تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) وفيه إشارة إلى الصلاة لأن الخشوع من لوازمها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ١ ، ٢] فلذلك أردفها بالصدقة. ثم بالصيام المانع من شهوة البطن فضم إلى ذلك الحفظ من شهوة الفرج التي هي ممنوع منها في الصوم مطلقا وفي غير الصوم مما وراء الأزواج والسراري. ثم ختم الأوصاف بقوله (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) يعني أنهم في جميع الأحوال يذكرون الله يكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصومهم وحفظهم فروجهم لله. وإنما وصف الذكر بالكثرة في أكثر المواضع فقال في أوائل السورة (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) وقال في الآية (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) ويجيء بعد ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) لأن الإكثار من الأفعال البدنية متعسر يمنع الاشتغال ببعضها من الاشتغال بغيرها بحسب الأغلب ، ولكن لا مانع من أن يذكر الله وهو آكل أو شارب أو ماش أو نائم أو مشغول ببعض الصنائع والحرف ، على أن جميع الأعمال صحتها أو كمالها بذكر الله تعالى وهي النية. قال علماء العربية : في الآية عطفان : أحدهما عطف الإناث على الذكور ، والآخر عطف مجموع الذكور والإناث على مجموع ما قبله. والأول يدل على اشتراك الصنفين في الوصف المذكور وهو الإسلام في الأول والإيمان في الثاني إلى آخر الأوصاف ، والثاني من باب عطف الصفة على الصفة فيؤل معناه إلى أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم.

وحين انجر الكلام من قصة زيد إلى هاهنا عاد إلى حديثه. قال الراوي : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت حجش وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) الآية. فقالا : رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه المهر ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. وقيل : نزلت في أن كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أول من هاجر من النساء وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قد قبلت ، وزوّجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوّجها عبده. وقال أهل النظم : إنه تعالى لما أمر نبيه أن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يريد ضرر الغير فعليه أن يترك حق نفسه لحظ غيره ، فذكر في هذه الآية أنه لا ينبغي أن يظن ظانّ أن هوى نفسه متبع ، وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في حق زوجات النبي ، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله ، فأمر الله هو المتبع وقضاء الرسول هو الحق ، ومن خالف الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ، لأن المقصود هو الله والهادي هو النبي ، فمن ترك المقصد

٤٦١

وخالف الدليل ضل ضلالا لا يرعوي بعده. ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصر زينب ذات يوم بعد ما أنكحها زيدا فوقعت في نفسه فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يردها أولا ، لعله أي لم يلده إلخ تأمل ولو أرادها لاختطبها. وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لأجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي. فقال : ما لك أرى بك شيء منها؟ قال : لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتكبر عليّ لشرفها. فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ثم طلقها بعد. فلما اعتدت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك اخطب عليّ زينب. قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرها فوليتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري إن رسول الله يخطبك. ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار ولنرجع إلى ما يتعلق بتفسير الألفاظ. قوله (لِلَّذِي) يعني زيدا (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالإيمان الذي هو أجل النعم وبتوفيق الأسباب حتى تبناه رسوله (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي بالإعتاق وبأنواع التربية والاختصاص. وقوله (وَاتَّقِ اللهَ) أي في تطليقها فلا تفارقها. نهي تنزيه لا تحريم ، أو أراد اتق فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وإيذاء الزوج. والذي أخفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه هو تعلق قلبه بها أو مودّة مفارقة زيد إياها أو علمه بأن زيدا سيطلقها. وعن عائشة لو كتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية ، وذلك أن فيه نوع تخالف الظاهر والباطن في الظاهر وليس كذلك في الحقيقة ، لأن ميل النفس ليس يتعلق باختيار الآدمي فلا يلام عليه ، ولا هو مأمور بإبدائه. والذي أبداه كان مقتضى النصح والإشفاق والخشية والحياء من قالة الناس إن قلب النبي مال إلى زوجة دعيه فبهذا القدر عوتب بقوله (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فلعل الأولى بالنبيّ أن يسكت عن إمساكه حذرا من عقاب الله على ترك الأولى كما سكت عن تطليقه حياء من الناس. قال جار الله : الواوات في قوله (وَتُخْفِي وَتَخْشَى وَاللهُ) للحال. ويجوز أن تكون للعطف كأنه قيل : وإذ تجمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) حتى لا تفعل مثل ذلك.

قوله (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها) حاجته ولم يبق له فيها رغبة وطلقها وانقضت عدتها (زَوَّجْناكَها) نفيا للحرج عن المؤمنين في مثل هذه القضية فإن الشرع كما يستفاد من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفاد من فعله أيضا ، بل الثاني يؤكد الأول. ألا ترى أنه لما ذكر ما فهم منه حلّ

٤٦٢

الضب ثم لم يأكل بقي في النفوس شيء ، وحيث أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه لا يؤكل في بعض الملل وكذلك الأرنب. وقوله (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) يفهم منه نفي الحرج عند قضاء الوطر بالطريق الأولى. عن الخليل : قضاء الوطر بلوغ كل حاجة يكون فيها همة وأراد بها في الآية الشهوة. وقيل : التطليق. فلا إضمار على هذا (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) مكونا لا محالة. ومن جملة أوامره ما جرى من قصة زينب ، ثم نزه جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قالة الناس بقوله (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ) أي قسم وأوجب (لَهُ) و (سُنَّةَ اللهِ) مصدر مؤكد لما قبله أي سن الله نفي الحرج سنة في الأنبياء الذين خلوا فكان من تحته أزواج كثيرة كداود وسليمان وسيجيء قصتهما في سورة ص. ومعنى (قَدَراً مَقْدُوراً) قضاء مقضيا هكذا قاله المفسرون ولعل قوله (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) إشارة إلى القضاء ، وهذا الأخير إشارة إلى القدر وقد عرفت الفرق بينهما مرارا. وفي قوله (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) تعريض بما صرح به في قوله (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) والحسيب الكافي للمخاوف أو المحاسب على الصغائر والكبائر فيجب أن لا يخشى إلا هو. ثم أكد مضمون الآي المتقدمة وهو أن زيدا لم يكن ابنا له فقال (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ) فكان لقائل أن يقول : أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم فلذلك قيل (مِنْ رِجالِكُمْ) فخرجوا بهذا القدر من جهتين : إحداهما أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال ، وبهذا الوجه يخرج الحسن والحسين أيضا من النفي لأنهما لم يكونا بالغين حينئذ. والأخرى أنه أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم وكذا الحسن والحسين ، أو أراد الأب الأقرب. ومعنى الاستدراك في قوله (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو إثبات الأبوة من هذه الجهة لأن النبي كالأب لأمته من حيث الشفقة والنصيحة ورعاية حقوق التعظيم معه ، وأكد هذا المعنى بقوله (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) لأن النبي إذا علم أن بعده نبيا آخر فقد ترك بعض البيان والإرشاد إليه بخلاف ما لو علم أن ختم النبوة عليه (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومن جملة معلوماته أنه لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجيء عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان لا ينافي ذلك لأنه ممن نبىء قبله وهو يجيء على شريعة نبينا مصليا إلى قبلته وكأنه بعض أمته.

التأويل : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ) أي كان في الأول مقدرا لكم متابعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتعلقت قدرتنا بإخراج أرواحكم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح الرسول من العدم إلى الوجود «أول ما خلق الله نوري أو روحي» وبحسب القرب إلى روح الرسول والبعد عنه يكون حال الأسوة ، وكل ما يجري على الإنسان من بداية عمره إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأخلاق والأحوال. فمن كان يرجو الله كان عمله خالصا لوجه

٤٦٣

الله تعالى ، ومن كان يرجو اليوم الآخر يكون عمله للفوز بنعيم الحنان. وكل هذه المقامات مشروط بالذكر وهو كلمة «لا اله الا الله محمد رسول الله» نفيا وإثباتا ، وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله. (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) المجتمعين على إضلالهم وإهلاكهم من النفس وصفاتها ، والدنيا وزينتها ، والشيطان واتباعه (قالُوا) متوكلين على الله (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) أن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) يتصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أن لا يعبدوا غيره في الدنيا والعقبى. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) فوصل إلى مقصده (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الوصول وهو في السير وهذا حال المتوسطين (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بريح القهر أذهبت على النفوس فأبطلت شهواتها ، وعلى الشيطان فردت كيده ، وعلى الدنيا فأزالت زينتها. (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي أعانوا النفس والشيطان والهوى على القلوب من أهل الكتاب طالبي الرخص لأرباب الطلب المنكرين أحوال أهل القلوب (مِنْ صَياصِيهِمْ) هي حصون تكبرهم وتجبرهم ، وأنزل وقعهم من حصون اعتقاد أرباب الطلب كيلا يقتدوا بهم ولا يغتروا بأقوالهم ، وقذف بنور قلوبهم في قلوب النفوس والشياطين الرعب (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم النفس وصفاتها والشيطان وأتباعه (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم الدنيا وجاهها (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) لتنفقوا في سبيل الله وتجعلوها بذر مزرعة الآخرة (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) يشير إلى مقامات وكمالات لم يبلغوها فيبلغوها باستعمال الدنيا فإن ذلك بعد الوصول لا يضر لأنه يتصرف بالحق للحق. (قُلْ لِأَزْواجِكَ) فيه إشارة إلى أن حب الدنيا يمنعهن من صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنهن محال النطفة الإنسانية في عالم الصورة ، فكيف لا يضر حب الدنيا لأهل القلوب الذين قلوبهم أرحام النطفة الروحانية الربانية ، والأجر العظيم هو لقاء الله العظيم فمن أحب غير الله وإن كان الجنة نقص من الأجر بقدر ذلك إلا محبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن محبة الجنة بالحظ دون الحق فيها ما تشتهي الأنفس ، ومحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق لا الحظ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] ومضاعفة العذاب سقوطهن عن قرب الله وعن الجنة كما أن إيتاء الأجر مرتين عبارة عن هذين ، وكان من دعاء السري السقطي : اللهم إن كنت تعذبني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب. والرزق الكريم رزق المشاهدات الربانية (يا نِساءَ النَّبِيِ) هم الذين أسلموا أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية الشيخ ليست أحوالهم كأحوال غيرهم من الخلق (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) بالله من غيره (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) لشيء من الدارين فإن كثيرا من الصادقين خضعوا بالقول لأرباب الدنيا الذين في قلوبهم مرض حب المال والجاه فاستجروهم ووقعوا في ورطة الهلاك والحجاب. فالقول المعروف وهو المتوسط الذي لا

٤٦٤

يكون فيه الميل الكلي إلى أهل الدنيا أصوب وإلى الحق أقرب. (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) من عالم الملكوت (وَلا تَبَرَّجْنَ) في عالم الحواس راغبين في زينة الدنيا كعادة الجهلة (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) التي هي معراج المؤمن يرفع يده من الدنيا ويكبر عليها ويقبل على الله بالإعراض عما سواه ، ويرجع من مقام تكبر الإنسان إلى خضوع ركوع الحيوان ، ومنه إلى خشوع سجود النبات ، ثم إلى قعود الجماد فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في البداية الروحانية ، ثم يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة ، ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها وعن شماله على الدنيا وما فيها. وإيتاء الزكاة بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي. الرجس لوث الحدوث ، والبيت لأهل الوحدة بيت القلب يتلى فيه آيات الواردات والكشوف. إن الذين استسلموا للأحكام الأزلية وآمنوا بوجود المعارف الحقيقية ، وقتنوا أي أغرقوا الوجود في الطاعة والعبودية ، وصدقوا في عهدهم وصبروا على الخصال الحميدة وعن الأوصاف الذميمة ، وخشعوا أي أطرقت سريرتهم عند بواده الحقيقة ، وتصدقوا بأموالهم وأعراضهم حتى لم يبق لهم مع أحد خصومة ، وصاموا بالإمساك عن الشهوات وعن رؤية الدرجات ، وحفظوا فروجهم في الظاهر عن الحرام وفي الباطن عن زوائد الحلال ، وذكروا الله بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية. (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) إذا صدر أمر المكلف أو عليه ، فإن كان مخالفا للشرع وجب عليه الإنابة والاستغفار ، وإن كان موافقا للشرع فإن كان موافقا لطبعه وجب عليه الشكر ، وإن كان مخالفا لطبعه وجب أن يستقبله بالصبر والرضا. وفي قوله (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) دلالة على أن المخلصين على خطر عظيم حتى إنهم يؤاخذون بميل القلب وحديث النفس وذلك لقوة صفاء باطنهم ، فاللطيف أسرع تغيرا. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) قضاء شهوته بين الخلق إلى قيام الساعة (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) فيما فيه أمان هو نقصان في نظر الخلق فإنه كمال عند الحق إلا إذا كان النظر للحق (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه أن نسبة المتابعين إلى حضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنسبة الابن إلى الأب الشفيق ولهذا قال «كل حسب ونسب ينقطع إلّا حسبي ونسبي».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ

٤٦٥

وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ

٤٦٦

تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

القراآت : (تُرْجِي) بغير همز : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وحفص وخلف والأعشى والمفضل وعباس لا تحل بتاء التأنيث : أبو عمرو ويعقوب (إِناهُ) بالامالة وغيرها مثل (الْحَوايا) في «الأنعام» وافق الخزاز عن هبيرة هاهنا بالإمالة ساداتنا بالألف وبكسر التاء : ابن عامر وسهل ويعقوب وجبلة. الباقون : على التوحيد (كَبِيراً) بالباء الموحدة : عاصم وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون : بالثاء المثلثة.

الوقوف : (كَثِيراً) لا (وَأَصِيلاً) ه (النُّورِ) ط (رَحِيماً) ه (سَلامٌ) ج لاحتمال الجملة حالا واستئنافا (كَرِيماً) ه (نَذِيراً) لا (مُنِيراً) ه (كَبِيراً) ه (عَلَى اللهِ) ط (وَكِيلاً) ه (تَعْتَدُّونَها) ج لانقطاع النظم مع الفاء (جَمِيلاً) ه (مَعَكَ) ج لاحتمال ما بعده العطف والنصب على المدح مع أن طول الكلام يرجح جانب الوقف (يَسْتَنْكِحَها) ق للعدول على تقدير جعلناها خالصة (الْمُؤْمِنِينَ) ه (حَرَجٌ) ط (رَحِيماً) ه (إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) ط لأن ما بعده واو استئناف دخل على الشرط (عَلَيْكَ) ط (كُلُّهُنَ) ط (قُلُوبِكُمْ) ط (حَلِيماً) ه (يَمِينُكَ) ط (رَقِيباً) ه (إِناهُ) لا للعطف مع الإستدراك (لِحَدِيثٍ) ط (مِنْكُمْ) ط فصلا بين وصف الخلق وحال الحق مع اتفاق الجملتين (مِنَ الْحَقِ) ط لإبتداء حكم آخر (حِجابٍ) ط (وَقُلُوبِهِنَ) ط (أَبَداً) ط (عَظِيماً) ه (عَلِيماً) ه (أَيْمانُهُنَ) لا والوقف أجوز لتكون الواو للاستئناف (وَاتَّقِينَ اللهَ) ط (شَهِيداً) ه (النَّبِيِ) ط (تَسْلِيماً)

٤٦٧

ه (مُهِيناً) ه (مُبِيناً) ه (جَلَابِيبِهِنَ) ط (يُؤْذَيْنَ) ط (رَحِيماً) ه (قَلِيلاً) ه ج لأن قوله (مَلْعُونِينَ) يحتمل أن يكون حالا أو منصوبا على الشتم (مَلْعُونِينَ) ه ج لأن الجملة الشرطية تصلح وصفا واستئنافا (تَقْتِيلاً) ه (قَبْلُ) ط (تَبْدِيلاً) ه (السَّاعَةِ) ط (عِنْدَ اللهِ) ط (قَرِيباً) ه (سَعِيراً) لا (أَبَداً) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (نَصِيراً) ه ج لاحتمال تعلق الظرف بـ (لا يَجِدُونَ) أو بـ (يَقُولُونَ) أو باذكر (الرَّسُولَا) ه (السَّبِيلَا) ه (كَبِيراً) ه (قالُوا) ط (وَجِيهاً) ه (سَدِيداً) ه لا (ذُنُوبَكُمْ) ه (عَظِيماً) ه (الْإِنْسانُ) ط (جَهُولاً) ه لا (وَالْمُؤْمِناتِ) ط (رَحِيماً) ه.

التفسير : اعلم أن مبنى هذه السورة على تأديب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد مر أنه سبحانه بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبيّ مع الله وهو التقوى ، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله فأمر بعد ذلك عامة المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين. وبدأ بما يتعلق بجانب التعظيم لله وهو الذكر الكثير ، وفيه لطيفة وهي أن النبيّ لكونه من المقربين لم يكن ناسيا فلم يؤمر بالذكر بل أمر بالتقوى والمحافظة عليها فإنها تكاد لا تتناهى. والتسبيح بكرة وأصيلا عبارة عن الدوام لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولو أن أوّلكم وآخركم» (١) قال جار الله : خص التسبيح بالذكر من جملة الذكر لفضله على سائر الأذكار ففيه تنزيه عما لا يجوز عليه. ولقائل أن يقول : هذا لا يطابق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفضل الذكر لا إله إلا الله» (٢) وجوّز أن يراد بالذكر الكثير الإقبال على العبادات كلها ، ويراد بالتسبيح الصلاة ، وبالوقتين العموم كما مر ، أو صلاة الفجر والعشاءين ، لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. ثم حرض المؤمنين على ذكره بأنه أيضا يذكرهم والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ، فلعله أراد باللفظ المشترك كلا مفهومية كما ذهب إليه الشافعي ، أو في الكلام حذف أي وملائكته تصلي ، أو المراد بصلاة الملائكة هي قولهم : اللهم صل على المؤمنين. جعلوا لاستجابة دعوتهم كأنهم فعلوا الرحمة ، أو المراد القدر المشترك وهو العناية بحال المرحوم والمستغفر له. وأصل الصلاة التعطف وذلك أن المصلي يتعطف في ركوعه وسجوده فاستعير لمن يتعطف على غيره وحنوّا وترؤفا. ثم بين غاية الصلاة وهي إخراج المكلف من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وفي قوله (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن تلك الرحمة لا تخص السامعين وقت الوحي. ومعنى

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٤٨.

(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الأدب باب ٥٥. أبو داود في كتاب الأدب باب ٢٧.

٤٦٨

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) مذكور في أول «يونس» وفي «إبراهيم». وأراد بيوم اللقاء يوم القيامة لأن الخلق مقبلون على الله بكليتهم بخلاف الدنيا. والأجر الكريم هو ما يأتيه عفوا صفوا من غير شوب نغص. ثم أشار إلى ما ينبغي أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عامة الخلق فقال (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) وهي حال مقدرة أي مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل ، وفيه أن الله تعالى جعل النبي شاهدا على وجوده بل على وحدانيته لأن المدعي هو الذي يذكر شيئا بخلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس فلا ينبغي أن يقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدع لها. بل يقال : إنه شاهد عليها كما قال «على مثل الشمس فاشهد» وإنه قد جازاه بشهادته لله شهادته على نبوته كما قال والله يشهد انك لرسوله [المنافقون : ١] والحاصل أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط ، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا من الطاعة والمعصية والصلاح والفساد. وإنما قال (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ) لأن الشهادة للمرء لا تفتقر إلى إذنه وكذلك الإنذار والتبشير إذا قال من يطع الملك أفلح ومن عصاه لم يربح. أما إذا قال : تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه احتاج إلى رضاه. ويمكن أن يكون قوله (بِإِذْنِهِ) متعلقا بمجموع الأحوال أي بتسهيله أو تيسيره. ووصف النبي عليه‌السلام بالسراج بأن ظلمات الضلال تنجلي به كما ينجلي ظلام الليل بالسراج ، وقد أمدّ الله بنور نبوته نور البصائر كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. وإنما لم يشبه بالشمس لأن الشمس لا يؤخذ منه شيء ويؤخذ من السراج سرج كثيرة وهم الصحابة والتابعون في المثال ولهذا قال «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وصفهم بالنجم لأن النجم لا يؤخذ منه شيء ، والتابعي لا يأخذ من الصحابي في الحقيقة وإنما يأخذ من النبيّ. ووصف السراج بالإنارة لأن السراج قد يكون فاترا ومنه قولهم «ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظرها من يجيء». ويجوز أن يكون سراجا معطوفا على الكاف ويراد به القرآن ، ويجوز أن يكون المعنى وذا سراج أو تاليا سراجا. قوله (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي خذ بظاهرهم وادفع عنهم الأسر والقتل وحسابهم على الله ، وإضافة أذاهم يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول.

ثم أمر المؤمنين بما يتعلق بجانب الشفقة على الخلق واكتفى بذكر الزوجات المطلقات قبل المسيس لأنه إذا لزم الإحسان إليهنّ بمجرد العقد وهو المراد بالنكاح هاهنا ، فبالوطء يكون أولى وقد مر حكمهنّ في سورة البقرة. في قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [الآية : ٢٣٧] وذلك لأجل تشطير الصداق. وإنما أعاد ذكرهن هاهنا لبيان عدم وجوب العدة عليهن. وتخصيص المؤمنات بالذكر دون الكتابيات إيذان بأنهن أولى بتخيرهن

٤٦٩

للنطفة. وفي قوله (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) تنبيه على أنه لا تفاوت في هذا الحكم بين قريبة العهد من النكاح وبين بعيدة العهد منه ، فإذا لم تجب العدّة على البعيدة العهد فلأن لا تجب على القريبة العهد أولى. وقد يستدل بكلمة «ثم» على أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن المعية تنافي التراخي. وفي قوله (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَ) دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيها من حق الله تعالى أيضا. ومعنى (تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها تقول : عددت الدراهم فاعتدها نحو : كلته فاكتاله. ثم عاد إلى تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفائدة قوله (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) وقوله (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) وقوله (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) هي أن الله تعالى اختار لرسوله الأفضل الأولى ، وذلك أن سوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن تسميه وتؤجله. وكان التعجيل ديدن السلف ومن الناس من قال : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجب عليه إعطاء المهر لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها ، والنبي عليه‌السلام لم يكن يستوفي ما لا يجب له كيف وإنه إذا طلب شيئا حرم الامتناع على المطلوب منه. والظاهر أن طالب الوطء ولا سيما في المرة الأولى يكون هو الرجل لحياء المرأة ، ولو طلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المرأة التمكين قبل المهر لزم أن يجب وأن لا يجب ، ولا كذلك أحدنا. ومما يؤكد هذا قوله (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها. والجارية إذا كانت سبية مالكها ومخطوبة سيفه ورمحه فإنها أحل وأطيب من المشتراة لكونها غير معلومة الحال. قال جار الله : السبي على ضربين : سبي طيبة وهي ما سبي من أهل الحرب ، وسبي خبيثة وهي ما سبي ممن له عهد ، فلا جرم قال سبحانه (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتها مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد ، ولم يحسن الاقتصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة وشرط في استحلال الواهبة نفسها إرادة استنكاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها. وفيه أنه لا بد من قبول الهبة حتى يتم النكاح ، وبه استدل أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة ، وحملها الشافعي على خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن أبي الحسن الكرخي أن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز لقوله (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) قال أبو بكر الرازي : لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت وعقد النكاح مؤبد. والظاهر أن (خالِصَةً) حال من (امْرَأَةً) وقال جار الله : هي مصدر مؤكد كوعد الله أي خلص لك الإحلال خلوصا. وفائدة هذا الحال على مذهب الشافعي ظاهرة. وقال أبو حنيفة : أراد بها أنها زوجته وهي من أمهات المؤمنين فأورد عليه

٤٧٠

أن أزواجه كلهن خالصات له فلا يبقى لتخصيص الواهبة فائدة. وقوله (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) جملة اعتراضية معناها أن الله قد علم ما يجب على المؤمنين في حق الأزواج وفي الإماء على أي حدّ وصفة ينبغي أن يكون. ثم بين غاية الإحلال بقوله (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي لئلا يكون عليك ضيق في دينك ولا في دنياك حيث أحللنا لك أصناف المنكوحات (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للذي وقع في الحرج (رَحِيماً) بالتوسعة والتيسير على عباده.

ثم بيّن أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن من غير إيجاب قسم بينهنّ ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة إلى أمته كالسيد المطاع فزوجاته كالمملوكات فلا قسم لهن. والإرجاء التأخير ، والإيواء الضم وهما خبران في معنى الأمر. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) يعني إذا طلبت من كنت تركتها (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في شيء من ذلك وهذه قسمة جامعة للغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك ، وإذا أمسك ضاجع أو ترك ، وإذا ضاجع قسم أو لم يقسم ، وإذا طلق أو عزل فإما أن يترك المعزولة أو يبتغيها. يروى أنه أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب. وروي أنه كان يسوّي مع ما خير فيه إلّا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. وقيل : أراد تترك تزوّج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت. وعن الحسن : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها. ومن قال : إن القسم كان واجبا مع أنه ضعيف بالنسبة إلى مفهوم الآية قال : المراد تؤخرهن إن شئت إذ لا يجب القسم في الأول ، وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في ذلك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى. ثم قال (ذلِكَ) التفويض إلى مشيئتك (أَدْنى) إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن وإلى رضاهنّ جميعا لأنه إذا لم يجب عليه القسم. ثم إنه يقسم بينهن حملهن ذلك على تلطفه وتخلصه. وفي قوله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) وعيد لمن يرض منهن بما دبر الله له (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بذات الصدور (حَلِيماً) مع ذلك لا يعاجل بالعقوبة فتحا لباب التوبة. وقوله (كُلُّهُنَ) بالرفع تأكيد لنون يرضين ، وقرىء بالنصب تأكيدا لضمير المفعول في (آتَيْتَهُنَ) ثم إنه سبحانه شكر لأزواج رسول الله اختيارهن الله ورسوله فأنزل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قال أكثر المفسرين : أي من بعد التسع المذكورة ، فالتسع نصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن. وإنه تعالى زاد في إكرامهن بقوله (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) أي ولا يحل لك أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهن أو بعضهن ، وأكد النفي

٤٧١

بقوله (مِنْ أَزْواجٍ) وفائدته استغراق جنس جماعات الأزواج بالتحريم. وذهب بعضهم إلى أن الآية فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهنّ ، والمعنى لا يحل لك من النساء من بعد اللواتي نص على إحلالهنّ من الأجناس الأربعة ، وأما غيرهنّ من الكتابيات والإماء بالنكاح والأعرابيات والغرائب فلا يحل لك التزوّج بهن. وقوله (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) منع من فعل الجاهلية وهو قولهم «بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي» فكان ينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. يحكى أن عيينة بن حصن دخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده عائشة من غير استئذان فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عيينة أين الاستئذان؟ فقال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين. قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال عليه‌السلام : إن الله قد حرم ذلك. فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ قال : أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه. وقوله (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) في موضع الحال أي مفروضا إعجابك بهن. قال جار الله : والأظهر أن جوابه محذوف يدل عليه ما قبله وهو (لا يَحِلُ) وفائدة هذه الشرطية التأكيد والمبالغة. واستثنى ممن حرم عليه الإماء. وفي قوله (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) تحذير من مجاوزة حدوده. واعلم أن ظاهر هذه الآية ناسخ لما كان قد ثبت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحريم مرغوبته على زوجها ، وفيه حكمة خفية ، وذلك أن الأنبياء يشتدّ عليهم برحاء الوحي في أوّل الأمر ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم فكان الحاجة إلى تفريغ بال النبي تكون في أوّل الأمر أكثر لو هي القوّة ولعدم إلفه بالوحي ، فإذا تكاملت قوّته وحصل إلفه بتعاقب الوحي لم يبق له الالتفات إلى غير الله فلم يحتج إلى إحلال التزوّج بمن وقع بصره عليها. وعن عائشة : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل له النساء. تعني أن الآية نسخت ، ونسخها إمّا بالسنة عند من يجوّز نسخ القرآن بخبر واحد ، وأمّا بقوله (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف.

ثم عاد إلى إرشاد الأمة ، وحالهم مع النبيّ إما حال الخلوة فالواجب هناك احترام أهله وأشار إليه بقوله (لا تَدْخُلُوا) وإما حال الملأ فالواجب وقتئذ التعظيم بكل ما أمكن وذلك قوله (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه فقيل : لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا وقت الإذن أي مأذونين وإلا غير ناظرين إناه. وإنى الطعام إدراكه ، أنى الطعام إنى نحو قلاه قلى. وقيل : أناه وقته فقد تلخص أن الإذن مشروط بكونه إلى الطعام فلزم منه أن لا يجوز الدخول إذا لم يكن الإذن

٤٧٢

إلى طعام كالدخول بالإذن لاستماع كلام مثلا ، فأجيب بأن الخطاب مع قوم كانوا موصوفين بالتحين للطعام فمنعوا من الدخول في وقته من غير إذن. وجوز بعضهم أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي لا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن والأوّل أولى. ولا يشترط في الإذن التصريح به إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قيل (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ) على البناء للمفعول ليشمل إذن الله وإذن الرسول أو العقل المؤيد بالدليل. وقوله (فَانْتَشِرُوا) للوجوب وليس كقوله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا) [الجمعة : ١٠] وذلك للدليل العقلي على أن بيوت الناس لا تصلح للمكث بعد الفراغ مما دعي لأجله ، وللدليل النقلي وذلك قوله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) وهو مجرور معطوف على (ناظِرِينَ) أو منصوب على الحال أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين. يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنسا أن يدعو بالناس فترادفوا أفواجا إلى أن قال : يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحد أدعوه. فقال : ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون فأطالوا فقام رسول الله ليخرجوا فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحياء وذلك قوله (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي من إخراجكم ، فلما رأوه متوليا خرجوا فرجع فنزلت الآية ناهية للثقلاء أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدّثه به أو يستأنسون حديث أهل البيت واستماعه. ومعنى (لا يَسْتَحْيِي) لا يمتنع ولا يترك كما مر في أول البقرة. والضمير في (سَأَلْتُمُوهُنَ) لنساء النبيّ بقرينة الحال. قال الراوي : إن عمر كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يقول : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت. والمتاع الماعون وما يحتاج إليه. وثاني مفعولي (فَسْئَلُوهُنَ) محذوف وهو المتاع المدلول عليه بما قبله. (ذلِكُمْ) الذي ذكر من السؤال من وراء الحجاب (أَطْهَرُ) لأجل قلوبكم لأن العين روزنة القلب ومنها تنشأ الفتنة غالبا. وروي أن بعضهم قال : نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة عنى عائشة ، فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله (وَما كانَ) أي وما صح (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) بوجه من الوجوه (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ) الإيذاء والنكاح (كانَ عِنْدَ اللهِ) ذنبا (عَظِيماً) لأن حرمة الرسول ميتا كحرمته حيا.

ثم بين بقوله (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) الآية. إنهم إن لم يؤذوه في الحال ولكن عزموا على

٤٧٣

إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عالم بكل شيء فيجازيهم بحسب ذلك. ثم إنه لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء. قال في التفسير الكبير عند الحجاب : لما أمر الله الرجل بالسؤال من وراء الحجاب فيفهم كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى ، وعند الاستثناء قال (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) فرفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك. وقدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر فقد رأوهن في حالة الصغر ، ثم الأبناء ثم الأخوة ، وقدم بني الإخوة لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم فقد يصف الابن خالته عند أبيه ففي ذلك نوع مفسدة فأوجبت التأخر عن رتبة المحرمية ، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، أو لأنهما قد يصفان لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم. وقد يستدل بقوله (وَلا نِسائِهِنَ) مضافة إلى المؤمنات أنه لا يجوز التكشف للكافرات في وجه ، وأخر المماليك لأن محرميتهم كالأمر الضروري وإلا فالمفسدة في التكشف لهم ظاهرة ولهذا عقبه بقوله (وَاتَّقِينَ) فإن التكشف لهم مشروط بشرط سلامة العاقبة والأمن من الفتنة. ومنهم من قال : المراد من كان منهم دون البلوغ. قال جار الله : في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله (وَاتَّقِينَ) فضل تشديد وبعث على سلوك طريقة التقوى فيما أمرن به من الاحتجاب كأنه قيل : وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأتقن غير محتجبات ليفضل سركن علنكن. ثم أكد الكل بقوله (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) وفيه أنه لا يتفاوت في علمه ظاهر الحجاب وباطنه. ثم كمل بيان حرمة النبي بأنه محترم في الملأ الأعلى فليكن واجب الاحترام في الملأ الأدنى ، وقد مر معنى الصلاة في السورة. وإنما قال هناك (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) وقال هاهنا (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) ليلزم منه تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذلك لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلا للمذكور على المعطوف ، فكأنه سبحانه شرف الملائكة بضمهم مع نفسه بواسطة صلاتهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واستدل الشافعي : بقوله (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) وظاهر الأمر للوجوب أن الصلاة في التشهد واجبة وكذا التسليم لأنه لا يجب بالاتفاق في غير الصلاة فيجب فيها. وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه وهو قول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ولم يؤكد الصلاة هذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) وسئل النبي كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال : قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك

٤٧٤

حميد مجيد. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرا (١) ومن العلماء من أوجب الصلاة كلما جرى ذكره لما روي في الحديث «من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله» (٢) ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة ، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والأحوط هو الأول وهو الصلاة عليه عند كل ذكر ، وأما الصلاة على غيره فقد مر الخلاف فيها في سورة التوبة في قوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [الآية : ١٠٣] ثم رتب الوعيد على إيذاء الله ورسوله فيجوز أن يكون ذكر الله توطئة وتشريفا وإعلاما بأن إيذاء رسول الله هو إيذاء الله كقوله تعالى (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] ويجوز أن يراد بإيذاء الله الشرك به ونسبته إلى ما لا يجوز عليه. وعن عكرمة : هو فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق كخلق الله. وقيل : أذى رسول الله قولهم إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. وقيل : طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حي ، والأظهر التعميم. وعن بعضهم أن اللعن في الدارين هو جزاء من يؤذي الله ، وإعداد العذاب المهين هو جزاء من يؤذي رسول الله ، ولعل الفرق لاغ. ثم رتب وعيدا آخر على إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولكن قيده بقوله (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) لأنه إذا صدر عن أحدهم ذنب جاز إيذاؤه على الوجه المحدود في الشرع ، ولعل المراد هو الإيذاء القولي لقوله (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) ويحتمل أن يقال : احتمال البهتان سببه الإيذاء القولي ، واحتمال الإثم المبين سببه الإيذاء الفعلي ، ويحتمل أن يكون كلاهما وعيد الإيذاء القولي ، وإنما وقع الاكتفاء به لأنه أجرح للقلب ولا مكان الاستدلال به على الفعلي ، ولأن إيذاء الله لا يكون إلا بالقول إلا إذا جعل السجود للصنم إيذاء. قيل : نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون عليا رضي‌الله‌عنه. وقيل : في إفك عائشة. وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.

ثم أراد أن يدفع عن أهل بيت نبيه وعن أمته المثالب التي هي مظان لصوق العار فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) الآية. ومعنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَ) يرخين عليهن. يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدني ثوبك على وجهك. ومعنى التبعيض في (مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) أن يكون للمرأة

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الأذان باب ٣٧. أحمد في مسنده (٢ / ١٦٨).

(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ١٠٠. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٤).

٤٧٥

جلابيب فتقتصر على واحد منها ، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها. وكانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة ، فأمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه (ذلِكَ) الإدناء (أَدْنى) وأقرب إلى (أَنْ يُعْرَفْنَ) أنهن حرائر أو أنهن لسن بزانيات فان التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها (فَلا يُؤْذَيْنَ) لا هن ولا رجالهن أقاربهن لأن أكثر الإيذاء والطعن إنما يتفق من جهة نساء العشيرة إذا كن مرئيات فضلا عن كونهن مزينات (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما قد سلف (رَحِيماً) حين أرشدكم إلى هذا الأدب الجميل. ولما أوعدهم بعذاب الآخرة خوّفهم بعقاب الدنيا قائلا (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عن الإيذاء (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم الضعفة الإيمان أو الزناة وأهل الفجور (وَالْمُرْجِفُونَ) في مدينة الرسول وهم الخائضون في أخبار السوء من غير حقيقة ، سمي بذلك لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة. روي أن ناسا كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله يوقعون في الناس أنهم قتلوا أو هزموا وكانوا يقولون قد أتاكم العدوّ ونحو ذلك. ومعنى (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنسلطنك عليهم وهو مجاز من قولهم : أغريت الجارحة بالصيد. والمراد لنأمرنك بأن تفعل ما يضطرهم إلى الجلاء ثم لا يساكنونك في المدينة إلا زمنا قليلا ريثما يتأهبون فيرتحلون بأنفسهم وعيالهم. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة كأنه يفعل بهم أفاعيل تسوءهم إلى أن يبلغ حد الاضطرار فيزعجهم ، ويجوز أن يكون (قَلِيلاً) منصوب على الحال أيضا ومعناه لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. وفي قوله (لا يُجاوِرُونَكَ) عطف على جواب القسم كأنه قيل : إن لم ينتهوا لا يجاورونك (سُنَّةَ اللهِ) أي سنة الله في الدين ينافقون في الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا. وقال مقاتل : أراد كما قتل وأسر أهل بدر (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام لا في الأفعال والأخبار. ثم إن المشركين واليهود كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت قيام الساعة استهزاء وامتحانا فأمر نبيه أن يقول : إن ذلك العلم مما استأثر الله ولكنها قريبة الوقوع. ومعنى (قَرِيباً) شيئا قريبا أو يوما أو زمانا. ثم أوعدهم بما أعدّ لهم من عذاب السعير. ومعنى تقليب وجوههم تصريفها في الجهات كاللحم يدار على النار حين يشوى ، أو تغييرها عن أحوالها ، أو تحويلها عن هيآتها ، أو نكسها على رؤوسها. والوجه عبارة عن الجملة وخص بالذكر لأنه أشرف وأكرم ، وإذا كان الأشرف معرضا للعذاب فالأخس أولى. ثم حكى أنهم يعترفون ويتمنون ولا ينفعهم شيء من ذلك ثم يطلبون بعض التشفي بالدعاء على من أضلهم. قوله (ضِعْفَيْنِ) أي ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلالهم. من قرأ (لَعْناً كَبِيراً) بالباء الموحدة فالمراد أشد اللعن وأفظعه ، ومن قرأ بالثاء المثلثة أراد تكثير عدد

٤٧٦

اللعن وقد علموا أن العذاب حاصل فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب وكثرة اللعن أو عظمه. قوله (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قال المفسرون : نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وإيذاء موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذف موسى ، أو حديث الأدرة أو البرص الذي قرفوه بذلك ففر الحجر بثوبه حتى رأوه عريانا وقد مر في «البقرة». وقيل : اتهامهم إياه بقتل هارون وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا حتى أبصروه فعرفوا أنه غير مقتول ، أو أحياه الله عزوجل فأخبرهم ببراءة موسى ومعنى (مِمَّا قالُوا) من مؤدى قولهم أو من مضمون مقولهم (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ذا جاه ومنزلة فلذلك كان يذب ويدفع عنه المثالب والمطاعن كما يفعل الملك بمن له عنده قربة. وروي عن شنبوذ وكان عبدا لله. ثم أشار إلى ما ينبغي أن يكون المؤمن عليه فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتقويم أمركم بسداد قولكم ، فبتقوى الله يصلح العمل وبصلاح العمل تكفر السيئات وترفع الدرجات. أمرهم أوّلا بالتخلية وهي ترك الإيذاء وثانيا بالتحلية وهي التقوى الموجبة لتحصيل الأخلاق الفاضلة ، ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) فقيل : العرض حقيقة. وقيل : أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسماوات فرحجت الأمانة. والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر إبليس بالإباء ولم يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكبارا وهاهنا استصغارا بدليل قوله (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) وقد يقال : المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات ، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام. واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة ، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط ، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة ، والجبال لا يطلب منها السير ، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس. وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداه فله الكرامة. فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر ، أو المراد هو التصوير المذكور. وقد خص بعضهم التكليف بقول «لا إله الا الله». والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه ، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال : فلان ركب عليه الدين. فكل من أخرج ما في قوته إلى الفعل فهو مؤدّ للأمانة وقاض حقها وإلا فهو حامل لها. ولا ريب أن

٤٧٧

السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى ، والأرض ثابتة في مستقرها ، والجبال راسخة في أمكنتها ، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] إلا الإنسان فإن كثيرا من الأشخاص بل أكثرها مائلة إلى أسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد ، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته. فاللام في (الْإِنْسانُ) للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس. وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة. وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة ، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلا ، وكلا المحذورين موجود في التكليف. وأيضا كان الزمان زمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت. وأيضا قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت ، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولا ، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوما وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب. واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها ، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٤] وقيل : إنه كان ظلوما جهولا في ظن الملائكة حيث قالوا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] وقال الحكيم : المخلوقات على قسمين : مدرك وغير مدرك. والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل ، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) [البقرة : ٣٢] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات. ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته. فغير الإنسان إن كان مكلفا كان بمعنى كونه مخاطبا لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة. وفي قوله (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) دون أن يقول «وقبلها» إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم. (لطيفة). الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أمينا عليها ، والقول قول الأمين فهو فائز. وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس

٤٧٨

بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز ، ولهذا ذكر ما فيه عاقبة حمل الأمانة قائلا (لِيُعَذِّبَ) إلى قوله (وَيَتُوبَ) إشارة إلى الفريقين. ثم وصف نفسه بكونه غفورا رحيما بإزاء كون الإنسان ظلوما جهولا ولا يخفى ما في هذه الإشارة من البشارة.

التأويل : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) فمن أحب شيئا أكثر ذكره. وأهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحرّ يكفيه الإشارة (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي) أي لو لا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أنه لو لا سابقة محبتي لما هديتم إلى محبتي ، فكان في الأزل بالمؤمنين رحيما فلهذا أخرجهم في الأبد من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) لنا بنعت المحبوبية (وَمُبَشِّراً) للطالبين برؤية جمالنا (وَنَذِيراً) للبطالين عن كمال حسننا وحسن كمالنا (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ) لا بطبعك وهواك (وَسِراجاً مُنِيراً) في أوقات عدم الدعوة ، وذلك أن النظر إلى وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاف لمن كان له قلب مستنير ، فإذا انضمت الدعوة إلى ذلك كان في الهداية غاية. وفضلا كبيرا هو القلب المستنير. (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) لما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى اتصفت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) صلاة تليق بتلك الحضرة المقدّسة مناسبة لحضرة النبوّة بحيث لا يفهم معناها غيرهما منها الرحمة ، ومنها المغفرة الواردة ، ومنها الشواهد ، ومنها الكشوف ، ومنها المشاهدة ، ومنها الجذبة ، ومنها القربة ، ومنها الشرب ، ومنها الري ، ومنها السكون ، ومنها التجلي ، ومنها الفناء في الله ، ومنها البقاء به ، وهكذا لأمته بحسب مراتبهم كقوله (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ١٥٧] (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) هي قبول الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمي أمانة لأن الفيض من صفات الحق فلا يتملكه أحد. وقد اختص الإنسان بإصابة رشاش النور الإلهي فكان عرض الفيض عاما على قلب المخلوقات ولكن كان حمله خاصا بالإنسان لأن نسبة الإنسان إلى سائر المخلوقات نسبة القلب إلى الشخص ، فالروح يتعلق بالقلب ثم يصل فيضه بواسطة العروق والشرايين إلى سائر البدن فيتحرك به وهذا سر الخلافة (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لأنه خلق ضعيفا وحمل قويا (جَهُولاً) لأنه ظن أنه خلق للمطعم والمشرب والمنكح ولم يعلم أن هذه الصورة قشر وله لب وللبه لب وهو محبوب الله. فبقوّة الظلومية والجهولية حمل الأمانة ثم بروحه المنوّر برشاش الله أدّى الأمانة فصارت الصفتان في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحا ، وفي حق الخائنين فيها ذمّا. ولما لم يكن لروح الملائكة

٤٧٩

ولغيرهم من المخلوقات راحلة تحملها بالعزة أبين منها وأشفقن. فالمخاطبون إذن على ثلاث طبقات : طبقة يظهر فيها جمال صفة عدله وهم الملك والأجسام العلوية والسفلية سوى الثقلين لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها ، وطبقة يظهر فيها جمال قهره وهم المشركون والمنافقون حملوها طمعا في نفعها ثم لم يؤدّوا حقها بأن باعوها بالأعراض الفانية ، والطبقة الثالثة المؤمنون وهم الذين حملوها طوعا ورغبة وشوقا ومحبة وأدّوا حقها بقدر وسعهم. ولكن الحكم لكل جواد كبوة يقع قدم صدقهم في حجر بلاء وابتلاء فيتوب الله عليهم بجذبات العناية وهم مرآة جمال فضله ولطفه الله حسبي ونعم الوكيل وبالله التوفيق.

٤٨٠