منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وصاحب الفصول والشيخ الأعظم (قدس‌سرهم) وأجاب عنه في المتن. ثانيها : ما أفاده المصنف هنا مجملاً وفي حاشية الرسائل ببيان أو في ، وأجاب عنه في المتن أيضا ، وقد تقدم بيانه.

ثالثها : ما أفاده الفقيه الهمداني (قده) من تقدير اليقين بالبقاء في ظرف الشك ، قال : «قد يراد من نقض اليقين بالشك رفع اليد عن آثار اليقين السابق حقيقة في زمان الشك ، وهذا المعنى انما يتحقق في القاعدة ، وأما في الاستصحاب فليس إضافة النقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السابق ، بل هو باعتبار تحققه في زمان الشك بنحو من المسامحة والاعتبار ، إذ لا يرفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب أصلاً ، وإنما يرفع اليد عن حكمه في زمان الشك ، وليس هذا نقضاً لليقين ، كما أن الأخذ بالحالة السابقة ليس عملاً باليقين ، بل هو أخذ بأحد طرفي الاحتمال ، فلا بد في تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشك من اعتبار وجود تقديري له ، بحيث يصدق بهذه الملاحظة أن الأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين ، ورفع اليد عنه نقض له ، ومن المعلوم أن تقدير اليقين مع قيام مقتضية هيِّن عرفاً ... وأما تقدير اليقين في موارد الشك في المقتضي فبعيد جداً ...» (١).

ويرد عليه ما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) من الإشكال الإثباتي ، وذلك لمخالفة إسناد النقض إلى اليقين التقديري لظواهر أخبار الاستصحاب «فان الظاهر من قوله عليه‌السلام : ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين هو اليقين المذكور بقوله عليه‌السلام : وإلّا فانه على يقين من وضوئه ، أو : لأنك كنت على يقين من طهارتك ، لا اليقين المقدر ، فيعلم منه أن النقض باعتبار اليقين المذكور ، لا اليقين المقدر ، ومن الواضح أن اليقين المتعلق بالبقاء في ظرف تعلقه بالحدوث هو اليقين بالحدوث ، لأنه مضاف إلى الحدوث بالذات وإلى البقاء بالعرض» (٢).

رابعها : ما أفاده المحقق النائيني (قده) وهو : أن اليقين المقتضي للجري

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٥١

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٢٤

١٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العملي غير متحقق في الشك في المقتضي ، وذلك لأن مفاد أخبار الباب وجوب إبقاء اليقين السابق عملاً ، وحيث ان اليقين مرآة للمتيقن فالمقصود إبقاء المتيقن بترتيب آثاره في زمان الشك بحيث لو خُلِّي وطبعه لَكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقن ، وهذا يتوقف على اقتضاء المتيقن للدوام في عمود الزمان ليتحقق الجري العملي على طبقه ، فلو لم يكن له ذلك الاستعداد لم يصدق النقض ، وانما هو الانتقاض ، لفرض عدم اقتضائه للجري العملي كي يكون رفع اليد عنه نقضاً لليقين بالشك. ولو لم يحرز قابليته للبقاء فلا أقل من الشك في صدق النقض على رفع اليد عنه ، لدورانه بين النقض والانتقاض ، فلا يندرج في عموم قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» لامتناع التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية. مثلاً يكون رفع اليد عن ترتيب آثار الزوجية على العقد الدائم لمجرد الشك في الطلاق أو الفسخ نقضاً لليقين بالشك ، بخلافه في العقد المنقطع بعد بلوغ الأجل فانه من انتقاض المتيقن وهو الزوجية الموقتة.

وإذا تردد العقد بين الدوام والانقطاع فعدم ترتيب أحكام الزوجية بعد شهرٍ مثلاً ليس نقضاً لليقين بها بالشك ، لاحتمال كونه انتقاضاً ، وهو شبهة موضوعية لدليل حرمة النقض ، هذا (١).

لكن يمكن أن يقال : ان اليقين كما تقدم يمتاز عن الظن والشك بثباته واستحكامه كالحبل والغزل ، والعناية المصحِّحة لإسناد النقض إليه هي حيثية قراره في النّفس ورسوخه فيها ، وأما الجري العملي عليه فهو حكم العقل أو العقلاء بلزوم رعاية الواقع المنجّز به أو بسائر الطرق ، فالإبرام والاستحكام من مقتضيات ذات اليقين ، ولا يكون منشأ عروضهما عليه واتصافه بهما جهة اتصال المتيقن واستمراره أو وجوب الجري العملي عليه حتى يتجه ما أفاده (قده) من لزوم إحراز المقتضي لهذا التحرك العملي ، فمصحِّح الإسناد هو ذات اليقين بما أنه انكشاف تام لا يعتريه شك وريب ، ولا فرق

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٤ ـ ١٣٦

١٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في هذا بين تعلقه بما هو طويل العمر وقصيره.

والحاصل : أن النقض أسند إلى نفس اليقين ، فاللازم هو إبقاء الجري العملي على طبقه ، ومن المعلوم تحققه في كل من الشك في المقتضي والرافع ، فلو دار العقد بين الدوام والانقطاع مدة شهر ، فبعد مضي تلك المدة لا مانع من جريان استصحاب الزوجية المتيقنة والجري العملي على طبق اليقين السابق.

خامسها : ما أفاده المحقق النائيني أيضا من : أن الشك في المقتضي يوجب انهدام اليقين السابق ، إذ يعتبر في الاستصحاب حدوث اليقين أوّلاً وتبدله بالشك ثانياً ، وصدق نقض اليقين بالشك متوقف على أن يكون زمان الشك مما تعلق به اليقين في زمان حدوثه ، وهذا انما يصح إذا كان المتيقن مرسلاً بحسب الزمان حتى لا يكون اليقين بوجوده من أول الأمر محدوداً بوقت خاص ، فإذا لم يعلم استعداد المستصحب للبقاء في مدة معينة كعشرة أيام ، وشككنا في اليوم الثامن في بقائه للجهل بمقدار عمره لم يكن استمراره في هذه المدة معلوماً كي يصير مشكوكاً فيه حتى يبنى على بقائه ، بل وجوده في اليوم الثامن مشكوك فيه من أول الأمر ، فلا يقين بالاستمرار حدوثاً حتى يبنى عليه بقاءً. وعليه يختص «لا تنقض» بما أحرز قابلية المتيقن للدوام وتمحّض الشك في وجود الرافع.

لكنه كسابقه لا يخلو من غموض ، أما أولا : فلأن المعتبر في الاستصحاب أمران أحدهما اليقين بثبوت الحالة السابقة وعدم زواله بسراية الشك إليه ، وإلّا انطبق عليه قاعدة اليقين ، والآخر الشك في البقاء. أما اعتبار إحراز إرسال المتيقن في صحة اسناد النقض فلا دليل عليه ، كما لا تتوقف صحة الإسناد المزبور عليه ، لكفاية نفس إبرام اليقين في ذلك ، وعليه فلو لم يحكم عليه بالاستمرار لصدق عليه النقض بالشك ، وهو ممنوع شرعاً.

وأما ثانياً : فلأن دعوى لزوم أن يكون زمان الشك مما تعلق به اليقين في زمان حدوثه حتى يختص الدليل بالشك في الرافع غير ظاهرة ، ضرورة أن القطع

١٢٣

ثم (١) انه حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك

______________________________________________________

(١) هذا هو الجهة الخامسة من الجهات المتعلقة بصحيحة زرارة ، والغرض من هذا الكلام إثبات عموم الصحيحة لحجية الاستصحاب في كل من الموضوع والحكم ، ببيان : أن اليقين في قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك»

__________________

بالحدوث منحصر بزمان الحدوث ، ولا يشمل زمان وجود الرافع ، لاحتمال طروء المزيل في الآن الثاني ، فيقال : ان وجود المتيقن مع احتمال وجود الرافع غير متيقن من أول الأمر ، كعدم تيقن بقاء العقد بعد شهر لاحتمال كونه موقتاً ، فلا يحرز المقتضي فيه من بدوِ وجوده. ومن المعلوم أنه لا فرق في انتفاء العلم بوجود المتيقن في زمان الشك بين كون علة الشك عدم العلم بوجود المقتضي في زمان الشك وبين كونها الشك في طروء الرافع ، حيث ان زمان الشك في وجود المتيقن لم يتعلق به اليقين حين حدوثه ، بل يكون من قبيل الشك الساري على التقريب المتقدم من الميرزا (قده) ، لصيرورة وجود المتيقن في زمان الشك مشكوكاً فيه من أول الأمر ، وهذا غير الاستصحاب ، مع أن المنكِر لحجية الاستصحاب في الشك في المقتضي لا يقصد إرجاع الشك فيه إلى قاعدة اليقين ، بل مع فرض صدق الشك في البقاء ينكر اعتباره.

هذا كله مضافاً إلى النقض على هذا القول بأمور تسالموا على جريان الاستصحاب فيها مع أنها من الشك في المقتضي ، منها : استصحاب عدم النسخ ، مع أن الشك فيه في سعة الجعل وضيقه ، إذ حقيقته انتهاء أمد الحكم لئلا يلزم البداء المستحيل في حقه تعالى.

ومنها : استصحاب الموضوعات الخارجية ، كحياة زيد وعدالة عمرو ونحوهما ، لعدم كون استعدادها للبقاء منضبطاً حتى يشك في بقائها من جهة الرافع خاصة بل أكثر ما يقع الشك فيه منشؤه عدم إحراز قابليتها للاستمرار ، فليتأمل.

وقد تحصل : صحة ما ذهب إليه الماتن من عموم حجية الاستصحاب في كل من الشك في المقتضي والرافع.

١٢٤

قابلاً للتنزيل بلا تصرف (١) وتأويل ، غاية الأمر تنزيل الموضوع (٢) بجعل مماثل حكمه ، وتنزيل الحكم (٣) بجعل مثله ، كما أشير إليه آنفاً (٤)

______________________________________________________

مطلق يشمل اليقين بكل من الموضوع والحكم ، ولم تقم قرينة على إرادة أحدهما بالخصوص ، فمقتضى إطلاق الدليل هو إرادة كل يقين سواء تعلق بالموضوع أم بالحكم. غاية الأمر : أنه إذا تعلق بالموضوع يكون مقتضى «لا تنقض» جعل حكم مماثل لحكمه ، وإذا تعلق بالحكم تكون قضيته جعل حكم مماثل لنفسه. وهذا التعميم يستفاد من التعليل الوارد في الصحيحة الظاهر في كونه تعليلاً بأمر ارتكازي عقلائي لا بأمر تعبدي.

ومورد الرواية وان كان شبهة موضوعية ، حيث ان الشك في انتقاض الطهارة نشأ من احتمال تحقق النوم بالخفقة أو الخفقتين بعد العلم بأصل الحكم وهو ناقضية النوم لها ، إلّا أنه لا يخصِّص عموم الوارد ، كما قرر في محله ، فالعبرة بعموم الوارد لا بخصوصية المورد كما هو واضح.

فالمتحصل : أن الاستدلال بهذه الصحيحة تام ، ومدلولها عام لاعتبار الاستصحاب في الموضوعات والأحكام.

(١) يعني : بلا تصرف زائد على ما تقدم من حمل النقض على النقض العملي ، لتعذر إرادة النقض الحقيقي من «لا تنقض» على كل تقدير كما عرفت آنفاً.

(٢) كاستصحاب الزوجية إذا شك في ارتفاعها بطلاق ونحوه ، فان مقتضى هذا الاستصحاب جعل حكم مماثل لحكم الزوجية الواقعية كوجوب الإنفاق ظاهراً بالنسبة إلى المرأة المشكوكة زوجيتها ، فوجوب الإنفاق حال العلم بالزوجية حكم واقعي ، وحال إحرازها بالاستصحاب حكم ظاهري مماثل للواقعي.

(٣) كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة الثابت زمن حضوره عليه‌السلام.

(٤) حيث قال : بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبداً إذا كان حكماً ... إلخ.

١٢٥

كان (١) قضية «لا تنقض» ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية. واختصاص (٢) المورد بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها (٣) ، خصوصاً بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية قد أتي بها في غير موردٍ لأجل (٤) الاستدلال بها على حكم المورد ، فتأمل (٥).

______________________________________________________

(١) جواب «حيث كان» وهذا بيان عموم حجية الاستصحاب للشبهات الحكمية الكلية والموضوعية ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) مبتدأ خبره «لا يوجب» أي : واختصاص المورد ـ وهو ناقضية الخفقة والخفقتين للوضوء ـ بالأخيرة وهي الشبهة الموضوعية لا يوجب تخصيص الوارد بالمورد كما عرفته آنفاً.

(٣) أي : تخصيص قضية «لا تنقض» بالشبهة الموضوعية.

(٤) تعليل لقوله : «قد أتي» وضمير «بها» راجع إلى القضية الكلية الارتكازية ، وضمير «أنها» إلى «قضية لا تنقض».

(٥) لعله إشارة إلى : أن كون المورد من الشبهة الموضوعية مبني على جعل الطهارة من الأمور الخارجية التي كشف عنها الشارع. وأما بناء على كونها من المجعولات الشرعية فيكون المورد من الشبهة الحكمية. لكن يبقى حينئذ سؤال عموم الصحيحة للشبهات الموضوعية ، وجوابه هو دلالة «لا تنقض اليقين» على ذلك. هذا ما يتعلق بشرح كلمات المصنف حول أُولى صحاح زرارة (*).

__________________

(*) وبقيت أمور لم يتعرض لها المصنف هنا فينبغي التنبيه عليها تتميماً للاستدلال بهذه الصحيحة على حجية الاستصحاب وعموم حجيته في جميع الأبواب.

منها : ما قيل من ظهور الرواية في خلاف ما تسالموا عليه من حكومة الأصل السببي على المسببي ، وبيانه : أن سؤال زرارة ثانياً بقوله : «فان حُرِّك شيء في جنبه وهو لا يعلم» إما أن يكون سؤالاً عن حكم الشبهة الموضوعية وإما عن الشبهة المفهومية ، وقد تقدم في التوضيح أن الأول هو الّذي استظهره المصنف في

١٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحاشية ، وعليه يشكل بأن الشك في بقاء الوضوء حيث انه ناشٍ من عروض النوم كان المناسب إجراء الاستصحاب في عدم النوم لا في الوضوء الّذي يتسبب الشك في بقائه عن الشك في طروء حدث النوم ، إذ لازمه إما رفع اليد عن حكومة الأصل السببي على المسببي ، وإما عدم دلالة الصحيحة على الاستصحاب ، بل على قاعدة المقتضي والمانع ، حيث انه لا أصل حاكم عليها ، وهو أيضا مما لا يرتضيه المصنف كما سيأتي كلامه قريباً.

وأجيب عن الإشكال تارة : بأن قوله عليه‌السلام «وإلّا فانه على يقين من وضوئه» منطبق على عدم النوم بجعل عدم وجوب الوضوء كناية عن عدم تحقق سببه وهو النوم ، لشدة الملازمة بينهما ولو في خصوص المورد.

وأخرى ، يمنع تسبب وجوب الوضوء عن النوم ، لكون الطهارة والحدث أمرين وجوديين عرضيين لم يتسبب أحدهما عن الآخر حتى يكون بينهما ترتب وطولية ، غايته ملازمة وجود أحدهما لارتفاع الآخر ، لما بينهما من التمانع في الوجود.

وثالثة : بعدم جريان أصالة عدم النوم في نفسها في المقام لكونها مثبتة ، ضرورة اشتراط حكومة الأصل السببي على المسببي بكون الترتب شرعياً واندراج المستصحب ببركة الأصل السببي تحت الكبرى الكلية الشرعية حتى يترتب عليه الحكم المترتب على ذاك العنوان كاستصحاب العدالة لاندراج الموضوع تحت كبرى جواز الطلاق عنده. وفي المقام لم يرد كبرى شرعية بأن الوضوء باقٍ مع عدم النوم كي يحرز جزؤه العدمي بالأصل ، وإنما هو حكم عقلي مستفاد من أدلة ناقضية النوم كقوله عليه‌السلام : «لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك أو النوم» فيحكم العقل بأن الوضوء إذا تحقق وكانت نواقضه محصورة غير متحققة وجداناً إلَّا النوم المنفي بالأصل فهو باقٍ ، وهذا الشك لا يرتفع بأصالة عدم النوم إلّا بالأصل المثبت.

وأنت خبير بما في الجميع ، أما في الأول : فلمنافاته لظهور الرواية في تطبيق

١٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاستصحاب على نفس الوضوء ، ولا موجب لرفع اليد عنه حتى توجب دلالة الاقتضاء إرادة معنى كنائي منه.

وأما في الثاني : فلما أفاده شيخنا المحقق العراقي من منافاته للأدلة الدالة على وجوب الوضوء عند تحقق هذه الأحداث الظاهرة في كونها بنفسها من موجبات الوضوء ، فالتسبب متحقق شرعاً.

وأما في الثالث : فلأن ما أفيد من عدم الترتب الشرعي غير ظاهر جداً ، فان الدليل المتكفل لبيان ناقضية النوم ليس مفاده إلّا تقيد المجعول الشرعي في مرحلة البقاء بعدم ذلك الناقض كتقيد حدوث الشيء بعدم مانعة كلبس ما لا يؤكل في الصلاة ، ولا يعقل إهمال الحاكم لما يزاحم المقتضي حدوثاً أو بقاءً ، بل لا بد من تقييد موضوع حكمه بعدمه ، وهذا معنى الأخذ في لسان الدليل كقوله عليه‌السلام : «من لم يجد طعم النوم لم يجب عليه الوضوء» من موضوعية عدم النوم لعدم وجوب الوضوء ، فالمتوضئ الشاك في تحقق النوم لا يجب عليه الوضوء ، لإحراز جزئه العدمي بالاستصحاب ، ويعود الإشكال وهو جريان الاستصحاب في المسبب دون السبب.

ولعل الصحيح في دفع الإشكال أن يقال : ان حكومة الأصل السببي على المسببي وان كانت مسلمة عند الأكثر فيما إذا كان الترتب شرعياً كالمقام ، إلّا أن ذلك انما يثمر إذا كان الأصلان متخالفين بحسب المفاد ، كما في استصحاب نجاسة الثوب المغسول بماء مستصحب الطهارة. وأما إذا كان مفاد كليهما واحداً لم يترتب ثمرة عملية على تحكيم الأصل السببي على المسببي. هذا مضافاً إلى ورود نظير المقام في موثقة مسعدة بناءً على كون قوله عليه‌السلام : «وذلك مثل الثوب ...» تطبيقاً للصدر على الأمثلة ، إذ فيها ما هو مورد قاعدة اليد والاستصحاب ، ومع ذلك حكم عليه‌السلام بحلية كل شيء لم يعلم أنه حرام التي هي قضية قاعدة الحل. فلعل الوجه في عدوله عليه‌السلام عن إجراء الأصل في السبب إلى إجرائه

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في المسبب هو عدم ثمرة عملية مترتبة على حكومة الأصل السببي على المسببي هنا ، فتأمل جيداً.

ومنها : ما في دلالة المضمرة على عموم حجية الاستصحاب في جميع الموارد من الإشكال ، وقد تعرض له الشيخ الأعظم وأجاب عنه ، قال : «وربما يورد على إرادة العموم من اليقين بأن النفي الوارد على العموم لا يدل على السلب الكلي» ثم أجاب عنه بما توضيحه : أن أداة السلب ان كانت واردة على العموم الثابت ـ أي الملحوظ معنى اسمياً قبل ورود السلب عليه ـ كان حينئذ من سلب العموم ، لا عموم السلب ، حيث ان مدخول أداة السلب وهو العموم مقدم رتبة على أداته ، وان لم يكن كذلك بأن كان العموم متولِّداً من السلب ـ بحيث لو لم يكن سلب لم يكن عمومٌ كما في النكرة والمفرد المحلى باللام الواقعين في حيِّز السلب ، إذ العموم فيهما وليد السلب ومعلوله ومتأخر عنه ، ولا يمكن أن يتقدم على السلب حتى يسلب بنفس النفي المولِّد له كما هو واضح ـ كان حينئذ من عموم السلب ، لأن العموم يتحصل بنفس السلب.

ففي المقام يستفاد عموم السلب من كلمة «لا» الناهية في قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين» إذا اليقين بنفسه لا يفيد العموم ، بل عموم سلبه يستفاد من كلمة «لا» وهذا يسمى بعموم السلب ، فمعنى الجملة المذكورة حينئذ هو : أنه لا تنقض شيئاً من أفراد طبيعة اليقين بالشك.

فتحصل من جميع ما ذكرناه وفاء مضمرة زرارة سنداً ودلالة باعتبار الاستصحاب في جميع الموارد.

(قاعدة المقتضى والمانع)

ومنها : ما أفاده بعض المدققين من إنكار دلالة الصحيحة على الاستصحاب ، بل على قاعدة الاقتضاء والمنع ، لأنه عليه‌السلام جعل غاية عدم إيجاب الوضوء

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاستيقان بالنوم الّذي يكون رافعاً له ، فإذا أحرز المقتضي وهو الوضوء وشك في الرافع وهو النوم بنى على عدمه.

وأجاب المصنف عنه في الحاشية بظهور قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» في وحدة متعلقي اليقين والشك ، فالمعنى : لا تنقض اليقين بشيء بالشك فيه لا بالشك في رافعه. وعدم وجوب الوضوء مع الشك في النوم انما هو لتحقق الشك في الوضوء وارتفاعه ، فنهى الشارع عن نقض اليقين به بمجرد الشك فيه وان كان منشأ الشك في بقائه الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود ، وهذا المعنى كما ترى أجنبي عن قاعدة المقتضي والمانع ، لتعدد متعلق الوصفين فيها حقيقة ، لتعلق اليقين فيها بالمقتضي والشك بالرافع ، ولم يتعلق الشك بالمقتضي أصلاً ، لكونه معلوماً مطلقاً سواء شك في وجود الرافع أم لا ، ومن المعلوم ظهور «لا تنقض اليقين بالشك فيه» في اتحاد المتعلق ومعاندة وصفي اليقين والشك بتعلق الأول بالحدوث والثاني بالبقاء ، فإرادة القاعدة من «لا تنقض» تتوقف على تقديرٍ ، بأن يقال : «لا تنقض اليقين بالمقتضي بسبب الشك في رافعه» ولا ملزم بذلك.

هذا ما أفاده المصنف في الحاشية (١) ووافقه غيره ، وحيث ان هذه القاعدة مما شيّد أركانها بعض المحققين ورتّب عليها كثيراً من الأصول اللفظية والعملية وارتضاها بعض أجلة تلامذته من المعاصرين رأينا من المناسب التعرض لشطرٍ من الكلام حولها ، فنقول وبه نستعين :

انه ينبغي لتوضيح المقصود منها تقديم مقدمة ، وهي :

أن المراد بالمقتضي في هذه القاعدة على ما يستفاد من كلماتهم هو ما يصلح لأن يترشح منه الوجود ويترتب عليه الأثر ، وبتعبير بعض الأعاظم من أساتيذنا (قده) : «المقتضي هو ما يعطي الوجود» فهو قوام أجزاء علّة وجود الشيء فلا يطلق

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٩٠

١٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المقتضي في كلماتهم إلّا على ما يفيض الوجود ، والشرط متمم لفاعلية الفاعل أو لقابلية القابل. وكيف كان فلا يطلق المقتضي عندهم على العدم ، إذ لا يعقل علّية العدم للوجود وتأثيره فيه ، إذ الفاقد لا يعطي.

وربما يراد من المقتضي في هذه القاعدة ما يشتمل على الشرط أيضا ، لأن مقصودهم من جريانها في مواردها ترتيب الأثر على العلم بوجود مقتضية بالبناء على عدم المانع ، فلا بد أن يراد به المقتضي مع شرائطه.

وأما المانع ، فالظاهر أن مرادهم به مطلق ما يمنع المقتضي عن تأثيره في المقتضى سواء أكان مانعاً كالرطوبة المانعة عن تأثير النار في الإحراق ، أم مزاحماً له كوجود الضد المزاحم لتأثير المقتضي لوجود الضد الآخر ، فكل ما يحتمل منعه لتأثير المقتضي في مقتضاه يبنى على عدمه بناءً على حجية قاعدة المقتضي والمانع.

وبعد تمهيد هذه المقدمة نقول : ان البحث يقع في مقامين : الأول فيما يراد من لفظي المقتضي والمانع ، والثاني في دليل هذه القاعدة.

أما المقام الأول ، فمحصله : أن الوجوه المحتملة في معنى المقتضي في هذه القاعدة ثلاثة : أحدها : أن يراد به ما يقتضي وجود الأثر التكويني كاقتضاء النار لإحراق ما يجاوره من الثوب ونحوه ، ومن المانع حينئذ ما يمنعها عن تأثيرها في الإحراق كالرطوبة الغالبة المانعة عن تأثيرها في احتراق مجاورها ، فيكون كل من المقتضي والمانع تكوينياً ، واعتبار القاعدة حينئذ يقتضي البناء على تحقق المقتضى عند العلم بوجود مقتضية مع الشك في وجود المانع.

ثانيها : أن يراد بالمقتضي ما جعله الشارع موضوعاً لحكمه ، ومن المانع ما جعله مانعاً عن ترتب ذلك الحكم عليه ، فيكون كل من المقتضي والمانع شرعياً ، كما إذا جعل الشارع الماء الملاقي للنجاسة موضوعاً للانفعال إلّا إذا كان كرّاً أو ذا مادة ، ومقتضى اعتبار القاعدة حينئذ هو البناء على نجاسة الماء عند الشك في كريته أو كونه ذا مادة كما أفتى غير واحد بنجاسته استناداً إلى هذه القاعدة.

١٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثالثها : أن يراد بالمقتضي ملاكات الأحكام الشرعية ، وبالمانع ما يمنع عن تأثيرها في تشريع الأحكام ، كما إذا فرض ملاكية العلم لتشريع وجوب الإكرام ومانعية الفسق عن تشريعه ، واعتبار القاعدة حينئذ يقتضي البناء على وجوب إكرام العالم عند الشك في فسقه ، هذا.

ثم ان نقض اليقين بالشك في هذه القاعدة يتصور على وجهين : أحدهما : أن المقتضي لاقتضائه لشيء نُزِّل منزلة الأمر المبرم ، فأخذ مقتضاه منه ، وعدم ترتيبه عليه نقض له ، وتصح نسبة النقض في هذا الوجه إلى كل من اليقين والمتيقن.

ثانيهما : أن العلم بالمقتضي وان كان علماً به فقط ، لكنه حيث كان محكوماً عند العقلاء بترتيب مقتضاه عليه عند الشك في مانعة فلا جرم يكون المكلف على يقين وبصيرة من أمره ، فمن هذه الجهة يكون علمه بالمقتضي يقيناً مبرماً يصح اسناد النقض إليه ، وجعل عدم ترتيب مقتضاه عليه نقضاً وحلًّا له ، ومثل هذا اليقين يجتمع مع الشك كما هو مقتضى نقض شيء بشيء ، حيث انه يجب اجتماع الناقض والمنقوض ليكون حلا لإبرامه. وهذا الوجه محكي عن بعض المدققين (١).

وأما المقام الثاني فنخبة الكلام فيه : أنه لا يظن من أحد القول بحجية قاعدة المقتضي والمانع فيما إذا أريد بالمقتضي ملاكات الأحكام الشرعية ، إذ لا سبيل إلى إحرازها إلّا بيان المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، وعلى فرض إحرازها في بعض الموارد فالعلم بشرائطها مفقود ، إذ مجرد العلم بملاك حكم مع عدم إحراز الشرائط ليس مورداً لقاعدة المقتضي والمانع. ولو أريد بالمقتضي إطلاق دليل الحكم أو عمومه في مقام الإثبات لم يكن ذلك من المقتضي بمعناه المصطلح وهو الملاك الداعي إلى التشريع ، فيدور الأمر بين إرادة المقتضي التكويني كالنار المقتضية للإحراق ، وبين موضوع الحكم الشرعي ، الظاهر أنه لا سبيل للالتزام بالمصير إلى المعنى الأول ، لعدم دليل على اعتباره لا نقلاً ولا عقلاً.

__________________

(١) هو الشيخ الطهراني في كتابه محجة العلماء ، ص ٢٢٩

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أما الأول فواضح ، إذ لا مورد لحكم الشارع بترتيب الأثر التكويني على علته التكوينية.

وأما الثاني فلمخدوشية ما ادعي عليه من بناء العقلاء على الأخذ بالمقتضى عند إحراز مقتضية وعدم الاعتداد باحتمال خلافه ، وذلك لعدم ثبوت بنائهم إلّا على بقاء ما شك في بقائه بعد إحراز حدوثه ، وليس ذلك إلّا بعد العلم بترتب الأثر على المقتضي والشك في بقائه ، ومن المعلوم أن هذا هو معنى الاستصحاب دون قاعدة المقتضي والمانع ، وأجنبي عن القاعدة رأساً ، فما قيل من : «أن حكم العقل باعتبارها يظهر من بناء العقلاء عليها وركونهم إليها الكاشف عن تصديق العقل وإدراكه إياها» مما لا يمكن المساعدة عليه ، ضرورة أنه لا يبني العقلاء على موت جماعة ركبوا السفينة في البحر في حال تموج البحر وكثرة أمواجه المقتضية عادة لغرق السفينة بمجرد الشك في وجود مانع من الغرق ، وترتيب آثار موتهم بتقسيم أموالهم وتزويج أزواجهم ، وهل يبنون على موت من ابتلي بمرض السكتة أو اصطدام السيارة المقتضيين للموت مع الشك في وجود مانع عنه؟ ونظائر ذلك كثيرة ، فانه لا إشكال في عدم بناء العقلاء على ترتيب الآثار في أمثال هذه الموارد بمجرد العلم بوجود مقتضياتها والشك في وجود الموانع ، هذا كله في المقتضيات التكوينية.

وأما المقتضيات التشريعية ـ وهي موضوعات الأحكام الشرعية كموضوعية الماء الملاقي للنجاسة لحكم الشارع بانفعاله ومانعية الكر أو الاتصال بالمادة عنه ـ فالظاهر أنه لا دليل على اعتبارها أيضا إلّا ما قد يدعى «من دلالة بعض الروايات عليه ، مثل قولهم عليهم‌السلام : لا تنقض اليقين بالشك ، ولا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله ، وإياك أن تنقض اليقين بالشك ، ومن كان على يقين فشك فليمض على يقينه بتقريب : أنها صريحة في الركون إلى اليقين وعدم الاعتداد بالشك عند الاجتماع والمعارضة ، بل التحذير عن نقض اليقين بالشك يكشف عن أن النقض به مما

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا يرتكبه العاقل ...» إلى آخر ما أفيد (١) فراجع.

لكنك خبير بأن النقض لا يصدق إلّا مع وجود أمرين : أحدهما فعلية اليقين والشك واجتماعهما في الزمان كما مر سابقاً ، والآخر وحدة متعلقهما كاليقين بعدالة زيد يوم الجمعة والشك في بقائها يوم السبت فيجتمع اليقين والشك في يومه ، ولا ينطبق ذلك على قاعدة اليقين ، لارتفاع اليقين رأساً ، وكون الموجود الفعلي هو الشك فقط ، ولا على قاعدة المقتضي والمانع ، لتعدد متعلق اليقين والشك فيها لتعلق اليقين بوجود المقتضي والشك بحدوث مقتضاه ، ولا يصدق نقض اليقين بشيء بالشك في شيء آخر ، إذ لا معنى لنقض اليقين بوضوء زيد بالشك في بلوغ عمرو مثلاً ، فانه في غاية الركاكة ، بل ينطبق على الاستصحاب فقط ، فلم ينهض دليل على قاعدة المقتضي والمانع بشيء من محتملاتها الثلاثة المذكورة. ولو شك في اعتبارها فمقتضى الأصل عدم حجيتها ، فانه المرجع في كل ما شك في حجيته كما قرر في محله.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : أن القاعدة بناءً على اعتبارها تكون أمارة لا أصلاً عملياً ، لأن العلم بوجود المقتضي طريق إلى إحراز أثره ، كإحراز مؤدى الأمارة ، ولازمها حجية مثبتاتها كسائر الأمارات ، وحكومتها أو ورودها على جميع الأصول العملية التي منها استصحاب حال العقل وأصالة البراءة. ودعوى «ابتناء جميع الأصول العملية عليها من الاحتياط والتخيير والبراءة واستصحاب المقتضي المعبّر عنه باستصحاب حكم النص والعموم والإطلاق ، فالأمر في الأخير منها ظاهر. وأما الأولى فمرجعها إلى الأخذ بالعلم باشتغال الذّمّة بالتكليف المقتضي للاحتياط ووجوب الموافقة القطعية كما هو ظاهر» (٢) غير مسموعة ، إذ فيها أوّلاً : أجنبية تلك الأصول عن قاعدة المقتضي والمانع ، لكونها دليلاً اجتهادياً مثبتاً لوجود المقتضى عند القطع بوجود

__________________

(١) القواعد الكلية ج ١ ص ٢٠

(٢) المصدر ، ص ٢٧

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مقتضية ، وليس هذا شأن الأصل العملي الّذي يبين وظيفة الشاك في الحكم الواقعي.

وثانياً : أن القاعدة ان كانت أصلاً عملياً فلا معنى لإجرائها في شئون الألفاظ من العموم والإطلاق ونحوهما. وان كانت من الأصول اللفظية فلا وجه لإجرائها في الأصول العملية.

وثالثاً : أن إطلاق المقتضي في مثل قاعدتي الاشتغال والبراءة غير ما اصطلح عليه القوم ، بل هو اصطلاح جديد ، ولا يساعده دليل ، إذ لا معنى لاستصحاب العموم أو الإطلاق إلّا الأصل اللفظي الحاصل من الوضع أو مقدمات الحكمة.

ومن المعلوم أن شأن اللفظ هو الكشف والحكاية عن معناه ، وهذا غير إيجاد شيء باللفظ ، والمقتضي هو معطي الوجود ، فتدبر.

وكذا أصل البراءة ، فان الأخذ بها ليس لكون العلم بالعدم الأزلي مقتضياً للعذر ، بل الأخذ بها انما هو لأجل عدم مقتضية أعني تنجز التكليف ، فانه يمكن انتقاض العدم الأزلي واقعاً مع عدم علمه به ، فان لازم ما أفيد جريان البراءة في خصوص ما سكت الله تعالى عنه ، لانحصار العلم بالعدم الأزلي بتلك الموارد ، دون ما خفي علينا من الأحكام ولم نظفر بها بعد الفحص ، وهو كما ترى.

وأما أصالة الاحتياط العقلي فهي مستندة إلى حكم العقل بلزوم تحصيل المؤمِّن من المؤاخذة ، وكذا أصالة التخيير ، فانها أيضا مستندة إلى لزوم التأمين من تبعات التكاليف بما أمكن من الموافقة. وتسمية هذه الأمور بالمقتضي غير معهودة كما عرفت.

وبالجملة : فقاعدة المقتضي والمانع بمعناها المتداول عند القوم أجنبية عن الأصول العملية.

الثاني : الظاهر أن مورد القاعدة ـ وهو البناء على وجود المقتضى عند العلم بوجود مقتضية ـ مختص بالشك في الحدوث ، كما إذا لاقت النجاسة ماءً مشكوك الكرية أو قليلاً يحتمل أن يكون ذا مادة ، ولم يعلم حالتهما السابقة ، فان القاعدة بناءً

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على اعتبارها تقتضي انفعاله. وأما إذا شك في بقائه على النجاسة للشك في اتصاله بالكر أو المادة فالحكم ببقاء نجاسته يستند إلى غير القاعدة كالاستصحاب ، لأن الشك في بقاء الموجود لا في أصله ، والقاعدة تتكفل لإثبات الحدوث ، وأما الشك في بقاء الحادث فهو مجرى الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي ، كما إذا شك في اتصاله بأنابيب الماء.

الثالث : أنه لا بأس بالتعرض لبعض الفروع التي فرّعوها على قاعدة المقتضي والمانع وزعموا أنها متفرعة على تلك القاعدة بحيث ينحصر مستندها بها.

منها : ما أشرنا إليه آنفاً من نجاسة الماء المشكوك الكرية أو القليل المشكوك كونه ذا مادة إذا لا في النجاسة ، بتقريب : أن الماء مقتضٍ للانفعال بمجرد ملاقاته للنجاسة ، والكرية أو المادة مانعة عنه ، ومع العلم بالملاقاة وعدم إحراز المانع من الكرية وغيرها يحكم بالنجاسة. هذا ، والمسألة وان كانت فقهية ، إلّا أنه لا بأس بالإشارة إليها حتى تظهر حقيقة الحال ، فنقول وبه نستعين :

ان في المسألة قولين : أحدهما الانفعال ، وهو ما ذهب إليه جمع منهم الشيخ الأعظم (قده). ثانيهما عدم الانفعال وهو ما اختاره جمع أيضا منهم صاحبا الجواهر والعروة قدس‌سرهم.

واستدل للقول الأول بوجوه : أحدها : قاعدة المقتضي والمانع ، بتقريب : أنه يستفاد ـ من مثل قوله عليه‌السلام في الوضوء من الماء الّذي يدخله الدجاجة الواطئة للعذرة «لا ، إلّا أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء» (١) ونحوه غيره ـ كون الملاقاة مقتضية للنجاسة والكرية مانعة عنها ، فمع العلم بالمقتضي والشك في وجود المانع يحكم بوجود المقتضى أعني النجاسة.

ثانيها : استصحاب عدم الكرية هنا لإثبات عدم الكرية لهذا المشكوك بناءً على اعتبار الأصل المثبت.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق الحديث ٦ ، ص ١١٧

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثالثها : التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص.

رابعها : قاعدة تعليق الحكم الترخيصي على أمر وجودي والبناء على ضد ذلك الحكم حتى يثبت الأمر الوجوديّ ، فيبنى على الانفعال حتى يثبت الكرّ الّذي رتّب عليه الحكم التسهيلي وهو عدم الانفعال ، هذا ملخص ما قيل في وجه الحكم بالنجاسة.

ومن هنا تعرف أوّلاً : أن الحكم ليس منحصراً بالانفعال ، وثانياً على فرض الانحصار : أنه لا ينحصر وجهه في قاعدة المقتضي والمانع ، بل المنكِرون لها كالشيخ أيضا يقولون بالانفعال.

واستدل للقول الثاني وهو الطهارة بما قيل من عموم مثل «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ما غير ... إلخ» وان كان ضعيفاً ، لكونه مخصّصاً بغير الكر والمادة ، فيستفاد منه بعد التخصيص أن الماء القليل غير ذي المادة ينفعل ، والكر وذو المادة أو اندراجه في الكر ، فلا وجه للاستدلال له بشيء من الأدلة الاجتهادية ، وتصل النوبة إلى الأصل العملي ، ومقتضاه الطهارة لقاعدتها أو استصحابها.

هذا كله بناءً على تسليم صغروية هذه المسألة لقاعدة المقتضي والمانع. لكنه غير معلوم ، إذ لم يتضح من الأدلة أن ملاقاة النجاسة للماء مقتضية للانفعال والكرية مانعة عنها ، لاحتمال أن تكون القلة شرطاً في انفعاله بالملاقاة ، فلا بد في الحكم بانفعاله حينئذ من إحراز قلته ، كما ربما تستفاد شرطية القلة في الانفعال من قوله عليه‌السلام : «كلّما غلب الماء ريح الجيفة فتوضأ واشرب» وكذا قوله عليه‌السلام : «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء ... إلخ» فانهما يدلان على عدم انفعاله بمجرد الملاقاة ، بل إذا كان قليلاً أو تغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ، فالقلة أو التغير شرط في الانفعال ، لا أن الملاقاة مقتضية للانفعال والكرية مانعة عنه.

فالنتيجة : أن صغروية هذا الفرع للقاعدة غير ثابتة أولا ، وعدم انحصار مستند القائلين بالنجاسة بعد تسليم صغرويته لها في هذه القاعدة ثانياً ، لاحتمال استنادهم

١٣٧

ومنها (١) : صحيحة أخرى لزرارة

______________________________________________________

(الخبر الثاني : صحيحة زرارة في الشك في الطهارة من الخبث)

(١) أي : ومن الأخبار الدالة على حجية الاستصحاب مطلقاً صحيحة زرارة ، وهذه الرواية بناء على إضمارها ـ كما رواها الشيخ في كتابيه (١) ـ معتبرة لعين ما تقدم في المضمرة الأولى ، وبناء على إسنادها إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه

__________________

فيها إلى بعض الوجوه المشار إليها.

وبالجملة : فلا يستفاد من الأدلة اقتضاء الملاقاة مطلقاً للنجاسة ، بل المتيقن اقتضاء ملاقاة خصوص الماء القليل لها. ثم ان لهذه المسألة مباحث شريفة تطلب في علم الفقه المبارك.

ومنها : حكمهم بحلية المرأة المشكوكة حرمة نكاحها للشك في علقة النسب معها ، فان بعضهم بنى هذا الحكم على قاعدة المقتضي والمانع ، بتقريب : اقتضاء المرأة لجواز النكاح وكون الأختية مثلاً مانعة عنه ، هذا.

لكن الظاهر أجنبيته عن هذه القاعدة ، إذ المستفاد من أدلة النكاح اقتضاء بعض العناوين كالأمومة والأختية وغيرهما للحرمة الأبدية ، وبعضها للحرمة المشروطة كالجمع بين الأختين ، وبعضها لحلية النكاح بلا شرط كالأجنبية ، فليس شيء من تلك العناوين المحرّمة للنكاح من قبيل المانع وكون حلّية تزويج المرأة من قبيل المقتضي حتى ينفي حرمة النكاح في المرأة المشكوكة من حيث علقة النسب بقاعدة المقتضي والمانع ، بل يجوز نكاحها بناء على صحة استصحاب العدم الأزلي ، وإلّا فبقاعدة الحل الجارية في الشبهات الموضوعية بناء على عدم انقلابها في الموارد الثلاثة ، والتفصيل في محله من الفقه الشريف.

ومنها : غير ذلك من الفروع الفقهية التي يقف عليها المتتبع.

__________________

(١) التهذيب ، ج ١ ، ص ٣٢١ ، الباب ٢٢ ، الحديث : ٨ ، الاستبصار ، ج ١ ، ص ١٨٣ الحديث ، ١٣

١٣٨

قال : «قلت له (١) : أصاب ثوبي دم رعاف (٢) أو غيره (٣) أو شيء من المني فعلّمت (٤) أثره إلى أن أصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئاً ، وصليت ، ثم اني ذكرت بعد ذلك ، قال : تعيد الصلاة وتغسله.

______________________________________________________

الصلاة والسلام كما في علل الصدوق (١) فالأمر أوضح ، فانه رواها عن أبيه عن علي ابن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة عنه عليه‌السلام ، وهذا السند حسن بإبراهيم بن هاشم على المشهور وصحيح بناءً على المختار من ثبوت وثاقة إبراهيم ، فلا إشكال من ناحية السند. ثم ان صاحب الوسائل لم يذكر هذه الصحيحة جملة بل وزّعها على أبواب متفرقة من أحكام النجاسات ، فلاحظها في باب ٧ و ٣٧ و ٤٢ و ٤٤.

(١) هذه الرواية المباركة اشتملت على جملة من الفروع لا بأس بالإشارة إليها قبل بيان مورد الاستدلال بها على الاستصحاب ، وهذا أولها ، وهو حكم نسيان نجاسة الثوب في الصلاة بعد العلم بها ، وأجاب عليه‌السلام بوجوب غسل الثوب ، وإعادة الصلاة ، وقد تضمن هذا الحكم روايات أخرى أيضا مع التعليل في بعضها بأنه عقوبة لنسيانه ، دون الجاهل.

(٢) قال في مجمع البحرين : «هو بضم الراء : الدم الّذي يخرج من الأنف يقال : رعف الرّجل من بابي قتل ونفع ، والضم لغة إذا خرج الدم من أنفه ، والاسم الرعاف ، ويقال الرعاف الدم نفسه ، قاله في المصباح». وعليه فـ «رعاف» هنا نعت أو عطف بيان لـ «دم» وليس مضافاً إليه.

(٣) معطوف على «رعاف» و «شيء» معطوف على دم.

(٤) بالتشديد بمعنى جعلت له علامة.

__________________

(١) علل الشرائع ، باب ٨٠ ص ٣٦١ طبع النجف الأشرف

١٣٩

قلت (١) : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته ، قال : تغسله وتعيد. قلت (٢) : فان ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئاً ، فصليت فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لِمَ ذلك؟ قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض

______________________________________________________

(١) هذا السؤال إشارة إلى الفرع الثاني وهو حكم العلم الإجمالي بنجاسة الثوب ، بأن علم إجمالاً بأن القذارة أصابت ثوبه وتفحص عنها ولم يظفر بها وصلى ثم رأى تلك النجاسة ، وأجاب عليه‌السلام بلزوم غسل الثوب وإعادة الصلاة ، وأنه لا فرق بين العلم الإجمالي بالنجاسة والتفصيليّ بها. وقد يشكل على هذه الفقرة من الرواية بأن مثل زرارة كيف يتصور في حقه افتتاح الصلاة مع فرض التفاته إلى نجاسة ثوبه. وفرض حصول القطع بعدم نجاسة الثوب بالفحص عنها بعيد ، وأبعد منه عدم منجزية العلم الإجمالي بنظر زرارة. لكن يندفع الإشكال بإمكان حمل فعل المسلم على الصحة هنا ، وأن زرارة افتتح الصلاة بوجه مشروع بأن غفل عن نجاسة ثوبه حين افتتاحها ، فصلى ثم وجدها ، ولا دافع لهذا الاحتمال كي يشكل الأمر.

(٢) هذا إشارة إلى الفرع الثالث وهو حكم رؤية النجاسة بعد الصلاة مع الظن بالإصابة قبلها ، بأن علم بطهارة ثوبه ثم ظن بأنه أصابه دم ونحوه ، وتفحص عنه ولم يظفر به وصلى ثم وجده ، وأجاب عليه‌السلام بوجوب تطهير الثوب للفريضة الآتية وعدم وجوب الإعادة. وتعجب زرارة من حكمه عليه‌السلام بعدم وجوب الإعادة مع اشتراك هذه الفروع الثلاثة في وقوع الصلاة في النجاسة ، ولذا سأل عن لِمِّ الحكم ، فأجابه صلوات الله وسلامه عليه بـ : «لأنك كنت على يقين من طهارتك ، فشككت ، ولا ينبغي نقض اليقين بالطهارة بالشك في النجاسة» وسيأتي لهذا التعليل مزيد بيان عند شرح كلام الماتن إن شاء الله تعالى.

١٤٠