منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في الاحتمال الخامس. وتحقيق هذه الاحتمالات سيوافيك في التعليقة إن شاء الله تعالى.

والمهم توضيح الاحتمال الأول الّذي اختاره المصنف (قده) في المتن ، فنقول في تقريب الاستدلال بها : ان كل واحد من هذه الأخبار مشتمل على مغيا وغاية ، أما المغيا ـ أعني كل شيء طاهر مثلاً ـ فيدل على أن الموضوع المحكوم عليه بالطهارة هو الشيء ، وهو عنوان مشير إلى الماهيات الخارجية كالماء والتراب والحنطة وغيرها ، وهذا العموم الأفرادي مدلول عليه بلفظ وضع للعموم ـ أي كل ـ وحيث ان المراد بكل واحدة من الذوات الخارجية عنوانها الأوّلي ، لا العنوان الثانوي ـ ككونه مشكوك الحكم ـ فالطهارة أو الحلية الثابتة له حكمٌ واقعي لا ظاهري ، فالحنطة حلال واقعاً ، والحديد طاهر كذلك ، وهكذا ، هذا مدلول المغيا.

وأما الغاية المدلول عليها بكلمة «حتى» فتدل على مجرد استمرار الطهارة الواقعية المذكورة في المغيا إلى زمان حصول العلم بالنجاسة ، والغاية تدل على استمرار المحمول واقعاً وانقطاعه بمجرد حصول الغاية فيما إذا لم تكن علماً أو علمياً كقوله : «الماء طاهر حتى يلاقي النجس» أو «المسافر يجب عليه التقصير إلى أن يدخل في حد الترخص» أو «الوضوء واجب إلى أن يصير ضررياً» أو «الحنطة حلال إلى أن تصير مغصوبة» وغير ذلك مما ينقطع به الحكم الأوّلي إما لتبدل الموضوع وإما لطروء عنوان ثانوي عليه. وأما إذا كانت الغاية علماً كالمقام تعيّن جعل ما بعدها حكماً ظاهرياً ، لئلا يلزم التصويب من دخل العلم في الحكم ، فطهارة الماء القليل واقعاً تزول بمجرد ملاقاة النجس عَلِم بها المكلف أم لا.

وعليه فهذه الروايات تدل على أمرين : أحدهما أن الحكم الواقعي لكل شيء هو الحلية والطهارة إلّا ما خرج بالدليل كالخمر والخنزير ، وثانيهما استمرار ذلك الحكم الواقعي ظاهراً.

وحيث دلت الغاية على استمرار المغيا تعبداً في حال الشك كان مدلول

٢٢١

مثل (١) هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال : ان الغاية فيها (٢) إنما هو لبيان استمرار ما حكم (٣) على الموضوع واقعاً (٤) من (٥) الطهارة والحلية ظاهراً ما لم (٦) يعلم

______________________________________________________

المغيا الدال على القاعدة الاجتهادية بضميمة الغاية الظاهرة في بقاء الحكم المذكور في المغيا هو الاستصحاب ، فان حقيقته إبقاء ما ثبت لا غير. وهذا هو المطلوب من الاستدلال بهذه الأخبار.

(١) التعبير بالمثل لأجل عدم انحصار الأخبار ـ المشتملة على الغاية والمغيا مما يصلح لاستفادة الاستصحاب منها ـ بما ذكره في المتن ، لتعدد أخبار قاعدة الحل كصحيح عبد الله بن سنان وموثقة مسعدة ونحوهما. نعم لم أظفر في أخبار طهارة كل شيء وخصوص الماء على لفظ مشتمل على الغاية كي يستظهر منها الاستصحاب ، وان كان ما يدل على التوسعة في باب الطهارة ومانعية النجاسة المعلومة عن الصلاة موجوداً ، لكن اللفظ يغاير ما في المتن بكثير ، فراجع.

(٢) أي : في هذه الأخبار.

(٣) أي : ما حكم به على الموضوع وهو «شيء».

(٤) بيان للموصول في : «ما حكم» يعني : أن الطهارة والحلية الواقعيتين حكمان لكل شيء ، وقد تقدم توضيح هذا فيما ذكرناه حول مفاد المغيا بقولنا «أما المغيا ...»

(٥) بيان لـ «ما حكم» أي : أن الغاية قيد للمحمول وهو «طاهر» لا للموضوع وهو «شيء» وقوله : «ظاهراً» قيد للاستمرار ، أي : استمرار الطهارة الواقعية ظاهراً ، ومن المعلوم أن إبقاء الحكم الواقعي في ظرف الشك لا ينطبق إلّا على الاستصحاب.

(٦) قيد لـ «ظاهراً» فان الطهارة الظاهرية منوطة بعدم اليقين بخلاف الحالة السابقة ، إذ معه يكون نقضها نقضاً لليقين باليقين.

٢٢٢

بطروء ضده (١) أو نقيضه (٢) ، لا (٣) لتحديد الموضوع كي (٤) يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته ،

______________________________________________________

(١) أي : ضد ما حُكِم به على الموضوع ، وذلك كالعلم بحرمة شيء بعد العلم بحليته ، والتعبير بالضد لأجل أن الحرمة والحلية أمران وجوديان وحكمان مجعولان.

(٢) أي : نقيض ما حُكِم ، كالعلم بنجاسة شيء بعد العلم بطهارته ، والتعبير بالنقيض بلحاظ كون الطهارة أمراً عدمياً وهي عدم القذارة ، وقد حكي أن المصنف (قده) اختار هذا ، لا كونها أمراً وجودياً حتى تكون ضد النجاسة.

(٣) معطوف على «انما هو» يعني : أن الغاية ليست لتحديد الموضوع ، وغرضه من هذا الكلام : أن استظهار الاستصحاب من هذه الروايات الثلاث مبني على كون كلمة «حتى» قيداً للمحمول وهو الطهارة والحلية ، إذ لو كانت قيداً للموضوع ـ أي الماء والشيء ـ لم يكن لها مساس بالاستصحاب أصلاً ، لأن مفادها حينئذ : أن كل شيء مشكوك الحل أو الطهارة حلال أو طاهر ، وهذا المعنى هو مفاد قاعدتي الحل والطهارة كما هو أحد الأقوال والوجوه المحتملة في الروايات.

وحيث ان الغاية ظاهرة في كونها قيداً للمحمول لا للموضوع ، فالمراد من «طاهر وحلال» هو الطهارة والحلية الواقعيتان الثابتتان في حال الشك ظاهراً ببركة الاستصحاب. والوجه في الظهور ما تقدم من أن «الشيء» عنوان مشير إلى ذوات الماهيات مع الغض عما يعرض عليها ، فان كل عنوان إنما يحكي عن معنونه. وفي المقام حيث يكون موضوع قاعدتي الحل والطهارة الشيء المشكوك ـ لا الشيء مع الغض عن الشك في حكمه الواقعي ـ فإرادة القاعدتين منوطة بتقييد الشيء بكونه مشكوك الحكم ، ومن المعلوم مخالفته لظاهر «الشيء» من نفس العناوين الأولية كالماء والحنطة والتراب.

(٤) هذا متفرع على كون الغاية ـ أعني حتى ـ قيداً للموضوع ـ وهو شيء ـ لا للمحمول أعني «طاهر وحلال» وضمير «بهما» راجع إلى الطهارة والحلية.

٢٢٣

وذلك (١) لظهور المغيا فيها (٢) في بيان الحكم للأشياء بعناوينها (٣) ، لا بما هي مشكوكة الحكم (٤) كما لا يخفى ، فهو (٥) وان لم يكن له بنفسه (٦) مساس بذيل (٧) القاعدة ولا الاستصحاب ، إلّا (٨) أنه بغايته دلّ

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا لتحديد الموضوع» أو لـ «أن يقال» والنتيجة واحدة. وقد عرفت تقريب الظهور بقولنا : والوجه في الظهور ما تقدم من أن الشيء ... إلخ.

(٢) أي : في هذه الأخبار ، والمراد بالمغيا هو المحمول أعني الحلية والطهارة.

(٣) يعني : بعناوينها الأولية بقرينة قوله : «لا بما هي مشكوكة» فتكون الحلية والطهارة حينئذ حكمين واقعيين.

(٤) المأخوذة في موضوع قاعدتي الحل والطهارة كما عرفت حتى تكونا حكمين ظاهريين.

(٥) أي : فالحكم للأشياء بعناوينها الأولية ، وغرضه من هذا الكلام أن المغيا وان دل على خصوص الحلية والطهارة الواقعيتين ، ولا تعلق له بقاعدتي الحل والطهارة ـ لدخل الشك في موضوعيهما كما هو شأن كل حكم ظاهري ـ ولا بالاستصحاب ، لأنه إثبات حكم واقعي في مرحلة الظاهر تعبداً ، لكن لا تتوهم أجنبية الأخبار عن الاستصحاب ، وذلك لدلالة الغاية على استمرار ذلك الحكم الواقعي ظاهراً ، وهذا هو الاستصحاب.

(٦) هذا الضمير وضمير «له» والمستتر في «يكن» كضمير «هو» راجع إلى الحكم للأشياء ، ويمكن عوده إلى المغيا ، والمعنى واحد.

(٧) يعني : بنفس القاعدة ، وقد عرفت وجه عدم مساس المغيا بالقاعدة والاستصحاب.

(٨) استدراك على «وان لم يكن» وضميرا «أنه ، بغايته» راجعان إلى الحكم للأشياء بعناوينها الأولية الّذي هو مفاد المغيا ، ولو قال : «إلّا أنها ـ أي الأخبار ـ بغايتها دلت ...» كان أولى.

٢٢٤

على الاستصحاب ، حيث إنها (١) ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهراً (٢) ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه (٣) ، كما أنه (٤) لو صار مغيا لغاية مثل الملاقاة بالنجاسة أو ما يوجب الحرمة (٥) لدلّ على استمرار ذاك الحكم (٦) واقعاً ، ولم يكن له (٧) حينئذ بنفسه ولا بغايته دلالة على الاستصحاب.

______________________________________________________

(١) أي : أن الغاية ، وهذا تقريب دلالة الغاية على الاستصحاب ، وقد عرفته.

(٢) قيد للاستمرار ، والمراد بذاك الحكم هو المغيا أعني الطهارة والحلية الواقعيتين.

(٣) فإذا علم بضد الحل وهو الحرمة وبنقيض الطهارة وهو القذارة لم يستمر ذاك الحكم الواقعي ، لأن رفع اليد عنه نقض لليقين باليقين ، وقوام الحكم الظاهري هو الشك.

(٤) الضمير للشأن ، وضمير «صار» راجع إلى الحكم الواقعي ، وغرضه أن الغاية تدل على استمرار المغيا ، غاية الأمر أن الغاية إن كانت هي العلم بالنقيض أو الضد ـ كما في هذه الروايات الثلاث ـ كانت دالة على استمرار الحكم الواقعي ظاهراً. وإن كانت شيئاً آخر كالملاقاة للنجس أو غيره كما إذا قال : «الماء القليل طاهرٌ إلى أن يلاقي النجس» أو «العصير العنبي حلال إلى أن يغلي بالنار فيحرم» دلت على استمرار الحكم الواقعي واقعاً ، ولا دلالة لشيء من المغيا والغاية على الاستصحاب ، لتمحضه في إفادة استمرار الحكم الواقعي واقعاً.

(٥) كمثال غليان العصير ، وقوله : «لدل» جواب «لو صار».

(٦) وهو الحكم المغيا كحيلة العصير وطهارة الماء القليل المتقدمتين آنفاً.

(٧) هذا الضمير وضميرا «بنفسه ، بغايته» راجعة إلى الحكم الواقعي ، وقوله : «حينئذ» يعني : حين كون الغاية مثل الملاقاة مما يكون غير العلم. والوجه في عدم دلالته على الاستصحاب واضح ، ضرورة كون الاستمرار واقعياً كنفس المغيا.

٢٢٥

ولا يخفى أنه (١) لا يلزم

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، والغرض من هذا الكلام دفع إشكال أورده شيخنا الأعظم على صاحب الفصول (قدهما) حيث انه استظهر من كلامه دلالة روايتي حماد وعمار على اعتبار قاعدة الطهارة والاستصحاب ـ وان أمكن استفادة أُمور ثلاثة من عبارة الفصول كما ذهب إليه المصنف في حاشية الرسائل ـ ثم أورد الشيخ عليه بقوله : «نعم إرادة القاعدة والاستصحاب معاً يوجب استعمال اللفظ في معنيين لما عرفت من أن المقصود في القاعدة مجرد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة السابقة ، والجامع بينهما غير موجود فيلزم ما ذكرناه ...». وتوضيحه : أنه يلزم أن تكون الغاية في استعمال واحد تارة قيداً للموضوع ـ وهو شيء ـ ليستفاد منه قاعدة الطهارة ، وأخرى قيداً للحكم ـ أعني الطهارة ـ لتدل على الاستصحاب ، ومن المعلوم أن مفاد القاعدة الأولى طهارة الشيء بوصف كونه مشكوكاً ، فينسلخ «حتى» عن الغاية ، إذ لا يلاحظ في القاعدة إلّا نفس ثبوت الطهارة للشيء المشكوك طهارته بلا لحاظ بقائه ، ومفاد القاعدة الثانية إبقاء الطهارة الواقعية المعلومة سابقاً في ظرف الشك في بقائها ، فالحكم بالطهارة في القاعدة يكون لنفس الشك ، وفي الاستصحاب للثبوت السابق ، يعني «أن المشكوك المسبوق باليقين بطهارته طاهر ظاهراً» ومن المعلوم عدم الجامع بينهما ، فلا يجوز جعل الغاية قيداً لكل من الموضوع والحكم في استعمال واحد.

هذا محصل إشكال الشيخ الأعظم على صاحب الفصول (قدهما).

والمصنف (قده) دفع هذا الإشكال بأن محذور استعمال اللفظ في معنيين إنما يلزم إذا أريد إثبات الطهارة الظاهرية والاستصحاب بالروايتين ، وأما إذا أريد إثبات طهارة الأشياء واقعاً واستصحابها ، فلا يتجه الإشكال المتقدم ، لوضوح أن المغيا ـ وهو كل شيء طاهر ـ متكفل لحكم الأشياء واقعاً ، والغاية ـ وهي حتى تعلم ـ ظاهرة في الاستصحاب كما تقدم بيانه ، فهاتان القاعدتان تستفادان من الرواية بتعدد الدال والمدلول من دون لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

٢٢٦

على ذلك (١) استعمال اللفظ في معنيين أصلاً ،

______________________________________________________

فان قلت : بناءً على ما قرره المصنف ـ من دلالة المغيا على الحكم الواقعي والغاية على الاستصحاب ـ لا وجه لتعرضه لإشكال شيخنا الأعظم على صاحب الفصول (قدهما) لأن مبنى ذلك الإشكال على الفصول هو استفادة قاعدة الطهارة والاستصحاب من الروايتين ، والمفروض أن كلًّا منهما حكم ظاهري. وهذا الإشكال أجنبي عن مقالة المصنف التي هي الطهارة الواقعية والاستصحاب ، لعدم توقف إرادتهما على استعمال اللفظ في أكثر من معنى حتى يلتجئ إلى بيان الإشكال ودفعه.

قلت : نعم لا ربط بحسب الظاهر بين مدعى المصنف وإشكال الشيخ حتى يتجه قول الماتن : «ولا يخفى أنه لا يلزم على ذلك» لكن يمكن أن يكون الوجه في تعرضه لإشكال الشيخ هو ما استظهره المصنف في حاشية الرسائل من كلام الفصول بقوله : «فالظاهر أنه أراد دلالة الرواية على أحد الأصلين بعمومها أو إطلاقها وعلى الآخر بغايتها ... إلخ» وحاصله : أن المصنف ادعى كون مقصود صاحب الفصول استفادة كل من الطهارة الواقعية والظاهرية والاستصحاب من الروايتين ، فتحصل حينئذ جهة مشتركة بين دعوى المصنف والفصول ، لكن لمّا وافق المصنف صاحب الفصول في أصل المدعى وخالفه في تقريب دلالة الروايتين على الأمور الثلاثة ـ لأنه استدل عليها في حاشية الرسائل بعموم «الشيء» الأفرادي على طهارة كل شيء واقعاً ، وبإطلاقه الأحوالي على طهارته ظاهراً ، وبالغاية على الاستصحاب ـ كان عليه التنبيه على التخلص من إشكال الشيخ وعدم وروده عليه وان كان موافقاً مع الفصول في أصل الدعوى.

فالمتحصل : أن مقصود المصنف من قوله : «ولا يخفى أنه لا يلزم ... إلخ» هو التنبيه على صحة استفادة أكثر من قاعدة واحدة من الروايتين بتقريب يسلم من إشكال استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فلاحظ.

(١) أي : لا يلزم ـ بناءً على استفادة الطهارة والحلية الواقعيتين من المغيا والاستصحاب من الغاية ـ استعمال اللفظ في معنيين أصلاً.

٢٢٧

وإنما يلزم (١) لو جُعِلت الغاية مع كونها من حدود الموضوع وقيوده (٢) غايةً (٣) لاستمرار حكمه ليدل (٤) على القاعدة والاستصحاب من (٥) غير تعرض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلاً ،

______________________________________________________

(١) يعني : وإنما يلزم استعمال اللفظ في معنيين فيما إذا جُعِلت الغاية قيداً لكل من الموضوع والحكم ليستفاد منها قاعدتان ظاهريتان إحداهما الاستصحاب والأخرى قاعدة الطهارة. وقد عرفت بيان الإشكال في توضيح كلام الشيخ بقولنا : «وتوضيحه أنه يلزم أن تكون الغاية ...».

(٢) يعني : يكون الشك حيثية تقييدية في قاعدة الطهارة ، لأن موضوعها الشيء بعنوان المشكوك حكمه ، لا بعنوانه الأوّلي أي ذات الشيء.

(٣) مفعول ثان لـ «جعلت» يعني : جُعِلت الغاية من قيود الحكم ـ وهو طاهر وحلال ـ لتدل الرواية على الاستصحاب ، وضمير «حكمه» راجع إلى الموضوع.

(٤) هذه نتيجة جعل الغاية تارة قيداً للموضوع وأخرى للمحمول ، حيث ان دلالتها على القاعدة منوطة بقيدية الغاية للموضوع ، وعلى الاستصحاب بقيديتها للمحمول.

(٥) قيد لـ «يدل» ووجه عدم تعرض هذه الروايات حينئذ للحكم الواقعي واضح ، لأن «الشيء» بعد جعل الغاية قيداً له يصير معناه مشكوك الحكم ، ويثبت الحكم حينئذ له لا للشيء بعنوانه الأوّلي حتى تدل على الحكم الواقعي. مع أن الالتزام بعدم تعرضه للحكم الواقعي خلاف الظاهر ، لما عرفت من ظهور «الشيء» في نفس الذوات الخارجية ، فلا محيص في مقام الإثبات عن الالتزام بدلالة الروايات الثلاث على القاعدة الاجتهادية والاستصحاب دون قاعدة الطهارة ، فلا وجه لاحتمال كون مفاد الروايات قاعدتي الطهارة والاستصحاب معاً كما استظهره الشيخ من كلام الفصول واعترض عليه بما تقدم توضيحه ، بل مفادها قاعدة اجتهادية وظاهرية

٢٢٨

مع (١) وضوح ظهور مثل «كل شيء حلال» أو «طاهر» في أنه (٢) لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية ، وهكذا «الماء كله طاهر» (٣) وظهور (٤) الغاية في كونها حدّاً للحكم لا لموضوعه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيداً.

ولا يذهب عليك أنه (٥) بضميمة عدم القول بالفصل قطعاً بين

______________________________________________________

أعني الاستصحاب.

(١) قيد لقوله : «لو جعلت» أي : والحال أن الروايات ظاهرة في بيان الحكم الواقعي لكل موضوع إلّا ما خرج بالدليل. وهذا إشكال أورده المصنف على الفصول من أنه مع الغض عن إشكال الشيخ يكون استظهار أصالة الطهارة من الرواية خلاف ظهورها في إفادة الحكم الواقعي.

(٢) أي : أن مثل «كل شيء حلال أو طاهر».

(٣) فيدل على طهارة الماء واقعاً كدلالة حديث الحل على الحلية الواقعية.

(٤) معطوف على «ظهور» يعني : ومع وضوح ظهور الغاية في كونها حدّاً للحكم فيفيد الاستصحاب ، لا حدّاً لموضوع الحكم حتى تدل على أصالة الطهارة أو الحل.

(٥) الضمير للشأن ، وهذا إشارة إلى الجهة الثالثة المتعلقة بهذه الطائفة من الأخبار أعني بيان عموم اعتبار الاستصحاب لجميع الأبواب ، ودفع إشكال أخصيتها من المدعى ، لكون موردها بابي الحل والطهارة ، فالاستصحاب حجة في هذين البابين خاصة.

ومحصل ما أفاده في وجه تعميم اعتبار الاستصحاب في جميع الموارد هو : أنه بضميمة عدم القول بالفصل تعمّ الروايات جميع الموارد ، إذ لم يظهر قولٌ بالفصل بين استصحاب الطهارة والحل وبين استصحاب غيرهما ، فالقائل باعتباره يقول به مطلقاً ، والنافي له ينفي اعتباره في جميع الأبواب ، وليس من الأقوال

٢٢٩

الحلية والطهارة وبين سائر الأحكام لعمّ (١) الدليل وتمّ.

ثم لا يخفى أن (٢) ذيل موثقة عمار : «فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» يؤيِّد (٣) ما استظهرنا منها من كون الحكم

______________________________________________________

المتشتتة في الاستصحاب تخصيص حجيته ببابي الحل والطهارة.

ثم ان الشيخ (قده) ذكر هذه الدعوى ـ بعد رواية عبد الله بن سنان الظاهرة في الاستصحاب في باب الطهارة ـ بقوله : «ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع» وفيه تأمل ذكرناه في التعليقة.

(١) لا حاجة إلى اللام الظاهر في كونه جواباً لشرط ونحوه.

(٢) بعد أن أثبت دلالة الروايات الثلاث على اعتبار الاستصحاب تصدى لتأييد مقالته بما في ذيل موثقة عمار من قوله عليه‌السلام : «فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» فان هذا الذيل مشتمل على حكمين إيجابي وهو استمرار الحكم السابق في غير صورة العلم بالضد أو النقيض ، وسلبي وهو عدم استمراره في صورة العلم بالخلاف. وهذان الحكمان مترتبان على الغاية ومبيِّنان لها ، غاية الأمر أن أحدهما مفهومها وهو قوله عليه‌السلام : «فإذا علمت» والآخر منطوقها ، وهو قوله عليه‌السلام : «وما لم تعلم ...» والظاهر كون هذين الحكمين مترتبين على الغاية وحدها ، لقربهما بها ، فيكون الحكم بالطهارة في المشكوك فيه مستنداً إلى العلم بها سابقاً فيدل على استمرار الحكم الواقعي ظاهراً. وهذا بخلاف ما إذا كان الذيل مترتباً على مجموع الغاية والمغيا ، إذ الحكم بالطهارة حينئذ يكون مترتباً على نفس الشك كما هو مفاد قاعدة الطهارة ، لا على ثبوت الطهارة سابقاً كما هو مقتضى الاستصحاب.

(٣) لعل وجه التعبير بالتأييد دون الدلالة هو : أن ظهور الذيل في تفرعه على الغاية وحدها ليس بذلك الوضوح ، فان ظهور قوله عليه‌السلام : «وما لم تعلم» في ترتب الطهارة على نفس الشك الّذي هو موضوع قاعدة الطهارة مما لا ينكر ، فليس

٢٣٠

المغيا واقعياً ثابتاً للشيء بعنوانه (١) ، لا ظاهرياً ثابتاً له بما هو مشتبه ، لظهوره (٢) في أنه متفرع على الغاية وحدها ، وأنه (٣) بيان لها وحدها منطوقها ومفهومها (٤) ، لا لها مع المغيا كما لا يخفى على المتأمل (*).

______________________________________________________

الذيل مؤيّداً لما استظهره من كون الغاية قيداً للحكم حتى يستفاد منه الاستصحاب وضمير «منها» راجع إلى الموثقة.

(١) الأوّلي ، وضمير «له» راجع إلى الشيء ، و «لا ظاهرياً» معطوف على «واقعياً».

(٢) تعليل لـ «يؤيد» وضميره كضميري «أنه ، وأنه» راجع إلى الذيل.

(٣) معطوف على «أنه» وبيان له ، والضمائر من «لها» إلى «لها» راجعة إلى الغاية.

(٤) المراد بالمنطوق الّذي اشتمل عليه الذيل هو قوله عليه‌السلام : «فإذا علمت فقد قذر» والمراد بالمفهوم هو قوله عليه‌السلام : «وما لم تعلم فليس عليك».

__________________

(*) قد أُورد على كلامه (قده) بوجوه بعضها مشترك الورود على ما أفاده في كل من المتن والحاشية ، وبعضها تختص بما فيها ، فالأولى التعرض لها بعد بيان مختاره في الحاشية أعني استفادة طهارة كل شيء واقعاً وظاهراً من المغيا والاستصحاب من الغاية ، وقد استدل عليه بوجهين :

أحدهما ما لفظه : «أن قوله عليه‌السلام : كل شيء طاهر مع قطع النّظر عن الغاية يدل على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعية كالماء والتراب وغيرهما ، فيكون دليلاً اجتهادياً على طهارة الأشياء ، وبإطلاقه بحسب حالات الشيء التي منها حالة كونه بحيث يشتبه طهارته ونجاسته بالشبهة الحكمية أو الموضوعية تدل على قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته كذلك».

ثانيهما : ما أفاده بقوله : «وان أبيت إلّا عن عدم شمول إطلاقه لمثل هذه الحالة .. إلخ»

٢٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبيانه أنه بناءً على إنكار إطلاق المدخول ـ وهو شيء ـ لمثل حالة الشك في حكمه لأجل أن الشك في حكم الشيء ليس من حالاته المتبادلة كالعدالة والفسق بالنسبة إلى العالِم الموضوع لوجوب الإكرام ، لقيام الشك بنفس المكلف وان كان له إضافة إلى الشيء ، لكونه كالعلم والظن من حالات المكلف ، إلّا أن مجرد هذه الإضافة لا توجب وصفاً للشيء حتى يشمله إطلاقه (يمكن) إثبات الطهارتين بالمغيا بنفس عمومه الأفرادي لِما اشتبهت طهارته بشبهة لازمة لا تنفك عنه كبعض الشبهات الحكمية كالحيوان المتولد من حيوانين نجس وطاهر مع عدم تبعيته لهما في الاسم ، ومن المعلوم أن «كل شيء» عنوان مشير إلى كل واحدة من الطبائع والذوات ، وحيث كان هذا الفرد المشتبه الملازم للشبهة من أفراد «كل شيء» فهو طاهر بالعموم ، وبضميمة عدم الفصل بين هذا المشتبه وسائر المشتبهات التي عرض عليها الشك بعد أن كانت معلومة الحكم يثبت طهارة كل مشتبه بالشبهة الموضوعية والحكمية ، فان الدليل على الملزوم دليل على لازمه ، فنفس العموم يتكفل طهارة كل شيء بما هو هو وبما هو مشكوك الحكم.

لا يقال : ان التمسك بعموم «كل شيء» في الشبهة الموضوعية من التشبث بالدليل في الشبهة المصداقية الممتنع ، فانه بناءً على إفادته الطهارة الواقعية والعلم بتخصيصه بالأعيان النجسة لا يكون الرجوع إليه في مثل الحيوان المردد بين الكلب والغنم لإثبات طهارته ظاهراً إلّا تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية.

فانه يقال : انه كذلك لو كان مدلول المغيا طهارة الأشياء واقعاً فحسب ، وأما بناءً على ما عرفت من طهارتها ظاهراً أيضا بأحد المسلكين المتقدمين يندفع الإشكال ، فان الحيوان المردد شيءٌ اشتبه حكمه ، وقد ثبت طهارته ظاهراً.

وأما إشكال استعمال اللفظ في معنيين المتقدم في إيراد الشيخ الأعظم (قده) على صاحب الفصول فغير متجه على هذا التقريب ، لأن إرادة الطهارة الواقعية تارة والظاهرية أخرى إنما نشأت من اختلاف أفراد الموضوع ، لا من جهة الاختلاف في

٢٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

معنى المحكوم به ، فان الطهارة بمعنى النظافة والنزاهة ، وهي أمر وحداني لا تعدد فيه. هذا ما أفاده المصنف حول استفادة الطهارتين من المغيا (١) ثم تعرض لاستفادة الاستصحاب من الغاية بما عرفته في المتن. وبما أفاده (قده) يسقط بعض ما أورد عليه ، وتبقى أمور لا بد من التعرض لها.

أما التقرير الثاني فأورد عليه المحقق الأصفهاني (قده) بأن «كل شيء» وان تكفّل حكم المشتبه بالشبهة اللازمة له ، إلّا أن إثبات حكم سائر المشتبهات حكماً أو موضوعاً بعدم الفصل غير سديد ، لأن التمسك بعدم الفصل فرع كون الموضوع المشتبه ، فيتعدى من حكم بعض مصاديقه إلى بعضها الآخر ، ولكن المفروض أن شمول «كل شيء» لمثل ماء الكبريت الملازم للشبهة في حكمه الواقعي إنما هو بعنوان الحكاية عن ذاته ، لوضوح إرادة نفس الأعيان الخارجية من «شيء» ومن المعلوم عدم ملازمة تمام الذوات للشبهة ـ خصوصاً الشبهات الموضوعية التي عُلم حكمها الكلي ـ حتى يتعدى من المشتبه اللازم للشبهة إلى غيره ، وعليه فتعميم المغيا للحكم الواقعي والظاهري بدعوى عدم الفصل غير وجيه (٢).

وأما التقرير الأول فأورد عليه أوّلاً بما أفاده بعض الأعيان ، ومحصله : أن موضوع الحكم الواقعي ذات الطبيعة أو الفعل المتعلق بها فهو مرسل ، وموضوع الحكم الظاهري مقيد بالشك ، والجمع بينهما في إنشاء واحد جمع بين المتناقضين ، لاستحالة لحاظ الشيء مقيداً وغير مقيد. وبيانه : أن الإطلاق ان كان جمعاً بين القيود تمّ ما ادعاه المصنف ، لأن معنى الرواية حينئذ : كل شيء بما هو طاهر وبما هو مشكوك طاهر أيضا ، وتعدّد المحمول هنا باعتبار تعدد الموضوع المستفاد من الإطلاق. وإن كان رفضاً للقيود ـ كما هو الحق ـ وعدم تقيد الموضوع بحالة من حالاته ، كان مدلول الرواية خصوص الحكم الواقعي ، إذ مدلولها حينئذ طهارة ذات الشيء في تمام حالاته التي منها حالة كونه مشكوك الحكم ، وهذا هو إطلاق

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٨٥ و ١٨٦

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٤٦

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم الواقعي المتحقق حال الشك ، وحيث كان الحكم الظاهري مترتباً على الموضوع المشكوك حكمه الواقعي لا على ذات الموضوع وان كانت مشكوكة لم يمكن استفادة الحكم الظاهري من الإطلاق ، لوضوح التنافي بين اعتبار الماهية اللابشرط القسمي واعتبارها بشرط شيء ، ولأجل تقابلهما يمتنع لحاظهما في إنشاء واحد ، ولا جامع بين التعينين ، كما لا يعقل الإهمال من الحكيم الملتفت في مقام التشريع ، هذا.

مضافاً إلى : أن إطلاق الشيء على طبيعة واحدة حقيقة بمجرد عروض الحالات المختلفة المتبادلة عليه كي يكون بلحاظ كل منها شيئاً ممنوع عرفاً ، وإلّا لزم أن يكون الشيء الواحد أشياء متعددة ، فالماء والماء المشكوك حكمه ليسا أمرين مختلفين ، فطروء الشك لا يوجب تعدداً في حقيقة الشيء عرفاً ، ولا اختلافاً في الموضوع حتى يحكم على كل بما يناسبه. مثلاً يطلق على «زيد» أنه شيء باعتبار ذاته ، وليس باعتبار كونه ابنَ عمرو وأخا بكر وعمّ خالد أشياء أخرى ، وإنما يتجه الإطلاق الأحوالي بالنسبة إلى الحالات الطارئة عليه كالعلم والجهل والفسق والعدالة ونحوها. وعليه فمنع أصل هذا الإطلاق الأحوالي ليس ببعيد.

وثانياً : بما أورده المحقق الشيخ الحائري (قده) عليه من قوله : «يصير الحكم المجعول بملاحظة الشك لغواً ، لأن هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت إلى المكلف يرتفع شكه من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الأشياء بعناوينها الأولية ، فلا يبقى له الشك حتى يحتاج إلى العمل بالحكم الوارد على الشك» (١).

وهذا الإشكال متجه في الشبهات الحكمية. والمناقشة فيه «بعدم لزوم اللغوية ، لإمكان عدم وصول الحكم الواقعي ، فيكفي جعل الترخيص الظاهري المستفاد من الإطلاق» غير ظاهرة ، إذ المفروض وصول كل منهما بنفس خطاب «كل شيء

__________________

(١) درر الأصول ، ٢ ـ ١٧٠ الطبعة الحديثة

٢٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

طاهر» فكيف يحصل التفكيك في الوصول بين الطهارة الواقعية والظاهرية ، إذ مع علم المكلف بجعل الشارع المفروض دلالته على طهارة كل شيء واقعاً يصير عالماً ، وبدون علمه بجعل الشارع لا يصير عالماً.

ولكنه لا يصح في الشبهات الموضوعية ، إذ المفروض عدم صحة التمسك بالرواية لإثبات الحلية الواقعية والطهارة كذلك ، لفرض ورود المخصص الموجب لتعنون العام بغير عنوان ما خرج ، ولا مانع من التمسك بهما لإثبات حليته وطهارته ظاهراً ، وهذا المقدار كافٍ في الخروج عن اللغوية.

وثالثاً : وهو عمدة الإشكالات بما محصله : تعدد رتبة الحكم الظاهري والواقعي ، وتأخر الأول عن الثاني بمرتبتين ، ومع تأخره لا يمكن إنشاؤهما بإنشاء واحد ، فلا يعقل جعل «طاهر» محمولاً للأشياء الواقعية بعناوينها وبعنوان الشك في حكمها ، لتأخر الحكم الظاهري عن موضوعه ـ وهو الشك ـ المتأخر عن نفس الحكم الواقعي ، ومع عدم جعل الحكم الواقعي لا معنى لتعلق الشك به حتى يتحقق موضوع الحكم الظاهري. ولو أُريد تعميم مفاد المحمول لكل من الطهارتين لزم صيرورة المحمول جزءاً لموضوع نفسه ومحقِّقاً له ، مع وضوح تقدمه عليه بما له من القيود ، فان «طاهر» لو حُمل على طبيعة الماء بعنوانها دل على الحكم الواقعي فقط ، ولا مجال لإرادة الحكم الظاهري منه. ولو حُمل على الماء بعنوان المشكوك حكمه لم يكن محمول آخر ليراد منه الحكم الواقعي. مضافاً إلى لزوم كون المحمول جزء الموضوع ، فلو كان مدلول الرواية هكذا : «الماء طاهر بعنوانه الأولي ـ أي مع الغض عن تعلق العلم والجهل به ـ ومع الشك في طهارته المجعولة بنفس هذا الجعل طاهر أيضا» تمّ ما أراده المصنف (قده) لتعدد الدال والمدلول حينئذ ، ولكن قد عرفت أن المحمول الواحد لا يترتب إلّا على موضوع كذلك.

فان قلت : يمكن أن ينشأ الحكمان في المقام كإنشاء الحكم الترخيصي الظاهري

٢٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للمشكوك ، والحكم التحريمي الواقعي للتصرف في مال الغير من قولهم عليهم‌السلام : «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» فانه متضمن لحكمين أحدهما واقعي وهو الإباحة مع الطيب ، والآخر ظاهري وهو الحرمة حال عدم إحراز رضا المالك ، والأول مدلول الكلام المطابقي ، والثاني مدلوله بالملازمة العرفية ، فان العرف يستفيد من تعليق حكم على أمر وجودي الملازمة بين ضد ذلك الحكم عند الشك في ذلك الأمر الوجوديّ ، ولذا يحكم بانقلاب الأصل في الأموال إلى أصالة الاحتياط. وفي المقام يستفاد حكمان أحدهما واقعي وهو «كل شيء لك حلال» والآخر ظاهري وهو الإباحة الظاهرية المستفادة من تعليق الحرمة على الأمر الوجوديّ ، وعليه فلا مانع من إنشاء حكمين بإنشاءين ، لتعدد الدال عليهما.

قلت : ـ مضافاً إلى أجنبية هذا البيان عما صرح به المصنف من استفادة الطهارتين من المغيا ، وانحصار مدلول الغاية بالاستصحاب خاصة ـ أن الملازمة العرفية المدعاة على تقدير تسليمها تكون فيما إذا كان المعلّق عليه أمراً خارجياً غير العلم والجهل كالغليان وطيب النّفس ، لاستحالة أخذ العلم موضوعاً لحكم متعلقه. مع أن الحكم المعلق على الأمر الوجوديّ في المقام هو الحرمة لا الترخيص.

والحاصل : أن إشكال تعدد الرتبة مانع من استظهار الحكمين من المغيا.

والمناقشة فيه بما أفاده بعض المدققين بمنع البناء وتلميذه المحقق بمنع المبنى لا تخلو من تأمل ، فراجع كلاميهما متدبراً فيهما (١).

وقد تحصل مما تقدم : أن ما استفاده المصنف (قده) من المغيا في الحاشية لا يخلو من غموض ، ولعله لذا عدل إلى ما في المتن من عدم التمسك بإطلاق «الشيء» والتزم بدلالته على الحكم الواقعي خاصة وان كان هذا أيضا محل تأمل كما سيظهر.

وأما استظهار حجية الاستصحاب من الغاية فلا يخلو من تأمل أيضا ، لأن

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٤٦ و ٤٧ ، مصباح الأصول ، ٣ ـ ٧١

٢٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حقيقة الاستصحاب جرّ الحكم الثابت واقعاً تعبداً لا حقيقة ، ومن المعلوم أن هذا الإبقاء والاستمرار معنى اسمي ينظر إليه بالاستقلال ، وتتوقف استفادته من الكلام على إنشائه بالمعنى الاسمي والدلالة عليه كذلك ، بأن يقول : «كل ماء طاهر وتستمر طهارته إلى العلم بالقذارة» أو «كل ماء طاهر طاهر حتى تعلم أنه قذر» مما يدل على لحاظ الإبقاء في عمود الزمان مستقلاً. ولكن المفروض استفادة الاستصحاب من «حتى» ونحوه ، ومن المعلوم أن الغاية من شئون المغيا وتوابعه ، ولا تدل إلّا على خصوصية في غيرها كسائر المعاني الحرفية الدالة على النسب والارتباطات القائمة بالمفاهيم الاسمية.

وحيث كان المعنى الحرفي سنخ وجود لا يتصور له وجود نفسي لا جوهراً ولا عرضاً لكونه ملحوظاً فانياً في الغير ، انحصر مدلول الغاية بتخصص المغيا ـ أعني كل شيء طاهر ـ بخصوصية الامتداد والاستمرار في زمان الجهل ، بمعنى دلالة الكلام المشتمل على الغاية على كون المجعول هو المغيا الخاصّ أي الممتد إلى حصول العلم بالخلاف ، وليس مدلوله إنشاءَ أمرين مستقلين أحدهما جعل أصل الطهارة لكل شيء ، والآخر جعل استمرارها إلى الغاية المحدودة كما أفاده المصنف (قده) كي تتعدد دلالة الحديث على حكمين ، هذا.

مضافاً إلى : أن المجعول بأدلة الاستصحاب كما عرفت هو إبقاء ما ثبت أي التعبد ببقاء الأمر الثابت حكماً كان أو موضوعاً ، وهذا المعنى لا يستفاد من مثل «كل شيء طاهر حتى تعلم» لظهوره في جعل الطهارة المستمرة إلى زمان العلم بالخلاف. مع وضوح الفرق بين جعل الطهارة البقائية وبقاء الطهارة المفروغ عن ثبوتها ، إذ الاستصحاب هو الثاني دون الأول ، وحيث لم يكن أصل الثبوت مفروغاً عنه بل المجعول هو ثبوت الطهارة الممتدة ـ لفرض استظهار الحكم الواقعي من المغيا ـ أشكل الاستدلال بها على الاستصحاب.

بل قد يشكل دلالة الغاية على الاستصحاب بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده)

٢٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من أن الاستصحاب لا يكون إبقاءً لمطلق الطهارة الثابتة في المغيا ، بل خصوص الواقعية كي يتعبد ببقائها ظاهراً. وإرجاع الغاية إلى الجامع بين الطهارتين أي الحكم باستمرار كل منهما ممنوع ، فان الاستصحاب هو الأول لا الثاني ، لكفاية نفس الشك فيه في الحكم بطهارة الشيء ظاهراً. وإرجاع الغاية إلى بعض أفراد الجامع تفكيك في مفاد المغيا الدال على الطهارتين بلا موجب.

وقد تحصل من مجموع ما تقدم : أن الجمع في مفاد روايات الحل والطهارة بين الحكم الواقعي والظاهري والاستصحاب كما اختاره المصنف في الحاشية كالجمع بين الأخيرين وهما قاعدتا الطهارة والاستصحاب كما ذهب إليه صاحب الفصول على أحد الاحتمالين في كلامه كالجمع بين الحكم الواقعي والاستصحاب كما صنعه في المتن غير ظاهر.

وعليه فالحق ما عليه المشهور وجلّ من تأخر عن المصنف من عدم دلالتها إلّا على قاعدتي الحل والطهارة ، وذلك لأن الصدر وان كان ظاهراً في بيان الحكم الواقعي خاصة ، لكون «شيء» مشيراً إلى ذوات الأعيان الخارجية والأحكام المتعلقة بها ، إلّا أن الذيل ـ وهو حتى تعلم ـ قرينة على إرادة الشيء بعنوان كونه مشكوك الحكم بعد وضوح امتناع تقيد الحكم الواقعي بالعلم بالخلاف ، وذلك لانطباق ضابط القرينة على الغاية دون الصدر ، لأن كل ما يتكفل لبيان قيام العرض بالمحل كالفعل والفاعل والمبتدأ والخبر فهو ذو القرينة وهو ركن الكلام ، وكل ما يتكفل لبيان الملابسات ويرجع إلى كيفية قيام العرض بالمحل فهو القرينة ، فإذا قال : «جاء زيد راكباً» كان الفعل والفاعل ذا القرينة والحال قرينة ، لأنه يتعرض لكيفية قيام العرض وهو المجيء بالمعروض ، وكحديث «لا تعاد» بالنسبة إلى أدلة الأجزاء والشرائط ، فانه يتكفل كيفية دخل الجزء والشرط من حيث إطلاق الدخل أو الاختصاص بحال الذّكر إلّا في الخمسة المستثناة.

وهذا الضابط ينطبق على المقام ، لتكفل المغيا لثبوت المحمول لذات الموضوع ،

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولكن الذيل يتكفل لكيفية ثبوت المحمول للموضوع وأنه ليس ثابتاً لذاته ، بل ثبت لها مقيدة بالشك ، فكأنه قال : «مشكوك الحل والحرمة حلال ، ومشكوك الطهارة طاهر» فلا تبقى غاية حتى يستفاد منها الاستصحاب ، لفرض كونها قيداً للموضوع وهذا معنى قول الشيخ (قده) : «بأن الغاية لا مذكورة ولا مقصودة».

ويزيد ما ذكرناه وضوحاً ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من ظهور الغاية في استمرار المغيا حقيقة لا ادعاءً ، وهذا يتوقف على إرادة خصوص القاعدة دون الحكم الواقعي والاستصحاب ، بداهة أن استمرار الشيء حقيقة لا بد أن يكون في مرتبة ثبوت الشيء ، مع أن بقاء الحكم بالاستصحاب بقاء تعبدي ادعائي لا حقيقي ، فلا بد من رفع اليد عن ظهور الغاية في الاستمرار الحقيقي ، وهو بلا موجب بعد إمكان الأخذ بظاهره ، ولا ريب في استمرار الطهارة الظاهرية حقيقة إلى أن يعلم بالخلاف (١).

هذا كله ما يتعلق بالاحتمال الأول والثاني اللذين اختارهما المصنف في المتن والحاشية.

الاحتمال الثالث : ما أفاده صاحب الفصول (قده) لكن استظهر المصنف في الحاشية أنه قائل بما اختاره هو فيها ، لا ما استظهره شيخنا الأعظم من كلامه من إرادة القاعدة والاستصحاب. ولا تخلو دعوى المصنف عن قوة بعد مراجعة كلامه ، قال في الفصول : «الخامس : قد دلت جملة من الأخبار على حجية الاستصحاب في موارد خاصة كقوله عليه‌السلام : كل ماء طاهر ... إلى أن قال : ثم اعلم أن الروايتين الأُوليين تدلان على أصلين ، الأول : أن الحكم الأوّلي للمياه أو الأشياء هو الطهارة ولو بحسب الظاهر عند عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب وان تعلق به جملة من أحكامها. الثاني : أن هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته». وظاهر قوله : «ولو بحسب الظاهر» يوافق ما استظهره المصنف (قده) من دلالة

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٧٣

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الروايات على أمور ثلاثة ، إذ لو كان مقصوده استفادة الطهارة الواقعية خاصة لم يصح التعبير بقوله : «ولو بحسب الظاهر» ولعل حكاية شيخنا الأعظم (قده) كلام الفصول بقوله : «الحكم الأوّلي للأشياء هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة» لأجل أن الشيخ استفاد منه إرادة أصالة الطهارة.

وكيف كان ، فان كان المقصود استظهار الأمور الثلاثة فيرد عليه جميع ما أُورد على مختار المصنف في الحاشية بناءً على استفادة الطهارتين من المغيا بالبيان المتقدم من المصنف. وان كان المقصود ما استفاده الشيخ الأعظم (قده) توجه عليه ما تقدم في المتن من استلزامه استعمال اللفظ في معنيين.

الاحتمال الرابع ، ما أفاده الشيخ (قده) من دلالة رواية حماد خاصة على الاستصحاب دون موثقة عمار. ولعل الفرق بينهما من جهة أن حكم الماء بحسب خلقته الأصلية هي الطهارة ، فتكون نجاسته عرضية بالملاقاة أو بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ، فجعل الشارع طهارته الواقعية ممتدة تعبداً إلى زمان العلم بالقذارة وهو عين الاستصحاب. وهذا بخلاف طهارة كل شيء ، لعدم كون الأصل في خلقته الطهارة كما هو واضح ، فالمجعول هو الطهارة المستمرة من زمان التعبد بها إلى زوال الموضوع بتبدل الشك بالعلم بأحد الطرفين ، وهذا هو الطهارة الظاهرية ، وليس إبقاؤها استصحاباً لها ، لأنه إبقاءٌ للطهارة الواقعية عنواناً. هذا محصل الفارق بين الروايتين.

ونوقش فيه : «بأن مجرد الفراغ عن طهارة الماء لكونه مخلوقاً على الطهارة لا يوجب كون التعبد بالطهارة وإبقائها بعين هذا التعبد تعبداً استصحابياً ، بل التعبد الاستصحابي هو الإبقاء استناداً إلى ثبوته سابقاً ، لا الإبقاء في مورد الثبوت سابقاً ، فالرواية من حيث غايتها وان كانت تفارق قيام البينة من حيث ان مفادها الإبقاء إلى حصول الغاية ، إلّا أنه ليس كل إبقاء استصحاباً ، فتدبره ، فانه حقيق به» (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٤٨.

٢٤٠