تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا. قيل : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى ذهب ليقتبس النار فكلمه الملك الجبار وقد مر في النمل تفسير قوله (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) إلى قوله (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [الآية : ١٠] أما قوله (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) فذكر جار الله له معنيين : أحدهما حقيقة وهو أنه لما قلب الله العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه نقصان قدرك عند الأعداء فإن ألقيتها ، فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب النقص وإظهار معجزة أخرى. وثانيهما مجاز وهو أن يراد بضم الجناح التجلد وضبط النفس حتى لا يضطرب فيكون استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف أرخى جناحيه وإلا ضمهما. ومعنى (مِنَ الرَّهْبِ) من أجل الخوف. والفرق بين هذه العبارة وبين قوله (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أن الغرض هناك خروج اليد بيضاء وهاهنا الغرض إخفاء الخوف أو أراد بالجناح المضموم هاهنا اليد اليمنى وبالجناح المضموم إليه في قوله (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) اليد اليسرى ، وقيل : إن الرهب هو الكم بلغة حمير وزيفه النقاد. من قرأ (فَذانِكَ) بالتخفيف فمثنى ذاك ، ومن قرأ بالتشديد فمثنى ذلك وأصله ذان لك قلبت اللام نونا وأدغمت. وسميت الحجة برهانا لبياضها وإنارتها من قولهم «امرأة برهرهة» أي بيضاء ، والعين واللام مكررتان. والدليل على زيادة النون قولهم «أبره الرجل» إذا جاء بالبرهان ونظيره «السلطان» من السليط الزيت ، لإنارتها. وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون ، والسر فيه أن يكون على بصيرة من أمره عند لقاء المعاند اللجوج. وزعم القاضي أنه في حال أداء الرسالة لأن المعجز إنما يظهر ليستدل المرسل إليه على الرسالة ولا يخفى ضعف هذا الكلام لأن الحكمة في الإظهار لا تنحصر في الاستدلال بل لعل هناك أنواعا أخر من الحكم والمقاصد قد ذكرنا واحدا منها. ومما يؤكد أن هذا الكلام قد جرى ولم يكن هناك أحد غير موسى قوله معتذرا (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) الآية. والردء اسم ما يعان به من ردأته أي أعنته فعل بمعنى مفعول به و (يُصَدِّقُنِي) بالرفع صفة وبالجزم جواب كما مر في قوله (وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٦] والمراد بتصديق أخيه أن يذب ويجادل عنه لا أن يقول : صدقت فإن هذا القدر لا يفتقر إلى البيان والفصاحة لأن سحبان وباقلا يستويان فيه. ويجوز أن يكون الضمير في (يُصَدِّقُنِي) لفرعون. وجوّز جار الله أن يكون من الإسناد المجازي بناء على أن يصدق مسند إلى هارون وهو ببيانه وبلاغته سبب تصديق فرعون يؤيده قوله (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) قال الجبائي : إنما سأل موسى أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ولم يكن ليسأل ما لا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة. ولقائل أن يقول : لعله سأله مشروطا على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما

٣٤١

يقول الداعي في دعائه. وقال السدي : علم أن الاثنين أقوى من الواحد فلهذا سأل اعترض القاضي بأن هذا من حيث العادة وأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ، لأن المبعوث إليه في أيهما نظر علم وإن لم ينظر فالحال واحدة. هذا إذا كانت طريقة الدلالة بين المعجزتين واحدة ، فأما إذا اختلف وأمكن في إحداهما من إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يقال : إنهما بمجموعهما أقوى من واحدة كما قال السدي ، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون لأن معجزتهما كانت واحدة.

قال جار الله معنى (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) سنقوّيك بأخيك إما لأن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن يقوى على مزاولة الأمور بشدة اليد ، وإما لأن الرجل واشتداده بالأخ شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد. والسلطان التسلط والغلبة والحجة الواضحة. وقوله (بِآياتِنا) إما متعلق بمقدر أي اذهبا بآياتنا ، أو متعلق بظاهر وهو (نَجْعَلُ) أو (فَلا يَصِلُونَ). ويجوز أن يكون بيانا لـ (الْغالِبُونَ) كأنه قيل : بماذا نغلب؟ فقيل : بآياتنا. وامتنع أن تكون صلة لـ (الْغالِبُونَ) لتقدمه ، ويجوز أن تكون قسما جوابه (فَلا يَصِلُونَ) مقدما عليه مثله. ويجوز أن يكون من لغو القسم الذي لا جواب له كقولك «زيد وأبيك منطلق» والمراد الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو بالدولة والمملكة في المآل ، وصلب السحرة بعد تسليم ثبوته لا يقدح في قوله (وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) لأن الدولة الباقية أعلى شأنا و (سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي سحر تعمله أنت ثم تنسبه إلى الله فهو كذب من هذا الوجه ، أو سحر ظاهر افتراؤه لا سحر يخفى افتراؤه ، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر فإن كل سحر ففاعله يوهم خلافه فهو المفترى. ومعنى (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) قد مر في سورة المؤمنين. قال جار الله (فِي آبائِنَا) حال عن (هذا) أي كائنا في زمانهم وأيامهم قلت : لا مانع من أن يكون الظرف لغوا ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا بنحوه ، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته ، أو أرادوا أن الكهان لم يخبروا بمجيء ما جاء به موسى. وكل هذه المقالات لا تصدر إلا عن المحجوج اللجوج الذي قصارى أمره التمسك بحبل التقليد. من قرأ (قالَ مُوسى) بغير واو فعلى طريقة السؤال والجواب. ووجه قراءة الأكثرين أنهم قالوا ذلك (وَقالَ مُوسى) هذا ليوازن العاقل الناظر بين القولين فيتبين له الغث من السمين. وقوله (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) إفحام للخصم المعاند إذ لا سبيل إلى دفاعه بالحجة أي يعلم أني محق وأنهم مبطلون. وقوله (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) يعني العاقبة الحميدة كأن المذمومة غير معتدّ بها ضم طريقة الوعيد إلى الإفحام المذكور. وقيل : معناه ربي أعلم بالأنبياء السالفة فهو جواب لقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا) وقال جار الله : (رَبِّي أَعْلَمُ)

٣٤٢

بحال من أهله للفلاح حيث جعله نبيا ووعده حسنى العقبى ، ولو كان كاذبا كما يزعمون لم يؤهله لذلك لأنه لا يفلح عنده الظالمون ، واعلم أن فرعون كان من عادته عند ظهور حجة لموسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروّجها على أغمار قومه فذكر هاهنا أمرين : الأوّل قوله (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فكأنه استدل بعدم الدليل على عدم المدلول وهو خطأ من جهة أن الدليل على المدلول وهو وجود الصانع أكثر من أن يحصى ، ومن جهة أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول. وأما قوله (غَيْرِي) فقد تكلف له بعضهم أنه لم يرد به أنه خالق السموات والأرض وما فيهما فإن امتناع ذلك بديهي ، وإنما أراد به نفي الصانع والاقتصار على الطبائع وأنه لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره. الثاني قوله (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) وقد تكلفوا له هاهنا أيضا فقيل : إنه يبعد من العاقل أن يروم صعود السماء بآلة ، ولكنه أراد أنه لا سبيل إلى إثبات الصانع من حيث العقل كما مر ، ولا من حيث الحس فإن الإحساس به يتوقف على الصعود وهو متعذر ، وإلا فابن يا هامان مثل هذا البناء وإنما قال ذلك تهكما. فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ، ثم رتب النتيجة عليه وهو قوله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) يحتمل أن يريد لأعلمه من الكاذبين. والأكثرون من المفسرين على أنه بنى مثل هذا البناء جهلا منه أو تلبيسا على ملئه حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن. يروى أن هامان جمع العمال حتّى اجتمع منهم خمسون ألف بناء سوى الأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ مبلغا لا يقدر الباني أن يقوم عليه ، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك. وروي في القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال : قد قتلت إله موسى ، فعند ذلك بعث الله جبرائيل لهدمه. قال أهل البيان : إن صح حديث ردّ النشابة ملطوخة فقد تهكم به بالفعل كما ثبت التهكم بالقول في غير موضع. وإنما قال (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) ولم يقل : اطبخ لي الآجر. لأن هذه العبارة أحسن ، ولأن فيه تعليم الصنعة ، وقد كان أوّل من عمل الآجر فرعون. عن عمر أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال : ما علمت أن أحدا بنى الآجر غير فرعون. والطلوع والاطلاع الصعود يقال : طلع الجبل واطلع.

وفي قوله سبحانه (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) يعني أرض مصر (بِغَيْرِ الْحَقِ) إشارة إلى أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى كما جاء في الحديث القدسي «الكبرياء

٣٤٣

ردائي والعظمة إزاري» فهو كقوله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١] وفي قوله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) دليل على أنهم كانوا منكري البعث كالطبائعيين. وفي قوله (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) دلالة على علو شأنه تعالى وعظمة سلطانه وإشارة إلى استحقار فرعون وجنوده وعدده وإن كانوا أكثر من رمال الدهناء كأنه شبههم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر. استدلت الأشاعرة بقوله (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أن خالق الشر وجاعل الكفر هو الله سبحانه. وقالت المعتزلة : معنى الجعل التسمية والحكم بذلك كما يقال : جعله بخيلا وفاسقا إذا حكم بالبخل والفسق عليه وسماه بالبخيل والفاسق ، أو أراد خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى كانوا أئمة الكفر داعين إلى النار أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. وقال أبو مسلم : معنى الإمامة التقدم وذلك أنه تعالى عجل لهم العذاب فصاروا متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار. وقال بعضهم : أراد بالإمامة أنهم بلغوا في ذلك الباب أقصى النهايات حتى استحقوا أن يقتدى بهم. ثم بين بقوله (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أن عقاب الآخرة سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه. وقال في الكشاف : أراد وخذلناهم في الدنيا ويوم القيامة هم مخذولون كما قال (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي طردا وإبعادا عن الرحمة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي من المطرودين المبعدين. وقال الليث : قبحه الله قبحا بالفتح وقبحا بالضم أي نحاه عن كل خير. وقال ابن عباس : من المشهورين بسواد الوجه وزرقة العين. وعن بعضهم أنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم فيجمع لهم بين الفضيحتين.

التأويل : وحين توجه تلقاء مدين عالم الروحانية (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) من أوصاف الروح (يَسْقُونَ) مواشي أخلاقهم من ماء فيض الإلهي. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ) السر والخفي ابنتا شعيب الروح يمنعان من استقاء ماء الفيض الإلهي. قال الشيخ الإمام الرباني نجم الدين المعروف بداية : وذلك لأن لمعان أنوار الفيض يرد على الروح في البداية بالتدريج فينشأ منه الخفي ، وهو لطيفة ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبة الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجليات صفات الربوبية والفيوض الإلهية ، فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستقاء. وكذا السر وهو لطيفة روحانية متوسطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح ، مؤدية إلى القلب وهو أيضا بمعزل عن استقاء ماء فيض الروح عند اشتغال القلب بمعالجات النفس وإصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية وذلك قولهما (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) وهم صفات الروح ويصرفوا مواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء الفيض الإلهي ، فإذا صدروا استقينا

٣٤٤

مواشينا من الأوصاف والأخلاق من أفضلة مواشيهم في حوض القوى (وَأَبُونا) وهو شعيب الروح لا يقدر على سقيه من الأوصاف الإنسانية إلا بالأجر والوسائط ، وإنا لا نطيق أن نسقي لضعف حالنا ، فسقي موسى القلب مواشيهما بقوّة استفادها من الجسد وقوّة استفادها من الروح لأنه متوسط بين العالمين ولهذا سمي قلبا (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) إلى العناية فطلب الفيض الإلهي بلا واسطة وهكذا ينبغي أن يكون السالك لا يقنع بما وجد من المعارف أبدا. (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) فيه أن القلب يحتاج في الوصول إلى حضرة شعيب الروح أن يستمد من الخفي أو السر. (لا تَخَفْ) نجوث فيه أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح نجا من ظلمات النفس وصفاتها (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ) من النفس والجسد (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) لأن القلب استفاد القوّة من الجسد والأمانة من الروح (ثَمانِيَ حِجَجٍ) فيه أن الروح في تبليغ القلب إلى مقام الخفي يحتاج إلى تسييره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق وهي : الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء. وتمام ذلك إلى العشرة راجع إلى خصوصيته وهما المحبة والأنس مع الله (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) في التخلق بأخلاقك اليمانية وفي المحبة والأنس مع الله (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي ليس لك أن تمنعني العبور عن المحبة لأنك من خصوصيتك بالخلافة مجبول على تلك الصفات الثمانية. وأما المحبة والأنس مع الله فصفتان مخصوصتان بالحضرة. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر فإنه مجبول على تلك الأوصاف وليس من زمرة (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] إلا مؤمن موحد. فلما اتصف موسى القلب بالأوصاف الثمانية وغلبت عليه محبة الله واستأنس به وصار بجميع صفاته متوجها إلى حضرة القدس (آنَسَ) من طور الحضرة نار نور الألوهية. وفي قوله (لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) إشارة إلى أن السالك لا بد له من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وتفريد الباطن عن تعلقات الكونين. نور يبدو وإذا بدا استمكن شمس طلعت ومن رآها آمن. وفي قوله (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) إشارة إلى أن الأوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) وهو السر في بقعة البدن من شجرة وجود الإنسان (مِنَ الرَّهْبِ) أي رهبة من فوات وصال الحضرة (وَأَخِي هارُونُ) هو العقل فمن خصوصيته تصديق الناطق بالحق (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) لأن النفس خلقت من أسفل عالم الملكوت ومنكسة ، والقلب خلق وسط عالم الملكوت متوجها إلى الحضرة فلهذا (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] وما صدقت النفس ما رأت (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي في طبائع الكواكب فإنها آباء النفس وأمهاتها العناصر والطبائع منكوسة إلى عالم السفل لا يعرفون مقام الوحدة فلا يعرفون بالتوحيد. (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ) الشيطان (عَلَى الطِّينِ) البشرية

٣٤٥

بنفخ الوساوس والغرور (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) من المقدمات الخيالية والوهمية (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أغرقوا في ماء شهوات الدنيا ويم هممها فأدخلوا نار الحسرة والندامة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ

٣٤٦

لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

القراآت : (سِحْرانِ) عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون ساحران تظاهرا بالتخفيف اتفاقا تجبى إليه بتاء التأنيث : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون على التذكير يعقلون بياء الغيبة ، شجاع واليزيدي الباقون بتاء الخطاب إلا أبا عمرو فإنه مخير (ثُمَّ هُوَ) بسكون الهاء ، علي والحواني عن قالون (تَبَرَّأْنا) مثل (أَنْشَأْنا).

الوقوف : (يَتَذَكَّرُونَ) ه (الشَّاهِدِينَ) ه لا للاستدراك (الْعُمُرُ) ج لاختلاف الجملتين مع العطف (آياتِنا) ج لما مر (مُرْسِلِينَ) ه (يَتَذَكَّرُونَ) ه (الْمُؤْمِنِينَ) ه (ما أُوتِيَ مُوسى) ط (مِنْ قَبْلُ) ج للفصل بين الخبر والطلب مع اتحاد القائل (تَظاهَرا) ج للتعجب من عنادهم (كافِرُونَ) ه (صادِقِينَ) ه (أَهْواءَهُمْ) ط (مِنَ اللهِ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (يَتَذَكَّرُونَ) ه لأن (الَّذِينَ) مبتدأ (يُؤْمِنُونَ) ه (مُسْلِمِينَ) ه (يُنْفِقُونَ) ه (أَعْمالُكُمْ) ط لابتداء الكلام مع اتحاد المقول (عَلَيْكُمْ) ط لذلك (الْجاهِلِينَ) ه (مَنْ يَشاءُ) ط لعطف الجملتين المتفقتين (بِالْمُهْتَدِينَ) ه (أَرْضِنا) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (مَعِيشَتَها) ج للفصل بين الاستفهام والإخبار مع فاء التعقيب (قَلِيلاً) ط (الْوارِثِينَ) ه (آياتِنا) ج للعدول مع اتفاق الجملتين (ظالِمُونَ) ه (وَزِينَتُها) ج فصلا بين المعنيين المتضادّين (وَأَبْقى) ط (تَعْقِلُونَ) ه (الْمُحْضَرِينَ) ه (تَزْعُمُونَ) ه (أَغْوَيْنا) ج (غَوَيْنا) ج لعدم العاطف مع اتحاد القائل (إِلَيْكَ) ج لما قلنا مع زيادة النفي المقتضى للفصل (يَعْبُدُونَ) ه (الْعَذابَ) ج لجواز تعلق «لو» بمحذوف أي لو اهتدوا لما لقوا ما لقوا ، ويجوز تعلقها بـ (يَهْتَدُونَ) والوقف على (لَهُمْ) أي لو كانوا يهتدون لرأوا العذاب بقلوبهم (يَهْتَدُونَ) ه (الْمُرْسَلِينَ) ه (لا يَتَساءَلُونَ) ه (الْمُفْلِحِينَ) ه (وَيَخْتارُ) ز وقد يوصل على معنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة وفيه بعد (الْخِيَرَةُ) ه (يُشْرِكُونَ) ه (يُعْلِنُونَ) ه (إِلَّا هُوَ) ط (وَالْآخِرَةِ) ز لعطف الجمل (تُرْجَعُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر أوّلا أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنوارا للقلوب وإرشادا

٣٤٧

لأهل الضلال وسببا لنيل الرحمة إرادة أن يتذكروا ، ويجوز أن يعود ترجي التذكر إلى موسى. ثم أجمل عظائم أحوال موسى وبين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن هناك فقال (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي بجانب المكان الواقع في شق الغرب وهو ناحية الشام التي فيها قضى إلى موسى أمر الوحي والاستنباء. (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) على ذلك فقد يكون الشخص حاضرا ولا يكون شاهدا ولا مشاهدا. قال ابن عباس : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى. ثم قال (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا) بعد عهد موسى إلى عهدك (قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فاندرست العلوم والشرائع ووجب إرسالك إلى آخرهم قرنا وهو القرن الذي أنت فيه ، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء. وحاصل الآية أنه ذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب والغرض بيان إعجازه كأنه قال : إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله ، دلالة ظاهرة على نبوّتك. ثم فصل ما أجمل فذكر أوّل أمر موسى وبين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن هناك وهو قوله (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهم شعيب والمؤمنون به (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) قال مقاتل : أي لم تشهد أهل مدين وأنت تقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولو لا ذلك ما علمتها. وقال الضحاك : يقول يا محمد : إنك لم تكن رسولا إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما الرسول غيرك (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. ثم ذكر أوسط أمر موسى وأشرف أحواله وبين أنه لم يكن هناك فقال (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) الأظهر أنه يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه. وعن بعض المفسرين أنه أراد قوله (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها) إلى قوله (الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٦] وقال ابن عباس : إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم يا أمة محمد أجيبكم قبل أن تدعوني وأعطيكم قبل أن تسألوني وأغفر لكم قبل أن تستغفروني. قال : وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى سبعين رجلا لميقات ربه. وقال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا رب أرنيهم. قال : إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال : بلى يا رب. فقال : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه : أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس. وروى سهل بن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) قال : «كتب الله كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد : إن رحمتي سبقت غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، من

٣٤٨

لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أدخله الجنة» (١). قوله (وَلكِنْ رَحْمَةً) أي ولكنا علمناك (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ثم فسر الرحمة بقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة. وقيل : كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم ، فبعثه الله تعالى تقريرا لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة. قوله (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) هي امتناعية وجوابها محذوف. والفاء في قوله (فَيَقُولُوا) للعطف على أن تصيبهم. وقوله (لَوْ لا أَرْسَلْتَ) هي تحضيضية. والفاء في (فَنَتَّبِعَ) جواب «لو لا» ، وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلا منهما بعث على الفعل. والمعنى : ولو لا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولا محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم. والحاصل أن إرسال الرسول لأجل إزالة هذا العذر. قال أصحاب البيان : القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها «لو لا» وجيء بالقول معطوفا عليها بفاء السببية تنبيها على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لو لا أرسلت إلينا رسولا ، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان ، وفي هذا بيان استحكام كفرهم وتصميمهم. قال الجبائي : في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لو لا أرسلت. وقال الكعبي : فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى. وقال القاضي : فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفا على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا. ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة.

ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم إلا العناد فقال (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) أي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) وفيه وجوه : أحدها أن اليهود أمروا قريشا أن يسألوا محمدا مثل ما أوتي موسى فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة. والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة ، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٣٨١ ، ٤٣٣). إلى قوله «سبقت غضبي».

٣٤٩

في زمن موسى إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لتجانسهم في الكفر والعنت. وقال الكلبي : إن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما رجع الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا : إنه كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال الله تعالى في حقهم (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ). وقال الحسن : قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير : أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا. وقال قتادة : أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه‌السلام فـ قالوا ساحران والأظهر أن كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات. ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى) بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت. من قرأ ساحران بالألف فظاهر ، وأما من قرأ (سِحْرانِ) فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر ، أو على إرادة نوعين من السحر ، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة. وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب. وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار. وفي تكرار (قالُوا) وجهان : أحدهما قالوا ساحران مرة (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين (كافِرُونَ) مرة. وثانيهما أن يكون قوله (وَقالُوا) معطوفا على (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) ثم عجزهم بقوله (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) أي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ. قال ابن عباس (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج. وقال مقاتل : فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما. وهذا أشبه بالآية ، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا. ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم. وإنما لم يقل «فإن لم يأتوا» لأن قوله (فَأْتُوا) أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير : فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوجين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى. وفي قوله (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) حال كونه (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) إشارة إلى فساد طريقة التقليد. استدلت الأشاعرة بقوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن. وقالت المعتزلة : الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقا ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذرا لهم. ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله (وَلَقَدْ

٣٥٠

وَصَّلْنا) أي أنزلنا عليهم القرآن إنزالا متصلا بعضه في أثر بعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة. ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا ووعدا ووعيدا وقصصا وعبرا إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا. ويحتمل أن يكون المراد : بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزا مرة بعد أخرى.

وحين أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) قال قتادة : إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها ، فلما بعث الله محمدا آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام. وقال مقاتل : نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر من أرض الحبشة في السفينة ، وثمانية جاؤا من الشام. وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم. والتحقيق أن كل من حصل في حقه هذه الصفة يكون داخلا في الآية لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم حكى عنهم ما يدل على تأكد إيمانهم وقوله (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) تعليل للإيمان به لأن كونه حقا من الله يوجب الإيمان به. وقوله (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) بيان لقولهم آمنا به لأن إيمانهم احتمل أن يكون قريب العهد وأن يكون بعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم ، وذلك لما وجدوا في كتب الأنبياء من البشارة بمقدمه فأذعنوا له وتلقوه بالقبول كما هو شأن كل مسلم ، ومعنى (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل وجوده ونزوله. وفي قوله (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أقوال بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على أذى المشركين وعلى أذى أهل الكتاب ، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وعلى الإيمان به بعد نزوله وهذا أقرب ، لأنه لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة وبين أنهم كانوا مؤمنين به قبل البعث ثم أثبت لهم الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ) وهي الطاعة (السَّيِّئَةَ) وهي المعاصي المتقدمة أي يدفعون بالحلم الأذى. يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه. وقال السدي : عاب اليهود عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول : سلام عليكم. مدحهم بالإيمان ثم بالطاعات البدنية ومكارم الأخلاق ، ثم بالطاعات المالية وهو الإنفاق مما رزقهم ، ثم بالتحمل والتواضع. وإنما يجب أن يقوله الحليم في معارضة السفيه وهو قوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) وهو كل ما ينبغي أن يلقى ويترك (أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا) لأهل ذلك اللغو (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلام توديع ومتاركة (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نطلب مخالطتهم وعشرتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم وهذا خلق مندوب إليه ولو بعد الأمر بالقتال فلا

٣٥١

نسخ. ثم ذكر أن الهداية إنما تتعلق بمشيئة الله. قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : أريد منك كلمة واحدة أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله. قال : قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جبن عند الموت. وقد مر مثل هذا النقل في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦]. واعلم أنه لا منافاة بين هذه الآية وبين قوله (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] لأن الذي نفاه هداية التوفيق وشرح الصدر والتي أثبتها هداية الدعوة والبيان ، وبحث الأشاعرة والمعتزلة هاهنا معلوم. وحيث بين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله سبحانه حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بالدنيا وذلك أنهم (قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) يروى أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك أن تسلبنا العرب بسرعة أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا ، فأجاب الله سبحانه عن شبهتهم بقوله (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) يروى أن العرب كانوا يشتغلون بالنهب والغارة خارج الحرم وما كانوا يتعرضون البتة لسكان الحرم وقد زاد الله حرمته بقوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] وبين مزيته بقوله (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) قالوا : الكل هاهنا بمعنى الأكثر. قلت : يحتمل أن يكون على أصله. وانتصب (رِزْقاً) على أنه مصدر لأن (يُجْبى) بمعنى يرزق ، أو على أنه مفعول لأجله. وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة. وحاصل الجواب أنه لما جعل الحرم آمنا وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان ، فبقاء هذه الحالة مع الإيمان أولى. ولا يخفى أن التخطف على تقدير وقوعه لا يصلح عذرا لعدم الإيمان ، فإن درجة الشهادة أعلى وأجل ، ومضرة التخطف أهون من العقاب الدائم إلا أنه تعالى احتج عليهم بما هو معلوم من عادة العرب وهو أنهم كانوا لا يتعرضون لقطان الحرم والأمر البين للحس أولى بأن يفحم به الخصم فلذلك قدمه الله تعالى. وفي الآية دلالة على صحة المحاجة. لإزالة شبهة المبطلين. قالت الأشاعرة : الأرزاق إنما تصل إليهم على أيدي الناس وقد أضاف الرزق إلى نفسه فدل ذلك على أن أفعال العباد مستندة إلى الله. ومن تأمل في الآية علم أن العبد يجب أن لا يخاف ولا يرجو إلا من الله.

ثم أجاب عن شبهتهم بحديث آخر مخلوط بالوعيد. وانتصب (مَعِيشَتَها) بنزع

٣٥٢

الخافض كقوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] أو على أنه ظرف مكان مجازا كأن النظر استقر في المعيشة ، أو على حذف المضاف أي بطرت أيام معيشتها كخفوق النجم ، أو بتضمين بطرت معنى كفرت وعطلت ، والبطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله فيه. ومعنى (إِلَّا قَلِيلاً) قال ابن عباس : أي لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة. ويجوز أن يكون شؤم معاصيهم بقي في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يسكن إلا قليلا. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) كقوله (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٨٠] لأنه الباقي بعد فناء خلقه. ثم كان لسائل أن يقول : ما بال الكفرة قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يهلكوا مع تماديهم في الغي؟ فقال (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي في القرية التي هي قصبتها وأصلها وغيرها من توابعها وأعمالها (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) بوحي وتبليغ وذلك لتأكيد الحجة وقطع المعذرة. قال في الكشاف : يحتمل أن يراد وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى ـ يعني مكة ـ رسولا وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء. وكان لقائل أن يقول : ما بال الكفار بعد مبعث محمد لم يهلكهم الله مع تكذيبهم وجحودهم فقال (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فمنهم من قد آمن ومنهم من سيؤمن ومنهم من يخرج من نسله من يؤمن. ثم أجاب عن شبهتهم بجواب ثالث وذلك أن حاصل شبهتهم أن قالوا : تركنا الدين لأجل الدنيا. فبين تعالى بقوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية. أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى لأنه أكثر وأدوم. ونبه على جهلهم بقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ويرحم الله الشافعي حيث قال : إذا أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى ، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير. نظير الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» (١). قال البرهان : إنما السورة «وما أوتيتم» الواو وفي الشورى (فَما أُوتِيتُمْ) [الآية : ٣٦] بالفاء لأنه لم يتعلق بما قبله هاهنا كثير تعلق ، وقد تعلق في الشورى بما قبلها أشد تعلق ، ولأنه عقب ما لهم من المخافة ما أوتوه من الأمنة والفاء حرف التعقيب والواو والمجرد العطف. وإنما زاد في هذه السورة (وَزِينَتُها). لأن المراد هاهنا جميع أعراض الدنيا من الضرورات ومن الزين ، فالمتاع ما لا غنى عنه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمنكوح ، والزينة وغيرها كالثياب الفاخرة والمراكب الرائعة والدور المشيدة. وأما في «الشورى» فلم يقصد الاستيعاب بل ما هو

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٢٥. ابن ماجة في كتاب الزهد باب ٣١. أحمد في مسنده (٤ / ١٢٤).

٣٥٣

مطلوبهم في تلك الحالة من النجاة والأمن في الحياة فلم يحتج إلى ذكر الزينة. ثم زاد البيان المذكور تأكيدا بقوله (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ) لأن وعد الله يترتب عليه الإنجاز البتة وصاحبه يلقى الموعود لا محالة. وتقدير الكلام : أبعد التفاوت المذكور بين ما عند الله وبين متاع الحياة الدنيا يسوّي بين أهل الجنة وبين أبناء الدنيا؟ ومعنى «ثم» في قوله (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تراخي حال الإحضار عن حال التمتع ، لا تراخي وقته عن وقته. وتخصيص لفظ (الْمُحْضَرِينَ) بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن. قال الله تعالى (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات : ٥٧] (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات : ١٢٧] ويمكن أن يقال : إن في اللفظ إشعارا به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة والأنس وإنما يليق بمواضع الإكراه والوحشة. قيل : نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل. وقيل : في علي وحمزة وأبي جهل. وقيل : في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. ثم ذكر من وصف القيامة قائلا (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي فاذكر ذلك اليوم. ومعنى الاستفهام في (أَيْنَ) التوبيخ والتهكم. ومفعولا (تَزْعُمُونَ) محذوفان تقديره تزعمونهم شركائي. (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي وجب وثبت وهو مفهوم لأملأن جهنم وهم الشياطين ورؤساء الكفر. و (هؤُلاءِ) مبتدأ و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) صفته والعائد إلى الموصول محذوف والخبر (أَغْوَيْناهُمْ) والتقدير : هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا. قال أهل السنة : أرادوا كما أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر وإلجاء فنحن أيضا أغويناهم بالوسوسة والتسويل وبكل ما أمكن حتى غووا. وقالت المعتزلة : يعنون أنا ما غوينا إلا باختيارنا فكذلك هم ما غووا إلا باختيارهم وإن إغواءنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين في الإقدام على تلك العقائد والأعمال فيكون كما حكي عن الشيطان (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] ثم قالوا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومن عقائدهم وأعمالهم (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنما كانوا يعبدون هؤلاء أهواءهم الفاسدة. وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى.

وحين حكى التوبيخ المذكور ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر اعتذارا ذكر ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم وهو قوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) زعم جم غفير من المفسرين أن جواب «لو» محذوف. فقال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة ولعلموا أن العذاب حق ، أو لو كانوا يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل : أراد ورأوا العذاب لو كانوا يبصرون شيئا ولكنهم صاروا

٣٥٤

مبهوتين بحيث لا يبصرون شيئا فلا جرم ما رأوه. وقيل : الضمير للأصنام أي كانوا أحياء مهتدين لشاهدوا العذاب. وقيل : «لو» للتمني أي تمنوا لو كانوا مهتدين. ثم بكتهم بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. ومعنى (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أن أخبار المرسلين والمرسل إليهم صارت كالعمى عليهم جميعا لا يهتدون إليهم فهم لا يتساءلون كما يسأل بعض الناس بعضا في المشكلات لأنهم متساوية الأقدام في العجز عن الجواب ، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتلعثمون في الجواب عن مثل هذا السؤال كما قال سبحانه (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) [المائدة : ١٠٩] فما ظنك بضلال أممهم؟! قال القاضي : الآية تدل على بطلان قول المجبرة ، لأن فعلهم لو كان خلقا من الله تعالى وجب وقوعه بالقدرة والإرادة ولما عميت عليهم الأنباء ولقالوا : إنما كذبنا الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم ومن جهة القدرة الموجبة لذلك. وكذا القول فيما تقدّم لأن الشيطان كان له أن يقول : إنما أغويت لخلقك فيّ الغواية ، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك لتكون الحجة لهم على الله قوية والعذر ظاهرا. وعارضته الأشاعرة بالعلم والداعي. والذي اعتمد عليه القاضي في دفع هذا المشكل المعضل في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن فالواجب السكوت. وزيفه الأشعري بأن الكافر لو أورد هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهرا. ولقائل أن يقول : السكوت عن جواب الكافر جواب كما قيل : جواب الأحمق السكوت. وحين فرغ من توبيخ الكفار وتهديدهم أتبعه ذكر التائبين وأنهم من المفلحين. و «عسى» من الكريم تحقيق أو الترجي عائد إلى التائب. ثم إن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى وهي قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] فأجاب الله تعالى عنها بقوله (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) لأنه المالك المطلق المنزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء. وعلى مذهب المعتزلة هو حكيم فلا يفعل إلا الحكمة والخير. وقوله (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بيان لقوله (وَيَخْتارُ) والخيرة من التخير كالطيرة من التطير في أنه اسم مستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وهو بمعنى المتخير كقولهم «محمد خيرة الله من خلقه». وقد مر في الوقف أن بعضهم يقف على (ما يَشاءُ) ثم يقول (وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) قال أبو القاسم الأنصاري : يعلم من هذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه ، وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن بالله ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله. فإن قيل : إنما كلفه ليستوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا : إذا علم أن ذلك الأفضل لا يحصل فتوريطه للعقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة. ثم قولهم «المستحق خير من

٣٥٥

المتفضل به» ممنوع لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله ، أما الذي حصل ذاته وصفاته بإحسانه فكيف يستنكف من تفضله؟ قلت : لقائل أن يقول : مجرد الاستبعاد لا يصلح للمنع على أن لذة الأجر يستحيل أن تحصل بدون الأجر. ثم نزه نفسه بقوله (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) والغرض أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال والإهانة والإجلال كلها مفوض وجوبها إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة. ثم أكد ذلك بقوله (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة نبيه (وَما يُعْلِنُونَ) من مطاوعتهم فيه. ويحتمل أن يكون عاما يشمل السرائر والظواهر كلها وهو المستأثر بالإلهية. و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير لما قبله (لَهُ الْحَمْدُ فِي) الدار (الْأُولى) على نعمه الفائضة على البر والفاجر (وَ) في الدار (الْآخِرَةِ) كقولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] والتحميد هناك على وجه اللذة لا التكليف. قال أهل السنة : الثواب يستحق عند المعتزلة فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة ، وأما أهل النار فلم ينعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم. والجواب ما ذكرناه أن تحميدهم يجري مجرى التنفس. قال القاضي : إنه يستحق الحمد من أهل النار أيضا بما فعل بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم ، وأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله به عليه من أن يوجب الشكر. وقال في التفسير الكبير : فيه نظر ، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا أن التوبة واجبة القبول وأن الشكر مما يوجب الثواب فلا بد أن يتوبوا ويشتغلوا بالشكر ليستحقوا الثواب ويتخلصوا من العقاب. ولقائل أن يقول : لا يلزم من وجوب قبول التوبة واستحقاق الجزاء على العمل في دار التكاليف أن يكون الأمر كذلك في غير دار التكاليف. ثم بين بقوله (وَلَهُ الْحُكْمُ) أن القضاء بين العباد مختص به فلو لا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ، ولا على الزوجة حكم زوجها ، ولا على الابن حكم أبيه ، ولا على الرعية حكم سلطانهم ، ولا على الأمة حكم رسولهم وإلى محل حكمه وقضائه يرجع كل عبيده وإمائه.

التأويل : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى) القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] (وَما كُنْتَ) في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى) أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران : ٨١] وما كنت في عالم الشهادة (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) في عالم الشهادة (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك

٣٥٦

العهود والمواثيق (وَما كُنْتَ) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) كشعيب وموسى ، إذ أخذت منهما الميثاق أن يؤمنا بك (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) للرسل الذين أخذنا الميثاق منهم. ولو لا أن تصيبهم التقدير ، ولو لا أن مقتضى العناية الأزلية في حق هذه الأمة ودفع حجتهم علينا فإنا ناديناهم وهم في العدم فأسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم للإجابة (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) يعني محمدا. وفيه أن له رتبة أن يقول أنا الحق لفنائه عن نفسه بالكلية وبقائه بربه وكل من سواه فليس له أن يقول ذلك إلا بطريق المتابعة (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ) لو لم يكونوا محتجبين بكفرهم عن رؤية كماله لقالوا : لو لا أوتي مثل ما أوتي محمد من مقام المحبة ومقام لي مع الله وقت (بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) يعني الكتاب المشتمل على العلم اللدني فإنه أهدى إلى الحضرة من الكتب الموقوفة على السماع والمطالعة ، ومن لم تكن له هذه الرتبة فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه كما قال (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) حقيقة (الْكِتابَ) في عالم الأرواح (مِنْ قَبْلِهِ) نزوله في عالم الأشباح (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) في عالم الصورة ولهذا قالوا (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ولذلك قال (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي في العالمين (بِما صَبَرُوا) على مخالفات الهوى وموافقات الشرع (وَيَدْرَؤُنَ) بالأعمال الصالحات ظلمة المعاصي ، أو بحسنة الذكر صدأ حب الدنيا عن مرآة القلوب ، أو بحسنة نفي ما سوى الله شرك الوجود المجازي (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الوجود المجازي (يُنْفِقُونَ) في طلب الوجود الحقيقي : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) وهو طلب ما سوى الله (أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا) في طلب الوجود الحقيقي (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) في طلب الفاني (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وذلك أن للقلب بابين : أحدهما إلى النفس والجسد وهو مفتوح أبدا ، والآخر إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده كل مفتاح كما قال (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] وقال : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الذين أصابهم رشاش النور (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ) بجذبات الألوهية من أرض الأنانية (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) في مقام الهوية (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ) حقائق (كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً) من العلوم اللدنية (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذوق العلم اللدني (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها (إِلَّا قَلِيلاً) من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي روحها لأن القلب من متولدات الروح (رَسُولاً) من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة ، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما أوحى إلى عيسى «تجوّع ترنى تجرد تصل إلي» (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) راعوا

٣٥٧

طريقة الأدب ولم يقولوا كما أغويتنا مثل ما قال إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) [الأعراف : ١٦] أي (أَغْوَيْناهُمْ) بتقديرك (كَما غَوَيْنا) بقضائك وهذا من خصوصية تكريم بني آدم بحفظ البعداء طريقة الأدب كما يحفظها أهل القرب على بساط الكرامة (وَرَأَوُا الْعَذابَ) يعني (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لرأوا عذاب الفطام عن المألوفات والشهوات والله أعلم بالخفيات.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ

٣٥٨

وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

القراآت : (عِنْدِي أَوَلَمْ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن فليح وأبو عمرو وخزاعي عن أصحابه وابن مجاهد وأبو عون والسرندي عن قنبل. الباقون بالإسكان (وَيْكَأَنَ وَيْكَأَنَّهُ) الوقف على الياء : أبو عمرو ويعقوب ويك الوقف على الكاف و (وَيْكَأَنَّهُ) موصولة : روى السوسي عن السرندي وهو مذهب حمزة. الباقون كلاهما موصولان (لَخَسَفَ) على البناء للفاعل : سهل ويعقوب وحفص (رَبِّي أَعْلَمُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو.

الوقوف : (بِضِياءٍ) ط (تَسْمَعُونَ) ه (فِيهِ) ط (تُبْصِرُونَ) ه (تَشْكُرُونَ) ه (تَزْعُمُونَ) ه (يَفْتَرُونَ) ه (عَلَيْهِمْ) ص لأن الواو للحال أي وقد آتيناه مع طول الكلام (الْقُوَّةِ) ط بناء على أن التقدير و «أذكر» إذ قال : وقال في الكشاف : إنه متعلق بـ (لَتَنُوأُ) فلا وقف (الْفَرِحِينَ) ه (فِي الْأَرْضِ) ط (الْمُفْسِدِينَ) ه (عِنْدِي) ط (جَمْعاً) ط (الْمُجْرِمُونَ) ه (فِي زِينَتِهِ) ط لعدم العاطف واختلاف القائل. (قارُونُ) لا لأن ما بعده تعليل التمني ولو ابتدأنا لحكمنا بأنه ذو حظ (عَظِيمٍ) ه (صالِحاً) ج لأن ما بعده احتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله ، واحتمل أن يكون من قول أهل العلم (الصَّابِرُونَ) ه (مِنْ دُونِ اللهِ) ق قد قيل : لتفصيل الاعتبار (المُنْتَصِرِينَ) ه (وَيَقْدِرُ) ج للابتداء بلولا مع اتحاد المقول (لَخَسَفَ بِنا) ط (الْكافِرُونَ) ه (وَلا فَساداً) ط (لِلْمُتَّقِينَ) ه (مِنْها) ج لعطف جملة الشرط (يَعْمَلُونَ) ه (مَعادٍ) ط (مُبِينٍ) ه (لِلْكافِرِينَ) ه ز للآية مع العطف (الْمُشْرِكِينَ) ه للآية وخلو المعطوف عن نون التأكيد التي دخلت المعطوف عليه مع اتفاق الجملتين آخرا احترازا من إيهام كون ما بعده صفة (آخَرَ) ه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ط (وَجْهَهُ) ط (تُرْجَعُونَ) ه.

التفسير : لما بين سبحانه حقيقة آلهيته واستحقاقه للحمد المطلق وأن مرجع الكل إلى حكمته وقضائه ، أتبعه بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه أحد سواه وهو تبديل ظلام الليل بضياء النهار وبالعكس. والمعنى : أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد الدائم المتصل من السرد ، والميم زائدة ، وانتصابه على أنه مفعول ثان لجعل أو على الحال ، وإلى متعلق بجعل أو بـ (سَرْمَداً) ، ومنافع الليل والنهار والاستدلال بهما على كمال قدرة الله تعالى قد تقدمت مرارا. قال جار الله : وإنما لم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قيل : (بِلَيْلٍ

٣٥٩

تَسْكُنُونَ فِيهِ) لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة وليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه. قال الكلبي : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك. وقوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال. وقال أهل البرهان : قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل. وإنما ختم الآية الأولى بقوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ) بناء على الليل ، وختم الأخرى بقوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) بناء على النهار والنهار مبصر وآية النهار مبصرة. ثم بين أن من رحمته زواجه بين الليل والنهار لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ولإرادة الشكر على النعمتين جميعا. وفي الآية طريقة اللف ثقة بفهم السامع وذلك لأن السكون بالنهار وإن كان ممكنا وكذا الابتغاء من فضل الله بالليل إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره فلهذا خصه به. وفي تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء دليل على أنه لا شيء أسخط عند الله من الإشراك به ، ويعلم منه أنه لا شيء أجلب لرضاه من الشهادة بوحدانيته. وفحوى الخطاب : أين الذين ادّعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين الذين قلتم إنها تقربكم إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله؟ فيكون ذلك زيادة في غمهم. ومعنى (وَنَزَعْنا) وأخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) قال بعضهم : هو نبيهم لأن الأنبياء يشهدون أنهم بلغوا أمتهم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زيادة في غمهم أيضا. وقال آخرون : بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ، ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب ، لأنه تعالى عم كل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه أزمنة الفترات والأزمنة التي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَقُلْنا) للأمة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فيما كنتم عليه من الشرك وخلاف الرسول (فَعَلِمُوا) حينئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) ورسوله وغاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل والزور. ثم عقب حديث أهل الضلال بقصة قارون. وهو اسم أعجمي ولهذا لم ينصرف بعد العلمية ولو كان «فاعولا» من قرن لانصرف. والظاهر أنه كان ممن آمن بموسى ، هذا ظاهر نص القرآن ولا يبعد أيضا حمله على القرابة. قال الكلبي : إنه كان ابن عم موسى. وقيل : كان موسى ابن أخيه وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري. وقال : إذا كانت النبوّة لموسى والذبح والقربان إلى هارون فما لي؟ وفي قوله (فَبَغى عَلَيْهِمْ) وجوه أحدها : أن بغيه استخفافه بالفقراء. وثانيها أنه ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. وقال

٣٦٠