بشيء مع اليقين به.

(٥) هذه نتيجة عدم موضوعية اليقين ، يعني : فيكفي الشك في البقاء على تقدير الثبوت في جريان الاستصحاب ، إذ المفروض جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي والبقاء ، فيتعبد بالبقاء على تقدير الثبوت ، وضمائر «فيه ، به ، عليه» راجعة إلى البقاء.

(٦) أي : تقدير الثبوت.

٣٢٢

الأثر فعلا (١) فيما كان هناك أثر (٢).

وهذا (٣) هو الأظهر (٤) ، وبه (٥) يمكن أن يذب عما (٦) في استصحاب

______________________________________________________

(١) لزوم ترتيب الأثر فعلا على البقاء إنما يكون فيما إذا قام دليل على وجوب الشيء كصلاة الجمعة مثلا وشك في بقائه ، فان التعبد الاستصحابي ببقاء شيء على تقدير ثبوته يوجب ترتيب الأثر فعلا على وجوب صلاة الجمعة ، وإلّا فمجرد التعبد بالبقاء على تقدير الثبوت لا يكفي في ترتيب الأثر الفعلي على البقاء ، فيكون هذا الدليل بمنزلة الصغرى لكبرى الاستصحاب.

(٢) بحيث كان ذلك الأثر مترتبا على البقاء التقديري كما مر في مثل صلاة الجمعة.

(٣) أي : الوجه الثاني ، وهو قوله : «ومن أن اعتبار اليقين انما هو لأجل أن التعبد والتنزيل شرعا انما هو في البقاء لا في الحدوث ، فيكفي الشك فيه على تقدير الثبوت ...».

(٤) لعل وجه الأظهرية هو تعارف التعبير عن وجود الموضوع باليقين به من دون دخل لنفس اليقين فيه أصلا.

(٥) أي : وبهذا الوجه الثاني ـ الّذي هو الأظهر ـ يمكن دفع إشكال جريان الاستصحاب في الأحكام التي هي مؤديات الأمارات المعتبرة ، وقد مرّ تقريب الإشكال ، وحاصله : اختلال اليقين بالثبوت فيها ، لعدم كون الأمارات غير العلمية موجبة لليقين بمؤدياتها ، فلا يقين فيها حتى يجري الاستصحاب في بقائها. ويدفع هذا الإشكال بأن مفاد أدلة الاستصحاب هو التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث.

وهذا الدفع هو ثاني وجهي الإشكال الّذي أوضحناه بقولنا : «ومحصله : أن اليقين في أدلة الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا لحجيته ... إلخ».

(٦) الأولى إبداله بـ «وبه يمكن أن يدفع ما في استصحاب الأحكام ... إلخ» إذ الذب عن الشيء هو تثبيته وإحكامه لا دفعه ، وهو من الأغلاط المشهورة الموجودة في غير واحد من الكتب.

٣٢٣

الأحكام التي قامت الأمارات المعتبرة على مجرد ثبوتها (١) وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها من الإشكال (٢) بأنه لا يقين بالحكم الواقعي ، ولا يكون هناك حكم (٣) آخر فعلي بناء على ما هو التحقيق (*)

______________________________________________________

(١) أي : ثبوت الأحكام ، وغرضه من قوله : «على مجرد ثبوتها» أن تلك الأمارات تدل على مجرد الثبوت ، ولا إطلاق لها بالنسبة إلى الحالات ، وإلّا لم يقع شك في البقاء ، لوضوح حكمه من نفس تلك الأمارات ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، فالشك في البقاء إنما يكون في صورة إجمال الدليل بالنسبة إلى حكم البقاء ، وضميرا «بقائها ، ثبوتها» راجعان إلى «الأحكام».

(٢) بيان للموصول في قوله : «عما» وقوله : «بأنه» متعلق بـ «الإشكال» وتقريب له ، وحاصله بعد ما تقدم من تفصيله هو : عدم اليقين بالحدوث الّذي لا بد منه في جريان الاستصحاب ، حيث ان خطأ الأمارة غير العلمية وعدم إصابتها للواقع محتمل ، فالحكم الواقعي في الأمارات غير معلوم ، والمفروض عدم حكم آخر فيها أيضا بناء على حجية الأمارات على الطريقية ، وباختلال اليقين بالحدوث في الأمارات لا يجري الاستصحاب فيها.

(٣) يعني : غير الحكم الواقعي وهو الحكم الظاهري ، حيث إنه بناء على حجية الأمارات على السببية تكون مؤدياتها أحكاماً ظاهرية ، فيجتمع فيها حينئذ أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، فلا إشكال في جريانه في مؤديات الأمارات بناء على السببية بمعنى كون قيام الأمارة سببا لحدوث ملاك

__________________

(*) وأما بناء على ما هو المشهور من كون مؤديات الأمارات أحكاما ظاهرية شرعية كما اشتهر أن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم فالاستصحاب جار ، لأن الحكم الّذي أدت إليه الأمارة محتمل البقاء ، لإمكان اصابتها الواقع ، وكان مما يبقى. والقطع بعدم فعليته حينئذ مع احتمال بقائه لكونها بسبب دلالة الأمارة ، والمفروض عدم دلالتها إلّا على ثبوته لا على بقائه غير ضائر بفعليته الناشئة باستصحابه ، فلا تغفل.

٣٢٤

من (١) أن قضية حجية الأمارة ليست إلّا تنجز التكاليف مع الإصابة

______________________________________________________

في المؤدى يستتبع حكما على طبقه (*).

(١) بيان لـ «ما» الموصول ، وقد عرفت مقتضى طريقية الأمارات وهو تنجز الحكم مع الإصابة والعذر مع المخالفة ، فالأمارات غير العلمية بناء على الطريقية ليست إلّا كالحجة العقلية من العلم والظن الانسدادي على الحكومة ، حيث إنهما ينجزان الواقع ان كان ، وإلّا فيعذران ، فلا حكم في موردهما من حيث العلم والظن ، بل هما ليسا إلّا طريقا محضا.

__________________

(*) ويظهر مما أفاده المصنف (قده) في الهامش جريان الاستصحاب في كلّي الحكم لا في شخص الحكم الظاهري المدلول عليه بالأمارة ، لأنه لا يخلو من إشكال ، فان قيام الأمارة وإن كان سببا لجعل حكم ظاهري ، لكن لمّا كان المفروض تبعية هذا الحكم الظاهري لوجود الأمارة حدوثا وبقاء ، وليست باقية حسب الفرض فمقتضى كون قيامها جهة تقييدية لحدوث الحكم الظاهري هو انتفاؤه وعدم بقائه.

والتزم المصنف (قده) لدفع الإشكال باستصحاب كلي الحكم ، حيث قال : «لأن الحكم الّذي أدت إليه الأمارة محتمل البقاء ، لإمكان إصابتها الواقع وكان مما يبقى» وتوضيحه : أن الحكم الفعلي الّذي أدت إليه الأمارة إنما يكون ظاهريا إذا كانت مخالفة للواقع ، إذ لو أصابت الواقع كان المؤدى نفس الحكم الواقعي لا حكما ظاهريا مما ثلاثة ، وحينئذ فبقيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مثلا يعلم المكلف بذات الوجوب إما واقعا على تقدير الإصابة ، وإما ظاهرا على تقدير الخطأ ، فان كان واقعيا فهو باق قطعا ، وان كان ظاهريا فهو مرتفع بارتفاع الأمارة ، لفرض عدم تكفلها لحال البقاء ، فيستصحب ذات الوجوب. وهذا نظير جريان الاستصحاب في بقاء الكلي الّذي يدور أمره بين القطع بزواله على تقدير تحققه بالفرد القصير العمر ، واحتمال بقائه لاحتمال تحققه بالفرد الطويل العمر.

وبما ذكرناه في توضيح مقصود المصنف ظهر الإشكال في ما أفيد في توضيحه

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من «إجراء الاستصحاب في شخص الحكم الظاهري المدلول عليه بالأمارة لا في كلي الحكم» لوضوح عدم التئامه مع قوله : «محتمل البقاء لإمكان اصابتها الواقع» لعدم الفائدة حينئذ في تعليله (قده) باحتمال الإصابة للواقع.

مضافا إلى : ما عرفت من أن قيام الأمارة حيثية تقييدية في إنشاء الحكم الفعلي لا تعليلية.

كما ظهر غموض ما أورده عليه سيدنا الفقيه الأعظم الأصفهاني (قده) من «اندراج المقام في القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الّذي بنى المصنف على عدم جريان الاستصحاب فيه ، بتقريب : أن ذات الوجوب كان متيقنا في ضمن الوجوب الظاهري ، وكان الوجوب الواقعي مشكوك الحدوث مقارنا لوجوده الظاهري» (١). وذلك لما عرفت من أن الغرض إجراء الاستصحاب في الجامع بين الوجوبين المتيقن حدوثه بقيام الأمارة ، وليس الحكم الظاهري مقطوعا به والواقعي مشكوكا فيه حتى يندرج في ثاني أقسام القسم الثالث ويجري الأصل في عدم الحكم الواقعي ويختل ركن الشك في البقاء.

نعم يرد على هذا الوجه ما أورده عليه السيد الفقيه المتقدم (قده) من عدم وفائه بحل الإشكال مطلقا ، لاختصاصه بالأمارات القائمة على الأحكام ، وأما القائمة على الموضوعات كالبينة على عدالة زيد فحيث لا يكون مفاد دليل اعتبارها جعل حكم ظاهري في موردها يشكل حل الإشكال ، لعدم تصور الجامع كي يستصحب كما كان في الشبهات الحكمية.

وكيف كان فان كان مقصود الأصحاب من هذه الدعوى جعل الأحكام الظاهرية في موارد الأمارات مطلقا سواء أصابت أم أخطأت فالإشكال المذكور مندفع ، للقطع بالحكم الفعلي ، فيستصحب في ظرف الشك في بقائه. لكن الالتزام بحجية الأمارة من باب الموضوعية والسببية مستلزم للتصويب.

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ٨٢ و ٨٣

٣٢٦

والعذر مع المخالفة كما (*) هو (١) قضية الحجة المعتبرة عقلا كالقطع

______________________________________________________

(١) الضمير راجع إلى ما يفهم من العبارة من التنجز مع الإصابة والعذر مع المخالفة.

__________________

وان كان المقصود جعل الحكم الظاهري على تقدير المصادفة للواقع لكونه بعنوان إيصال الواقع ، فلا يقين بالحكم الفعلي ، لأن المجعول هو الواقع في ظرف الشك فيه بداعي تنجيز الواقع ، لا أنه مماثل له متيقن الثبوت كي يستصحب ، وعليه تكون الأمارة طريقا محضا. والظاهر أن هذا هو الصحيح ، لذهاب الأصحاب إلى الطريقية لا السببية. والعبارة المشهورة لا تلتئم مع مبنى الطريقية المحضة كما اعترف به في بحث الاجتهاد والتقليد.

(*) ليس المقصود من اقتضاء أدلة حجية الأمارات لاعتبار التنجيز والإعذار جعلهما وان كان ظاهر العبارة ذلك ، بل المراد اقتضاؤها لاعتبار الطريقية والوسطية في مقام الإثبات كما صرّح به في مواضع عديدة ، منها قوله في تأسيس الأصل في الشك في الحجية : «ولا يكاد يكون الاتصاف بها إلّا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا» وعليه فالتنجيز والإعذار اعتباران عقليان منتزعان من جعل الطريقية ، فلا وجه للإيراد عليه بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني وتبعه غيره من «ابتناء أساس الإشكال على كون المجعول بأدلة الأمارات هو المنجزية والمعذرية. وأما بناء على كونه هو الإحراز والوسطية فلا موضوع للإشكال ، لاشتراك الأمارة حينئذ مع القطع الطريقي وقيامه مقامه بلا شبهة» لما عرفت من تصريح المصنف (قده) بجعل الطريقية أيضا ، والإشكال إنما نشأ من أخذ اليقين بالحدوث في أدلة الاستصحاب ، الظاهر في اليقين الوجداني المفقود في موارد الأمارات ، ولا بد من دفعه إما بما في المتن أو بغيره. وعليه فتفسير الحجية بما في المتن ناظر إلى ما هو كالمعلول للطريقية التي هي المجعولة حقيقة.

نعم يرد عليه ما في التقرير المزبور من «أن دليل الاستصحاب لو كان متكفلا لإثبات البقاء على تقدير الحدوث فبما ذا يكون الاستصحاب من الأحكام الظاهرية

٣٢٧

والظن في حال الانسداد على الحكومة ، لا إنشاء (١) أحكام فعلية شرعية ظاهرية كما هو ظاهر الأصحاب. ووجه الذب بذلك (٢) أن الحكم الواقعي الّذي هو مؤدى الطريق حينئذ (٣) محكوم بالبقاء ،

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «ليست» يعني : لا أن قضية حجية الأمارات أحكام فعلية شرعية ظاهرية ، والأولى أن تكون العبارة هكذا «من أن قضية حجية الأمارات تنجز التكاليف مع الإصابة ... لا إنشاء أحكام فعلية ... إلخ» وقد عرفت جريان الاستصحاب في مؤديات الأمارات بناء على السببية.

(٢) أي : بكفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت ، توضيحه : أن مفاد دليل الاستصحاب هو جعل الملازمة بين ثبوت الشيء وبقائه من دون نظر إلى تيقن حدوثه. نعم في مقام تطبيق الاستصحاب على مورد لا بد من إحراز الثبوت حتى يحكم تعبدا ببقائه عند الشك. ففرق بين الجعل والتطبيق ، ففي مقام إجراء الاستصحاب يكفي الشك في البقاء على تقدير الثبوت ، فمؤدى الأمارة على فرض ثبوته يحكم ببقائه ، لكونها دليلا على أحد المتلازمين ، إذ المفروض ثبوت الملازمة بالاستصحاب بين الحدوث والبقاء ، فالشك في البقاء على تقدير الثبوت كاف في جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق.

(٣) أي : حين كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت.

__________________

بل هو على ذلك حكم واقعي معلق على ثبوت موضوعه ، نظير بقية الأحكام الواقعية الثابتة على تقدير وجود موضوعاتها ... والحاصل : أنه لو لم يؤخذ الشك في البقاء في موضوع الاستصحاب لما كان حكما ظاهريا ، ومع أخذه لا بد من إحراز الحدوث حتى يتحقق الشك المذكور ، والمفروض على ما أفاده عدم إحرازه ، فلا يجري الاستصحاب» (١) وتوهم تحقق الشك الفعلي حتى إذا لم يحرز الثبوت ممنوع ، لكون الشك الفعلي المعتبر في الاستصحاب متعلقا بالبقاء لا الثبوت ، وهو يستلزم اليقين بالحدوث ، والمفروض عدمه.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ٢ ـ ٣٩٠

٣٢٨

فتكون (١) الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبدا (٢) ، للملازمة (٣) بينه وبين ثبوته واقعا (٤).

ان قلت (٥) : كيف (٦)؟ وقد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الأخبار ، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة الدفع المزبور ، وحاصله : أنه بعد البناء على كفاية الثبوت التقديري في الحكم بالبقاء يكون مؤدى خبر الواحد كوجوب صلاة الجمعة لاحتمال مصادفته للواقع محكوما بالبقاء ، لما مرّ من الملازمة بين الحدوث والبقاء بمقتضى الاستصحاب ، ودليل أحد المتلازمين دليل على الآخر ، وضميرا «ثبوته ، بقائه» راجعان إلى الحكم الواقعي.

(٢) قيد لقوله : «بقائه» إذ بقاؤه في حال الشك يكون بالتعبد الاستصحابي.

(٣) تعليل لكون الحجة على الثبوت حجة على البقاء ، وحاصله : أن الملازمة بين حدوث الشيء وبقائه أوجبت كون الحجة على الحدوث حجة على البقاء ، لما مر مرارا من أن الدليل على أحد المتلازمين دليل على الآخر ، وهذه الملازمة ظاهرية ، لكونها ثابتة بالاستصحاب الّذي هو من الأصول العملية التي موضوعها الشك.

(٤) قيد لقوله : «ثبوته» يعني : للملازمة بين بقاء الحكم وبين ثبوته الواقعي.

(٥) هذا إشكال على كفاية البقاء على تقدير الثبوت ، ومحصل الإشكال : أن الثبوت التقديري لا يوجب شمول أدلة الاستصحاب لموارد الأمارات ، وذلك لوضوح أخذ اليقين في أدلته ، ولا يقين بالثبوت في الأمارات ، ومع عدم فرديتها لعموم مثل «لا تنقض اليقين بالشك» كيف يجري فيها الاستصحاب؟

(٦) يعني : كيف يجدي فرض ثبوت الشيء في التعبد ببقائه؟ والحال أن اليقين بثبوته دخيل في الحكم بالبقاء على ما هو ظاهر أخبار الاستصحاب ، ومن المعلوم أن فرض الثبوت كما هو المفروض في الأمارات لعدم اليقين بمصادفتها

٣٢٩

قلت (١) : نعم (٢) ، ولكن الظاهر أنه أخذ كشفا عنه ومرآة لثبوته ليكون (٣) التعبد في بقائه ، والتعبد (٤) مع فرض ثبوته إنما يكون في بقائه ، فافهم (٥).

______________________________________________________

للواقع ليس يقينا بالثبوت ، فلا يشمل دليل الاستصحاب مؤديات الأمارات.

(١) هذا دفع الإشكال ، ومحصله كما تقدم هو : كون اليقين بالثبوت مأخوذا طريقا إلى الواقع من دون أن يكون موضوعا للتعبد بالبقاء ، بل الموضوع له هو الواقع المنكشف باليقين ، والتعبير عنه باليقين إنما هو لما تعارف من التعبير عن ثبوت شيء باليقين به كما مر سابقا.

(٢) هذا تصديق للإشكال وهو أخذ اليقين بالشيء دخيلا بحسب أدلة الاستصحاب في التعبد بالبقاء والمفروض انتفاء اليقين في الأمارات ، ولكن أورد عليه بأن الظاهر أن اليقين في أخبار الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا ، بل أخذ كشفا عن متعلقه ومرآة لثبوته ليكون التعبد وجعل الحكم المماثل في بقائه ، وضمير «أنه» راجع إلى «اليقين» وضمائر «عنه ، لثبوته ، بقائه» راجعة إلى «الشيء».

(٣) تعليل لأخذ اليقين مع دخله الموضوعي في التعبد بالبقاء ، وحاصل التعليل : الإشارة إلى أن التعبد في الاستصحاب إنما يكون في البقاء فقط دون الثبوت ، والشك في بقاء شيء متفرع على حدوثه ، فلا بد من إحرازه حتى يكون بقاؤه موردا للتعبد الاستصحابي.

(٤) يعني : ومن المعلوم أن التعبد بشيء مع ثبوته بحجة يقينا كانت أو غيره يكون في مرحلة بقائه دون ثبوته المفروض قيام الحجة عليه ، وضميرا «ثبوته ، بقائه» راجعان إلى الشيء.

(٥) لعله إشارة إلى : أن حمل اليقين على الطريقية خلاف الظاهر الّذي لا يصار إليه بلا قرينة ، بداهة أن الأصل في كل عنوان يؤخذ في حيّز خطاب من الخطابات الشرعية هو الموضوعية لا الطريقية.

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أو إشارة إلى : أن المراد باليقين ليس هو خصوص الاعتقاد الجازم ، بل مطلق الحجة سواء أكانت ذاتية كاليقين أم جعلية كالأمارات الشرعية ، حيث إنها بدليل حجيتها تصير كالعلم في الاعتبار وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف فيها ، فان هذا الاحتمال ملغى في العلم عقلا وفي الأمارات نقلا ، كما أن المراد باليقين الناقض في قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «ولكنه ينقضه بيقين آخر» هو مطلق الحجة لا خصوص العلم كما يظهر من تسالمهم في موارد على جعل الناقض أمارات يكون كشفها عن الواقع ضعيفا ، كحكمهم بالتذكية إذا كان أكثر أهل البلد مسلمين واشترى اللحم أو الجلد من مجهول الحال ، فانقطع أصالة عدم التذكية بالغلبة مع أنها لا تفيد الظن أحيانا فضلا عن اليقين. وكحكمهم بتحيض المبتدأة في الشهر الثالث بمجرد رؤية الدم بالصفات التي رأته في الشهرين المتقدمين مع اقتضاء استصحاب الطهر بقاءه. وكحكمهم باعتبار إخبار المرأة بالحيض وبكونها خليّة مع اقتضاء الاستصحاب الطهر وكونها معتدة أو ذات بعل. وكذا في موارد إخبار ذي اليد كإخبار الحجام بتطهير موضع الحجامة مع اقتضاء الاستصحاب بقاء النجاسة ، وهكذا غيرها.

والمستفاد من مجموعها أن الشارع الأقدس جعل الأمارة أمرا مبرما صالحا لنقض اليقين السابق ، ومن المعلوم أن قرينة المقابلة تقتضي إرادة مطلق الحجة وان كانت تعبدية من اليقين المنقوض وهو اليقين بالحدوث أيضا.

والحاصل : أنه بناء على حجية الأمارات على الطريقية يراد باليقين في الاستصحاب مطلق الحجة ، وبه يندفع الإشكال ، إذ المعيار هو الثبوت السابق المحرز بحجة سواء أكانت عقلية أم نقلية. فلا يرد أنه لا قرينة على إرادة مطلق الحجة من اليقين المنقوض ، إذ في المقابلة ودليل اعتبار الأمارة كفاية في صحة إرادة مطلق الحجة منه. فعلى هذا يكون اليقين في الاستصحاب مأخوذا موضوعا على وجه الطريقية دون الصفتية. لكن المصنف (قده) أنكر قيام الأمارة مقام

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

القطع المأخوذ موضوعا على وجه الكشف ، فراجع الأمر الثالث من الأمور المتعلقة بمباحث القطع (*).

__________________

 (*) هذا كله بالنسبة إلى استصحاب مؤديات الأمارات. وفي جريانه في مؤديات الأصول العملية مطلقا وعدمه كذلك ، والتفصيل بين ما يتكفل دليله لبقائه فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين ما لا يتكفله فيجري فيه وجوه بل أقوال ، احتمل أولها المحقق النائيني في دورته الأصولية الأولى (١) واختار هو ثانيها في تلك الدورة وكذا شيخنا المحقق العراقي (قدهما) (٢) والتزم بثالثها المحقق النائيني في دورته الأخيرة (٣) ، فراجع التقارير للوقوف على الأنظار.

أقول : لا تبعد صحة التفصيل في جريان الاستصحاب بين مفاده وبين مؤديات سائر الأصول العملية بناء على اقتضاء أدلة الاستصحاب للبناء العملي على كون أحد طرفي الشك هو الواقع ، ضرورة أن الثابت حينئذ بالاستصحاب هو الحكم الواقعي ظاهرا ، فالشك في بقائه شك في بقاء الحكم الواقعي ظاهرا ، فلا مانع من استصحابه ، لأنه استصحاب للحكم الواقعي حقيقة. وبناء على عدم اقتضاء أدلة الاستصحاب لذلك بأن يتحد مفاده مع سائر الأصول في كون مؤديات جميعها أحكاما ظاهرية مجعولة وظائف للشاك من دون نظر فيها إلى الواقع لا يجري الاستصحاب فيه ، كعدم جريانه في غيره من الأصول. وحيث ان الاستصحاب بناء على المشهور أصل تنزيلي كان التفصيل بينه وبين سائر الأصول في محله.

وعليه فالثوب المتنجس إذا غسل بماء مستصحب الطهارة وصار طاهرا ثم شك في ملاقاته للنجاسة ، فلا مانع من استصحاب طهارته ، لأن هذه الطهارة هي الناشئة من طهارة الماء التي هي طهارة واقعية بمقتضى استصحابها. وإذا غسل

__________________

(١) فوائد الوصول ، ٤ ـ ١٤٨

(٢) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١١٣

(٣) أجود التقريرات ، ٢ ـ ٣٨٨

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بماء محكوم بالطهارة لقاعدتها وصار الثوب طاهرا بمقتضى هذه القاعدة ثم شك في تنجسه بملاقاة النجاسة فلا يجري فيه الاستصحاب ، لأن طهارة الثوب ظاهرية محضة فلا ربط لها بالواقع حتى يجري فيها الاستصحاب وينزّلها منزلة الطهارة الواقعية ، بل الجاري فيه نفس قاعدة الطهارة أيضا المغياة بالعلم بخلافها ، بل هي الجارية أيضا فيما إذا حكم بطهارته بقاعدة الصحة مثلا مما يكون مفاده حكما ظاهريا غير ناظر إلى الواقع.

فالضابط في جريان الاستصحاب هو : صحة تنزيل المستصحب منزلة الواقع ، وهذا الضابط مفقود فيما عدا الأصول التنزيلية كما عرفت. وأما فيها فالضابط المذكور منطبق عليها ، حيث ان الشك في نجاسة الثوب الّذي طهر بماء مستصحب الطهارة فرد جديد لعموم «لا تنقض» وأجنبي عن استصحاب طهارة الماء الموجبة لطهارة الثوب ، فلا يقال : «ان استصحاب طهارة الماء كاف في إثبات طهارة الثوب عند الشك في ملاقاته للنجاسة ، نظرا إلى أن الغاية وهي اليقين بالخلاف لم يحصل».

وذلك لأن هذا الشك واليقين فرد آخر للاستصحاب ، وأجنبي عن الاستصحاب الجاري في الماء ، إذ الشك الفعلي في نجاسة الثوب نشأ من سبب جديد وهو احتمال ملاقاته ، فيجري الاستصحاب في طهارة الثوب بلا مانع ، كما يجري في الثوب إذا علم بطهارته ثم شك في نجاسته لاحتمال ملاقاته للنجاسة ، فان الطهارة التنزيلية كالطهارة الواقعية في جريان الاستصحاب فيها إذا شك في بقائها. والله تعالى هو العالم.

٣٣٣

الثالث (١) : أنه لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون خصوص

______________________________________________________

(التنبيه الثالث : استصحاب الكلي)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو التعرض لما يتعلق بالمتيقن من حيث الكلية والجزئية ، ومحصله : أنه لا فرق في حجية الاستصحاب بين كون المستصحب جزئيا ، حكما كان من التكليفي كوجوب صلاة الجمعة إذا شك في بقائه حال الحضور ، والوضعي كملكية مال لزيد إذا شك في خروجه عن ملكه ، أو موضوعا كحياة زيد إذا شك في بقائها ، وبين كون المستصحب كليا حكما كان كالطلب الراجح المشترك بين الوجوب والندب ، أو موضوعا كالحدث الجامع بين الأكبر والأصغر.

ثم ان المصنف (قده) خص العنوان باستصحاب الحكم ، ولم يظهر وجهه مع اعترافه في آخر هذا التنبيه بجريان استصحاب الكلي في متعلقات الأحكام في الشبهات الموضوعية والحكمية. وكيف كان فتعميم البحث للموضوع أولى كما صنعه الشيخ (قده) حيث قال في أول التنبيهات التي عقدها بعد الفراغ من أدلة الأقوال : «ان المتيقن السابق ان كان كليا في ضمن فرد وشك في بقائه ... إلخ».

ولا يخفى أن محل النزاع في هذا التنبيه هو ما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على نفس الجامع بلا دخل للخصوصيات الفردية فيه كحرمة مس الكتاب المجيد المترتبة على عنوان المحدث كما قيل باستفادته من قوله تعالى : «إلّا المطهرون» لظهور تعليق الحكم الترخيصي على الأمر الوجوديّ في حرمة مسه على غير المتطهر أعني المحدث سواء أكان محدثا بالحدث الأكبر أم الأصغر ، فلو علم بالحدث وشك في ارتفاعه بالوضوء فقط جرى استصحاب الكلي على تفصيل سيأتي بيانه. وإذا كان الأثر للخصوصية كحرمة المكث في المسجد والعبور عن المسجدين المترتبة على الحدث الأكبر فاللازم استصحاب الخصوصية ، لكون موضوع الحكمين المزبورين المحدث بالحدث الأكبر خاصة. نعم إذا شك المجنب في ارتفاع

٣٣٤

أحد الأحكام (١) أو ما يشترك بين الاثنين منها (٢) أو الأزيد (٣) من أمر عام. فان كان (٤) الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاصّ الّذي

______________________________________________________

حدثه وأراد الدخول في الصلاة فعليه استصحاب الجامع ، لعدم ترتب هذا الأثر على الخصوصية.

وبالجملة : فاللازم في جريان الاستصحاب في الكلي والفرد مراعاة ما هو موضوع الأثر.

فما أفاده المصنف من صحة جريان الاستصحاب في القسم الأول في كل من الكلي والفرد لا بد أن يكون ناظرا إلى ما إذا كان الأثر للكلي ، وكان ترتبه على الفرد من باب الانطباق ، كما إذا أمر بإكرام العلماء وكان زيد منهم ، فانه كما يصح استصحاب بقاء العالم كذلك يصح استصحاب بقاء زيد ، لترتب حكم العام عليه. وأما إذا كان الأثر مترتبا على خصوص الفرد ، فلا يجدي في إثباته استصحاب الكلي ، لأنه لا يثبت الخصوصية التي يترتب عليها الأثر.

(١) كوجوب صلاة الجمعة كما تقدم.

(٢) أي : من الأحكام مثل الطلب الجامع بين الوجوب والندب كما مر آنفا ، وكالجواز المشترك بينهما وبين الإباحة والكراهة ، وقوله : «ما» معطوف على «خصوص» وهذا بيان للحكم الكلي ، والمعطوف عليه بيان للحكم الجزئي.

(٣) معطوف على «الاثنين» وكلمة «من» بيان لـ «ما» الموصول ، ومثال الأزيد من الاثنين ما تقدم من الجواز الجامع بين ما عدا الحرمة من الأحكام الخمسة.

(٤) هذا شروع في بيان أقسام استصحاب الكلي وأحكامها ، وهذا هو القسم الأول من تلك الأقسام ، وتوضيحه : أن الشك في بقاء الكلي تارة ينشأ من احتمال ارتفاع الفرد المعين الّذي وجد الكلي في ضمنه ، كما إذا علم بوجوب صلاة الجمعة مثلا وشك في ارتفاعه زمان الغيبة ، فان الشك في بقاء الطلب الجامع بين وجوب صلاة الجمعة وغيرها ناش من الشك في بقاء فرده المعلوم حدوثه

٣٣٥

كان في ضمنه وارتفاعه (١) كان (٢) استصحابه

______________________________________________________

وهو وجوب صلاة الجمعة.

وأخرى ينشأ من تردد الفرد الّذي وجد الكلي في ضمنه بين معلوم البقاء ان كان طويل العمر وبين معلوم الارتفاع ان كان قصير العمر ، كما إذا فرض أن الوجوب ان كان متعلقا بالجمعة فقد ارتفع بعد مضي ساعة من الزوال ، وان كان متعلقا بالظهر فهو باق إلى غروب الشمس ، فالشك في بقاء طبيعي الوجوب ناش من تردد الوجوب الحادث بين ما هو معلوم البقاء وبين ما هو معلوم الزوال.

وثالثة ينشأ من احتمال حدوث فرد آخر من أفراد الكلي مقارنا لوجود فرده الّذي علم بحدوثه وارتفاعه ، أو مقارنا لارتفاعه ، فالشك في بقاء الكلي ناش عن احتمال حدوث فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثا وارتفاعا. ففي هذا القسم لا شك في ناحية الفرد المتيقن ، حيث انه معلوم الحدوث والزوال ، فالشك في بقاء الكلي حينئذ ناش عن احتمال حدوث فرد آخر من أفراد الكلي.

(١) معطوف على «بقاء الخاصّ» وضميرا «ضمنه ، ارتفاعه» راجعان إلى «الخاصّ» واسم «كان» ضمير مستتر فيه راجع إلى «العام».

(٢) جزاء «فان كان» وهذا إشارة إلى حكم القسم الأول ، وهو صحة جريان الاستصحاب في كل من الكلي والفرد ، فيصح استصحاب زيد وكلّي الإنسان فيما إذا علم بوجود زيد وشك في بقائه ان كان لهما أثر مشترك كحرمة المس بالنسبة إلى كل من الحدث الأصغر والأكبر بناء على موضوعية كلي الحدث في الأدلة لأحكام شرعية ، وذلك لاجتماع ركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء في كل من الفرد والكلي.

وان كان لخصوصية الخاصّ أثر فجريان استصحاب الكلي لا يجدي في ترتيب ذلك الأثر ، لتوقفه على حجية الأصل المثبت ، لكون بقاء الفرد لازما عقليا لبقاء الكلي ، ومن المعلوم قصور دليل الاستصحاب عن إثبات اللوازم العقلية والعادية للمستصحب. وعليه فلا بد من إجراء الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر

٣٣٦

كاستصحابه (١) بلا كلام (*).

وإن كان (٢) الشك فيه من جهة تردد الخاصّ الّذي في ضمنه بين

______________________________________________________

نفسه.

وفي كفاية جريانه في الفرد عن جريانه في الكلي إشكال نبّه عليه وعلى حلّه في حاشية الرسائل من «أن الطبيعي عين الفرد في الخارج ووجوده بعين وجود الفرد على التحقيق ، فالتعبد بوجود الفرد تعبد بوجوده ، فاستصحابه يجدي في ترتيب آثارهما أي آثار الكلي وفرده. ومن أن الاتحاد والعينية في الخارج إنما هو بحسب الحقيقة والدقة بحكم العقل ، وأما بالنظر العرفي فهما اثنان ، كان بينهما بنظر العرف توقف وعلّية ، لا اتحاد وعينية. والاعتبار إنما هو بهذا النّظر في هذا الباب. نعم يمكن أن يقال : ان الواسطة وان كانت بنظر العرف ثابتة ، إلّا أنها تكون ملغاة بمسامحتهم فيها وعدم اعتنائهم بها بحيث يرون الأثر مترتبا على ذيها ، ولا منافاة بين إثباتها بنظرهم وإلغائها بمسامحاتهم ، والاعتبار انما هو بنظرهم المسامحي ...» (١).

(١) أي : الخاصّ ، وضمير «استصحابه» راجع إلى «العام».

وبالجملة : ففي القسم الأول يجري استصحاب الكلي عند الشيخ والمصنف (قدس‌سرهما) بلا إشكال ، كما تعرضنا له في التعليقة.

(٢) هذا إشارة إلى القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وقد بينّاه

__________________

 (*) كما أفاده الشيخ (قده) أيضا ، لكنه لا يخلو من كلام بناءً على كون الكلي عين الفرد وجودا ، إذ لا يتعدد الوجود ولا موضوع الأثر حتى يجري الاستصحاب تارة في الفرد وأخرى في الكلي ، هذا. مضافا إلى : حكومة الأصل الجاري في الفرد لكونه سببيا على الأصل الجاري في الكلي لكونه مسببيا.

وبالجملة : فجريان الأصل في كل من الكلي والفرد في هذا القسم الأول ليس خاليا عن الكلام. نعم سيأتي في القسم الثاني إن شاء الله تعالى دفع الإشكالين.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٠٢

٣٣٧

ما هو باق أو مرتفع قطعا (*) فكذا (١) لا إشكال في استصحابه ، فيترتب

______________________________________________________

بقولنا : «وأخرى ينشأ من تردد الفرد الّذي وجد الكلي في ضمنه ... إلخ» وضمير «فيه» راجع إلى «بقاء ذاك العام» يعني : وان كان الشك في بقاء العام من جهة تردد الخاصّ ـ الّذي يكون العام في ضمنه ـ بين الخاصّ الّذي هو باق قطعا ان كان طويل العمر وبين الخاصّ الّذي هو مرتفع قطعا ان كان قصير العمر فلا إشكال أيضا في استصحاب العام ، وقوله : «قطعا» قيد لكل من «باق أو مرتفع».

(١) هذا جزاء «وان كان» وهو إشارة إلى حكم القسم الثاني ، ومحصله : أنه لا إشكال في جريان استصحاب الكلي فيه كجريانه في القسم الأول ، فيترتب على استصحاب الكلي جميع الأحكام المترتبة عليه ، وضمائر «استصحابه ، عليه» في الموضعين راجعة إلى «العام».

__________________

 (*) ومن أمثلة هذا القسم الثاني ما إذا علمنا بوجود فردين علم بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر ، وعلمنا بتحقق عنوان في أحدهما كالعالم ، ولم يعلم انطباقه على المرتفع أو الباقي ، فان انطبق على الأول فقد ارتفع ، وان انطبق على الثاني فهو باق ، فالكلي وهو العالم مشكوك البقاء ، لتردده بين فردين أحدهما مقطوع الارتفاع والآخر معلوم البقاء ، نظير الشك في بقاء الحيوان ، لتردده بين فردين أحدهما معلوم الارتفاع كالبق والآخر مقطوع البقاء كالفيل.

وبالجملة : فهذا المثال ليس خارجا من أمثلة القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وليس قسما رابعا حتى يصير التقسيم به رباعيا ، كما في تقريرات بعض أعاظم العصر دام ظله بجعل امتيازه عن القسم الثاني «بأنه في القسم الثاني يكون الفرد مرددا بين متيقن الارتفاع ومتيقن البقاء ، بخلاف القسم الرابع ، فان الفرد ليس فيه مرددا بين فردين ، بل الفرد معين ، غاية الأمر أنه يحتمل انطباق عنوان آخر عليه» (١).

توضيح عدم كونه قسما رابعا ، وأنه من أمثلة القسم الثاني هو : أن المفروض

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ١٠٤

٣٣٨

عليه كافة ما يترتب عليه عقلا أو شرعا (١)

______________________________________________________

(١) الأول كوجوب الإطاعة المترتب على كلي الوجوب المتعلق بصلاة الجمعة أو الظهر ، فانه يترتب على استصحاب كلي الوجوب بعد مضي وقت الجمعة

__________________

حدوث فردين كزيد وعمرو مع فرض العلم بعالمية زيد وارتفاعه والشك في تحقق الهاشمية في ضمن أحدهما ، فمع انطباقها على زيد قد ارتفعت ومع انطباقها على عمرو لم ترتفع ، بل هي باقية ، ففي هذا المثال أيضا يكون الفرد المنطبق عليه الكلي كالهاشمي مرددا بين فردين أحدهما متيقن الارتفاع والآخر متيقن البقاء ، كتردد الفرد المنطبق عليه الحيوان بين فردين أحدهما متيقن الارتفاع ان كان هو البق مثلا ، والآخر متيقن البقاء ان كان هو الفيل مثلا. والعلم بفرد مرتفع متصف بعنوان آخر أجنبي عن عنوان محتمل الانطباق على ذلك أو على الفرد الباقي ، إذ لا دخل لذلك في جريان الاستصحاب في كلي الهاشمي المعلوم حدوثه والمشكوك بقاؤه والمردد مصداقه بين الفرد المعدوم والموجود.

وبالجملة : فوزان هذا المثال وزان المثال المعروف وهو كون الشك في الحيوان لتردد الفرد الّذي هو في ضمنه بين الفيل والبق ، فتأمل جيدا.

ثم إنه لا ينحصر منشأ الشك في بقاء الكلي في القسم الثاني بتردد الكلي بين فردين أحدهما باق قطعا والآخر مرتفع كذلك. بل يمكن أن يكون لاحتمال بقاء الآخر لا للقطع ببقائه ، كما إذا وجد الكلي في ضمن زيد أو عمرو ، فان كان الحادث زيدا فهو معلوم الارتفاع إما لعدم وجود المقتضي لبقائه إلى هذا الزمان وإما لقتله مثلا. وان كان عمراً فهو محتمل البقاء. فلا موجب لحصر منشأ الشك في القسم الثاني بالمتردد بين فردين أحدهما معلوم البقاء والآخر مقطوع الارتفاع ، فيمكن أن يكون للقسم الثاني صور ثلاث :

إحداها : ما في المتن من دوران الفرد بين مقطوع البقاء ومعلوم الارتفاع.

ثانيتها : دورانه بين مقطوع البقاء ومحتمل الارتفاع.

ثالثتها : دورانه بين مقطوع الارتفاع ومشكوك البقاء.

٣٣٩

من (١) أحكامه ولوازمه. وتردد (٢) ذاك الخاصّ الّذي يكون الكلي موجودا في ضمنه ـ ويكون

______________________________________________________

وجوب الإطاعة عقلا بفعل الظهر ، والثاني كوجوب المقدمة وحرمة الضد بناء على اقتضاء الوجوب النفسيّ لهما وكونهما شرعيين ، وكاستصحاب كلي الحدث المترتب عليه حرمة المس.

(١) بيان لـ «ما» الموصول ، وضميرا «أحكامه ، لوازمه» راجعان إلى العام.

(٢) هذا شروع في بيان بعض الإشكالات الواردة على جريان الاستصحاب في القسم الثاني ، ومحصل هذا الإشكال هو : انهدام أحد ركني الاستصحاب فيه ، حيث ان الفرد الّذي وجد في ضمنه الكلي ان كان هو الفرد القصير العمر فهو معلوم الارتفاع ، فالركن الثاني وهو الشك في البقاء مفقود. وان كان هو الفرد الطويل العمر فحدوثه مشكوك فيه ، فالركن الأول وهو اليقين بالحدوث غير متحقق ، وعلى كلا التقديرين لا مورد للاستصحاب. وحيث ان الكلي لا وجود له إلّا بوجود فرده يكون حاله حال الفرد الّذي عرفت نسبة اليقين والشك إليه.

وببيان أوضح : المقصود من الكلي في هذا البحث ليس هو الكلي العقلي والمنطقي اللذين لا وجود لهما خارجا ، بل المراد هو الكلي الطبيعي الموجود في الخارج المنعوت بالوحدة النوعية والكثرة العددية ، لأن وجوده عين وجود أفراده ، فلا وجود له إلّا بوجودها بحيث ينتفي بانتفاء فرده وجدانا أو تعبدا.

وعليه ففي المقام لا يجري الاستصحاب في الكلي ، لكونه محكوما بالعدم إما وجدانا لو كان الموجود الفرد القصير ، وإما تعبدا لو كان هو الفرد الطويل ، لكون الأصل عدم حدوثه. وعلى التقديرين لا مجال لجريان الأصل في الكلي ، لانتفاء الشك فيه.

وكيف كان فقد تعرض الشيخ أيضا لهذا الإشكال بقوله : «وتوهم عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث وهو محكوم الانتفاء بحكم الأصل مدفوع ...».

٣٤٠