تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الإتيان بسنة الأوّلين والله يأتي بسنة لا تبدل. العذاب المعلوم بنوع آخر ولا تحوّله عن مستحقيه إلى من لا يستحقه. ثم أمرهم بالسير وذكرهم ما رأوه في مسايرهم ومتاجرهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الهالكين الأقدمين مع وفور قوّتهم وكثرة شوكتهم. ثم بين كمال علمه ونهاية قدرته على اتصال أصناف الاستحقاقات بقوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) أي ليسبقه ويفوته شيء. ثم ختم السورة بما يدل على غاية حلمه وهو أنه لا يؤاخذ الناس بكل جرم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو القيامة وهو يومئذ أعلم بأحوالهم علما عيانيا فيجزي كلا بحسب علمه ، وقد مر مثل الآية في سورة النحل. وقيل : الأجل هو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو حين يجتمع الناس على الضلال والله أعلم.

تم الجزء الثاني والعشرون ، ويليه الجزء الثالث والعشرون وأوله تفسير سورة يس

٥٢١

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثالث والعشرون من أجزاء القرآن الكريم

(سورة يس مكية سوى آية نزلت في اليهود قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا)

حروفها ثلاثة آلاف كلمها سبعمائة وسبع وعشرون آياتها ثلاث وثمانون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ

٥٢٢

يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

القراآت : (يس) بإظهار النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن أبي غالب. وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد بالإمالة. تنزيل بالنصب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. والباقون : بالرفع (سَدًّا) بفتح السين في الحرفين : حمزة وعلي وخلف وحفص وأبو زيد (فَعَزَّزْنا) بالتخفيف : أبو بكر وحماد والمفضل آين بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد. (أَإِنْ) بهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر ، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل أين على وزن «كيف» (الْآنَ) بسكون النون وبالمد : يزيد مثل آنذرتهم (ذُكِّرْتُمْ) بالتخفيف : زيد (وَما لِيَ) بسكون الياء : حمزة ويعقوب ينقذوني في الحالين بالياء : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل (إِنِّي إِذاً) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (إِنِّي آمَنْتُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو إلا صيحة واحدة بالرفع وكذلك ما بعدها : يزيد (لَمَّا) بالتشديد : ابن عامر وحمزة وعاصم الميتة بالتشديد : أبو جعفر ونافع عملت بغير هاء الضمير : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل لمستقر بكسر القاف : زيد عن يعقوب والقمر بالرفع على الابتداء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس. الآخرون : بالنصب إضمارا على شريطة التفسير ذرياتهم على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب.

الوقوف : (يس) ه كوفي (الْحَكِيمِ) ه لا لجواب القسم (الْمُرْسَلِينَ) ه لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثان لمعنى الفعل في (الْمُرْسَلِينَ) أي أرسلت على

٥٢٣

صراط (مُسْتَقِيمٍ) ه ط على القراءتين فمن نصب فمعناه نزل تنزيل أو أعني تنزيل ومن رفع فالتقدير هذا تنزيل (الرَّحِيمِ) ه لا لتعلق لام كي بمعنى التنزيل والإرسال (غافِلُونَ) ه (لا يُؤْمِنُونَ) ه (مُقْمَحُونَ) ه (لا يُبْصِرُونَ) ه (لا يُؤْمِنُونَ) ه (بِالْغَيْبِ) ه لانقطاع النظم مع دخول الفاء (كَرِيمٍ) ه (وَآثارَهُمْ) ط (مُبِينٍ) ه (الْقَرْيَةِ) ه لأن «إذا» ليس ظرفا لـ (اضْرِبْ) بل التقدير واذكر إذ جاءها. وجوّز في الكشاف أن يكون «إذ» بدلا من (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) فلا وقف. (الْمُرْسَلُونَ) ه ج لاحتمال أن يكون «إذ» بدلا أو معمولا لعامل آخر مضمر (مُرْسَلُونَ) ه (مِثْلُنا) لا (مِنْ شَيْءٍ) لا لاتحاد المقول فيهما (تَكْذِبُونَ) ه (لَمُرْسَلُونَ) ه ج (الْمُبِينُ) ه (بِكُمْ) ج للابتداء بما في معنى القسم مع اتحاد المقول (أَلِيمٌ) ه (مَعَكُمْ) ط (ذُكِّرْتُمْ) ط (مُسْرِفُونَ) ه (الْمُرْسَلِينَ) ه لأن (اتَّبِعُوا) بدل من الأوّل (مُهْتَدُونَ) ه (تُرْجَعُونَ) ه (وَلا يُنْقِذُونِ) ه ج للابتداء بان مع تعلق «إذا» بما قبلها أي أني إذا اتخذت آلهة لفي ضلال (مُبِينٍ) ه (فَاسْمَعُونِ) ه ط لأن التقدير فلم يسمعوا قوله فقتلوه ثم قيل له ادخل (الْجَنَّةَ) ط (يَعْلَمُونَ) ه لا لتعلق الباء. (الْمُكْرَمِينَ) ه (مُنْزِلِينَ) ه (خامِدُونَ) ه (الْعِبادِ) ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا والعامل معنى في حسرة (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (لا يَرْجِعُونَ) ه (مُحْضَرُونَ) ه (يَأْكُلُونَ) ه (الْعُيُونِ) ه لا (ثَمَرِهِ) ه ط لمن جعل «ما» نافية ومن جعلها موصولة لم يقف (أَيْدِيهِمْ) ط (يَشْكُرُونَ) ه (لا يَعْلَمُونَ) ه (مُظْلِمُونَ) ه ط (لَها) ط (الْعَلِيمِ) ه لا لمن قرأ (وَالْقَمَرَ) بالرفع بالعطف على (اللَّيْلُ) ، ومن قرأ بالنصب وقف مطلقا (الْقَدِيمِ) ه (النَّهارِ) ط (يَسْبَحُونَ) ه (الْمَشْحُونِ) ه لا (يَرْكَبُونَ) ه (يُنْقَذُونَ) ه لا (حِينٍ) ه.

التفسير : الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس. ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤيده قوله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وكثيرا ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد أفحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك. وأيضا الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه ، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلاقع ، وكان من المعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفا عليه عند الكفرة. وقوله (عَلى صِراطٍ) كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم. وتنكير صراط للتعظيم. قيل : فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلا لم يبق عليه تكليف فإن

٥٢٤

المرسلين لم يستغنوا عن رعاية الشريعة فكيف غيرهم. وقوله (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) كقوله في «القصص» (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) [الآية : ٤٦] وقد مر أنه يشمل اليهود والنصارى لأن آباءهم الأدنين لم ينذروا بعد ما ضلوا (فَهُمْ غافِلُونَ) لهذا السبب. وقد يقال : إن «ما» مصدرية أو موصولة أي أرسلت لتنذرهم إنذار آبائهم أو ما أنذر آباؤهم فإنهم في غفلة ، فعلى هذا كونهم غافلين سبب باعث على الإنذار ، وعلى الأول عدم الإنذار سبب غفلتهم. ثم بين أن السبب الحقيقي للغفلة هو أنه تعالى جعلهم من جملة المطبوع على قلوبهم ومن زمرة أهل النار وهو قوله فيهم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) [ص ٨٥] أو أراد بالقول سبق علمه فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل : أراد أن القول بالدعوة بلغ أكثرهم ولكنهم لا يؤمنون جحودا وعنادا ، وذلك أن من يتوقف على استماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان ، أما بعد البيان والوضوح فلا يكون عدم الإيمان إلا للمكابرة. وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) فيكون مثلا لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم. وقيل : إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان. والضمير في قوله (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعا لليد والعنق. وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة. وقيل : واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال أي جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحا. والمقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق أي سففته. والكانونان يقال لهما شهرا قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما. وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلا للذي يهديه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصراط المستقيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته ، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس. ويقال : بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة. ثم ضرب مثلا

٥٢٥

آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) قال أهل التحقيق : المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم آيات الأنفس ، وإما أن يكون خارجا عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق. ويمكن أن يقال : السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية ، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية ، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد ، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ. وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة. ثم زاد في التأكيد بقوله (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي جعلنا بعد ذلك كله على أبصارهم غشاوة (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) شيئا أصلا. ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيدا على تأكيد ، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره. ويمكن أن يقال : فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء ، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة ، ثم صرح بالمقصود معطوفا على المذكورات قائلا (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) الآية. وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة. ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلا وآجلا.

ثم بين بقوله (إِنَّما تُنْذِرُ) أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به. والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل ، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم. والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها. وقيل : أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة. ومعنى الفاء في (فَبَشِّرْهُ) أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه ، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح. أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية. وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلا (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات. والظاهر أن قوله (نَحْنُ) ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة خبر «إن» ويجوز أن يكون (نَحْنُ) خبر «إن»

٥٢٦

كقول القائل عند الافتخار بالشهرة : أنا أنا. كأن الله تعالى قال إنما نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرّفنا أنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى. وفي هذا التركيب أيضا إشارة إلى التوحيد أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول إنا كذا فنمتاز. ثم أشار إلى العلم التام الذي يتوقف عليه المجازاة فقال (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة. وقيل : أراد ما قدّموا وأخروا فاكتفى بأحدهما كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] والصحيح أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لأن قوله (وَآثارَهُمْ) يدل عليه والمراد بها ما هلكوا عليه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو بقعة خير عمروها أو أثر سيء كبدعة وظلامة وآلات ملاه. وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد. عن جابر : أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم. وعن عمر بن عبد العزيز : لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها. وقيل : أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم.

سؤال : كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل «نكتب ما قدموا ونحييهم» لأجل الجزاء؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقصودة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر. وأيضا قوله (إِنَّا نَحْنُ) دال على العظمة والجبروت ، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة ، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة. وأيضا أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا ، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء ، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط ، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال : ليست الكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء. والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء ، والمبين هو المظهر للأمور ، والفارق بين أحوال الخلق ، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تأس.

(وَاضْرِبْ) لنفسك ولقومك (مَثَلاً) مثل (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) وهي أنطاكية الروم ، والمرسلون رسل عيسى عليه‌السلام إلى أهلها. وفي قوله (إِذْ أَرْسَلْنا) دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما

٥٢٧

على قومها عند عيسى حجة تامة. وكان رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتفي بواحد في الأغلب كمعاذ وغيره فمن هنا يعلم ترجيح هذه الأمة. وأما القصة فإن عيسى عليه‌السلام أرسل إليهم اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنما واسمه حبيب النجار فسألهما فأخبراه فقال : ما آيتكما؟ قالا : نشفي المريض ونبرىء الأكمة والأبرص. وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم. من أوجدك وآلهتك. فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) من قرأ بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين ، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية. وإنما ترك ذكر المفعول به لأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك : حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سيق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ قال : لا ، حال الغضب بيني وبين ذلك. فدعاهما فقال شمعون : من أرسلكما قال : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك. فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون : يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا. فقال الملك : أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم. فقال شمعون : فالحق إذا معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة. قال أهل البيان : يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلا : إنا إليكم مرسلون مقتصرين على «أن». وثانيا (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) مجموعا بين «أن» واللام وما يجري مجرى القسم. ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة. وفي قولهم (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر. وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطير ، فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل ما يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالقول أو بالحجارة. (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ) بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة

٥٢٨

المتوالية إلى الموت (عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ) أي سبب شؤمكم (مَعَكُمْ) وهو كفركم ومعاصيكم (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) يعني أتطيرون إن ذكرتم. ومن قرأ أين على وزن «كيف» ذكرتم بالتخفيف فالمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم فضلا عن المكان الذي حللتم فيه. ثم إن الرسل كأنهم قالوا لهم أنحن كاذبون أم نحن مشؤمون (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) في عصيانكم أو ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم ، أو تشاءمتم بمن يجب التبرك بهم وقصدتموهم بالسوء (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) هو حبيب النجار الذي مر ذكره نصح قومه فقتلوه وقبره في سوق أنطاكية. وقيل : كان في غار يعبد الله عزوجل ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فوثبوا عليه فقتلوه. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون» ومن هنا قالوا : إنه آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء. وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيدا من التواطؤ. وقوله (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أيضا يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم. ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٣٨] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل. فقوله (اتَّبِعُوا) نصيحة وقوله (الْمُرْسَلِينَ) إظهار للإيمان وقدم النصيحة إظهارا للشفقة. وقد روي أنه كان يقتل ويقول : اللهم اهد قومي.

ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجرا في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول. ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه. قال الحكيم (الَّذِي فَطَرَنِي) إشارة إلى وجود المقتضي. وقوله (وَما لِيَ) إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه ، والمقتضى وإن كان مقدما في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي هاهنا لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل «وما لكم لا تعبدون» كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [الآية : ١٣] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال : مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك. وفي قوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل

٥٢٩

«وإليه أرجع» كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة. ثم أراد كمال التوحيد فقال (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) فقوله (ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر ، وقوله (أَأَتَّخِذُ) على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلها وبهما يتم معنى لا إله إلا الله. ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع ، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له ، فإن قبلت وإلا أنقذه أي خلصه بوجه من الوجوه. قال بعض المفسرين : لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين. قال (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) فاسمعوا قولي لتشهدوا لي. وإنما قال (بِرَبِّكُمْ) ولم يقل «بربي» ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه. وقال أكثرهم : الخطاب للكفار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني. وفي قوله (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وجهان أحدهما. أنه قتل. ثم كأن سائلا سأل : كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل : قيل ادخل الجنة. والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره. قال جار الله : لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم. ثم كأن سائلا آخر سأل : أيّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سببا لهم في التوبة والإيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حيا وميتا. ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة. وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن. و «ما» في قوله (بِما غَفَرَ) مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب ، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود. فقول القائل : علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله «بما صنعت» فقوله (غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بإزاء قوله (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ثم أشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلا (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) قال المفسرون : يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب. ثم قال (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء ، ومن هنا يعلم فضل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلا عن حبيب ، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار. فالحاصل أنه تعالى يقول لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها

٥٣٠

إلا مثلك وما كنا نفعله لغيرك. فمن قرأ (إِلَّا صَيْحَةً) بالنصب أراد ما كانت الأخذة أو العقوبة إلا بسبب صيحة ، ومن قرأ بالرفع على أن «كان» التامة فمعناه ما وقعت إلا صيحة. قال جار الله : القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل. قلت : يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة. وقيل : إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أسماء الجنس كلها مؤنثة. ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد. وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة أيضا ومنه المثل «أثقل من الزواقي» والزقاء صياح الديك ونحوه ، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال.

ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رمادا لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوّة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم. ثم بين بقوله (يا حَسْرَةً) أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين ، أو من الله عزوجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله (ما يَأْتِيهِمْ) الآية. ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية. وقوله (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل من (كَمْ أَهْلَكْنا) التقدير : ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم. والرجوع حسيّ وهو ظاهر ، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم. من قرأ «لما» بالتشديد فبمعنى إلا و «أن» نافية. ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و «ما» صلة تقديره. وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. قال في الكشاف : كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد ، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم. ويحتمل أن يقال : الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك : الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل. ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضا مع تعداد النعم وتذكيرها قائلا : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) قال المحققون : إنما قال لهم لأن الأرض ليست آية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] وقوله (أَحْيَيْناها) استئناف بيانا لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس.

٥٣١

وقوله (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) بتقديم الجار للدلالة على أن الحب هو معظم قوت الإنسان وبه قوام معاشه عادة ، فنفس الأرض آية فإنها مهدهم الذي فيه تحريكهم واستكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم. وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم ، ثم إحياؤها مخضرة نعمة ثانية فإنها أحسن وأنزه ، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم إذا كان في مكانهم كأن أجمع للقوّة والفراغ. ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة موجبة للتفكه وسعة العيش ، ثم تفجير العيون فيها نعمة خامسة لأن ماء السماء لا يحصل الوثوق بنزوله في كل حين فذلك كالشيء المدخر القريب التناول. والضمير في قوله (مِنْ ثَمَرِهِ) يعود إلى الله ، وفائدة الالتفات أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لا توجد إلا بتخليق الملك الجبار ، ويحتمل أن يعود إلى المذكور وهو الجنات أو إلى التحصيل وترك ذكر الأعناب لأن حكمه حكم النخيل. وقيل : إلى التفجير المدلول عليه بسياق الكلام أي ليأكلوا من فوائد التفجير وهو أعم من الثمار ، ويشمل جميع ما ذكره في قوله (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) إلى قوله (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٢٥ ـ ٣١] وقوله (وَما عَمِلَتْ) من قرأ بغير هاء الضمير فما موصولة أو مصدرية أي ليأكلوا من ثمر الله ومن ثمر ما عملته أو من ثمر عمل أيديهم ، أو نافية فيكون إشارة إلى أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه ، ومن قرأ مع الضمير فما موصولة والضمير لها أو نافية والضمير للتفجير أو المذكور. ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك. هذا إذا جعلت «ما» موصولة ، فإن كانت نافية فالمراد الإيجاد والخلق. وقيل : عمل الأيدي التجارة. وقيل : الطبخ ونحوه.

ثم نزه نفسه بقوله (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) أي الأصناف والمراد بقوله (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس. وقوله (مِمَّا تُنْبِتُ) لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل : أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد. فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف (الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [الآية : ٣٦] من غير تقييد. وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. قال جار الله : أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازاله عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله. ومعنى

٥٣٢

(مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام أي لا بد لهم أن يدخلوا في الظلام إذ زال ولا يقدرون على دفعه. وفيه أن الليل كعرض أصلي يطرأ عليه النور تارة ويزول عنه أخرى. ثم كان لجاهل أن يقول : سلخ النهار إنما هو بغروب الشمس فلا جرم قال (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ) أي لحدّ لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره إلا أن المسافر له قرار بعد ذلك وهذه لا قرار لها بعد الحصول في ذلك الحدّ ولكنها تستأنف الحركة منه وهو أوّل الحمل أو أحد الخافقين أو إحدى الغايتين في تصاعدها فلك نصف النهار وتنازلها أو غير ذلك من الاعتبارات. وقيل : أراد بالمستقر بيتها وهو الأسد. وقيل : أراد لجري مستقرها وهو فلكها. وقيل : هو الدائرة التي عليها حركتها الخاصة. وقال الحكيم : أراد لأمر لو وجده لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة. وقيل : أراد الوقت الذي ينقطع جريها وهو يوم القيامة. وقيل : إنه إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه قال : إن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه وعلى هذا فالمستقر هو أفق الغرب خاصة (ذلِكَ) الجري على الوجوه المذكورة (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب بقدرته على كل مقدور (الْعَلِيمِ) بمبادىء الأمور وغاياتها.

ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) [الآية : ٥] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو «فعلون» من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج. والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان. فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين هي قديمة. وقد يقال : نبت قديم وإن لم يكن له سنة. وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له. وقال في الكشاف : القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم ، فلو أن رجلا قال : كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة. ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطانا على حياله (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) لتباطوء سيرها عن سيره (وَلَا اللَّيْلُ) أي ولا تسبق آية الليل ـ وهو القمر ـ آية النهار ـ وهي الشمس ـ أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها. وقيل : أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار. وقيل : إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار. والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء ، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل «يسبق» على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة. وأقول : يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن

٥٣٣

يتخلف ، فحذف إحدى القرينتين للعلم به كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] وكذا الكلام في قوله (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أراد ولا النهار سابق الليل أي لا يدخل شيء منهما في غير وقته. سلمنا أن المراد بالليل والنهار آيتهما لكنه يمكن أن يقال : إنه إشارة إلى الحركة الدورية لأنه لما قال : إن الشمس لبطء سيرها لا تدرك القمر. فهم منه أن القمر يسبق الشمس بحركته ، فأشار إلى أن هذا السبق ليس على قياس المتحركات على الاستقامة ولكنه سبق هو بعينه موجب للقرب ، وهذا معنى قول أهل الهيئة إن الكوكب هارب عن نقطة ما طالب لها بعينه. وأما قوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء. ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه ، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش. قال بعض المفسرين : أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم. والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق. قال جار الله : وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح ، ولو لا ذلك لما بقي للآدمي نسل. ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالبا. وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء. وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد. في الحديث «إنه نهى عن قتل الذراري» يعني النساء فكأنه قيل : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله (وَخَلَقْنا لَهُمْ) إلى آخره اعتراضا ، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر. وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خاليا كان خفيفا لا يرسب في الماء بالطبع. ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلا مختارا قائلا (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث. وقوله (إِلَّا رَحْمَةً) إشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلى حلول الأجل بالإضافة إلى الكافر ، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل :

ولم أسلم لكي أبقى ولكن

سلمت من الحمام إلى الحمام

التأويل : (يس) إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغا لم يبلغه أحد من المرسلين (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك (نُحْيِ) القلوب (الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) من الأنفاس المتصاعدة ندما وشوقا ، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) القلوب (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار

٥٣٤

الخلود (فَكَذَّبُوهُما) النفس وصفاتها (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) من الجذبة (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) لأن النفس وصفاتها لا يوافقهما ما يدعو الإلهام والجذبة إليه (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) لأن النفس خلقت من العدم على خاصيتها المشئومة (رَجُلٌ يَسْعى) هو الروح المشتاق إلى لقاء الحق (لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) لأنه لا شرب له من مشاربكم. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وهي عالم الأرواح وهو كقوله (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إلى قوله (وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر : ٣٠] (عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد رجوع الروح إلى الحضرة ما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقدرون على النفس وصفاتها وإصلاح حالها ، فإن صلاحها في موتها والمميت هو الله. (صَيْحَةً واحِدَةً) من وارد حق (فَإِذا هُمْ) يعني النفس وصفاتها (خامِدُونَ) ميتون عن أنانيته بهويته (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) فيه إشارة إلى أن هذه الأمة خير الأمم شكى معهم من كل أمة وما شكى إلى أحد من غيرهم شكايتهم (وَآيَةٌ لَهُمُ) القلوب (الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) بالطاعة ونخيل الأذكار وأعناب الأشواق وعيون الحكمة وثمر المكاشفات وعمل الخيرات والصدقات (خَلَقَ الْأَزْواجَ) من الآباء العلوية والأمهات السفلية (مِمَّا تُنْبِتُ) أرض البشرية بازدواج الكاف والنون. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) بازدواج الروح والقلب (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) من تأثير العناية في قلوب المخلصين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت (وَآيَةٌ لَهُمُ) ليل البشرية (نَسْلَخُ مِنْهُ) نهار الروحانية (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) بظلمة الخليقة فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وشمس نور الله (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله وقمر القلب (قَدَّرْناهُ) ثمانية وعشرين منزلا على حسب حروف القرآن وأسماؤها : الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين. فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٠] وهو آخر المنازل والمقامات ، فإن السالك يألف الحق أوّلا ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية ، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملا كالبدر ، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «الفقر فخري». ثم أشار بقوله (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) إلى أن الرب لا يصير عبدا ولا العبد ربا. ثم ذكر أن العوام محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة أرباب الطريقة ، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ. (وَإِنْ نَشَأْ) نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة.

٥٣٥

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

٥٣٦

القراآت : (يَخِصِّمُونَ) بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة : ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله «يختصمون» أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء ، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء ، وقرأ أبو عمرو بإشمام الفتحة قليلا وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثيا. الباقون : بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد. وروى خلف عن يحيى بكسر الياء والخاء والتشديد. (شُغُلٍ) بضمتين : عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب. فكهون وبابه بغير ألف : يزيد. ظل بضم الظاء وفتح اللام : حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة. الآخرون : (ظِلالٍ) جمع ظل (جِبِلًّا) بضم الجيم وسكون الباء. ابن عامر وأبو عمرو. وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة ، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد. والباقون : بضمتين والتخفيف (نُنَكِّسْهُ) مشددا : حمزة وعاصم غير مفضل. الآخرون : بالتخفيف من النكس. تعقلون بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب لتنذر على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب يقدر على صيغة المضارع : يعقوب كن فيكون بالنصب : ابن عامر وعلي.

الوقوف : (تُرْحَمُونَ) ه (مُعْرِضِينَ) ه (رَزَقَكُمُ اللهُ) لا لأن ما بعده جواب «إذا» (أَطْعَمَهُ) لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم. وجوز جار الله أن يكون قوله (إِنْ أَنْتُمْ) قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز. (مُبِينٍ) ه (صادِقِينَ) ه (يَخِصِّمُونَ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (يَنْسِلُونَ) ه (مَرْقَدِنا) ه لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير (الْمُرْسَلُونَ) ه (مُحْضَرُونَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (فاكِهُونَ) ه ج لاحتمال أن (هُمْ) تأكيد الضمير و (أَزْواجُهُمْ) عطف عليه و (فِي ظِلالٍ) ظرف (فاكِهُونَ) ، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره (مُتَّكِؤُنَ يَدَّعُونَ) ه ج لأنه من المحتمل أن يكون (سَلامٌ) خبر محذوف أي عليهم سلام يقول قولا ، وأن يكون (سَلامٌ) بدل (ما يَدَّعُونَ) أي لهم ما يتمنون وهو سلام (سَلامٌ) ط ج لحق الحذف (رَحِيمٍ) ه (الْمُجْرِمُونَ) ه (الشَّيْطانَ) ج لأن التقدير فإنه (مُبِينٌ) ه لا للعطف (اعْبُدُونِي) ج (مُسْتَقِيمٌ) ه (كَثِيراً) ه (تَعْقِلُونَ) ه (تُوعَدُونَ) ه (تَكْفُرُونَ) ه (يَكْسِبُونَ) ه (يُبْصِرُونَ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (فِي الْخَلْقِ) ط (يَعْقِلُونَ) ه له ج (مُبِينٌ) ه (الْكافِرِينَ) ه (مالِكُونَ) ه (يَأْكُلُونَ) ه (وَمَشارِبُ) ه (يَشْكُرُونَ) ه (يُنْصَرُونَ) ج (نَصْرَهُمْ) لا لأن الواو للحال (مُحْضَرُونَ) ه (قَوْلُهُمْ) ه لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار (يُعْلِنُونَ) ه (مُبِينٌ) ه (خَلْقَهُ) ط (رَمِيمٌ) ه (مَرَّةٍ) ط (عَلِيمٌ) ه لا لأن

٥٣٧

(الَّذِي) بدل (تُوقِدُونَ) ه (مِثْلَهُمْ) ط لانتهاء الاستفهام (الْعَلِيمُ) ه (فَيَكُونُ) ه (تُرْجَعُونَ) ه.

التفسير : لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة ، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان ، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفا من تبعته وطمعا في منفعته وإليه الإشارة بقوله (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقينا فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذا بطريقة الاحتياط ، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الآية : ٩] وعن مجاهد : أراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة : ما بين أيديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة. وقيل : ما بين أيديكم من أمر الساعة. وقيل : ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبلون لها ، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها. أو ما بين أيديكم من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحشر رحمكم الله. أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) وجواب «إذا» محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون ، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دأبهم الإعراض عند كل آية. ويحتمل أن يكون قوله و (ما تَأْتِيهِمْ) متعلقا بما قبله وهو قوله (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها. وقوله (أَلَمْ يَرَوْا) إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اعتراض. ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق ، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب ، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله ، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ وفي قوله (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير. فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل. وقوله (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) دون أن يقول «قالوا» تسجيل عليهم بالكفر. وقوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الأشراف ما قالوا. وقوله (أَنُطْعِمُ) دون «أننفق» إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من

٥٣٨

الإنفاق ومن بخل بالأدون فهو بأن يبخل بالأكثر أولى. وقوله (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) كلام في نفسه حسن لكنهم ذكروه في معرض الدفع فلهذا استوجبوا الذم وقد بين الله خطأهم بقوله (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فإن من في خزائنه مال وله في يد الغير مال فإنه مخير إن أراد أعطى زيدا مما في خزائنه وإن شاء أعطاه مما في يد الغير وليس لذلك الغير أن يقول لم أحلته عليّ. وقوله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بناء على ما اعتقدوه أن الأمر بالإنفاق ضائع ، لأنه سعي في إبطال مشيئة الله ولم يعلموا أن الضلال لا يتعدّاهم أيه سلكوا ، وذلك أنهم لم ينظروا إلى الأمر والطلب وبادروا إلى الاعتراض ، والطاعة هي اتباع الأمر لا الاستكشاف عن الغرض والغاية. ومن جملة تعنتهم أنهم استبطؤا الموعود على الاتقاء والإنفاق قائلين (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المدّعون للرسالة (صادِقِينَ) فأخبرونا متى يكون هذا الموعود به من الثواب والعقاب فأجابهم الله تعالى بقوله (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) كأنهم بالاستبطاء كانوا منتظرين شيئا. وتنكير صيحة للتهويل ووصفها بواحدة تعظيم للصيحة وتحقير لشأنهم أي صيحة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وفي قوله (تَأْخُذُهُمْ) أي تعمهم بالأخذ مبالغة أخرى ، وكذا في قوله (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي يشتغلون بمتاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ومع ذلك يصعقون. وقيل : تأخذهم وهم يختصمون في أمر البعث قائلين إنه لا يكون. ثم بالغ في شدّة الأخذ بقوله (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) وفي قوله (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) دون أن يقول «فلا يوصون» مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها ، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل ، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم ، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. وفي قوله (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج. وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى إلى حين يبعثون. ثم بين حال النفخة الثانية ، والأجداث القبور والنسلان العدو. وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء؟ نقول : لا مؤثر إلا الله ، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سببا لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى. ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه ، أو أعطى للأكثر حكم الكل. وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألما وأكثر ندما. وقوله (يَنْسِلُونَ) لا ينافي قوله في موضع آخر (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم. ويمكن أن يقال :

٥٣٩

إن هيئة الانتظار ليست بمنافية للمشي بل مؤكدة له ومعينة عليه. وفي «إذا» المفاجأة إشارة إلى أن الإحياء والتركيب والقيام والعدو كلها تقع في زمان النفخ.

ثم بين أنهم قبل النسلان (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياما فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين : البعث والمرقد. عن مجاهد : للكفار. هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك ، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس ، والمتقون على قول الحسن (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) كأنه قيل : ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين. والظاهر أن (هذا) مبتدأ و (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) إلى آخره خبره ، و «ما» مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر. ويجوز أن يكون «ما» موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه. وجوّز جار الله أن يكون (هذا) صفة للمرقد و (ما وَعَدَ) خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم. وقيل : إن قوله (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ما سمعوا من الرسل فأجابوا به أنفسهم ، أو أجاب بعضهم بعضا. ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة إلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلا (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) الآية. وقد مر نظيره. ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلا (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ) أيها الكافرون (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي : جلست للعدل فلا تظلم. أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه. وقوله (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك : فلان يجازيني حرفا بحرف. أي لا يترك شيئا. ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسنا أو سيئا. ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويرا للموعود وترغيبا فيه فقال (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات. وقوله (فاكِهُونَ) مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور. وثانيها أنه بيان لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل ، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب. وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أمورا يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها.

٥٤٠