منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

من قبله جلّ وعلا لها (١) بإنشائها بحيث يترتب عليها آثارها ، كما تشهد به (٢) ضرورة صحة انتزاع الملكية والزوجية والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الإيقاع ممن (٣) بيده الاختيار بلا ملاحظة (٤) التكاليف والآثار ، ولو (٥) كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلّا بملاحظتها ،

______________________________________________________

(١) هذا و «بإنشائها» متعلقان بـ «جعله» وهذان الضميران كضميري «عليها ، آثارها» راجعان إلى المذكورات في القسم الثالث من الحجية وغيرها ، و «بحيث» بيان لإنشائها بأنفسها.

(٢) أي : بما ذكر من صحة انتزاعه من مجرد جعله ، وهذا شروع في إثبات العقد السلبي بوجوه يستفاد منها صحة العقد الإيجابي أيضا ، وهي ثلاثة ، وهذا أولها ، وحاصله : أنه لو كانت الزوجية منتزعة عن التكليف للزم عدم صحة اعتبارها إلّا بملاحظة ذلك التكليف كجواز النّظر إلى الزوجة ، واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله ، إذ لا شبهة في صحة اعتبار الزوجية من إنشاء مفهومها بقوله : «زوجتك فلانة» من دون ملاحظة جواز النّظر ووجوب الإنفاق وغيرهما من الأحكام التكليفية ، بل ومع عدم التفاته إليها كما هو واضح. وأما الملازمة فواضحة إذ المفروض أنه لا منشأ لاعتبار الزوجية إلّا التكليف ، فلا وجود لها بدونه.

(٣) وهو المالك في الأول ، والزوجة في الثاني ، والزوج في الثالث ، والسيد في الرابع.

(٤) متعلق بـ «صحة انتزاع» والمراد بالآثار الأحكام الشرعية المترتبة على هذه العناوين الأربعة.

(٥) أي : والحال أن هذه الأمور لو كانت منتزعة عن التكاليف في مواردها امتنع اعتبارها بدون ملاحظة تلك التكاليف ، مع أنه يصح الانتزاع بدون ملاحظتها. بل قد لا يكون في مورد الوضع تكليف أصلا كما في ملكية الصبي والمجنون لما انتقل

٢٨١

وللزم (١) أن لا يقع ما قصد ووقع ما لم يقصد (*).

______________________________________________________

إليهما بمثل الإرث ، إذ ليس إباحة التصرف ونفوذه في مالهما إلّا للولي ، وليس لهما هذه الإباحة حتى تكون هي منشأ الانتزاع. وانتزاع الملكية الفعلية لهما من جواز تصرفهما بعد البلوغ والإفاقة مشكل جداً ، ضرورة أن فعلية الأمر الانتزاعي وهي الملكية مثلا تستدعي فعلية المنتزع عنه ، والمفروض عدم فعليته ، إذ قلم التكليف مرفوع عنهما. وما أفاده الشيخ (قده) من انتزاع ضمان الصبي لما أتلفه من خطاب تعليقي مثل : «إذا بلغت فادفع بدل ما أتلفته حال صباك» غير ظاهر ، لاقتضاء فعلية الضمان لفعلية منشأ انتزاعه ، مع أنه قد يتحقق الضمان فعلا ولا فعلية للتكليف أصلا ، كما إذا مات الصبي قبل البلوغ أو جنّ بجنون أطباقي ، فما أفيد مع عدم تماميته في نفسه أخص من المدعى ، لتوقفه على بلوغه مجتمعا للشرائط.

ولأجل التخلص من الإشكال جعل المحقق الآشتياني (قده) خطاب الولي منشأ الانتزاع ، لفعلية خطابه بدفع بدل ما أتلفه الصبي. ولكنك خبير بأن خطاب الولي إنما يصح لانتزاع ضمان نفسه لا ضمان شخص آخر. وعليه فلا وجه لإثبات ضمان الصبي فعلا إلّا قابلية هذا الأمر الاعتباري للجعل أصالة.

(١) هذا هو الوجه الثاني ، وحاصله : أنه ـ بناء على مجعولية الملكية مثلا بتبع التكليف ـ يلزم أن يكون المقصود غير واقع والواقع غير مقصود ، إذ المقصود من قوله : «بعتك داري» مثلا هو إنشاء مفهوم البيع أعني التمليك دون التكاليف الثابتة للملك كجواز التصرف ، والمفروض أن التمليك لا يتحقق بمجرد الجعل والإنشاء ، بل يتبع الأحكام ، فاللازم حينئذ أن يكون الواقع بقوله : «بعت» هو التكليف ، والمفروض عدم قصده ، إذ المقصود هو إيجاد الملكية ، والمفروض عدم وقوعها ، لكونها تابعة للتكليف ، فيلزم تخلف قاعدة تبعية العقود للقصود ، فلا محيص عن الالتزام بكون الملكية ونحوها من الأمور المجعولة أصالة لا تبعا.

__________________

(*) لا يخلو من تأمل ، أما أولا : فلأن أسباب الأحكام الوضعيّة من الملكية والزوجية ونحوهما قد تكون قهرية كالموت الموجب لانتقال إضافة الملكية قهرا

٢٨٢

كما لا ينبغي (١) أن يشك في عدم

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «لا يكاد يشك» وهو الوجه الثالث ، ويحتمل فيه إرادة أحد أمرين ، الأول : أنه لا يصح انتزاع الملكية مثلا من التكليف ، إذ قد يكون

__________________

وقد تكون اختيارية ، وهي توجد تارة بالإنشاء كجميع ما ينشأ بالعقود والإيقاعات ، وأخرى بالفعل الخارجي كحيازة المباحات الأصلية. ولا ريب في تحقق الحكم التكليفي في السبب القهري كالموت والاختياري غير الإنشائي كالحيازة ، ضرورة حكم الشارع بجواز تصرف الحائز للمباح الأصلي فيما حازه وعدم جواز تصرف غيره فيه إلّا بإذنه ، وتنتزع الملكية عن ذلك. وكذا في الإرث ، لحكمه بجواز تصرف الوارث في مال المورث وعدم جواز تصرف غيره فيه ، وان كان مدلول بعض الأدلة جعل الملكية بالأصالة بمثل «ما تركه الميت فلوارثه».

وأما في العقود والإيقاعات فلا يقع شيء من التكليف والوضع ، لأن حكم الشارع بسلطنة الناس على أموالهم منوط بموضوعه أعني إضافة الملكية ، وهي غير متحققة ، لعدم تأصلها بالجعل والاعتبار حسب الفرض ، وما لم تتحقق هذه الإضافة لا معنى للسلطنة على المال. ومع عدم إفادة الإنشاء لشيء من الوضع والتكليف المترتب عليه يلزم كون صيغ العقود لقلقة لسان خالية عن الأثر ، لا أن الواقع هو التكليف غير المقصود.

وأما ثانيا : فلأنه لو فرض وقوع التكليف بالعقد دون الوضع لم يلزم ما ذكره (قده) من عدم وقوع ما قصد ، فان الأمر الانتزاعي إذا كان منشأ انتزاعه مجعولا تشريعيا كان مجعولا تبعيا عنده ، وعليه فما قصد وقع تبعا وان كان ما وقع بالأصالة وهو التكليف غير مقصود ، ولكن وقوع التكليف بدون قصد المتعاقدين لا يتوقف على قصد وقوعه ، لعدم كونه مسببا عن إرادة المكلف ، فانه حكم شرعي منوط بتحقق موضوعه ، ومن المعلوم أن الأصالة والتبعية ليستا دخيلتين في المجعولية ولا في كونهما مقصودتين (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٦٠

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التكليف موجودا ولا يصح انتزاع الملكية منه كإباحة التصرفات في المباحات الأصلية ، وقد لا يكون التكليف موجودا فعلا مع وجود الملكية قطعا كما في شراء الولي متاعا للمولّى عليه من الصغير أو المجنون أو السفيه ، فان المولى عليه يملك مع عدم جواز التصرف له فعلا لمحجوريته.

وكذا الزوجية ، فانها لا تنتزع عن جواز المباشرة ونحوه من أحكامها ، ضرورة جوازها في الأمة المملوكة والمحلّلة مع عدم كونها زوجة ، وبداهة وجود الزوجية مع حرمة المباشرة كما في الصغيرة والحائض.

الثاني : أن هذه الاعتبارات كالزوجية والملكية ونحوهما قد أخذت في الخطابات الشرعية موضوعات لأحكام كوجوب الإنفاق على الزوجة وحرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه ونحو ذلك ، ومن المعلوم أن الموضوع مقدم على الحكم رتبة ، فإذا فرض تبعيته له لزم الدور ، لترتب الزوجية حينئذ على الحكم ، لانتزاعها عنه ، وتقدمها على الحكم ، لكونها موضوعا له.

والفرق بين هذين الوجهين ظاهر ، فان الأول منهما ناظر إلى امتناع الانتزاع في بعض الموارد ، فالدليل أخص من المدعى ، وهو كاف في منع دعوى الانتزاع كلية. والثاني ناظر إلى امتناع الانتزاع بالمرة ، لمحذور الدور الّذي عرفته ، فانه برهان على استحالة الانتزاع عقلا حتى في مورد واحد ، إذ لا معنى لانتزاع الملزوم من لازمه المتأخر عنه.

وتعبير المصنف بـ «عدم صحة انتزاعها» وان كان أوفق بالتقريب الثاني ، لأنه يمنع الانتزاع كليّة ، إلّا أن إرادة التقريب الأول لعلها أقرب إلى مقصود المصنف ، لإمكان تقريب الانتزاع بوجه لا يترتب عليه محذور الدور ، وذلك بعدم انتزاع الملكية والزوجية من مطلق الأحكام التكليفية المتأخرة عن نفسها رتبة ، بل إرادة حكم خاص وهو ما أفاده في حاشية الرسائل بقوله : «معنى ما ذكرنا أنه يصح انتزاعه من الآثار التكليفية للمورد بما فيه من الخصوصيات المقتضية لها ، لا عما

٢٨٤

صحة انتزاعها (١) عن مجرد التكليف في موردها ، فلا (٢) ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات ، ولا الزوجية من جواز الوطء ، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات (٣).

فانقدح بذلك (٤) أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها يصح انتزاعها بمجرد إنشائها (٥) كالتكليف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.

وهم ودفع ، أما الوهم (٦) فهو : أن الملكية كيف جعلت من

______________________________________________________

اعتبر آثارا له منها كي يستلزم انتزاع الملزوم عن لازمه المساوق لتقدم المعلول على علته» فتأمل في العبارة.

(١) أي : الحجية والقضاوة وأخواتهما مما تقدم ، وضمير «موردها» راجع إلى الحجية وأخواتها ، والأولى أن يقال : «في مواردها».

(٢) متفرع على عدم صحة انتزاع القسم الثالث من الأمور الوضعيّة عن التكاليف.

(٣) فلا ينتزع الضمان من وجوب الغرامة بدفع بدل التالف ، ولا الحجية من وجوب العمل بقول الثقة أو العادل أو المفتي ، ولا البينونة في الطلاق من وجوب الاعتداد ، وهكذا. والوجه في ذلك كله هو انفكاك الوضع عن التكليف وعدم استلزام التكليف له دائما.

(٤) أي : بما ذكرناه من الوجوه الثلاثة الدالة على بطلان انتزاع هذه الأحكام الوضعيّة من التكاليف في مواردها ، وقوله : «فانقدح» نتيجة تلك الوجوه الثلاثة ، حيث ان مقتضاها كون الاعتبارات المزبورة مجعولة بالاستقلال.

(٥) هذا هو المراد بجعلها استقلالا وأصالة في قبال انتزاعها من التكليف ، وضميرا «بتبعه ، عنه» راجعان إلى «التكليف».

(٦) هذا إشكال على جعل الملكية من الاعتباريات القابلة للجعل أصالة كالحجية والقضاوة والولاية ونحوها ، مع أن عدها منها غير سديد ، لكون الملكية من

٢٨٥

الاعتبارات الحاصلة بمجرد الجعل والإنشاء التي تكون من خارج المحمول (١) ، حيث (٢) ليس بحذائها في الخارج شيء ، وهي (٣) إحدى المقولات المحمولات بالضميمة (٤) التي لا تكاد تكون

______________________________________________________

مقولة الجدة التي يكون لها ما يحاذيها في الخارج ، فهي من المقولات المحمولات بالضميمة ، يعني : أنها توجد في الخارج كالهيئة الحاصلة من التعمم والتقمص والتنعل ونحوها ، ومن المعلوم أن الملكية التي لها ما يحاذيها في الخارج أجنبية عن الملكية المجعولة بالإنشاء التي لا تكون إلّا محض الاعتبار ، ولا وجود لها في الخارج ، ولا ريب في أن الموجود الخارجي التكويني لا يوجد بالأمر الاعتباري ، بل بالسبب التكويني كالتعمم.

والحاصل : أن الملكية لا توجد بصرف الإنشاء ، لأنها متأصلة ، والمتأصل لا يقبل الجعل الاعتباري ، فينبغي إخراج الملكية عن هذا السنخ من الأمور الوضعيّة.

(١) قد فسّر الخارج المحمول بما ينتزع عن ذات الشيء بدون ضم ضميمة إليه كالإنسانية والبقرية المنتزعتين عن ذات الإنسان والبقر بدون ضم شيء إليهما كما يشهد له قول الحكيم السبزواري : «والخارج المحمول من صميمه يغاير المحمول بالضميمة» ويطلق على كل ما لا يحاذيه شيء في الخارج ، فالملكية المجعولة بقوله : «بعت» لا يطلق عليها الخارج المحمول ، لوجود ما بحذائها في الخارج.

(٢) تعليل لكون الاعتبارات المذكورة من الخارج المحمول الّذي لا يحاذيه شيء في الخارج ، إذ ليس لتلك الأمور الاعتبارية ما يحاذيها في الخارج.

(٣) الواو للحال من نائب فاعل «جعلت» يعني : والحال أن الملكية إحدى المقولات التسع ، فكيف تعد أمرا اعتباريا؟ كما هو حال الأحكام الشرعية.

(٤) وهي باصطلاح أهل المعقول المحمولات المنتزعة عن الشيء مع ضميمة كالأسودية المنتزعة عن الجسم المتلون بالسواد ، فالمحمول بالضميمة هو ما يحاذيه

٢٨٦

بهذا السبب (١) بل بأسباب أخر كالتعمم والتقمص والتنعل (٢) ، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك ، وأين هذه (٣) من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه؟

وأما الدفع (٤) ، فهو : أن الملك يقال بالاشتراك

______________________________________________________

شيء في الخارج كالهيئة الحاصلة من التعمم ونحوه.

(١) أي : بالجعل والإنشاء ، بل بأسباب آخر تكوينية كالتعمم والتقمص ونحوهما.

(٢) وهي هيئة تحصل بسبب كون جسم في محيط بكله أو بعضه بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط ، فتلك الهيئة الخاصة الحاصلة بلبس القميص المنتقل بانتقال لابسه هو الملك ، وهذا المعنى الخارجي أجنبي عن الملكية الاعتبارية الحاصلة بالعقد.

(٣) أي : وأين هذه الحالة المسماة بالملك والجدة من الاعتبار الحاصل بالإنشاء؟

(٤) محصل ما أفاده في دفع التوهم المزبور هو : أن الملك مشترك لفظي بين معنيين ، أحدهما : ما يكون من المقولات التسع ويسمى بالجدة أيضا ، وهي عبارة عن هيئة خاصة حاصلة من إحاطة شيء كالعمامة والقميص مثلا بالبدن ، فيقال لهذه الهيئة : «الملك» والملكية بهذا المعنى من المحمول بالضميمة ، لأن لها ما يحاذيها في الخارج.

ثانيهما : اختصاص شيء بشيء خاص ، وهذه الإضافة والخصوصية تنشأ تارة من إسناد وجود الشيء الثاني إلى الأول كالعالم ، فانه ملك له سبحانه وتعالى لاستناد وجوده إليه جلّ وعلا ، لكونه مفاضا منه عزوجل وهو قيّومه ، وهذه الملكية من مقولة الإضافة الإشراقية التي هي عبارة عن فيض الوجود المنبسط ، وبتلك الإضافة يتحقق المضاف إليه. والملكية المنتزعة من هذا المعنى من معاني الملك

٢٨٧

على ذلك (١) ويسمى بالجدة أيضا (٢) ، وعلى (٣) اختصاص شيء بشيء خاص ، وهو (٤) ناش إما من جهة إسناد وجوده إليه ككون العالم ملكا للباري جل ذكره (٥) ، أو من جهة الاستعمال والتصرف فيه ككون الفرس

______________________________________________________

هي الملكية الحقيقية.

وأخرى تنشأ من التصرف والاستعمال كما في حدوث الملكية بإحياء الموات وحيازة المباحات.

وثالثة تنشأ من العقد والإنشاء ، كما إذا باع عقاره وأراضيه مع بعد المسافة بينها وبين المشتري ، فان ملكية المشتري لها مع عدم تصرفه فيها تكون منتزعة عن العقد ، فتحصل مقولة الإضافة والربط الخاصّ بين المشتري والمثمن بنفس الإيجاب والقبول.

ورابعة تنشأ من سبب غير اختياري كالموت الموجب لملكية الوارث لما تركه الميت ، وكتملك الموقوف عليه للعين الموقوفة بالوقف الخاصّ.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن المعنى الثاني هو الملكية الاعتبارية التي تنشأ من مناشئ مختلفة كما عرفت ، والملك الّذي لا يقبل الإنشاء لكونه خارجيا هو معناه الأول ، والّذي يقبل الإنشاء هو معناه الثاني ، ولا ينبغي أن يشتبه أحدهما بالآخر حتى يقال بعدم صحة اعتبار الملكية بمجرد الإنشاء.

(١) أي : على الملكية المقولية الخارجية الحاصلة من مثل التعمم.

(٢) يعني : كما يسمّى بالملك.

(٣) معطوف على «ذلك» وهذا شروع في بيان المعنى الثاني للملك.

(٤) أي : والاختصاص ناش إما من إسناد وجود شيء إلى شيء ... إلخ.

(٥) فمن جهة إفاضة الوجود يكون العالم مضافا إليه تعالى وملكا له. وقد يكون هذا الاختصاص من جهة كون المختص به واسطة في انفتاح أبواب الفيض والبركات على الشيء المختص ، ككون الأرض وما فيها ملكا للنبي والإمام عليهما

٢٨٨

لزيد بركوبه له (١) وسائر تصرفاته فيه (٢) ، أو من جهة إنشائه (٣) والعقد مع من اختياره (٤) بيده كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع شرعا وعرفا (٥) ، فالملك الّذي يسمّى بالجدة

______________________________________________________

الصلاة والسلام ، لما ورد عن عاشر أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام : «بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمنع السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه».

(١) الأولى تبديله بـ «عليه».

(٢) كسقي الزرع به وحمل الأثقال عليه ، ومثل هذه التصرفات حيازة المباحات ، فان حيازتها بالتصرف فيها توجب الاختصاص كركوب الفرس.

(٣) أي : إنشاء الاختصاص ، و «أو من» كسابقه معطوف على «إما من».

(٤) الظرف متعلق بالعقد ، والضمير راجع إلى الشيء ، و «للمشتري ، بمجرد» متعلقان بـ «الملك» والمراد بـ «من» الموصولة من له ولاية التصرف في المال سواء أكان مالكا له أم نائبا عن المالك بنحو من أنحاء النيابة ، أم وليّا عليه. والتقييد بالبعيدة لإخراج الاختصاص الناشئ من التصرف والاستعمال كركوب الفرس ، بأن تمحض منشؤه في العقد والإنشاء ، ولذا خصّه بالمشتري ، مع أن البائع أيضا يملك الثمن ، لكن يمكن أن يكون منشأ اختصاصه بالثمن هو التصرف فيه ، إذ الغالب في المعاملات كون الثمن من النقدين ونحوهما مما هو مورد التصرف والابتلاء غالبا.

والحاصل : أن الاختصاص قد يحصل بعقد من له الولاية على التصرف ، فالمشتري يملك العقار مثلا بسبب العقد مع ولي التصرف في العقار كالمالك أو وليه أو وكيله.

(٥) قيدان للملك ، والفرق بينهما واضح ، إذ قد يحصل الملك عرفا فقط كما في بيع الخمر والخنزير ، فحصول الملك شرعا وعرفا بالبيع منوط بكون

٢٨٩

أيضا (١) غير الملك الّذي هو اختصاص خاص ناش من سبب اختياري كالعقد أو غير اختياري كالإرث (٢) ونحوهما (٣) من الأسباب الاختيارية وغيرها. فالتوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا (٤) (*)

______________________________________________________

المال صالحا للانتقال شرعا كالأعيان المحللة نظير الحنطة.

(١) يعني : كما يسمى بالملك.

(٢) المراد به الموت ، فالأولى تبديله به ، لأنه السبب غير الاختياري للملك بمعنى الاختصاص في مقابل السبب الاختياري له كالعقد.

(٣) الضمير يرجع إلى خصوص العقد والإرث بقرينة قوله : «من الأسباب الاختيارية وغيرها» فيراد من الأسباب الاختيارية غير العقود النواقل مثل حيازة المباحات وإحياء الموات ، ومن الأسباب غير الاختيارية كالارتداد الفطري ، لانتقال أموال هذا المرتد إلى ورثته وهو حي ، فيكون كالموت الموجب للإرث. والارتداد وان كان فعلا اختياريا للمرتد ، إلّا أنه غير اختياري لوراثه ، وهذا هو المقصود من السبب غير الاختياري.

(٤) كما يطلق على الأمر الاعتباري وهو الاختصاص الّذي يكون من مقولة الإضافة.

__________________

(*) قد يقال : ان الملكية الاعتبارية تكون من سنخ الملكية الحقيقية أعني مقولة الجدة ، بتقريب : أن الواجدية والإحاطة لها مراتب أقواها ملكية السماوات والأرضين له تعالى ، وأيّ واجدية أقوى من واجدية العلة لمعلولها الّذي يكون من مراتب وجودها ، نظير واجدية النّفس للصور المخلوقة لها ، ودون هذه المرتبة واجدية أولي الأمر صلوات الله عليهم أجمعين ، لأنها من مراتب واجديته جل وعلا ، ودونها واجدية الشخص لما يملكه وان لم يكن تحت تصرفه ، ودونها الواجدية الحاصلة من إحاطة شيء بآخر كالقميص المحيط بالبدن.

لكن فيه أولا : أنه لا وجه لجعل الملكية الاعتبارية من مراتب الملكية الحقيقية

٢٩٠

والغفلة (١) عن أنه بالاشتراك بينه (٢) وبين الاختصاص الخاصّ والإضافة (*) الخاصة الإشراقية كملكه تعالى للعالم ،

______________________________________________________

(١) معطوف على «إطلاق» وضمير «أنه» راجع إلى «إطلاق» يعني : أن منشأ التوهم هي الغفلة عن كون الملك مشتركا لفظيا بين الجدة والإضافة ، وهي الاختصاص ، فعن صدر المتألهين بعد ذكر مقولة الجدة وإطلاق الملك عليها ما لفظه : «وقد يعبر عن الملك بمقولة له ، فمنه طبيعيّ ككون القوى في النّفس ، ومنه اعتبار خارجي ككون الفرس لزيد ، ففي الحقيقة الملك يخالف هذا الاصطلاح ، فان هذا من مقولة المضاف لا غير».

(٢) يعني : بين الملك المقولي وبين الإضافة الخاصة الحاصلة بأحد الموجبات المذكورة ، والأولى أن يقال «بينها» لرجوع الضمير إلى مقولة الجدة حقيقة.

__________________

مع أنه لا سنخية بينهما وان كان لكل منها مراتب.

وثانيا : أن تنظير واجديته تعالى بواجدية النّفس للصور والعلة للمعلول غير صحيح ، لعدم كونه تعالى علة للكائنات ، بل هو موجد لها بالإرادة والاختيار ، ولا سنخية بين الواجب والممكن حتى يكون وجود الممكن من مراتب وجوده جلّ وعلا. وعليه فالملكية الاعتبارية العقلائية تغاير الحقيقية وليست من مراتبها.

(*) الظاهر كون الواو عاطفة لـ «الإضافة» على «الاختصاص» لكنه ليس كذلك ، إذ ليس قوله : «والإضافة الخاصة» قسيماً ومغايرا للاختصاص ، بل هي بيان لأحد قسميه ، وما ذكره هنا ملخص ما بينه بقوله : «وعلى اختصاص شيء بشيء خاص ، وهو ناش إما من جهة اسناد وجوده إليه ككون العالم ملكا للباري جل ذكره ... إلخ» فحق العبارة أن تكون هكذا «وبين الاختصاص الخاصّ الناشئ من الإضافة الإشراقية ... أو المقولية ... إلخ» وتوهم كون العطف تفسيريا فاسد ، لكون الإضافة الإشراقية والمقولية منشأ للاختصاص لا عينه حتى يكون مفسّرا له ، فتدبر.

٢٩١

أو المقولية (١) كملك غيره [تعالى] لشيء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرهما من الأعمال (٢) ، فيكون (٣) شيء ملكا لأحد بمعنى ولآخر بالمعنى الآخر ، فتدبر (٤) (*).

______________________________________________________

(١) معطوف على : «الإشراقية» وهي في غيره تعالى.

(٢) قد تقدم تفصيل ذلك كله.

(٣) هذا متفرع على اختلاف معنى الملك وتعدده ، فان ملكية العين التي استولى الغاصب عليها متصرفا فيها تصرفا خارجيا تكون بمعنى الجدة ، لأنها ـ كما تقدم ـ هي الهيئة الخاصة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالعمامة والقميص المحيطين بالبدن ، وملكية تلك العين كالعمامة لمالكها الشرعي تكون بمعنى الاختصاص الّذي هو إضافة مقولية.

(٤) لعله إشارة إلى منع كون الملك مشتركا لفظيا بين الجدة والاختصاص الّذي هو من الإضافة الإشراقية أو المقولية ، لإمكان أن يقال : ان الملك بمعنى الاختصاص القابل للإنشاء هو الملك بمعنى الجدة ، غاية الأمر أن الملك الإنشائي هو الجدة ادعاء ، فتدبر. هذا تمام الكلام في القسم الثالث من الأحكام الوضعيّة ، وبعد الفراغ عن الأقسام الثلاثة تعرض المصنف لبيان حكمها من جريان الاستصحاب فيها وعدمه كما سيأتي.

__________________

 (*) بقي الكلام في جملة من الأمور المختلف فيها ، فمنها الصحة والفساد فقيل بكونهما من الأحكام الوضعيّة ، وقيل بكونهما من الأمور الواقعية غير المجعولة ، وقيل بكونهما من الأمور الانتزاعية ، وقيل بالتفصيل كما تقدم نقله عن المصنف ، وله في الحاشية نظر آخر ، فقال فيها : «وأما الصحة والفساد في العبادات فهما من قبيل لوازم الماهيات ، وقد أشرنا إلى أنها تتبعها في الجعل تكوينا وتشريعا ، فمعنى نفي الجعل فيهما نفيه عنهما مستقلا لا مطلقا» (١).

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٩٨

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحق أن يقال بعدم كونهما من الأحكام الوضعيّة مطلقا سواء أكانت الصحة بمعنى الخصوصية المترتبة على الشيء بحسب طبعه كصحة الفواكه كالرمان ، أم بمعنى التمامية كما هو المقصود بها في مسألة الصحيح والأعم. أما على المعنى الأول فلأن الخصوصيات الكامنة في الأشياء أمور تكوينية غير قابلة للجعل ، بل هي من دواعي الجعل وعلله ، فليست منتزعة عن الحكم الشرعي فضلا عن تعلق الجعل بها. وأما على المعنى الثاني فكذلك ، إذ المقصود بالتمامية موافقة المأتي به للمأمور به الأوّلي وواجديته لجميع ما له دخل فيه شطرا وشرطا ، ويقابلها مخالفته له ، ومن المعلوم أنهما أجنبيتان عن الحكم الوضعي ، لكونهما من أوصاف المأتي به ، لا من شئون المأمور به الداخلة في حيطة تصرف الشارع بما هو شارع. هذا في المأمور به الأوّلي.

وكذا الحال في المأمور به الثانوي أو الظاهري كالصلاة بالوضوء منكوسا أو بالمسح على الخف ، والصلوات العذرية المحرزة شرائطها بالأمارات الشرعية والأصول العملية كموارد قاعدة التجاوز والفراغ وحديث «لا تعاد» ونحو ذلك كالحكم بصحة صلاة من أجهر في موضع الإخفات جهلا وبالعكس ، فان غاية ما يمكن أن يقال في مجعولية الصحة بالأصالة في أمثالها هو كون الإجزاء حكم الشارع.

لكنه غير ظاهر ، ضرورة عدم تصرفه في مفهوم الصحة التي هي المطابقة ، وإنما الاختلاف في موضوع الانطباق ، فقد يكون ثابتا بالحكم الأوّلي ، فصحته انطباق المأمور به بذلك الأمر على المأتي به ، وقد يكون ثابتا بالحكم الثانوي. وهو إمّا بمعنى جعل البدل المسمى بالقناعة في مقام الامتثال ، وإما بتقييد الواقع ، وعلى كلا التقديرين يكون التصرف الشرعي في ناحية المأمور به ومتعلق الخطاب ، فتنتزع الصحة من مطابقة المأتي به مع ذلك المأمور به الثابت بدليل ثانوي ، كما ينتزع الفساد من عدمها.

٢٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومما ذكرنا يظهر غموض ما ادعاه المصنف (قده) في الحاشية «من كون الصحة في العبادات كلوازم الماهية تتبعها في الجعل تكوينا أو تشريعا» وذلك لوضوح انتزاع وصف الصحة من انطباق المأمور به بالأمر الأوّلي أو الثانوي على المأتي به خارجا من دون تعلق جعل بها كما عرفت ، بل جعل الصحة شرعا مع وجود الدليل الثانوي المبيّن لكيفية المأمور به المفروض انطباقه على المأتي به لغو ، إذ نفس ذلك الدليل سواء أكان اجتهاديا كحديث «لا تعاد» أم أصلا عمليا كقاعدتي التجاوز والفراغ يقتضي كون مدلوله مأمورا به ومستلزما لإجزاء ما ينطبق هو عليه من الفرد الخارجي ، وإلّا كان الأمر به لغوا.

وبالجملة : فالإجزاء في ظرف انطباق الطبيعي المأمور به عقلي ، فلا معنى لجعل الصحة شرعا إلّا مع انكشاف الخلاف في بعض الموارد الكاشف عن عدم الأمر كما لا يخفى. وعليه فما ذكرناه في مسألة الاجتماع من كون الصحة في المأمور به الثانوي أو الظاهري حكما شرعيا غير سديد ، نعم لا بأس بما ذكرناه هناك من عدم كون الفساد حكما شرعيا ، بل هو في جميع الموارد منتزع من عدم الانطباق ، هذا كله في العبادات.

وكذا الحال في المعاملات ، فان صحتها منتزعة أيضا عن انطباق ما جعله الشارع تأسيسا أو إمضاء موضوعا للأثر الشرعي على الفرد المحقق في الخارج ، فمع انطباقه عليه لا يعقل عدم صحته ، للزوم الخلف ، إذ يلزم عدم موضوعيته لما جعله الشارع موضوعا لحكمه ، نظير الصلاة ، فكما لا يعقل عدم الإجزاء مع انطباقها بجميع ما لها من الأجزاء والشرائط على الفرد الخارجي ، فكذلك لا يعقل في المعاملة التي جعلت موضوعا للأثر الشرعي مع انطباقها بما لها من القيود على ما وقع في الخارج ، إذ عدم الإجزاء فيها أيضا مستلزم للخلف.

والحاصل : أن الحق عدم مجعولية الصحة والفساد مطلقا من غير فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات ، وبين الصحة والفساد الواقعيين والظاهريين ،

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فان انطباق الطبيعي على فرده قهري والإجزاء عقلي.

ثم ان للمحقق الأصفهاني (قده) حاشية في المقام ينبغي ملاحظتها ، ولم نتعرض لها رعاية للاختصار ، والله تعالى هو الهادي إلى الصواب (١).

ومنها : العزيمة والرخصة ، وقد فسّرتا بالمشروعية وعدمها أي بالسقوط على وجه الإلزام وعلى وجه التسهيل. وهذا المعنى في الرخصة لا يرجع إلى الحكم التكليفي أعني الإباحة ، كما تقدم في التوضيح ، فلعل الأولى في معنييهما أن يقال : ان العزيمة سقوط الأمر بجميع مراتبه كصلاة الحائض ، والرخصة سقوطه ببعض مراتبه كاستحباب ما كان واجبا أو مستحبا مؤكّدا.

ومنها : الطهارة والنجاسة ، فقيل كما عن قواعد الشهيد بكونهما حكمين تكليفيين ، فالطهارة هي جواز الاستعمال في الأكل والشرب ، والنجاسة هي وجوب الاجتناب عن الشيء استقذارا. وقيل بكونهما من الاعتبارات الوضعيّة المجعولة بالاستقلال كالملكية والزوجية ونحوهما. وهو مختار جمع من المحققين ، وقيل بكونهما منتزعتين من الحكم التكليفي ، من دون جعل لهما بالاستقلال كما يستفاد من بعض كلمات الشيخ الأعظم. وقيل بكونهما من الأمور الواقعية التي كشف عنهما الشارع. ونسب جمع منهم سيدنا الأستاذ تبعا لشيخيه المحققين الميرزا النائيني والعراقي هذا القول إلى الشيخ (قدس‌سرهم) والأصل فيه ما ذكره في كتاب الطهارة في النّظر السادس قبل البحث في الأعيان النجسة بقوله : «وقد يطلق ـ أي الطهارة ـ على صفة حقيقية أو اعتبارية في الأجسام ، ويقابلها بهذا المعنى النجاسة ، فهي النظافة والخلوّ عن النجاسة ، والنجاسة لغة القذارة ، وشرعا قذارة خاصة في نظر الشارع مجهولة الكنه اقتضت إيجاب هجرها في أمور مخصوصة ، فكل جسم خلا عن تلك القذارة في نظر الشارع فهو طاهر نظيف. ويظهر من المحكي عن الشهيد في قواعده أن النجاسة حكم الشارع بوجوب الاجتناب

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٠ ، وج ١ ، ص ٣٠٩

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

استقذارا واستنفارا.

وظاهر هذا الكلام أن النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب ، وليس كذلك قطعا ، لأن النجاسة مما يتصف به الأجسام ، فلا دخل له في الأحكام. فالظاهر أن مراده أنها صفة انتزاعية من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار أو الاستنفار. وفيه : أن المستفاد من الكتاب والسنة أن النجاسة صفة متأصلة يتفرع عليها تلك الأحكام وهي القذارة التي ذكرناها ، لا أنها صفة منتزعة من أحكام تكليفية ، نظير الأحكام الوضعيّة المنتزعة منها كالشرطية والسببية والمانعية. ثم دعوى أن حكم الشارع بنجاسة الخمر لأجل التوصل إلى الفرار عنها ، ولتزيد نفرة الطباع عنها ليست بأولى من دعوى أن حكمه بوجوب التنفر عنها لأجل قذارة خاصة فيها ... إلخ».

وهذه العبارة وان كانت ظاهرة في كونهما أمرين واقعيين كشف عنهما الشارع ، لكنه (قده) في الرسائل في تعقيب كلام الفاضل التوني خالف ذلك ، ففي العبارة المتقدمة عنه في التوضيح جعل الطهارة والنجاسة مرددتين بين كونهما من الاعتبارات المنتزعة عن التكليف ومن الأمور الواقعية ، وفي موضع آخر قال في الرد على الفاضل : «وان كان ـ أي المستصحب ـ أمرا شرعيا كالطهارة والنجاسة فلا يخفى أن هذه الأمور الشرعية مسببة عن أسباب ...» وقال بعده بأسطر : «فهما اعتباران منتزعان من الحكم التكليفي».

وهذه الكلمات لا تخلو من تهافت مع ما أفاده في كتاب الطهارة ، ضرورة أن جعلهما تارة حكمين شرعيين وأخرى اعتبارين منتزعين من التكليف ينافى كونهما أمرين واقعيين كشف عنهما الشارع ، وحيث انه (قده) أحدث عهدا بكتاب الرسائل فلعله عدل عما اختاره في كتاب الطهارة الّذي حكي تأليفه في أوائل أمره. وعليه فالنسبة المزبورة على إطلاقها غير مستقيمة.

وكيف كان فقد أورد على ما أفاده الشيخ في كتاب الطهارة ـ من كون الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية دون المجعولات الشرعية ـ أولا : بأنه خلاف ظواهر

٢٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأدلة ، إذ ظاهرها أن الشارع حكم بالنجاسة في شيء وبالطهارة في شيء آخر بما هو شارع ، لا أنه أخبر عن حقيقة الأشياء بما هو من أهل الخبرة ، حيث ان الأمر بالاجتناب عن النجاسات يصير حينئذ إرشادا.

وثانيا : بأنه لو قلنا به في مثل البول والكلب ونحوهما من القذارات العرفية ، لكن يشكل الالتزام به في نجاسة بدن الكافر ، إذ كيف يمكن القول بأن الإسلام وإظهار الشهادتين مزيل لعرض خارجي عن بدنه. وأبعد منه الالتزام بهذا التبدل في مثل ولد الكافر بالتبعية ، فيكون الحكم بنجاسته قبل إقرار والده بالشهادتين إخبارا عن قذارته الواقعية ، والحكم بطهارته بعده إخباراً عن نظافته الواقعية ، فانه خلاف الوجدان.

وثالثا : بأنه لا يمكن القول بكون الحكم بالطهارة إخبارا عن النظافة الواقعية في الطهارة الظاهرية ، إذ الحكم بطهارة الشيء المشكوك فيه الّذي يحتمل أن يكون نجسا في الواقع لا يمكن أن يكون إخبارا عن النظافة الواقعية ، ولا بد من القول بمجعولية الطهارة في مثله (١).

لكن يمكن استفادة معنى آخر من كلام الشيخ احتمله سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس من : أن المراد بالكشف عن الأمر الواقعي ليس هو الاخبار والحكاية ، لعدم مناسبة ذلك لمقام الشارعية المقتضي لحمل الخطابات على كونه بصدد التشريع وإعمال سيادته ، بل المقصود بالأمر بالاجتناب الّذي هو أمر مولوي الكشف عن ملاكه وهو القذارة الموجودة في الأشياء ، بتقريب : أن عمدة ما استفيد منه نجاسة بعض الأشياء هو النصوص الآمرة بالغسل كالأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وإلّا فلفظ النجاسة لم يذكر في غالب الروايات وان ورد في تنجيس الخمر «ما على الميل من الخمر ينجس حبّا من الماء» وكذا في تنجس الكر بالتغير ، ويستكشف من الأمر بالغسل كون النجاسة

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٨٤

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

خصوصية كامنة في الشيء لا ترفع إلّا بالماء أو المسح على الأرض ، أو الشمس ، وتلك الخصوصية دعت الشارع إلى جعل أحكام للشيء المتصف بالنجاسة ، فالنجاسة أعني تلك الخصوصية تكون نظير الملاكات في الأحكام التكليفية. ولو كانت النجاسة أمرا اعتباريا لم يكن معنى لغسلها بالماء مثلا ، فان الأمر بالغسل كاشف عن كون النجاسة المجهولة ماهيتها شيئاً تكوينيا خارجيا ، لا مجرد أمر اعتباري ، إذ عليه لا معنى لغسلها بالماء الّذي هو من الأعيان الخارجية ، فالنجاسة كغير المأكول المحكوم بأحكام ، فكما أن ما لا يؤكل من الأمور الخارجية فكذلك النجاسة ، ويقابلها النظافة التي رتب عليها أحكام شرعية.

ومن هنا يصح أن يقال : ان النجاسة أمر وجودي ، والطهارة أمر عدمي ، وتظهر الثمرة بين وجوديتهما ووجودية أحدهما خاصة في جريان الأصول وعدمه.

والحاصل : أن الأمر بالصلاة كما يكون مولويا كاشفا إنّاً عن الملاك وان لم ندركه كذلك الأمر بالاجتناب عن النجس ، فانه خطاب مولوي كاشف عن الخصوصية الكامنة فيه ، وليس أمر الشارع لمجرد تمييز المصداق حتى يكون إرشادا إلى القذارة غير المدركة عرفا.

وعليه فإشكال لزوم حمل الأوامر والنواهي على الإرشاد غير متجه.

وأما إشكال طهارة ولد الكافر ونجاسته بالتبعية فهو مجرد استبعاد لا يقتضي بنفسه مجعولية الطهارة والنجاسة مع احتمال أن يكون الوجه فيه الربط الوثيق بين النّفس والبدن ، وتكون قذارة روح المشرك بل مطلق الكافر لأجل بعده عن حضرة الخالق المنان عزوجل موجبة لتأثر جسمه بها ، فيكون محكوما بالنجاسة ، وبمجرد تلفظه بالشهادتين وتسليمه للحق تنقلب تلك القذارة المعنوية إلى طهارة كذلك وتسري إلى بدنه فيطهر. وإنكار هذا التأثير والتأثر بين النّفس والبدن منوط بحجة واضحة مفقودة. واحتمال هذا الوجه فيه كاف في تمامية ما أفاده الشيخ (قده) من كون النجاسة حقيقة مجهولة الكنه عنا.

٢٩٨

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل (١) ، فقد عرفت أنه لا مجال

______________________________________________________

(١) يعني : إذا عرفت أن قسما منه غير قابل للجعل الشرعي لا أصالة ولا تبعا ، بل هو أمر تكويني ذاتي كالسببية وغيرها من أجزاء علة التكليف ، وقسما منه ليس إلّا مجعولا بتبع التكليف وهو الجزئية وغيرها مما يكون دخيلا في متعلق التكليف ، وقسما منه مجعول بالاستقلال ، تعرف حال التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني (ره) في اعتبار الاستصحاب بين التكليف والوضع ، حيث ان القسم الأول منه لا يجري فيه الاستصحاب أصلا ، لعدم كونه حكما شرعيا ولا موضوعا له. ومجرد ترتب الحكم الشرعي كوجوب الصلاة على السبب كالدلوك لا يصحِّح جريان الاستصحاب في السببية ، إذ ليس ترتب الحكم الشرعي على سببه شرعيا بل هو عقلي ، ومن المعلوم أن اتصاف الحكم بكونه شرعيا منوط بأمرين : أحدهما أن يكون مما أنشأه الشارع ، والآخر أن يكون ترتبه شرعيا أيضا ، كما إذا قال : «المستطيع يجب عليه الحج» فان ترتب وجوب الحج على المستطيع شرعي ، لأن المستطيع موضوع في لسان الخطاب للوجوب. وهذا بخلاف سببية الدلوك ، فان ترتب الوجوب عليها ليس شرعيا ، لأن ترتب الوجوب عليه مستند إلى الخصوصية الذاتيّة الكامنة فيه ، وليس كترتب وجوب الحج على المستطيع حتى يصح استصحاب سببية الدلوك إذا شك في بقائها كصحة استصحاب الاستطاعة إذا شك في بقائها ، ففرق واضح بين استصحاب الاستطاعة واستصحاب سببية الدلوك.

والحاصل : أن الاستصحاب لا يجري في القسم الأول من الأحكام الوضعيّة وهو ما لا تناله يد الجعل أصلا. ويجري في القسم الثاني وهو ما يكون مجعولا بالتبع كالجزئية المنتزعة عن الحكم التكليفي المتعلق بجملة أمور. كما يجري في القسم الثالث أيضا بالأولوية ، لكونه كالحكم التكليفي مجعولا مستقلا.

__________________

وأما الإشكال الثالث فهو أجنبي عن كلام الشيخ ، إذ لا شك في أن الطهارة الظاهرية اعتبارية لا واقعية ، لكن محط كلامه كما لا يخفى على من لاحظه هو الطهارة والنجاسة الواقعيتان ، فلا مجال للنقض عليه بأن الطهارة الظاهرية مجعولة لا واقعية.

٢٩٩

لاستصحاب دخل ما له الدخل (١) في التكليف إذا شك في بقائه على ما كان عليه من (٢) الدخل ، لعدم (٣) كونه حكما شرعيا ، ولا يترتب (٤) عليه أثر شرعي. والتكليف (٥) وان كان مترتبا عليه ، إلّا أنه ليس بترتب شرعي (٦) ، فافهم (٧) ،

______________________________________________________

(١) كالسببية والشرطية والمانعية للتكليف.

(٢) تفسير للموصول في «ما كان» والمراد به السببية ونحوها.

(٣) تعليل لقوله : «لا مجال» وعدم كون مثل السببية حكما شرعيا واضح ، لأنها أمر ذاتي تكويني غير قابل للجعل التشريعي.

(٤) الأولى أن يقال : «ولا ما يترتب ...» والمقصود أنه ليس موضوعا لحكم شرعي حتى يندرج في استصحاب الموضوعات ذوات الآثار الشرعية.

(٥) يعني : أن التكليف الشرعي كوجوب الظهرين وان كان يترتب عليه ، لكن ترتبه ليس بشرعي كما عرفت بيانه.

(٦) مع أن هذا الترتب الشرعي مما لا بد منه في استصحاب الموضوعات ، فإذا علمنا بوجود المقتضي لوجوب الصلاة وبوجود مانعة ، ثم علمنا بارتفاع المانع وشك في بقاء المقتضي لم يجر استصحاب بقاء المقتضي ، لعدم كون المقتضي بنفسه حكما شرعيا ولا موضوعا له ، وإنما هو داع للشارع إلى إنشاء الوجوب عند تحققه ، وعلى تقدير بقائه يترتب عليه الحكم. لكن الإشكال كله في عدم كون هذا الترتب شرعيا ، فان ترتب المسبب على سببه ليس بيد الشارع وإنما هو أمر واقعي.

(٧) لعله إشارة إلى إمكان عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الموضوع والسببية ، بأن يقال : ان مجرد كون السببية أمرا ذاتيا لا يمنع عن جريان الاستصحاب ، وإلّا لما جرى في الموضوع أيضا ، لأن موضوعية الموضوع تكون أيضا بما فيه من الملاك تكوينا ، وإلّا يلزم الجزاف ، فتأمل.

٣٠٠