تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا أعجبته بهجتها إلا أنهم لم يجدوا الماء فطلب الهدهد لأنه يرى الماء من تحت الأرض. وعن وهب أنه أخل بالنوبة التي كانت تنوبه فلذلك تفقده. وقيل : إنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عفريت الطير ـ وهو النسر ـ فسأله عنه فلم يجد عنده علمه. ثم قال لسيد الطير ـ وهو العقاب ـ عليّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فأقسم عليها بالله لتتركنه فتركته. وقالت : إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال : وما استثنى؟ قالت : بلى قال : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بعذر واضح. فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له ، فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه فمده إليه فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عزوجل فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله عما لقي في غيبته. وفي تفقد الهدهد إشارة إلى أن الملوك يجب عليهم التيقظ وعدم الغفلة عن أصغر رعيتهم. وأرجع إلى التفسير. قوله (ما لِيَ لا أَرَى) استبعاد منه أنه لا يراه وهو حاضر في الجند كأن ساترا ستره ثم لاح له أنه غائب فقال (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) وقد مر في الوقوف قوله (لَأُعَذِّبَنَّهُ) لا شك أن تعذيبه إنما يكون بما يحتمله حاله. فقيل : أراد أن ينتف ريشه ويشمسه وكان هذا عذابه للطير. وقيل : كان يطلي بالقطران ويشمس. وقيل : هو أن يلقيه للنمل لتأكله. وقيل : إيداعه القفص. وقيل : التفريق بينه وبين إلفه. وقيل : أراد لألزمنه صحبة الأضداد كما قيل : أضيق السجون مجالسة الأضداد. وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه. ولعل تعذيب الهدهد وذبحه في عصره جائز لمصلحة السياسة كما أباح لنا ذبح كل مأكول لحمه لمصلحة التغذي. وحاصل القسم يرجع إلى قوله ليكونن أحد هذه الأمور الثلاثة : التعذيب أو الذبح أو الإتيان بعذر بين وحجة واضحة. ويحتمل أن يكون قد عرف إتيانه بالعذر بطريق الوحي فلذلك أدرجه في سلك ما هو قادر على فعله فأقسم عليه. ثم أخبر الله سبحانه أنه أتى بسلطان مبين وذلك قوله (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي غير زمان بعيد (فَقالَ) مخاطبا لسليمان (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) قالوا : فيه إبطال قول من زعم أن إمام الزمان لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. وفيه دليل على شرف العلم وأن صاحبه له أن يكافح به من هو أعلى حالا منه. والإحاطة بالشيء علما هو أن يعلمه من جميع جهاته. وقوله (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) من جملة صنائع البديع على أن النبأ خبر له شأن فذكره في هذا الموضع دون أن يقول «من سبا بخبر» حسن على حسن. وسبأ اسم للقبيلة فلا ينصرف أو اسم للحي أو الأب الأكبر فينصرف ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. ويحتمل أن يراد بسبأ المدينة أو القوم. ثم شرع في النبأ وهو قوله (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً)

٣٠١

واسمها بلقيس بنت شراحيل ملك اليمن كابرا عن كابر إلى تبع الأول ، ولم يكن له ولد غيرها فورثت الملك وكانت هي وقومها مجوسا عبدة الشمس. والضمير في (تَمْلِكُهُمْ) يعود إلى سبأ إن أريد به القوم وإلى الأهل المحذوف إن أريد به المدينة. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي بعض كل ما يتعلق بالدنيا من الأسباب. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) كأنه استعظم لها ذلك مع صغر حالها إلى حال سليمان ، أو استعظمه في نفسه لأنه لم يكن لسليمان مثله مع علو شأنه ، وقد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله لمن فوقه في الملك ، وقد يطلع بعض الأصاغر على مسألة لم يطلع عليها أحد كما اطلع الهدهد على حال بلقيس دون سليمان. ووصف عرش الله بالعظم إنما هو بالإضافة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. يحكى من عظم شأنه أنه كان مكعبا ثلاثين في ثلاثين أو ثمانين وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر وكذا قوائمه ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق ، قال بعض المعتزلة : في قوله (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) دليل على أن المزين للكفر والمعاصي هو الشيطان. وأجيب بأن قول الهدهد لا يصلح للحجة والتحقيق فيه قد مر ولا يبعد أن يلهم الله الهدهد وجوب معرفته والإنكار على من يعبد غيره خصوصا في زمن سليمان عليه‌السلام.

قوله (أَلَّا يَسْجُدُوا) من قرأ بالتشديد على أن الجار محذوف فإن كان متعلقا بالصد فالتقدير صدهم لأن (أَلَّا يَسْجُدُوا) وإن كان متعلقا بـ (لا يَهْتَدُونَ) فـ (أَلَّا) مزيدة أي لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف فقوله (أَلَّا) حرف تنبيه ويا حرف النداء والمنادى محذوف والتقدير : ألا يا قوم اسجدوا كقوله :

ألا يا أسلمي يا دارميّ على البلى

ولا زال منهلا بجرعائك القطر

قال الزجاج : السجدة في الآية على قراءة التخفيف دون التشديد. والحق عدم الفرق لأن الذم على الترك كالأمر بالسجود في الاقتضاء. والخبء مصدر بمعنى المخبوء وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه الله عزوجل من غيوبه ، ومن جملة ذلك اطلاع الكواكب من أفق الشرق بعد اختفائها في أفق الغرب ، ومنها الأقضية والأحكام والوحي والإلهام ، ومنها إنزال الملك وكل أثر علوي. وفي تخصيص وصف الله تعالى في هذا المقام بإخراج الخبء إشارة إلى ما عهده الهدهد من قدرة الله تعالى في إخراج الماء من الأرض ، ألهمه هذا التخصيص كما ألهمه تلك المعرفة. ولما انجر كلام الهدهد إلى هذه الغاية (قالَ) سليمان (سَنَنْظُرُ) أي نتأمل في صفحات حالك (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وهذا أبلغ من أن لو قال له

٣٠٢

«كذبت» لأنه إذا كان معروفا بالكذب كان متهما في كل ما أخبر به. ثم ذكر كيفية النظر في أمره فقال (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) لم يقل إليها لأنه كان قد قال (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) فكأن سليمان قال : فألقه إلى الذين هذا دينهم اهتماما فيه بأمر الدين. ولمثل هذا قال في الكتاب (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ومعنى (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه تسمع ما يقولون (يَرْجِعُونَ) من رجع القول كقوله (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) [سبأ : ٣١] يروى أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوة وطرح الكتاب على حجرها وهي مستلقية نائمة. وقيل : نقرها فانتبهت فزعة. وقيل : أتاها والجنود حواليها من فوق والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها. وقيل : كان في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسد تلك الكوة بجناحيه ، فلما رأت ذلك قامت إليه فألقى الكتاب إليها. وهاهنا إضمار أي فذهب فألقى ثم توارى ثم كأن سائلا سأل فماذا قالت بلقيس؟ فقيل (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) مصدر بالتسمية أو حسن مضمونه أو هو من عند ملك كريم أو هو مختوم. يروى أنه طبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كرم الكتاب ختمه». وعن ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. ثم إن سائلا كأنه قال لها ممن الكتاب وما هو؟ فقالت (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ) كيت وكيت.

سؤال : لم قدم سليمان اسمه على اسم الله؟ والجواب أنها لما وجدت الكتاب على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد علمت أنه من سليمان وحين فتحت الكتاب رأت التسمية ، ولذلك قالت ما قالت ، أو لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) فقرأت عنوانه أوّلا ثم أخبرت بما في الكتاب. أو لعل سليمان قصد بذلك أنها لو شتمت لأجل كفرها حصل الشتم لسليمان لا لله تعالى. و «أن» في (أَنْ لا تَعْلُوا) مفسرة لما ألقي إليها أي لا تتكبروا كما تفعل الملوك. يروى أن نسخة الكتاب : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى. أما بعد ، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين. وكان كتب الأنبياء عليهم‌السلام جملا وأنه مع وجازته مشتمل على تمام المقصود لأن قوله (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مشتمل على إثبات الصانع وصفاته ، والباقي نهي عن الترفع والتكبر وأمر بالانقياد للتكاليف ، كل ذلك بعد إظهار المعجز برسالة الهدهد. قوله (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) استئناف آخر وهكذا إلى تمام القصة. ومعنى (أَفْتُونِي) أشيروا عليّ بما يحدث لكم من الرأي. والفتوى الجواب في الحادثة وأصلها من الفتاء في

٣٠٣

السن وقطع الأمر فصله والقضاء فيه ، أرادت بذلك استعطافهم وتطييب نفوسهم واستطلاع آرائهم ، فأجابوا بأنهم أصحاب القوى الجسدانية والخارجية ، ولهم النجدة والبلاء في الحرب ، ومع ذلك فوضوا الأمر إليها فما أحسن هذا الأدب. ويحتمل أن يراد نحن من أبناء الحرب لا من أرباب الرأي والمشورة وإنما الرأي إليك ، وحيث كان يلوح من وصفهم أنفسهم بالشجاعة والعلم بأمور الحرب أنهم مائلون إلى المحاربة ، أرادت أن تنبههم إلى الأمر الأصوب وهو الميل إلى الصلح فلذلك (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) وذلك إذا أرادوا قهرها والتسلط عليها ابتداء وإلا فالإفساد غير لازم ، بل لعل الإصلاح ألزم إذا سلكت سبيل العدل والإنصاف فليس للظلمة في الآية حجة. ومفعول (مُرْسِلَةٌ) محذوف أي مرسلة رسلا مع هدية وهي اسم المهدي كالعطية اسم المعطي. وإنما رأت الإهداء أوّلا لأن الهدية سبب استمالة القلوب. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تهادوا تحابوا» قال في الكشاف : روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج مرصعة اللجم والسروج بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت ، وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب : وبعثت رجلين من أشراف قومها ـ المنذر بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل ـ وقالت : إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا. ثم قالت : للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك ، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبي. فأقبل الهدهد فأخبر سليمان فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على اللبنات ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين وعن اليسار ، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والأنس كذلك ، والوحش والطير كذلك. فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب على اللبنات فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال : ما وراءكم؟ وقال : أين الحق؟ وأخبرهم بما فيه. ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجر ، وأخذت دودة بيضاء الخيط فأدخلته في الجزعة ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الاخرى ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم رد الهدية وذلك قوله على سبيل الإنكار أتمدونني بمال ثم قال على سبيل الإعلام وتعليل الإنكار (فَما آتانِيَ اللهُ) من الكمالات والقربات والدرجات (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) ثم أضرب

٣٠٤

عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون الفرح إلا في أن يهدي إليهم حظ من الدنيا ، فعلى هذا تكون الهدية مضافة إلى المهدي إليه. والمعنى (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ) هذه التي أهديتموها (تَفْرَحُونَ) فرح افتخار على الملوك. ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن الرد كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها ثم قال للرسول أو للهدهد معه كتاب آخر (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) ومعنى (لا قِبَلَ) لا طاقة ولا مقابلة. والذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار أن يقعوا مع ذلك في أسر واستعباد يروى أنه لما رجعت إليها الرسل عرفت أن سليمان نبي وليس لهم به طاقة ، فشخصت إليه في أثني عشر ألف قيل. مع كل قيل ألوف. وأمرت عند خروجها أن يجعل عرشها في آخر سبعة أبيات في آخر قصر من قصور سبعة ، وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا فلعل سليمن أوحي إليه ذلك فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من المعجزات فلذلك (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) وعن قتادة : أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها. وقيل : أراد بذلك اختبار عقلها كما يجيء. وقيل : أراد أن يعرف تجملها ومقدار مملكتها قبل وصولها إليه. والعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ، ومن الشياطين الخبيث المارد ، ووزنه «فعليت». قالوا : كان اسمه ذكوان. و (آتِيكَ بِهِ) في الموضعين يجوز أن يكون فعلا مضارعا وأن يكون اسم فاعل. ومعنى. (أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) إما على ظاهره وهو أن يقوم فيقعد ، وإما أن يكون المقام هو المجلس ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت به. وعلى هذا فقيل : المراد مجلس الحكم. وقيل : مقدار فراغه من الخطبة. وقيل : إلى انتصاف النهار. (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي على حمله (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) آتي به على حاله لا أتصرف فيه بشيء. واختلفوا في الذي عنده علم من الكتاب فقيل : هو الخضر عليه‌السلام. وقيل : جبرائيل. وقيل : ملك أيد الله به سليمان. وقيل : آصف بن برخيا وزيره أو كاتبه. وقيل : هو سليمان نفسه استبطأ العفريت فقال له : أنا أريك ما هو أسرع مما تقول. وقد يرجح هذا القول بوجوه منها : أن الشخص المشار إليه بالذي يجب أن يكون معلوما للمخاطب وليس سوى سليمان ، ولو سلم أن آصف أيضا كان كذلك فسليمان أولى بإحضار العرش في تلك اللمحة والإلزام تفضيل آصف عليه من هذا الوجه. ومنها قول سليمان. (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ويمكن أن يقال : الضمير راجع إلى استقرار العرش عنده ، ولو سلم رجوعه إلى الإتيان بالعرش فلا يخفى أن كمال حال التابع والخادم من جملة كمالات المتبوع والمخدوم ، ولا يلزم من أن يأمر الإنسان غيره بشيء أن يكون الآمر عاجزا عن الإتيان بذلك الشيء. واختلفوا أيضا في الكتاب فقيل : هو

٣٠٥

اللوح. وقيل : الكتاب المنزل الذي فيه الوحي والشرائع. وقيل : كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء. وما ذلك العلم؟ قيل : نوع من العلم لا يعرف الآن. والأكثرون على أنه العلم باسم الله الأعظم وقد مر في تفسير البسملة كثير مما قيل فيه. ومما وقفت عليه بعد ذلك أن غالب بن قطان مكث عشرين سنة يسأل الله الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأري في منامه ثلاث ليال متواليات : قل يا غالب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا صادق الوعد يا موفيا بالعهد يا منجز الوعد يا حي يا لا إله إلا أنت صل اللهم على محمد وآل محمد وسلم. والطرف تحريك الأجفان عند النظر فوضع موضع النظر فإذا فتحت العين توهمت أن نور العين يمتد إلى المرئي وإذا غمضت توهمت أن ذلك النور قد ارتدّ ، فمعنى الآية أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك. يروى أن آصف قال له : مدّ عينك حتى ينتهي طرفك فمدّ عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغاص العرش في مكانه ثم ظهر عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتدّ طرفه. ومن استبعد هذا في قدرة الله فليتأمل في الحركات السماوية على ما يشهد به علم الهيئة حتى يزول استبعاده. وقال مجاهد : هو تمثيل لاستقصار مدة الإتيان به كما تقول لصاحبك : افعل هذا في لحظة أو لمحة. وحين عرف سليمان نعمة الله في شأنه وأن ذلك صورة الابتلاء بين أن شكر الشاكر إنما يعود إلى نفس الشاكر لأنه يرتبط به العتيد ويطلب المزيد كما قيل : الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة. وروي في الكشاف عن بعضهم أن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر واستدم راهنها بكرم الجوار. قوله «أقشعت نافرة» أي ذهبت في حال نفارها وراهنها أي ثابتها. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن عبادة كل عابد فضلا عن شكر شاكر (كَرِيمٌ) لا يقطع إمداد نعمه عنه لعله يتوب ويصلح حاله. زعم المفسرون أن الجن كرهوا أن يتزوّجها سليمان فتفضي إليه بإسرارهم لأنها كانت بنت جنية ، أو خافوا أن يولد له منها ولد تجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له : إن في عقلها شيئا وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش وذلك قوله (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل لغيره لئلا يعرفه. قالوا : وسعوه وجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله. وقوله (نَنْظُرْ) بالجزم جواب للأمر وقرىء بالرفع على الاستئناف. (أَتَهْتَدِي) لمعرفة العرش أو للجواب الصائب إذا سئلت عنه أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك الخوارق. وقوله (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أبلغ من أن لو قال «أم لا تهتدي» كما مر في قوله (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ

٣٠٦

أَهكَذا) أي مثل ذا (عَرْشُكِ) لئلا يكون شبه تلقين فقالت (كَأَنَّهُ هُوَ) ولم تقل : هو هو مع أنها عرفته ليكون دليلا على وفور عقلها حيث لم تقطع في المحتمل وتوقفت في مقام التوقف. أما قوله (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) فمعطوف على مقدر كأنهم قالوا عند قولها كأنه هو قد أصابت في جوابها وطابقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان بهذه الخوارق. (وَأُوتِينَا) نحن (الْعِلْمَ) بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام (وَصَدَّها) عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس وكونها بين ظهراني الكفرة. والغرض تلقي نعمة الله بالشكر على سابقة الإسلام. وقيل : هو موصول بكلام بلقيس. والمعنى وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو الحالة وذلك عند وفدة المنذر. ثم قال سبحانه (وَصَدَّها) قبل ذلك عما دخلت فيه (ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) وقيل : الجار محذوف أي وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد ، واختبر ساقها بأن أمر أن يبني على طريقها قصر من زجاج أبيض فأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ، ووضع سريره في آخر فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس. ثم (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) أي القصر أو صحن الدار (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ماء غامرا (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لتخوض في الماء فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء ، فصرف سليمان بصره وناداها (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملس (مِنْ قَوارِيرَ) هذا عند من يقول : تزوجها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا له همدان وكان يزورها في الشهر مرّة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له. قالوا : كون ساقها شعراء هو السبب في اتخاذ النورة ، أمر به الشياطين فاتخذوها. وقال آخرون : المقصود من الصرح تهويل المجلس ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع. عن ابن عباس : لما أسلمت قال لها : اختاري من أزوّجكه؟ فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطان. فقال : النكاح من الإسلام. فقالت : إن كان كذلك فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكا (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بالكفر في الزمن السالف أو بسوء ظني بسليمان إذ حسبت أنه يغرقني في الماء. وهذا التفسير أنسب بما قبله ولعل في قولها (مَعَ سُلَيْمانَ) أي مصاحبة له إشارة إلى إسلامها تبع لإسلام سليمان وأنها تريد أن تكون معه في الدارين جميعا والله أعلم.

التأويل : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ) الروح (وَسُلَيْمانَ) القلب (عِلْماً) لدنيا (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية. (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) لأن كل إلهام وفيض يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على داود الروح إلا أنه للطافته لا

٣٠٧

يحفظها وإنما يحفظها القلب لكثافته ، ولذلك كان سليمان أقضى من داود. قوله (مَنْطِقَ الطَّيْرِ) يعني الرموز والإشارات التي يحفظها بلسان الحال أرباب الأحوال الطائرين في سماء سناء الفناء. وقيل : أراد الخواطر الملكية الروحانية. قوله (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) أي من الصفات الشيطانية والإنسانية والملكية (فَهُمْ يُوزَعُونَ) على طبيعتهم بالشريعة وادي النمل هوى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها (قالَتْ نَمْلَةٌ) هي النفس اللوامة يا أيها النمل هي الصفات النفسانية (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنهم على الحق وأنتم على الباطل لأن الشمس لاحس عندها من نورها ولا من الظلمة التي تزيلها (نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) بتسخير جنودي لي وعلى والديّ وهما الروح والجسد. أنعم على الروح بإفاضة الفيوض ، وعلى الجسد باستعماله في أركان الشريعة. وفي قوله (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) إشارة الى أن من أدب المخبر أن لا يخبر إلا عن يقين وبصيرة ولا سيما عند الملوك. وفي قول سليمان (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) إشارة إلى أن خبر الواحد وإن زعم اليقين لا يعوّل عليه إلا بأمارات أخر. (كِتابٌ كَرِيمٌ) كأنها عرفت أنها بكرامته تهتدي إلى حضرة الكريم : إن ملوك الصفات الربانية (إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) الشخص الإنساني (أَفْسَدُوها) بإفساد الطبيعة الحيوانية (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها) وهم النفس الأمارة وصفاتها (أَذِلَّةً) بسطوات التجلي (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) مع الأنبياء والأولياء. وفي قوله (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) إشارة إلى أن سليمان كان واقفا على أن في قومه من هو أهل لهذه الكرامة وكرامات الأولياء من قوة إعجاز الأنبياء (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) فيه دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها وإلا لم يجوّز النظر إلى ساقيها. (وَأَسْلَمْتُ) نفسي للنكاح (مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ) وفي الله.

تأويل آخر : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) هم أهل العشق الطيارة في فضاء سماء القدس وجوّ عالم الإنس. والهدهد الرجل العلمي الذي عول على فكره وإعمال قريحته في استنباط خبايا الأسرار وكوامن الأستار. (عَذاباً شَدِيداً) بالرياضة والمجاهدة. (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بسكين مخالفات الإرادة. سبأ مدينة الاختلاط والإنس بالإنس والمرأة الدنيا وبهجتها ، وعرشها العظيم حب الجاه والمناصب يسجدون لشمس عالم الطبيعة وهو الهوى ، والهدية عرض الدنيا وزينتها ، والإتيان بالعرش قبل إتيانهم هو إخراج حب الجاه من الباطن حتى تنقاد الأعضاء والجوارح بالكلية لاشتغال العبودية. آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه. والعفريت الرياضة الشديدة والذي عنده علم من الكتاب هو الجذبة التي توازي عمل الثقلين ، وتنكير العرش تغيير حب الجاه للهوى بحبه للحق ، والقصر قصر التصرف في

٣٠٨

الدنيا للحق بالحق ، وكشف الساق كناية عن اشتداد الأمر عليه ، والقوارير عبارة عن رؤية بواطن الأمور مع الاشتغال بظواهرها ، وهذه من جملة منطق الطير يفهم إن شاء العزيز وحده والله أعلم.

تم الجزء التاسع عشر ، ويليه الجزء العشرون وأوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ

أَخاهُمْ صالِحاً ...)

٣٠٩

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء العشرون من أجزاء القرآن الكريم

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦))

٣١٠

القراآت : لتنبيه على الجمع المخاطب وهكذا لتقولن : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون فيهما على التكلم مهلك بفتح الميم واللام : أبوبكر غير البرجمي وحماد والمفضل. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام. الباقون بضم الميم وفتح اللام والكل يحتمل المصدر والمكان والزمان (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) وأن الناس بالفتح فيهما : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ورويس (أَإِنَّكُمْ) مذكور في «الأنعام» (يُشْرِكُونَ) بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم (أَإِلهٌ) مثل (أَإِنَّكُمْ) الريح على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف يذكرون بياء الغيبة : أبو عمرو وهشام. الآخرون بتاء الخطاب بل أدرك بقطع الهمزة وسكون الدال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد المفضل بل ادّرك بهمزة موصولة ودال مشددة : الشموني. الباقون مثله ولكن بألف بعد الدال.

الوقوف : (يَخْتَصِمُونَ) ه (الْحَسَنَةِ) ج لابتداء استفهام آخر مع اتحاد القائل. (تُرْحَمُونَ) ه (مَعَكَ) ط (تُفْتَنُونَ) ه (وَلا يُصْلِحُونَ) ه (لَصادِقُونَ) ه (لا يَشْعُرُونَ) ه (مَكْرِهِمْ) ط لمن قرأ. «إنا» بكسر الألف على الاستئناف. (أَجْمَعِينَ) ه (ظَلَمُوا) ط (يَعْلَمُونَ) ه (يَتَّقُونَ) ه (تُبْصِرُونَ) ه (النِّساءِ) ط (تَجْهَلُونَ) ه (قَرْيَتِكُمْ) ج لاحتمال تقدير لام التعليل (يَتَطَهَّرُونَ) ه (إِلَّا امْرَأَتَهُ) ز لاحتمال أن ما بعده مستأنف والأظهر أنه حال تقديره استثناء امرأته مقدرة في (الْغابِرِينَ) ه (مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ه (اصْطَفى) ط (يُشْرِكُونَ) ه ط لأن ما بعده استفهام مستأنف و «أم» منقطعة تقديره بل أمن خلق السموات خير أمّا يشركون وكذلك نظائره (ماءً) ج للعدول مع اتحاد المقول (بَهْجَةٍ) ط ولاحتمال الحال أي وقد رد (خَيْراً) ط (الْقِتالُ) ط (عَزِيزاً) ه ج للآية والعطف (فَرِيقاً) ه ج لاحتمال أن يكون ما بعده استئنافا أو حالا (تَطَؤُها) ط (قَدِيراً) ه (جَمِيلاً) ه (عَظِيماً) ه (ضِعْفَيْنِ) ط (يَسِيراً) ه مرتين لا لأن التقدير وقد أعتدنا (كَرِيماً) ه (مَعْرُوفاً) ج للعطف (وَرَسُولِهِ) ط (تَطْهِيراً) ه لوقوع العوارض بين المعطوفين (وَالْحِكْمَةَ) ط (خَبِيراً) ه (عَظِيماً) ه (مِنْ أَمْرِهِمْ) ط (مُبِيناً) ه (النَّاسِ) ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال (تَخْشاهُ) ط (مِنْهُنَّ وَطَراً) ط (مَفْعُولاً) ه (لَهُ) ط (مِنْ قَبْلُ) لا (مَقْدُوراً) ه لا بناء على أن (الَّذِينَ) وصف أو بدل (إِلَّا اللهَ) ط (حَسِيباً) ه (النَّبِيِّينَ) ط (عَلِيماً) ه.

التفسير : القصة الرابعة قصة ثمود ، والفريقان المؤمن والكافر. وقيل : صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. والاختصام قول كل فريق الحق معي ، وفيه دليل على أن الجدال

٣١١

في باب الدين حق. ومعنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة أنه تعالى قد مكنهم من التوصل إلى رحمة الله وثوابه فعدلوا إلى استعجال عذابه. وقال جار الله : خاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وذلك أنهم قدروا في أنفسهم إن التوبة مقبولة عند رؤية العذاب فقالوا : متى وقعت العقوبة تبنا حينئذ ، فالسيئة العقوبة ، والحسنة التوبة ، و «لو لا» للتحضيض أي هلا تستغفرون قبل عيان عذابه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بأن يكشف العذاب عنكم. والحاصل أن التوبة يجب أن تقدم على رؤية العذاب ولا يجوز أن تؤخر ، وفيه تنبيه على خطئهم وتجهيل لهم (قالُوا اطَّيَّرْنا) أي تشاء منا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) وكانوا قد قحطوا (قالَ طائِرُكُمْ) أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم (عِنْدَ اللهِ) وهو قضاؤه وقدره أو أراد عملكم مكتوب عنده ومنه ينزل بكم العذاب. ومعنى التطير والطائر قد مر في «الأعراف» وفي «سبحان». ثم جزم بنزول العذاب بقوله (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي تعذبون أو تختبرون أو يفتنكم الشيطان بوسوسة الطيرة. ثم حكى سوء معاملتهم مع نبيهم بقوله (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) يعنى منزلهم المسمى بالحجر وكان بين المدينة والشام (تِسْعَةُ رَهْطٍ) لم يجمع المميز لأن الرهط في معنى الجمع وهو من الثلاثة إلى العشرة ، أو من السبعة إلى العشرة. والتقاسم التحالف فإن كان أمرا فظاهر وإن كان خبرا فمحله نصب بإضمار «قد» أي قالوا متقاسمين. والتبييت العزم على إهلاك العدوّ ليلا. وأشير على الإسكندر بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر. قال في الكشاف : كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين. ثم قالوا لولاة دمه : ما شهدنا مهلك أهله فإذا ذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. قلت : إنما ارتكب هذا التكلف لأنه استقبح أن يأتي العاقل بالخبر على خلاف المخبر عنه. يروى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشعب مبادرين وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فهذا مكرهم ، فبعث الله صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلا في مكانه ونجى صالحا ومن معه وهذا مكر الله. وقيل : جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله الملائكة فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون راميا. من قرأ (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بالفتح فمرفوع المحل بدلا من العاقبة أو خبرا لمحذوف أي هي تدميرهم ، أو منصوب على أنه خبر «كان» أي كان عاقبة مكرهم الدمار ، أو مجرور تقديره : لأنا وجوز في الكشاف على هذا التقدير أن يكون منصوبا بنزع الخافض. وانتصب (خاوِيَةً) على الحال والعامل معنى الإشارة في تلك. وإنما قال في هذه السورة (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) موافقة لما بعده (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ وَأَمْطَرْنا) وكله على «أفعل». وقال في «حم السجدة» (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت : ١٨] موافقة لما قبله وما بعده وزينا وقيضنا والله أعلم.

٣١٢

القصة الخامسة قصة لوط (وَ) انتصب (لُوطاً) بإضمار «اذكر» أو بما دل عليه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) و «إذ» بدل على الأول بمعنى مجرد الوقت ظرف على الثاني ، ويبصرون إما من بصر الحاسة فكأنهم كانوا معلنين بتلك المعصية في ناديهم ، أو أراد ترون آثار العصاة قبلكم ، أو من بصر القلب والمراد تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا بمثلها ، وعلى هذا فمعنى قوله (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أنكم تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو أراد جهلهم بالعاقبة ، أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها. أو الخطاب في قوله (تَجْهَلُونَ) تغليب ولو قرىء بياء الغيبة نظرا إلى الموصوف وهو قوم لجاز من حيث العربية ، وباقي القصة مذكور في «الأعراف» (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) قيل : هو خطاب للوط عليه‌السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الذنوب وبالنجاة من العذاب. وقيل : أمر لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم وبالتسليم على الأنبياء وأشياعهم الناجين ، والأكثرون على أنه خطاب مستأنف لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كالمخالف لمن تقدمه من الأنبياء من حيث إن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه ، فأمره الله سبحانه بأن يشكر ربه على هذه النعمة ويسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. ثم شرع في الدلالة على الوحدانية والرد على عبدة الأوثان ، وفيه توقيف على أدب حسن وبعث على التيمن بالحمد والصلاة قبل الشروع في كل كلام يعتد به ، ولذا توارثه العلماء خلفا عن سلف فافتتحوا بهما أمام كل كتاب وخطبة ، وعند التكلم بكل أمر له شأن. قال جار الله : معنى الاستفهام «وأم» المتصلة في قوله (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) إلزام وتبكيت وتهكم بحالهم وتنبيه على الخطأ المفرط والجهل المفرط ؛ فمن المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. قلت : يحمل أن يكون هذا من قبيل الكلام المنصف. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا قرأها قال : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم. ثم عدل عن الاستفهام بذكر الذات إلى الاستفهام بذكر الصفات مبتدئا بما هو أبين الحسيات فقال : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) وإنما قال هاهنا (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) واقتصر في إبراهيم على قوله (وَأَنْزَلَ) [إبراهيم : ٣٢] لأن لفظة (لَكُمْ) وردت هناك بالآخرة ، وليس قوله (ما كانَ لَكُمْ) مغنيا عن ذكره لأنه نفي لا يفيد معنى الأول. ومعنى الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله (فَأَنْبَتْنا) تأكيد معنى اختصاص الإنبات بذاته لأن الإنسان قد يتوهم أن له مدخلا في ذلك من حيث الغرس والسقي. والحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة. والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به. وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال : النساء ذهبت. ومعنى (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. قال في الكشاف : قوله (بَلْ هُمْ) بعد الخطاب أبلغ في

٣١٣

تخطئة رأيهم. قلت : إنما تعين الغيبة هاهنا لأن الخطاب في قوله (ما كانَ لَكُمْ) إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات. ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك. وقوله (يَعْدِلُونَ) من العدل أو من العدول أي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.

ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها. والقرار المستقر أي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. والحاجز البرزخ كما في «الفرقان». ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم. والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله سبحانه ، وإنه افتعال من الضر. وعن ابن عباس : هو المجهود. وعن السدي : الذي لا حول له ولا قوة. وقيل : هو المذنب ودعاؤه استغفاره. والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين ، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في «البقرة» وفي ادعوني وقوله (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) كالبيان لقوله (يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر «الأنعام». وقوله (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) معناه تذكرون تذكرا قليلا ، ويجوز أن يراد بالقلة العدم. ثم استدل لحاجة الناس وخصوصا الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم ، ثم استدل بأحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرين بالإعادة أيضا ، فاحتج عليهم بذلك لذلك. والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات. واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ثم بقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ثم بقوله (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ثم بقوله (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق ، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا ، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فأشركوا من غير حجة وبرهان. قل لهم يا محمد : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلها آخر. وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب. قال في الكشاف : هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعا يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحدا لم يذكر كقوله :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

والمعنى إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس بتا للقول بخلوها عن الأنيس. قلت : لقائل أن يقول : إن

٣١٤

استثناء نقيض المقدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب ، ولا من امتناع كون اليعافير أنيسا القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس. وقال غيره : إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين أيضا. وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز ، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز ، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازا معا. وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضا لأنهم أيضا عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي. وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب. ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بئس خطيب القوم أنت. لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى. والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لا بد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة ، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب ، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معا من غير محذور شرعي ولا عقلي ، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة. عن عائشة : من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وعن بعضهم : أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا لئلا يأمن الخلق مكره. قال المفسرون : سأل المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت الساعة فنزلت. وأيان بمعنى متى. إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو «فعال» من آن يئين فلو سمي به لانصرف ، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزا آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال (بَلِ ادَّارَكَ) أي تدارك. ومن قرأ بغير الألف فهو «افتعل» من الدرك أي تتابع واستحكم. ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها ، ويمكن أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكما بهم كما يقول لأجهل الناس : ما أعلمك. وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقينا فلأن لا يعرفوا وقته أولى. ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم «أدركت الثمرة» لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك ، وصفهم أوّلا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلا إنهم لا يعلمون القيامة فضلا عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلا إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية ، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلا إنهم عمون

٣١٥

عن إدراك الدليل مع وضوحه ، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون «عن» والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض. وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كما يقال : بنو فلان فعلوا. وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف. قلت : قد تقدّم ذكر المشركين في قوله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة.

التأويل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) صالح القلب بالإلهام الرباني إلى صفات القلب وهو الفريق المؤمن ، وإلى النفس وصفاتها وهو الفريق الكافر. والسيئة طلب الشهوات واللذات الفانية ، والحسنة طلب السعادات الباقية. وكان في مدينة القالب الإنساني (تِسْعَةُ رَهْطٍ) هم خواص العناصر الأربعة والحواس الخمس (يُفْسِدُونَ) في أرض القلب بإفساد الاستعداد الفطري (تَقاسَمُوا) بالموافقة على السعي في إهلاك القلب وصفاته وأن يقولوا لوليه وهو الحق سبحانه. ما أهلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمّارة حين قصدت هلاكهم (وَمَكَرُوا مَكْراً) في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية (وَمَكَرْنا مَكْراً) بتوارد الواردات الربانية وتجلي صفات الجمال والجلال (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أن صلاحهم في هلاكهم. فمن قتلته فأنا ديته (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) أنا أفنينا خواص التسعة وآفاتها وأفنينا قومهم أجمعين وهم النفس وصفاتها (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ) وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس خالية عن الحواس المهلكة والآفات الغالبة (بِما ظَلَمُوا) أي وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب ، وكان موضعها النفس بأمر الشارع لا بالطبع لصلاح القالب وبقائه (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها. ولوط الروح (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وهم القلب والسر والعقل عند تبدل أوصافهم بمجاورة النفس (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وهي كل ما زلت به أقدامهم عن الصراط المستقيم وأماراتها في الظاهر إتيان المناهي على وفق الطبع ، وفي الباطن حب الدنيا وشهواتها (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) تميزون الخير من الشر. وإتيان الرجال دون النساء عبارة عن صرف الاستعداد فيما يبعد عن الحق لا فيما يقرب منه (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) وهم القلب المريض بتعلق حب الدنيا والسر المكدر بكدورات الرياء والنفاق والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال (أَخْرِجُوا) الصفات الروحانية من قرية الشخص الإنساني (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) من لوث الدنيا وشهواتها (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) وهم السر والعقل وصفاتهما من عذاب تعلق الدنيا (إِلَّا امْرَأَتَهُ) وهي النفس الأمارة بالسوء (وَأَمْطَرْنا) على النفس وصفاتها مطرا بترك الشهوات (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي صعب فإن الفطام من المألوفات شديد وهذه

٣١٦

حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ) من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي (عَلى عِبادِهِ أَمَّنْ خَلَقَ) سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) من العلوم والمعاني والأسرار (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) من الهوى (أَمَّنْ جَعَلَ) أرض النفس (قَراراً) في الجسد (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) من دواعي البشرية (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) من القوى والحواس (وَجَعَلَ بَيْنَ) بحر الروح وبحر النفس (حاجِزاً) القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) كما زعمت الطبائعية (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) في العدم بلسان الحال (وَيَجْعَلُكُمْ) مستعدين لخلافته في الأرض (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ) بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية ، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) كما يقول المنجمون : مطرنا بنوء كذا. وكما يقوله قاصروا النظر : هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بالوجود المجازي (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ) من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) كائنا من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا

٣١٧

بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

القراآت : أيذا أينا بياء مكسورة بعد همزة مفتوحة : ابن كثير ويعقوب غير زيد. مثله ولكن بالمد : أبو عمرو وزيد أيذا بهمزة مفتوحة ثم ياء مكسورة (إِنَّا) بكسر الهمزة وبعدها نون مشددة : سهل (إِذا) من غير همزة الاستفهام آينا بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : يزيد وقالون ، مثله ولكن من غير مد : نافع غير قالون (أَإِذا) بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة (إِنَّا) بهمزة مكسورة بعدها نون مشددة : علي وابن عامر هشام يدخل بينهما مدة (أَإِذا أَإِنَّا) بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة فيهما : حمزة وخلف وعاصم. ولا يسمع بفتح الياء التحتانية (الصُّمَ) بالرفع : ابن كثير وعباس وكذلك في «الروم». الآخرون بضم التاء الفوقانية وكسر الميم ونصب الصمّ وما أنت تهدي على أنه فعل العمى بالنصب وكذلك في «الروم» حمزة. الباقون (بِهادِي) على أنه اسم فاعل العمى بالجر أتوه مقصورا على أنه فعل ماض : حمزة وخلف وحفص والمفضل. الآخرون بالمد على أنه اسم فاعل بما يفعلون على الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحماد والأعشى والبرجمي والحلواني عن هشام. (فَزَعٍ) بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم : حمزة وأبو جعفر ونافع ، الباقون بكسرها (تَعْمَلُونَ) بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص.

الوقوف : (لَمُخْرَجُونَ) ه (مِنْ قَبْلُ) لا تحرزا عن الابتداء بمقول الكفار (الْأَوَّلِينَ) ه (الْمُجْرِمِينَ) ه (يَمْكُرُونَ) ه (صادِقِينَ) ه (تَسْتَعْجِلُونَ) ه (لا يَشْكُرُونَ) ه (وَما يُعْلِنُونَ) ه (مُبِينٍ) ه (يَخْتَلِفُونَ) ه (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه (بِحُكْمِهِ) ج تعظيما للابتداء بالصفتين مع اتفاق الجملتين (الْعَلِيمُ) ه ج للآية واختلاف الجملتين وللفاء واتصال المعنى

٣١٨

أي إذا كان الحكم لله فأسرع التوكل (عَلَى اللهِ) ط (الْمُبِينِ) ه (مُدْبِرِينَ) ه (ضَلالَتِهِمْ) ط (مُسْلِمُونَ) ه (تُكَلِّمُهُمْ) ج لمن قرأ بكسر الألف فإنه يحتمل أن يكون الكسر للابتداء ولكونها بعد التكليم لأنه في معنى القول ، ومن فتح فلا وقف إذ التقدير تكلمهم بأن (لا يُوقِنُونَ) ه (يُوزَعُونَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (لا يَنْطِقُونَ) ه (مُبْصِراً) ط (يُؤْمِنُونَ) ه (مَنْ شاءَ اللهُ) ط (داخِرِينَ) ه (السَّحابِ) ط (كُلَّ شَيْءٍ) ط (تَفْعَلُونَ) ه (خَيْرٌ مِنْها) لا لأن ما بعده من تتمة الجزاء (آمِنُونَ) ه لا لعطف جملتي الشرط (فِي النَّارِ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (شَيْءٍ) ز للعارض وطول الكلام مع العطف (الْمُسْلِمِينَ) ه لا للعطف (الْقُرْآنَ) ج (لِنَفْسِهِ) ج (الْمُنْذِرِينَ) ه (فَتَعْرِفُونَها) ط (تَعْمَلُونَ) ه.

التفسير : لما ذكر أن المشركين في شك من أمر البعث عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين عامة شبهتهم وهي مجر د استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابا عند الحس. قال النحويون : العامل في «إذا» ما دل عليه (أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) وهو نخرج والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة. وإنما ذهبوا إلى هذا التكلف بناء على أن ما بعد همزة الاستفهام وكذا ما بعد «أن» واللام لا يعمل فيما قبلها لأن هذه الأشياء تقتضي صدر الكلام ، وتكرير حرف الاستفهام في «إذا» و «أن» جميعا إنكار على إنكار. والضمير في «أنا» لهم ولآبائهم جميعا وقد مر في سورة المؤمنين تفسير قوله (لَقَدْ وُعِدْنا) وبيان المتشابه فليدّكر. ثم أوعدهم على عدم قبول قول الأنبياء بالنظر في حال الأمم السالفة المكذبة. ولم تؤنث «كان» لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي ، أو لأن المراد كيف كان عاقبة أمرهم. والمراد بالمجرمين الكافرون لأن الكفر جرم مخصوص وفيه تنبيه على قبح موقع الجرم أياما كان ؛ فعلى المؤمن أن يتخوّف عاقبتها ويترك الجرائم كلها كيلا يشارك الكفرة في هذا الاسم الشنيع. ومعنى قوله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) الآية. قد مر في آخر «النحل». وفي هذه الآي تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كان يناله من قومه. ثم إنهم استعجلوا العذاب الموعود على سبيل السخرية فأمره أن يقول لهم (عَسى أَنْ يَكُونَ) وهذه على قاعدة وعد الملوك ووعيدهم يعنون بذلك القطع بوقوع ذلك الأمر مع إظهار الوقار والوثوق بما يتكلمون. وإن كان على سبيل الرجاء والطمع ولمثل هذا قال (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي) دون أن يقول «ردف لكم الذي». واللام زائدة للتأكيد كالباء في (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] أو أريد أزف لكم ودنا لكم بتضمن فعل يتعدى باللام ومعناه تبعكم ولحقكم. وقال بعضهم : المقتضي للعذاب والمؤثر فيه حاصل في الدنيا إلا أن الشعور به غير حاصل كما للسكران أو النائم ، فتمام العذاب إنما يحصل بعد الموت وإن كان طرف منه حاصلا في

٣١٩

الدنيا فلهذا ذكر البعض. ثم ذكر أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة في الدنيا ولكنهم لا يشكرون هذه النعمة فيستعجلون وقوع العقاب بجهلهم ، وفيه دليل على أن نعمة الله تعم الكافر والمؤمن. ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم مما يخفون كالقصود والدواعي وعلى ما يظهرون من أفعال الجوارح وغيرها ، ولعل الغرض أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك. ثم أكد ذلك بأن المغيبات كلها ثابتة في اللوح المحفوظ ، والعاقبة إما مصدر كالعافية ، وإما اسم غير صفة كالذبيحة والربيئة ، وإما صفة والتاء للمبالغة كالراوية في قولهم «ويل للشاعر من راوية السوء» كأنه قيل : وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وهو مثبت في الكتاب الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة. ثم بين لدفع شبه القوم إعجاز القرآن المطابق قصصه لما في التوراة والإنجيل مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميا ، والمطابق غرضه لما هو الحق في نفس الأمر ، وقد حرفه بنوا إسرائيل وجهه كاختلافهم في شأن المسيح في كثير من الشرائع والأحكام ، وذكر أنه هدى ورحمة لمن آمن منهم وأنصف أو منهم ومن غيرهم.

ثم ذكر أن من لم ينصف منهم فالله يقضي بينهم بحكمه أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكما (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب فيما يريد (الْعَلِيمُ) بما يحكم وبمن يحكم لهم أو عليهم. ثم أمره بالتوكل وقلة المبالاة بأعداء الدين وعلل ذلك بأمرين : أحدهما أنه على الحق الأبلج وفيه أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله ، وثانيهما قوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) لأنه إذا علم أن حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون والعمي الذين لا يبصرون ولا يهتدون ، صار ذلك سببا قويا في إظهار مخالفتهم وعدم الاعتداد بهم. وقوله (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) تأكيد لأن الأصم إذا توجه إلى الداعي لم يرج منه سماع فكيف إذا ولى مدبرا وهداه عن الضلالة كقولك «سقاه عن العمية». ثم بين أن إسماعه لا يجدي إلا على الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي مخلصون منقادون لأمر الله بالكلية. ثم هدد المكلفين بذكر طرف من أشراط الساعة وما بعدها فقال (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ) أي دنا وشارف أن يحصل مؤاده ومفهومه (عَلَيْهِمْ) وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) وهي الجساسة. وقد تكلم علماء الحديث فيها من وجوه : أحدها في مقدار جسمها. فقيل : إن طولها ستون ذراعا. وقيل : إن رأسها يبلغ السحاب. وعن أبي هريرة : ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وثانيها في كيفية خلقتها فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن

٣٢٠