تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك. أجاب الأولون بأن الضمير في قوله (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) عائد إلى الشعائر ، وتسمية ما سيجعل شعيرة مجاز والأصل عدمه. قال في الكشاف : «ثم» للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأحوال ، والمعنى إن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم ، وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع محلها منتهية إلى البيت. ومنهم من فسر الشعائر بالمناسك كلها وفسر الأجل المسمى بأوان انقطاع التكليف ، وزيفه جار الله بأن محلها إلى البيت يأباه ، ثم بين أن القرابين في الشرائع القديمة وإن اختلفت أمكنتها وأوقاتها فقال (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) موضعا أو وقتا يذبح فيه النسائك الذبائح كسر السين سماع وفتحها قياس. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى النسك والمراد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من زمن إبراهيم إلى من قبله وبعده أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على جهة التقرب وجعل الغاية في ذلك هي أن يذكر اسمه على نحرها ، ثم بين العلة في تخصيص اسمه بذلك قائلا (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لأن تفرده بالإلهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح إلا اسمه. ويجوز أن يتعلق هذا الكلام بأول الآية ، والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله. ثم ذكر أن تفرده بالإلهية يقتضي اختصاصه بالطاعة قائلا (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي خصوه بالانقياد الكلي والامتثال لأوامره ونواهيه خالصا لوجهه من غير شائبة إشراك. ثم أمر نبيه عليه‌السلام بتبشير المخبتين وفسرهم بقوله (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) والتركيب يدور على التواضع والخشوع ومنه الخبت للمطمئن من الأرض. وعن عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. قال الكلبي : هم المجتهدون في العبادة. ثم عطف على المخبتين قوله (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) أي من المكاره في ذات الله كالأمراض والمحن ، فأما الذي يصيبهم من قبل الظلمة فقد قال العلماء : إنه لا يجب الصبر عليه ولكن لو أمكن الدفع وجب دفعه ولو بالقتال. ثم خص من أنواع التكاليف التي تشق على النفس وتكرهها نوعين هما أشرف العبادات البدنية والمالية أعني الصلاة والزكاة وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) عطف على (الْمُقِيمِي الصَّلاةِ) من حيث المعنى كأنه قيل : والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. ثم عاد إلى تعظيم شأن الضحايا مرة أخرى وخص منها العظام الجسام بقوله (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها) هي بضم الدال وسكونها جمع بدنة وهي الإبل خاصة لعظم بدنها إلا أن الشارع ألحق البقرة بها حكما. قال أبو حنيفة ومحمد : لو قال : عليّ بدنة يجوز له نحرها في غير مكة. وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بمكة بناء على أن البدنة مختصة بناقة أو بقرة تذبح هناك. واتفقوا فيما إذا نذر هديا أنه يجب ذبحه بمكة ، وفيما إذا أنذر جزورا أنه يذبحه

٨١

حيث شاء. وانتصب قوله و (الْبُدْنَ) بفعل يفسره ما بعده. ومعنى جعلها من شعائر الله أنها من أعلام الشريعة التي شرعها الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال : سمعت ربي يقول (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) أي ثواب في الآخرة كما ذكرنا. وبعضهم لم يفرق بين الآيتين فحمل كلا منهما على خير الدنيا والآخرة ، والأنسب ما فسرناه حذرا من التكرار ما أمكن. ومعنى (صَوافَ) قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، ولعل السر فيه تكثير سوادها للناظرين وتقوية قلوب المحتاجين. (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت على الأرض من وجبت الحائط وجبة سقطت ، ووجبت الشمس وجبة غربت. والمعنى إذا زهق روحها حل لكم الأكل منها وإطعام القانع والمعتر فالقانع السائل والمعتر الذي لا يسأل تعففا. وقيل : بالعكس فهما من الأضداد كأن القانع قنع بالسؤال أو قنع بما قسم له فلا يسأل ، والمعتر رضي بعرّه أي عيبه فلا يسأل أو يسأل. ثم منّ على عباده بأن سخر لهم البدن أن يحتبسوها صافة قوائمها مطعونا في لباتها مثل التسخير الذي شاهدوا وعلموا يأخذ بخطامها صبي فيقودها إلى حيث يشاء ، وليست بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر جرما وأقل قوة لو لا أنه سبحانه سخرها. يروى أن أهل الجاهلية كانوا يلطخون الأوثان وحيطان الكعبة بلحوم القرابين ودمائها فبين الله تعالى ما هو المقصود منها فقال (لَنْ يَنالَ اللهَ) أي لن يصيب رضا الله أصحاب اللحوم والدماء المهراقة بمجرد الذبح والتصدق. (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) بأن يكون القربان حلالا روعي فيها جهات الأجزاء ثم يصرفها فيما آمر. ثم كرر منة التسخير وأن الغاية تكبير الله على الهداية لأعلام دينه ومناسك حجه ، وصورة التكبير وما يتعلق بها قد سبق في «البقرة» في آية الصيام. قالت المعتزلة : لما لم ينتفع المكلف بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون التقوى فعلا له وإلا كان بمنزلة الأجسام. وأيضا إنه قد شرط التقوى في قبول العمل وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يقبل عمله. والجواب أنه لا يلزم من عدم انتفاعه ببعض ما ليس من أفعاله أن لا ينتفع بكل ما ليس من أفعاله. وأيضا إن صاحب الكبائر اتقى الشرك فيصدق عليه أنه متق (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) إلى أنفسهم بتوفير الثواب عليها. والإحسان بالحقيقة أن تعبد الله كأنك تراه ، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص في القرابين وغيرها. وحين فرغ من تعداد بعض مناسك الحج ومنافعها وكان الكلام قد انجر إلى ذكر الكفار وصدهم عن المسجد الحرام أتبعه بيان ما يزيل ذلك الصد ويمكن من الحج وزيارة البيت فقال (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) ومن قرأ (يُدافِعُ) فمعناه يبالغ في الدفع (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فعل المغالب والمدفوع هو بأس المشركين وما كانوا يخونون الله ورسوله فيه يدل عليه تعليله

٨٢

بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته قال مقاتل : أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا؟ وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقون من المشركين أذى شديدا وكانوا يلقونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فنزل (أُذِنَ) وفاعله الله سبحانه أم لم يسم والمأذون فيه القتال بدليل قوله (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) إن فتح التاء فظاهر لأن المشركين كانوا يقاتلون المؤمنين وإنهم يؤمرون بالصبر ، وإن كسرت فمعناه أذن للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل نزل حرصهم على القتال منزلة نفس القتال (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب كونهم مظلومين وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. وفي قوله (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) ثم في قوله (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) عدة كاملة بإعلاء هذا الدين وإظهار ذويه على أهل الأديان كلهم كما تقول لغيرك إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا تريد مجرد إثبات القدرة بل تريد أنك ستفعل ذلك. ثم وصف ذلك الظلم بأن وصف الموعودين بالنصر بقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ومحل (أَنْ يَقُولُوا) جر على الإبدال من (حَقٍ) أي بغير موجب سوى التوحيد الذي يوجب الإقرار والتمكين لا الإخراج والإزعاج نظيره (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) [المائدة : ٥٩] (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) قد مر في أواخر البقرة. وللمفسرين فيه عبارات قال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين. وعن ابن عباس : يدفع بالمحسن عن المسيء وعن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ثم تلا هذه الآية» وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وأهله عن أهل الذمة. وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص. أما الصوامع والبيع والصلوات فعن الحسن أنها كلها أسماء المساجد ، فقد يتخذ المسلم لنفسه صومعة لأجل العبادة. قال الجوهري : الأصمع الصغير الأذن ويقال أتانا بثريدة مصمعه ، إذا دققت وحدد رأسها. وصومعة النصارى «فوعلة» من هذا لأنها دقيقة الرأس ، وقد تطلق البيعة على المسجد للتشبيه وكذا الصلوات. وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنها يصلى فيها ، ويحتمل أن يراد مكان الصلوات أو يراد الصلاة الشرعية نفسها. وصح إيقاع الهدم عليها نظرا إلى قرائنها كقوله : متقلدا سيفا ورمحا. وإن كان الرمح لا يتقلد. هذا كله توجيه تفسير الحسن. والأكثرون على أنها متعبدات مختلفة ، فعن أبي العالية أن الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين. وفي تخصيصها بقوله (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) تشريف لها

٨٣

وتفضيل على غيرها لأن الظاهر عود الضمير إليها فقط. وعن قتادة أن الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود. قال الزجاج : وهي بالعبرانية صلوتا. وقيل : الصوامع والبيع كلتاهما للنصارى ولكن الأولى في الصحراء والأخرى في البلد ، وإنما أخر متعبد أهل الإسلام لتأخر زمانهم ولا ضير فإن أول الفكر آخر العمل. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن الآخرون السابقون» (١) وتفسير الآية على قول الأكثرين لو لا دفع الله لهدم في شرع كل نبي المكان المعهود لهم في العبادة ، فهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المساجد. وعلى هذا الوجه إنما رفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ ، ويحتمل أن يراد لو لا ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان في زمن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسلمين وأهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا المتعبدات بأسرها. وعلى هذا الوجه إنما دفع عن سائر أهل الأديان لأن متعبداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام. ثم عزم على نفسه نصرة من ينصر دينه وأولياؤه وأكد ذلك بقوله (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ومعنى القوة والعزة أنه لا يمتنع شيء من نفاذ أمره فيه مع أنه لا يتأثر عن شيء أصلا. ونصرة الله العبد تقويته على أعدائه ووضع الدلائل على ما يفيده في الدارين ونفث روح القدس بأمره داعية الخير والصلاح في روعه. ثم أتبع قوله الذين أخرجوا قوله. (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) وقيل : هو بدل من قوله (مَنْ يَنْصُرُهُ) وهو إخبار منه عزوجل عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إذا مكنهم في الأرض وبسط لهم الدنيا. وعن عثمان : هذا والله ثناء قبل بلاء ، أراد أن الله تعالى قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا في شأن الدين وإعلائه ما أحدثوا. قيل : إنه مخصوص من المهاجرين بالخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم. وعن الحسن أنهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى هذا فتمكينهم هو إبقاؤهم إلى أوان التكليف ، وقد يشمل الأطفال أيضا إذا ماتوا قبل البلوغ لقوله الله أعلم بما كانوا عاملين. ثم ختم الآية بقوله (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي مرجعها ومصيرها إلى حكمه وتقديره وقد أراد تمكين أهل هذا الدين في كل حين فيقع لا محالة.

التأويل : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) القلب سواء فيه من سبق إليه مدة طويلة والذي يصل إليه في الحال لأفضل إلا بسبق مقامات القلب ومنازله (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) الروح مكان بيت القلب (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) عن غيري وهو كل ما فيه حظ النفس دون

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ٦٨. مسلم في كتاب الجمعة حديث ١٩ ، ٢١. النسائي في كتاب الجمعة باب ١. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٨.

٨٤

الواردات المطيفة والأخلاق الثابتة والأحوال المتوالية كالرغبة والرهبة والقبض والبسط والأنس والهيبة (رِجالاً) هي النفس وصفاتها (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) هي البدن وجوارحه فإن الأعمال الشرعية قد ركبت الجوارح المرتاضة ، فأعمال البدن مركبة من حركات الجوارح ونيات الضمير كما أن أعمال النفس بسيطة. لأنها نيات الضمير فقط (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) هو مصالح الدنيا لأن مصالحها بعيدة عن مصالح الآخرة (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) فمنافع النفس وصفاتها بتبديل الأخلاق ، ومنافع القلب والجوارح بظهور أثر الطاعة عليها (وَيَذْكُرُوا) أي القلب والنفس والقالب شكرا (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ) تبديل الصفات البهيمية بالصفات الروحانية فانتفعوا بها وأفيضوا منها على الطالبين فهو خير لأن العبد يصل بالطاعة إلى الجنة ويصل بحرمة الطاعة إلى الله ، وترك الخدمة يوجب العقوبة وترك الحرمة يوجب الفرقة. (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ) استعمال الصفات البهيمية بقدر الضرورة (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في قولنا (وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] وفي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (فَاجْتَنِبُوا) مقتضيات الهوى وكونوا صادقين في الطلب لا مزورين مائلين إلى الحق غير طالبين معه غيره ، وخر من سماء القلب فاستلبه طير الشياطين أو تهوي به ريح الهوى والخذلان إلى أسفل سافلين البعد والحرمان. لكم في شواهد آثار صنع الإرشاد منافع وهي لذة العبور على المقامات ولذة البسط ولذة الأنس إلى أجل مسمى وهو حد الكمال ، ثم انتهاء السلوك إلى حضرة القديم. ولكل سالك جعلنا مقصدا وطريقا ، منهم من يطلب الله من طريق المعاملات ، ومنهم من يطلبه من طريق المجاهدات ، ومنهم من يطلبه بطريق المعارف ، ومنهم من يطلبه به. (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي أخلصوا والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات ، ثم الأخلاق من الكدورات ، ثم الأحوال من الالتفات ، ثم الأنفاس من الأغيار (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) عنى المستقيمين على هذه الطريقة. (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من غير تمني ترحة ولا روم فرحة (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) الحافظين مع الله أسرارهم لا يطلبون إطلاع الخلق على أحوالهم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يبذلون الموجود في طلب المقصود والوجود بشهود المعبود (وَالْبُدْنَ) يعني بدن الأبدان الجسام جعلنا قربانها عند كعبة القلب بذبحها عن شهواتها من شعائر أهل الصدق في الطلب ، فإذا ماتت عن طبيعتها فانتفعوا بها أنتم وغيركم من الطالبين والقانعين بما أفضتم عليه ، والمعترين المتعطشين الذين لا يروون ريا من ماء حياة المعرفة

شربت الحب كأسا بعد كأس

فما نفد الشراب وما رويت

(كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) فيه أن ذبح النفس بسكين الرياضة لا يتيسر إلا بتسخير خالقها

٨٥

وتيسير موجدها يؤكده قوله (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) خيانة النفس وهواها (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) فيه أن قتال النفس يجب أن يكون بإذن من الله تعالى وهو أن يكون على وفق الشرع وفي أوان التكليف وعلى حسب ظلم النفس على القلب وإخراجها إياه من ديار الطمأنينة (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) النفوس بالقلوب لضيعت صوامع أركان الشريعة ، وبيع آداب الطريقة ، وصلوات مقامات الحقيقة ، ومساجد القلوب التي (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) لاتساعها بإشراق نور الله عليها (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) البشرية (أَقامُوا) صلاة المواصلة وأتوا زكاة الأحوال وهي إيثار ربع عشر الأوقات على مصالح الخلق ، وأمروا بحفظ الحواس عن مخالفات الأمر وبمراعاة الأنفاس مع الله ، ونهوا عن مناكير الرياء والإعجاب وإلى الله عاقبة الأمور.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ

٨٦

خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤))

القراآت : نكيري بإثبات الياء حيث كان في الحالين : يعقوب. وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. أهلكتها على التوحيد : أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون (أَهْلَكْناها) وبير بالياء : أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وربيعة وابن فليح وحمزة في الوقف. يعدون على الغيبة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف معجزين بالتشديد : حيث كان : ابن كثير وأبو عمرو. ثم قتلوا بالتشديد ابن عامر (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) بياء الغيبة وكذلك في سورة لقمان : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص.

الوقوف : (وَثَمُودُ) ه و (لُوطٍ) ه (مَدْيَنَ) ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى (أَخَذْتُهُمْ) ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب (نَكِيرِ) ه (مَشِيدٍ) ه (يَسْمَعُونَ بِها) ه للابتداء بأن مع الفاء (الصُّدُورِ) ه (وَعْدَهُ) ط (تَعُدُّونَ) ه (أَخَذْتُها) ط (الْمَصِيرُ) ه (مُبِينٌ) ه ج للابتداء مع الفاء (كَرِيمٌ) ه (الْجَحِيمِ) ه (أُمْنِيَّتِهِ) ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى (آياتِهِ) ط (حَكِيمٌ) ه لا لتعلق اللام (قُلُوبِهِمْ) ط (بَعِيدٍ) ه لا (قُلُوبُهُمْ) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (عَقِيمٍ) ه (لِلَّهِ) ط (بَيْنَهُمْ) ط (النَّعِيمِ) ه (مُهِينٌ) ه (حَسَناً) ط (الرَّازِقِينَ) ه (يَرْضَوْنَهُ) ط (حَلِيمٌ) ه (ذلِكَ) ج (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) ط (غَفُورٌ) ه (بَصِيرٌ) ه (الْكَبِيرُ) ه (ماءً) ز لنوع عدول مع العطف (مُخْضَرَّةً) ط (خَبِيرٌ) ه (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (الْحَمِيدُ) ه.

التفسير : إنه سبحانه بعد ضمان النصر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدفع عن أمته ذكر ما فيه تسليته وهو أنه ليس بأوحدي في التكذيب له والقصص معلومة مما سلف. قال جار الله : إنما لم يقل «وقوم موسى» لأن موسى كذبه غير بني إسرائيل وهم القبط ، أو المراد وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ والنكير بمعنى الإنكار عبر به عن الهلاك

٨٧

المعجل لأنه يستلزمه أو لأن الهلاك رادع لغيرهم فكأنه أنكر به عليهم حتى ارتدعوا ، أو هو بمعنى التغيير لأنه أبدلهم بالنعمة محنة وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا. قوله (وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ) الأولى في محل النصب على أنها حال ، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على (أَهْلَكْناها) وهذه ليس لها محل. قال أبو مسلم : أراد هي كانت ظالمة فهي الآن خاوية على عروشها وقد مر تفسيرها في البقرة في قوله (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ) [الآية : ١٥٩] قوله (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على (قَرْيَةٍ) أي وكم بئر عطلناها عن سقائها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء ، وكم قصر مشيد مجصص أو مرتفع أخليناه عن ساكنيه؟ فحذف هذه الجملة لدلالة معطلة عليها. وقد يغلب على الظن من هاتين القرينتين أن «على» في قوله (عَلى عُرُوشِها) بمعنى «مع» كأنه قيل : هي خاوية أي ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها قاله في الكشاف. وأقول : إذا كانت القرى المهلكة غير البئر والقصر فهذا الظن مرجوح أو مساو لا غالب. يروى أنها بئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب وهي بحضرموت ، سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات وسميت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم. يحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري قال : هذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف قيل : إنه بحضرموت؟ قلت : لا غرو أن يتفق الموت بأرض والدفن بأرض أخرى. ثم أنكر على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلا (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) حثهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا. ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا فلهذا جاء الإنكار كقوله (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨] والمراد بالسماع سماع تدبر وانتفاع وإلا كان كلا سماع كما أن المراد بالإبصار إبصار الاعتبار ولهذا قال (فَإِنَّها) أي إن القصة (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) أي أبصارهم (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وفي هذا التصور زيادة التمكين والتقرير لغرابة نسبة العمى إلى القلب ، وجوز في الكشاف أن يكون الضمير في (فَإِنَّها) ضميرا مبهما يفسره الأبصار وفاعل (تَعْمَى) ضمير عائد إلى الضمير الأول المبهم. والمعنى على الوجهين أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم ، أو لا تعتدوا بعمى الأبصار وإن فرض لأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. وزعم بعضهم أن في الآية إبطالا لقول من جعل محل الكفر الدماغ وليس بقوي فقد يتشاركان في ذلك ، أو يكون سلطانه في القلب والدماغ كالآلة.

٨٨

ثم حكي من عظيم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزؤن باستعجال العذاب العاجل والآجل كأنهم جوزوا الفوت فلهذا قال (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أو لعلهم طلبوا عذاب الآخرة فذكر أن استعجاله في الدنيا كالخلف لأن موعده الآخرة (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) قال أبو مسلم : أراد أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة لأن يوما واحدا من أيام عذاب الله في الشدة كألف سنة من سنينكم لأن أيام الشدائد مستطالة ، أو كألف سنة من سني العذاب إذا عدها العاد وذلك لشدة العذاب أيضا. وقيل : أراد أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضا إمهال ألف سنة. وقد يدور في الخلد أن هذا إشارة إلى لا تناهي طرف الأبد المستتبع لازدياد امتداد الآحاد الاعتبارية لأجل سهولة الضبط ، والغرض أن من كانت أيامه في الطول إلى هذا الحد لا يفيد الاستعجال بالنسبة إليه شيئا فالأولى بل الواجب تفويض الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها من غير تقدم ولا تأخر ثم كرر قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وليس بتكرار في الحقيقة لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ولهذا عطف بالفاء بدلا عتن ذلك ، والثاني سيق لبيان الإملاء مناسبا لقوله (لَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) فكأنه قيل : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع للكل إلى حكمي. ثم أمر رسوله بأن يتلو عليهم جملة حاله في الرسالة وهي أنه نذير مبين وجملة حالهم في باب التكليف مآلا ، وإنما اقتصر على النذارة لأنها تتضمن البشارة فإن كلام الحكيم لا يخلو عن ترغيب وإن كان مبنيا على الترهيب بدليل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهو نداء للكفرة في قول ابن عباس. قال في الكشاف : هم الذين قيل فيهم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) ووصفوا بالاستعجال ، وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا. قالت الأشاعرة : المغفرة إما للصغائر أو للكبائر بعد التوبة أو قبلها. والأولان واجبان عند الخصم وأداء الواجب لا يسمى غفرانا فبقي الثالث ويلزم منه عفو صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، أما الرزق فلا شك أنه الثواب ، وأما الكريم فإما أن يكون أمرا سلبيا وهو أن يكون الإنسان معه بحيث يستغنى عن المكاسب وتحمل المتاعب والذل والدناءة وما ينجر إلى المآثم والمظالم ، وإما أن يكون ثبوتيا وهو أن يكون رزقا كثيرا دائما خالصا عن شوائب الضرر مقرونا بالتعظيم والإجلال (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي بذلوا جهدهم في تكذيبها وإرادة إبطالها كمن يسعى سعيا أي يمشي مشيا سريعا. قال أهل اللغة : عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه. والمراد معاجزين الله ورسوله أي مقدرين ذلك ظنا منهم أن كيدهم للإسلام يتم لهم ، وأن طعنهم في القرآن وتثبيطهم الناس عن التصديق يبلغ بهم غرضهم.

٨٩

ثم بين أن له أسوة بالأنبياء السالفة والرسل السابقة في كل ما يأتي ويذر فقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) خصص أولا ثم عمم ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا ، فقد لا يكون معه كتاب بل يؤمر بأن يدعو إلى شريعة من قبله ، وقد لا ينزل عليه الملك ظاهرا وإنما يرى الوحي في المنام أو يخبره بذلك رسول في عصره ، ولا بد للكل من المعجزة. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل : فكم الرسل منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا. قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم. وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ١] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال : ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاف خوفا شديدا فأنزل الله تعالى هذه الآية. واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول. أما القرآن فكقوله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦] وقوله (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] وقوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ) [الإسراء : ٧٤] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة ، وقد صنف فيه كتابا وقال الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضا إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وأيضا إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجدا قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضا منع الشيطان من أصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وأيضا لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع ، ولناقض قوله (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة : ٦٧] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان : الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) [الآية :

٩٠

٧٨] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان : أحدهما أنه ما يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله «تلك الغرانيق العلى». وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها. وكيف وقعت؟ ذهبت جماعة إلى أنه لما قرأ سورة والنجم اشتبه على الكفار فتوهموا بعض ألفاظه ذلك ، وزيف بأن هذا التوهم من الجم الغفير بعيد. وقيل : إن شيطان الجن ألقاها في البين فظنها الحاضرون من قول الرسول. وضعف بأن هذا يفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل ما يتكلم به النبي.

قلت : الإنصاف أنه غير ضعيف ولا يفضي إلى ارتفاع الوثوق لقوله سبحانه (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وقيل : إن المتكلم به شيطان الإنس وهم الكفرة كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلقون فيها في أثناء وقفاته. وقيل : إن المتكلم به الرسول قاله سهوا كما روي عن قتادة ومقاتل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، ولا ريب أنه يكون بإلقاء الشيطان. وضعف باستلزامه زوال الأمان عن الشرع وقد عرفت جوابه ، وبأن مثل هذا الكلام المطابق لفواصل السورة يستبعد وقوعها في النعاس. وزعم قوم أن الشيطان أجبره على ذلك ورد بنحو قوله تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل : ٩٩] وذهب جماعة إلى أنه قال ذلك اختيارا. ثم إنها باطلة أم لا فيه وجهان : أما الأول ففيه طريقان : أحدهما قول ابن عباس في رواية أن «شيطانا» يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقاها إليه فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل واستعرضه فقرأها ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة أنكر عليه جبريل فقال : إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني. وثانيهما أنه لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من تلقاء نفسه ثم رجع عنها. والطريقان منحرفان عند المحققين ، لأن الأول يقتضي أن النبي لا يفرق بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني أنه يؤدي إلى كونه خائنا في الوحي. وأما الوجه الثاني فتصحيحه أنه أراد بالغرانيق الملائكة ، وقد كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته. أو هو في تقدير الاستفهام بمعنى الإنكار ، أو المراد بالإثبات هاهنا النفي كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] قال الجوهري : الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق ، وإذا وصف به الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون ، وغرنوق وغرانق بالضم وهو الشاب السيد والجمع غرانق بالفتح والغرانيق. القول الثاني أن التمني هو تمني القلب ومعنى الآية ما من نبي إلا وهو بحيث إذا تمنى أمرا من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ما هو

٩١

الحق. وما تلك الوسوسة؟ قيل : هي أن يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالخير وقد مر فساده. وقال مجاهد : إنه كان يتمنى إنزال الوحي بسرعة دون تأخير فعرفه الله تعالى أن ذلك خاطر غير رحماني ، وإنما المصلحة هي إنزال الوحي على وفق الحوادث. وقيل : كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد ، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات. وقيل : معناه إذا أراد فعلا يتقرب به إلى الله حال الشيطان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون ، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي. والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم. وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان. ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكا بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم ، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالا منهم. وقال صاحب الكشاف : المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أن لا ينزل ما ينفر أمته ولا يوافق هواهم ، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك. فقلت «تلك الغرانيق» إلخ. وسبب التمكين إرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية.

وأما قوله (فَيَنْسَخُ اللهُ) فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) فالمراد بالآيات هي آيات القرآن أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها ، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة. ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية. وقوله (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أراد المنافقين والمشركين المذكورين إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم والشقاق

٩٢

البعيد والمعاداة الكاملة. وأعلم أنه سبحانه ذكر لتمكين الشيطان من الإلقاء في الأمنية أثرين : أحدهما في حق غير أهل الإيمان وهم أهل النفاق والشرك وذلك قوله (لِيَجْعَلَ) الآية. وثانيهما في حق المؤمنين العارفين بالله وصفاته وهو قوله (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُ) قال مقاتل : يعني القرآن. وعن الكلبي : أي النسخ. قال جار الله : أي تمكين الشيطان من الإلقاء قلت : أما عند الأشاعرة فلأن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وأما عند المعتزلة فلأن أفعاله جارية على وفق الحكمة والتدبير. (فَتُخْبِتَ) تخضع وتطمئن (لَهُ قُلُوبُهُمْ) بناء على أصلي الفريقين. والصراط المستقيم هاهنا فسروه بالتأويلات الصحيحة والبيانات المطابقة للأصول. قلت : وتفسيره بمعنى أعم من ذلك غير ضائر. ثم بين أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن يكون في شك من القرآن والرسول واليوم العقيم. قيل : يوم بدر لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، أو لأنه لا خير فيه للكفار من قولهم «ريح عقيم» إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا ، أو لأن يوم الحرب يقال له «العقيم» من حيث أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو من حيث إن المقاتلين يقال لهم «أبناء الحرب» فإذا قتلوا بقي الحرب بلا أبناء. وعن الضحاك أنه يوم القيامة لأنهم لا يرون فيه خيرا ، أو لأن كل ذات حمل تضع فيه حملها ، أو لأنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على عدم الولادة. ولا تكرار على هذا القول لأن المراد بالساعة مقدماته ، أو المراد حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذابها ، فوضع يوم عقيم مقام الضمير. واستحسن بعض الأئمة قول الضحاك ورجحه لأن الأول يلزم منه أن الكفار ينتهي شكهم في يوم بدر وليس كذلك فإنهم في مرية بعد يوم بدر أيضا. ويمكن أن يقال : «أو» للعطف على أول الآية فيكون المراد بالذين كفروا في الأول الجنس ، وفي الثاني العهد. سلمنا أنه للعطف على (تَأْتِيَهُمُ) إلا أن اللام في (الَّذِينَ كَفَرُوا) للجنس فيقع على الذين ما انتهى شكهم إلى يوم القيامة ويحتمل أن يراد بالساعة وقت موت كل واحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.

ثم بين أنه لا مالك يوم تأتي الساعة إلا الله وأنه يحكم بين الناس فيميز بين أهل الجنة وأهل النار. ثم أفرد المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد التشريف. يروى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا نبي الله ، هؤلاء الذين قتلوا قد عملنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله عزوجل (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) قال بعض المفسرين هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم : هم الذين خرجوا من الأوطان في سرية أو عسكر. ولا يبعد حمل

٩٣

الآية على الفريقين. والرزق الحسن نعيم الجنة. وعن الكلبي : هو الغنيمة لأنها حلال. وقال الأصم : العلم والفهم كقول شعيب (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) [هود : ٨٨] وضعف الوجهان بأنهما ممتنعان بعد القتل أو الموت. قال العلماء : وإنما تظهر هذه الفضيلة للمهاجرين في مزيد الدرجات وإلا فلا بد من شرط اجتناب الكبائر كما في حق غيرهم. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأن رزق غيره ينتهي إليه وغيره لا يقدر على مثل رزقه ، ولأن رزقه لا يختلط بالمن والأذى ولا بغرض من الأغراض الفاسدة ، ولأنه يرزق ويعطي ما به يتم الانتفاع بالرزق من القوى والحواس وغير ذلك من الشرائط الوجودية والعدمية. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن غير الله يقدر على الفعل وهو الرزق. ويمكن أن يجاب بأنه مجاز أو على سبيل الفرض والتقدير. وليس في الآية دليل ظاهر على أن المهاجر المقتول والمهاجر الميت على فراشه هل يستويان في الأجر أم لا بل المعلوم منها هو الجمع بينهما في الوعد. وقد يستدل على التسوية بما روي عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «المقتول في سبيل الله والمتوفي في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان» فإن لفظ الشركة مشعر بالتسوية.

وحين بين رزقهم شرع في ذكر مسكنهم. قيل : في المدخل الذي يرضونه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، لها سبعون ألف مصراع. وقال أبو القاسم القشيري : هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم. وقال ابن عباس : يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم (حَلِيمٌ) عن تفريط المفرط منهم فيمهله حتى يتوب فيدخل الجنة. ثم بين أنه مع إكرامه لهم في الآخرة لا يدع نصرهم في الدنيا قبل أن يقتلوا أو يموتوا فقال (ذلِكَ) قال الزجاج : أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا. عن مقاتل : أن قوما من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت لهم المسلمون فنصروا ، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام فنزل (وَمَنْ عاقَبَ) أي قاتل (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي كما ابتدئ بقتاله سمى الابتداء باسم الجزاء للطباق وللملابسة من حيث إن ذلك سبب وهذا مسبب عنه (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي ثم كان المجازي مبغيا عليه أي مظلوما. ومعنى «ثم» تفاوت الرتبة لأن كونه مبدوأ بالقتال معه نوع ظلم كما قيل «البادي أظلم» وهو موجب لنصرته ظاهرا إلا أن كونه في نفس

٩٤

الأمر مظلوما هو السبب الأصلي في النصرة. وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات. واستدل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص فقال : من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. وفي ختم الآية بذكر العفو والمغفرة وجوه منها : أن المندوب للمجني عليه هو أن يعفو عن الجاني كقوله (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] وكأنه قال : أنا ضامن لنصرته إن ترك الانتقام وطلب إكثار ما هو أولى به فإني عفوّ غفور. ومنها أنه ضمن النصر على الباغي ولوح بذكر هاتين الصفتين بما هو أولى بالمجني عليه وهو العفو والصفح. ومنها أنه دل بذكرهما على أنه قادر على العقوبة لأن العفو عند المقدرة. ثم بين أن ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ، وذلك أن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ، أو أراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في مكان الآخر وقد مر في أوائل آل عمران. وفيه أن خالق الليل والنهار ومصرف الأدوار والأكوار لا يخفى عليه شيء من الزمانيات خيرا أو شرا إنصافا أو بغيا وأكد هذا المعنى بقوله (أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع أقوال الخلائق ويبصر أفعالهم.

ثم بين أن كمال القدرة والعلم هو يقتضي وجوب الوجود فقال (ذلِكَ) أي الوصف بخلق الملوين وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أن الحقية منحصرة في ذاته وأن وجود غيره ولا سيما الأوثان موسوم بالبطلان فلا نقص كالإمكان. ويعلم مما ذكر أنه لا شيء أعلى منه شانا وأكبر سلطانا. وإنما قال هاهنا (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) بزيادة هو وفي «لقمان» (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) [الآية : ٣٠] لأن هذا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) بخلاف ما في «لقمان» وأيضا يمكن أن يقال : تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف «لقمان» فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا. ثم ذكر أنواعا أخر من دلائل قدرته ونعمته فقال (أَلَمْ تَرَ) قيل : هي رؤية البصر لأن نزول الماء من جهة السماء أو اخضرار النبات من المبصرات. وقيل : بمعنى العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم لم يعتد بها. وفي قوله (فَتُصْبِحُ) دون أن يقول فأصبحت مناسبا لـ (أَنْزَلَ) إشارة إلى بقاء أثر المطر زمانا طويلا وإن كان ابتداء الإصباح عقيب النزول نظيره قول القائل : «أنعم فلان عليّ عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له». ولو قال : «فرحت وغدوت» لم يقع ذلك الموقع. وإنما لم ينصب (فَتُصْبِحُ) جوابا للاستفهام لإيهام عكس ما هو المقصود لأنه يوهم نفي الاخضرار كما لو قلت لصاحبك : ألم تراني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته أوهمت أنك ناف لشكره شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره بطريق الاستمرار ولا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى

٩٥

دليل الإعادة كما في أول السورة وهذا قول أبي مسلم. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) قال الكلبي : لطيف في أفعاله خبير بأعمال خلقه ، وقال مقاتل : لطيف باستخراج النبت خبير بكيفية خلقه. وقال ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقد مر مثل هذه في أواسط «الأنعام». ثم بين أن كل ما في السموات والأرض ملكه وملكه لا يمتنع شيء منها من تصرفاته ، وهو غني عن كل ذلك وإنما خلقها لحاجة المكلفين إليها ومن جملتها المطر والنبات خلقها رحمة للحيوانات وإنعاما عليها. وإذا كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه كان مستحقا للحمد بل هو حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون.

التأويل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) قالب (أَهْلَكْناها) بضيق الصدر وسوء الخلق واستيلاء الغفلة. (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) هي القلب الفارغ عن أعمال القوى الروحانية في طلب المعارف والحقائق (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) وهو الرأس الخالي عن نتائج الفكر الصافي والحواس السليمة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) في أرض البشرية عابرين على منازل السالكين إلى أن يصلوا إلى مقام القلب (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) الرحمن بذاته (أَوْ آذانٌ) قلوب (يَسْمَعُونَ بِها) أقواله أو أبصار بصائر يبصرون بها أفعاله. وإذا صح وصف القلب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر وجوه الإدراكات ، فقد يدرك نسيم الإقبال بمشام السر كقوله «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» (١) وكقول يعقوب (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) [يوسف : ٩٤] (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ليس خلفه في وعيد المؤمنين بخلف في الحقيقة لأنه تصديق قوله «سبقت رحمتي غضبي» (٢) (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) قيل : لأنه موجد الزمان وليس عنده صباح ولا مساء فوجود الزمان وعدمه وكثرته وقلته سواء عنده والاستعجال وضده إنما يتصور في المتزمنات قلت : ففيه أن الكل بإرادته وإن ما أراد الله فأسبابه متهيئة يحصل في يوم بإرادته ما لا يحصل في ألف سنة بحسب فرضنا وتقديرنا ومن هنا قيل : جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين (أَمْلَيْتُ لَها) فيه أنه تعالى يمهل ولكنه لا يهمل (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي ستر فمنهم من يستر زلته ، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة ، ومنهم من يستر عليه حاله لئلا يصيبه من الشهوة فتنة كما قيل :

لا تنكرن جحدي هواك فإنما

ذاك الجحود عليك ستر مسبل

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٤١).

(٢) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢ ، ٢٨. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

٩٦

ومنهم من يستره بين أوليائه في باب العزة كما قال «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» ومنهم من يستر أنانيته بهويته فيقول أنا الحق وسبحاني. والرزق الكريم هو الخالي عن شوائب الحدوث لأنه من القديم الكريم (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) فيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل الولي لا يليق به التمني بل ما على الرسول إلا البلاغ ولا على الولي إلا الرضا والتسليم ، فلو بقي في أحدهم أدنى ملاحظة لغير الله كالحرص على إيمان القوم فوق ما أمر به ابتلاه الله ببلاء مجال الشيطان في أمنيته بقول أو بعمل ، فتدركه العناية الأزلية ويزيل الخاطر الشيطاني ويثبته على الخاطر الرحماني ، ولا يكون لدخان الفتنة تأثير في نور يقينه كما لا تأثير للضباب في شعاع الشمس بخلاف من في قلبه ظلم الشبهات فإن ذلك الدخان يزيدها كدورة ورينا حتى تأتيهم ساعة سلب الاستعداد بالكلية ، (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) هو الأبد لأنه لا ليل له وهو عذاب قطيعة لا وصلة بعدها (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة (ثُمَّ قُتِلُوا) بسيف الصدق والرياضة حتى تزكوا أنفسهم (أَوْ ماتُوا) عن أوصاف البشرية (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) فرزق القلوب حلاوة العرفان. ورزق الأسرار مشاهدات الجمال ، ورزق الأرواح مكاشفات الجلال. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه يرزق من أوصاف ربوبيته كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) (وَمَنْ عاقَبَ) بالمجاهدة نفسه (بِمِثْلِ) ما عاقبت النفس بالمخالفة قلبه (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي غلبت النفس على القلب باستيلاء صفاتها (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) باستئصال النفس وتمحيق صفاتها (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) لما سلف (غَفُورٌ) لما بقي في نفوس الطالبين من الأنانية. (يُولِجُ) ليل السر في نهار التجلي وبالعكس ، أو يولج ليل القبض في نهار البسط ، أو ليل الهيبة في نهار الأنس (أَنْزَلَ مِنَ) سماء القلب ماء الحكمة (فَتُصْبِحُ) أرض البشرية (مُخْضَرَّةً) بالشريعة وأرض القلوب والأرواح والأسرار بالعلوم والكشوف والأنوار والله أعلم بالصواب.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب ٩. مسلم في كتاب الصيام حديث ٥٧ ، ٥٨. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨) (٦ / ١٢٦).

٩٧

السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

القراآت : ما لم ينزل من الإنزال ابن كثير وأبو عمرو وسهل. والآخرون بالتشديد يصطون بالصاد مثل (بَصْطَةً) [الآية : ٢٤٧] في البقرة الذين يدعون بياء الغيبة : سهل ويعقوب.

الوقوف : (بِأَمْرِهِ) ط (بِإِذْنِهِ) ط (رَحِيمٌ) ه (أَحْياكُمْ) ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار (يُحْيِيكُمْ) ه ط (لَكَفُورٌ) ه (إِلى رَبِّكَ) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (تَخْتَلِفُونَ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (فِي كِتابٍ) ط (يَسِيرٌ) ه (عِلْمٌ) ط (نَصِيرٍ) ه (الْمُنْكَرَ) ط (آياتُنا) ط (ذلِكُمُ) ط (النَّارُ) ط (كَفَرُوا) ط (الْمَصِيرُ) ه (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ط (اجْتَمَعُوا لَهُ) ط (مِنْهُ) ط (وَالْمَطْلُوبُ) ه (قَدْرِهِ) ط (وَمِنَ النَّاسِ) ط (بَصِيرٌ) ه (خَلْفَهُمْ) ط (الْأُمُورُ) ه (تُفْلِحُونَ) ه ج للآية مع العطف (جِهادِهِ) ط (حَرَجٍ) ط (إِبْراهِيمَ) ط (النَّاسِ) ج للعطف مع الفاء (بِاللهِ) ط (مَوْلاكُمْ) ط (النَّصِيرُ) ه.

التفسير : إن من جملة نعم الله تعالى على عباده تسخير الأرضيات وتذليلها لهم ، فلا أصلب من الحديد والحجر ، ولا أشد نكاية من النار وقد سخرها للإنسان وسخر لهم الأنعام أيضا ينتفعون بها بالأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى

٩٨

الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] وسخر لهم الدواب ، وغيرها وسخر لهم الفلك حال كونها جارية بأمره وهو تهيئة الأسباب المعاونة ودفع الأشياء المضادة لسهولة جريها. ولا ريب أن الانتفاع بالأرضيات لا يتأتى إلا بعد الأمن من وقوع السماء على الأرض ، فمنّ الله تعالى على المكلفين بأن حفظها كيلا تقع أو كراهة أن تقع على الأرض وذلك بمحض الاقتدار عند أهل الظاهر ، أو بأن جعل طبعها هو الإحاطة بما في ضمنها إذ لا خفة فيها ولا ثقل ولهذا خصت بالحركة على المركز. وفي قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إشارة إلى أن الأفلاك ستنخرق وتنشق فتقع على الأرض ، ويحتمل أن يقال : توقيف الوقوع على الإذن لا يوجب حصول الإذن ، فالانخراق والانشقاق لا يستفاد من هذه الآية. ثم ذكر الإنسان مبدأه ومعاده فقال (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) نظيره قوله في أول البقرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [الآية : ٢٨] وقد سبق هنالك. وفي قوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) زجر لهم عن الكفران بطريق التوبيخ. وعن ابن عباس أنه الكافر. وبعضهم جعله أخص فقال : هو أبو جهل وأضرابه ، والأولى إرادة الجنس ، ثم عاد إلى بيان أن أمر التكاليف مستقر على ما في هذه الشريعة فقال (لِكُلِّ أُمَّةٍ) الآية. قال في الكشاف : إنما فقد العاطف هاهنا بخلاف نظرائها في السورة لأن تلك مناسبة لما تقدمها وهذه مباينة لها. قلت : وذلك لأن من هاهنا إلى آخر السورة عودا بعد ذكر المعاد إلى الوسط الذي هو حالة التكليف ، والأقرب أن المنسك في هذه الآية هو الشريعة كقوله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] وهو قول ابن عباس في رواية عطاء. وقيل : أراد مكانا معينا وزمانا لأداء الطاعات. وقال مجاهد : هو الذبائح ولا وجه للتخصيص هاهنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق. أما الضمير في قوله (فَلا يُنازِعُنَّكَ) فلا بد من رجوعه إلى الأمم الباقية آثارهم في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول «لا يضاربنك فلان» أي لا تضار به. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنا. وقال في الكشاف : هو نهي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك ، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمنازعة في أمر الدين وكانوا يقولون في الميتة «ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله». ومنه يعلم استقرار أمر الديانة على هذه الشريعة وأن على كل أمة من الأمم التي بقيت منها بقية أن يتبعوه ويتركوا مخالفته فلذلك قال : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي لا تخص بالدعوة أمة دون أمة فإن كلهم أمتك (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي على دين وسط ودليل ظاهر. وإن أبوا إلا الجدال فكل أمرهم إلى الله قائلا (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) وفيه وعيد وإنذار مخلوط برفق ولكن (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي يفصل بين المؤمنين والكافرين منكم ، ويحتمل أن يكون من تتمة المقول وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه للأمم. (أَلَمْ تَعْلَمْ) خطاب لكل

٩٩

عالم أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد تقوية قلبه وإلا فالرسالة لا تكون إلا بعد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات وإلا اشتبه عليه الصادق بالكاذب. (إِنَّ ذلِكَ) الذي ذكر وهو كل ما في السماء والأرض (فِي كِتابٍ) قال أبو مسلم : أراد به الحفظ والضبط كالشيء المكتوب ، والجمهور على أنه حقيقة وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه. ولعل في تلك الكتابة لطفا للملائكة لأن مطابقة تلك الأشياء المكتوبة لما سيحدث إلى الأبد من أدل دليل على كونه عالم الذات ولذلك قال (إِنَّ ذلِكَ) الكتب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وهذا تصوير لضده وهو صعوبة مثل ذلك على غيره وإلا فلا مدخل لليسر والصعوبة في كمال قدرته.

وحين بين كمال ألوهيته قطع شأن أهل الشرك بقوله (وَيَعْبُدُونَ) الآية والمراد أنهم لم يتمسكوا في صحة عبادته بدليل سمعي ولا علم ضروري وقوله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) الظلم الشرك ، والنصرة إما بالشفاعة أو بالحجة ولا حجة إلا للحق وهو كقوله في آخر آل عمران (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [الآية : ١٩٢] وقد مر. والمنكر دلائل الغيظ والحنق. وقال جار الله : هو الفظيع من التجهم والبسور أو هو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقال الكلبي : أراد أنهم كرهوا القرآن مع وضوح دلائله. وقال ابن عباس : هو التجبر والترفع. وقال مقاتل : أنكروا أن يكون من الله تعالى. السطو الوثب والبطش أي يهمون بالبطش والوثوب لعظم إنكار ما تلي عليهم. وقوله (مِنْ ذلِكُمُ) إشارة إلى غيظهم على التالين أو إلى همهم. ثم إنه كأن سائلا قائلا ما ذلك الشر فقيل (النَّارُ) أي هو النار. قلت : وذلك أن حرارة الغيظ والسطو تشبه حرارة النار ولكن هذه أقوى ولا سيما نار جهنم. ثم استأنف للنار حكما فقال (وَعَدَهَا) الآية. ويحتمل أن تكون (النَّارُ) مبتدأ و (وَعَدَهَا) خبرا. ثم ضرب للأصنام مثلا فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) إنما قال بلفظ الماضي لأنه معلوم من قبل لكل ذي عقل. والمثل بمعنى المثل استعاروه لجملة من الكلام مستغربة مستفصحة متلقاة بالرضا والقبول أهل للتسيير والإرسال وذلك أنهم جعلوا مضربها مثلا لموردها ، ثم استعاروا هذا المستعار للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لتماثلها في الغرابة وهذا هو الذي قصد في الآية : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي تدبروه وحق له ذلك فإن السماع المجرد لا نفع له. قال جار الله : محل (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) نصب على الحال كأنه قال مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا فكيف لو انفردوا؟ وأقول : الظاهر أن «لو» هذه للمبالغة وجوابه محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره ، ولو اجتمعوا لخلق الذباب لن يخلقوه أيضا ، وليس من شرط كل جملة أن يكون لها محل. ثم زاد لعجزهم وضعفهم تأكيدا بقوله (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ) الآية. بمعنى أترك أمر الحلق والإيجاد وتكلم فيما هو أسهل من

١٠٠