تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما) كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه. قلت : فعلى هذا تكون الفاء للسببية ، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا؟ (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله. ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريرا للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل : فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك : فعلت كذا وكذا ، فإذا فعلت ذلك فتربص.

وبعد تقرير الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله (أَنْ تَقُومُوا) على أنه عطف بيان لها. والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيّ متفرقين إلى أوطانهم. وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد. فقوله (مَثْنى وَفُرادى) إشارة إلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال : أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله. وقوله (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر ، ثم تتفكروا فيما أقول بعده ، وهو الرسالة المشار إليها بقوله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) والحشر المشار إليه بقوله (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) قيل : وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال : ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد. فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد ، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد. وعند جار الله : الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصا متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا ، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى ، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفة حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان : مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان ، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان. لكن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاتفاق أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأوفرهم حياء وأمانة ، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها. وقوله (ما بِصاحِبِكُمْ) إما أن يكون كلاما مستأنفا فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد : ثم تتفكروا

٥٠١

فتعلموا ذلك. وجوز بعضهم أن تكون «ما» استفهامية. وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبيا ذكر وجها آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) الآية. وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود هاهنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء ، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب. هذا إذا أريد بقوله (فَهُوَ لَكُمْ) نفي سؤال الآخر رأسا كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئا فخذه وهو لم يعطه شيئا. ويحتمل أن يراد بالأجر قوله (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] وقوله (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الفرقان : ٥٧] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عزوجل فيه نصيبهم ونفعهم. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم. قوله (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل ، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت. وفي قوله (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة ، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه.

وحين ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى يده. وقيل : السيف. وقوله (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدىء فعلا أو يعيده ، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت. ولما كان ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتا في نفسه بينا لمن نظر إليه كان جائيا ، وحين كان ما أتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل : إنه لا يبدىء ولا يعيد أي لا يعيد شيئا لا في الأوّل ولا في الآخر. وقيل : الباطل إبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشىء خلقا ولا يعيد وإنما المنشئ والباعث هو الله. وعن الحسن : لا يبدىء لأهله خيرا ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج : «ما» استفهامية والمعنى أي شيء ينشىء إبليس ويعيده؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) يعنى كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين. قال جار الله : هذا حكم عام لكل مكلف ،

٥٠٢

والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه. وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء ، وفيه أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي. ثم عجب نبيه أو كل راء من مآل حال أهل العناد بقوله (وَلَوْ تَرى) وجوابه محذوف أي لرأيت أمرا عظيما. والأفعال الماضية التي هي (فَزِعُوا وَأُخِذُوا وَقالُوا وَحِيلَ) كلها من قبيل (وَنادى) [الأعراف : ٤٨] (وَسِيقَ) [الزمر : ٧٣] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر. وعن ابن عباس : نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفا أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء (فَلا فَوْتَ) أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو من صحراء بدر إلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض. وجوّز جار الله أن يعطف (وَأُخِذُوا) على (فَلا فَوْتَ) على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولا سهلا لا تعب فيه ، أو أراد أن تناولهم التوبة وإيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب. وعن أبي عمرو : التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت. والأصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه. وقيل : التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب «المدخل في تفسير القرآن» والضمير في قوله (وَقَدْ كَفَرُوا) عائد إلى ما يعود إليه في قوله (آمَنَّا بِهِ).

قوله (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) فيه وجوه أحدها : أنه قولهم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور. وثانيها : أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه. وثالثها : أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث ، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ. ورابعها : قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما

٥٠٣

تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا. وخامسها : قالوا (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله و (مُرِيبٍ) موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود.

التأويل : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ) القلوب (وَلا فِي الْأَرْضِ) النفوس من سعادة أو شقاوة (قالُوا الْحَقَ) يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية. (أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين في عالم الأجساد وهو ظاهر ، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالا عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام ، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار. فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض ، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة ، والتوحيد والمعرفة ثمرتها ، والشريعة كالماء والبشير والنذير كالآكار. وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم. يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به. ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتا معلوما لا تتجاوزه (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو أسير في أيدي صفات النفس (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق.

٥٠٤

(سورة فاطر مكية حروفها ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون

كلمها سبعمائة وسبع وسبعون آياتها خمس وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ

٥٠٥

تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

القراآت : غير الله بالجر : يزيد وحمزة وعليّ. الآخرون : بالرفع حملا على المحل (فَلا تَذْهَبْ) من الإذهاب نفسك منصوبا : يزيد. الآخرون : بفتح التاء والهاء من الذهاب (نَفْسُكَ) مرفوعا : الريح على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف (وَلا يُنْقَصُ) بفتح الياء وضم القاف : روح وزيد. الباقون : بالعكس. (مِنْ عُمُرِهِ) باختلاس الضمة : عباس والذين يدعون على الغيبة : قتيبة.

الوقوف : (وَرُباعَ) ط (يَشاءُ) ط (قَدِيرٌ) ه (لَها) ج (بَعْدِهِ) ط (الْحَكِيمُ) ه (عَلَيْكُمْ) ط (وَالْأَرْضِ) ط (إِلَّا هُوَ) ز للاستفهام ولفاء التعقيب واتحاد المعنى (تُؤْفَكُونَ) ه (قَبْلِكَ) ط (الْأُمُورُ) ه (الْغَرُورُ) ه (عَدُوًّا) ط (السَّعِيرِ) ه ط لأن (الَّذِينَ) مبتدأ. (شَدِيدٌ) ه (كَبِيرٌ) ه (حَسَناً) ط لحذف الجواب (حَسَراتٍ) ط (يَصْنَعُونَ) ه (مَوْتِها) ط (النُّشُورُ) ه (جَمِيعاً) ط (يَرْفَعُهُ) ط (شَدِيدٌ) ه (يَبُورُ) ه (أَزْواجاً) ط (بِعِلْمِهِ) ط (فِي كِتابٍ) ط (يَسِيرٌ) ه (أُجاجٌ) ط (تَلْبَسُونَها) ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى (تَشْكُرُونَ) ه (مُسَمًّى) ط (الْمُلْكُ) ط (قِطْمِيرٍ) ه (دُعاءَكُمْ) ج للشرط مع العطف (لَكُمْ) ط (بِشِرْكِكُمْ) ط (خَبِيرٍ) ه (إِلَى اللهِ) ط لاتفاق الجملتين مع حسن الفصل بين وصفي الخالق والمخلوق (الْحَمِيدُ) ه (جَدِيدٍ) ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال (بِعَزِيزٍ) ه (أُخْرى) ط لاستئناف الشرط (قُرْبى) ط (الصَّلاةَ) ط (لِنَفْسِهِ) ط (الْمَصِيرُ) ه (وَالْبَصِيرُ) ه لا (وَلَا النُّورُ) ه لا (وَلَا الْحَرُورُ) ه ج للطول والتكرار (الْأَمْواتُ) ط (يَشاءُ) ج للعطف من الإثبات إلى النفي مع اتفاق

٥٠٦

الجملتين (الْقُبُورِ) ه (إِلَّا نَذِيرٌ) ه (وَنَذِيراً) ط (نَذِيرٌ) ه (مِنْ قَبْلِهِمْ) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (الْمُنِيرِ) ه (نَكِيرِ) ه.

التفسير : لما بين في آخر السورة المتقدمة انقطاع رجاء الشاك وعدم قبول توبته في الآخرة ذكر في أول هذه السورة حال الموفق المؤمن وبشر بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة. و (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض يؤيد التفسير الثاني قوله (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) وقوله (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٣] و (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أي أصحاب أجنحة أراد أن طائفة منهم أجنحة كل منهم اثنان اثنان ، وبعضهم أجنحة كل ثلاثة ثلاثة ، وبعضهم أجنحة كل أربعة أربعة. قال جار الله : الذين أجنحتهم ثلاثة ثلاثة لعل الثالث منها في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة أو لعله لغير الطيران فلقد رأيت في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة ، فجناحان يلفون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله عزوجل ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عزوجل. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى جبرائيل عليه‌السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح. وروي أن إسرافيل له اثنا عشر جناحا ، جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل لعظمة الله سبحانه وتعالى حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير. ويجوز أن يخالف حال الملائكة حال الطيور في الطيران كالحيوان الذي يدب بأرجل كثيرة ، ويجوز أن يكون البعض للزينة ، ويجوز أن يكون كل جناح ذا شعب. وقال الحكيم : الجناحان إشارة إلى جهتين : جهة الأخذ من الله ، وجهة الإعطاء لمن دونهم بإذن الله كقوله (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣] (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [النازعات : ٥] ومنهم من يفعل بواسطة فلهم ثلاث جهات أو أكثر على حسب الوسائط. ثم بين كمال قدرته بقوله (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) والظاهر أنه عام يتناول كل زيادة في كل أمر يعتبر في الصورة كحسن الوجه والخط والصوت ونحوهما ، أو في المعنى كحصافة العقل وجزالة الرأي وسماحة النفس وذلاقة اللسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة. ثم أكد نفاذ أمره وجريان الأمور على وفق مشيئته بقوله (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ) الآية. وفيها دلالة على أن رحمته سبقت غضبه من جهة تقديم الرحمة ومن جهة بيان الضمير في القرينة الأولى بقوله (مِنْ رَحْمَةٍ) والإطلاق في قوله (وَما يُمْسِكْ) فيشمل إمساك الغضب وإمساك الرحمة. ومن جهة قوله (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد إمساكه فيفيد أن الرحمة إذ جاءته لم يكن لها انقطاع وإن ضدّها قد ينقطع وإن كان

٥٠٧

لا يقطعه إلا الله ولهذا لا يخرج أهل الجنة من الجنة وقد يخرج أهل النار من النار (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على إرسال الرحمة وإمساكها (الْحَكِيمُ) الذي لا يمسك ولا يرسل إلا عن علم كامل وصلاح شامل. وحيث بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة المستدعية للحمد على التفصيل أمر المكلفين بتذكر النعمة على الإجمال لسانا وقلبا وعملا ، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أياديّ عندك يريد حفظها وشكرها والعمل بموجبها. وعن ابن عباس : أن الناس أهل مكة أسكنهم حرمه ويتخطف الناس من حولهم. وعنه أيضا أنه أراد بالنعمة العافية ، والظاهر تعميم النعمة والمنعم عليهم. ثم أشار إلى نعمة الإيجاد بقوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) وإلى نعمة الإبقاء بقوله (يَرْزُقُكُمْ) وهو نعت خالق أو مستأنف أو تفسير لمضمر والتقدير : هل يرزقكم خالق يرزقكم؟ قال جار الله : إن جعلت (يَرْزُقُكُمْ) كلاما مستأنفا ففيه دليل على أن الخالق لا يطلق إلا على الله عزوجل. وأما على الوجهين الآخرين فلا ، إذ لا يلزم من نفي خالق رازق غيره نفي خالق غيره مطلقا. وقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مفصولة لا محل لها مثل (يَرْزُقُكُمْ) في غير وجه الوصف إذ لو جعلت وصفا لزم التناقض لأن قولك «هل من خالق آخر سوى الله» إثبات لله ، ولو جعلت المنفية وصفا صار تقدير الكلام : هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق فلزم نقض الإثبات المذكور مع أن الكلام في نفسه يكون غير مستقيم. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر فتشركون المنعوت بمالك الملك والملكوت. وحين بيّن الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) الآية. والمراد إن يكذبوك فتسل بهذا المعنى. ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وقد مرّ مثل الآية في آخر سورة لقمان. وقد يسبق إلى الظن هاهنا أن الغرور وهو الشيطان لأنه عقبه بقوله (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) لأن الحازم لا يقبل قول العدوّ ولا يعتمد عليه. ثم صرح بوجه اتخاذه وبعاقبة دعوته فقال (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) ثم فصل مال حال حزبه وحزب الله بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) عرض على العقول أنه لا سواء بين الحزبين والمعنى (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) من الفريقين كمن لم يزين له. ولا ريب أن المزين لهم عملهم هم أهل الأهواء والبدع الذين لا مستند لهم في مأخذهم سوى التقليد واتباع الهوى. ثم أنتج من ذلك قوله (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وذلك أن الناس متساوية الأقدام في الإنسانية ومتفاوتة الأحوال في الأعمال ، فتبين أنه لا استقلال ، وأن أفعال العباد مستندة إلى إزادة مصرف القلوب والأحوال. ثم رتب على عدم الاستقلال قوله (فَلا تَذْهَبْ) أي فلا تهلك (نَفْسُكَ) و (عَلَيْهِمْ) صلة تذهب كما تقول هلك عليه حبا أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق بـ (حَسَراتٍ) المفعول

٥٠٨

لأجله لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. وجوّز جار الله أن يكون حالا كأن كل نفسه صارت حسرات لفرط التحسر. وعن الزجاج أن تقدير الآية : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم فحذف لدلالة المذكور وهو فلا تذهب عليه ، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لأن قوله (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يدل عليه. ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد منهم الإيمان لآمنوا وإن كان لما بهم من الإيذاء فالله عليم بفعلهم فيجازيهم بذلك.

ثم أكد كونه فاعلا مختارا قادرا قهارا مبدئا معيدا بقوله (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ) وهو من الالتفات الموجب للتهويل والتعظيم. وقوله (فَتُثِيرُ) بلفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن ، عرف نفسه بفعل الإرسال ثم قال (فَسُقْناهُ) كأنه قال : أنا الذي عرفتني بمثل هذه السياقة والصناعة وأنعمت عليك بهذه النعمة الشاملة. ثم شبه البعث والنشور بالصنع المذكور ووجهه ظاهر. وحين بين برهان الإيمان أشار إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة التي كانوا يتوهمونها من حيث إن معبوديهم كانت تحت تسخيرهم والرسول كان يدعوهم إلى الإيمان لطاعة الله وطاعة أنبيائه فكأنه قال : إن كنتم تطلبون حقيقة العزة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) خاصة كلها فلتطلبها من عنده ومن عند أوليائه نظيره قولك «من أراد النصيحة فهي عند الأبرار» يريد فليطلبها عندهم فاعتبر في هذه الآية حرف النهاية. وأما في قوله (لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] فاعتبر الوسائط فالعزة للمؤمنين بواسطة الرسول وله من رب العزة. ثم إن الكفار كأنهم قالوا : نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده فإن البعد من الملك ذلة فقال (إِلَيْهِ يَصْعَدُ) أي إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب منها وذلك آية العزة ، وأما هذه الأصنام فلا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا حياة لها ولا شعور وهكذا العمل الصالح لا تراه هذه الأصنام فلا يمكن لها مجازاة الأنام. وفاعل قوله (يَرْفَعُهُ) إن كان هو الله فظاهر ، وإن كان الكلم أعني قوله «لا إله إلا الله» فمعناه أنه لا يقبل عمل إلا من موحد وإن كان هو العمل فالمعنى : أن الكلم وهو كل كلام فيه ذكر الله أو رضاه يريد الصعود إلى الله إلا أنه لا يستطيع الصعود ولا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالعمل الصالح. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الكلم الطيب هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه». وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر. ولا يخفى أن القول هو الأصل والعمل مؤكده فلهذا قدم القول. وحين بيّن حال العمل الصالح ذكر أن المكرات السيئات بائرة كاسدة لا حقيقة لها ، ولعله

٥٠٩

أشار بها إلى مكرات قريش المذكورات في قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال : ٣٠] جمع الله مكراتهم فقلبها عليهم حين أوقعهم في قليب بدر. ولما ذكر دليل الآفاق أكده بدليل الأنفس قائلا (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) وفيه إشارة إلى خلق آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وفيه إشارة إلى خلق أولاده. ومعنى (أَزْواجاً) أصنافا أو ذكرانا وإناثا. ثم أشار إلى كمال علمه بقوله (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) ثم بين نفوذ إرادته بقوله (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) قال جار الله : معناه من أحد ولكنه سماه معمرا باعتبار ما يؤل إليه. وليس المراد تعاقب التعمير وخلافه على شخص واحد وإنما المراد تعاقبهما على شخصين فتسومح في اللفظ تعويلا على فهم السامع كقول القائل : ما تنعمت بكذا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي. وتأويل آخر وهو أن يراد لا يطول عمر إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان بعينه (إِلَّا فِي كِتابٍ) وصورته أن يكتب في اللوح إن حج أو وصل الرحم فعمره أربعون سنة ، وإن جمع بين الأمرين فعمره ستون ، فإذا جمع بينهما فعمر ستين كان الغاية ، وإذا أفرد فعمر أربعين فقد نقص من تلك الغاية. وبهذا التأويل يستبين معنى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار». ويصح ما استفاض على الألسن «أطال الله بقاءك». وعن سعيد بن جبير يكتب في الصحيفة أن عمره كذا سنة ، ثم يكتب بعد ذلك في آخرها ذهب يوم ذهب يومان حتى تنقضي المدّة. وعن قتادة : المعمر من بلغ ستين ، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين. وذلك في علم الله. (إِنَّ ذلِكَ) الذي ذكر من خلق الإنسان من المادة المذكورة أو الزيادة في الأعمار أو النقصان منها (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر وذكر دليلا آخر على عظم قدرته فقال (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) الآية. على الأوّل يكون قوله (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) إلى آخر الآية تقريرا للنعمة على سبيل الاستطراد ، أو هو من تمام التشبيه كأنه شبه الجنسين بالبحرين. ثم فضل البحر الأجاج على الكافر لأنه شارك العذب في استخراج السمك واللؤلؤ وجرى الفلك فيه ، وأما الكافر فلا نفع فيه البتة فيكون كقوله في البقرة (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) إلى آخر قوله و (إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الآية : ٧٤] والأشبه أن الآية تقرير دليل مستأنف كما مرّ في أوّل «النحل» يؤيده تعقيبه بدليل آخر وهو قوله (يُولِجُ اللَّيْلَ) إلى قوله (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) قد مرّ في آخر «لقمان» مثله ، وفيه ردّ على عبدة الكواكب الذين ينسبون حوادث هذا العالم إلى الكواكب بالذات لا إلى تسخير مبدعها. قوله (ذلِكُمُ اللهُ) أي الذي فعل الأشياء المذكورة من فطر السموات والأرض وإرسال الرياح وخلق الإنسان من التراب وغير ذلك هو المعبود الحق. وقوله (رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) خبران آخران ، ويجوز أن يكون (اللهُ رَبُّكُمْ) خبرين و (لَهُ الْمُلْكُ) جملة مبتدأة واقعة في طبقات. قوله

٥١٠

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) وذلك أن المشركين كانوا معترفين بأن الأصنام ليسوا خالقين وإنما كانوا يقولون إنه تعالى فوض أمور الأرضيات إلى الكواكب التي هذه الأصنام صورها وطوالعها ، فأخبر الله تعالى أنهم لا يملكون قطميرا وهو القشرة الرقيقة للنواة فضلا عما فوقها. قال جار الله : يجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و (رَبُّكُمْ) خبرا لو لا أن المعنى يأباه فقيل : لأن ذلك إشارة إلى معلوم سبق ذكره. وكونه صفة أو عطف بيان يقتضي أن يكون فيما سبق ضرب إبهام. قلت : وفيه نظر ، أما أولا فلأن اسم الله من قبيل الأعلام لا من قبيل أسماء الأجناس فكيف يجوز جعله صفة؟ وأما ثانيا فلأنه على تقدير التجويز يكون صفة مدح فلا ينافي كون المشار إليه معلوما. والوجه الصحيح في إباء المعنى هو أن الوصف إذا كان معرفة كان أمرا متحققا في الخارج مسلما عند السامع. مثلا إذا قلت : الرجل الكاتب جاءني. تريد الرجل الذي تعرفه أيها السامع أنه كاتب جاءني لكن الخطاب هاهنا مع الكفار وهم يجحدون المعبود الحق ، أو يجحدون أن العبادة لا تصلح إلا له ، فلا يصح إيقاع اسم الله وصفا لذلكم والخطاب معهم. ثم زاد في توبيخ الكفرة بقوله (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم جماد ولو فرض سماعهم (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لما مرّ من أنهم لا يملكون شيئا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أيضا (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) قائلين ما كنتم إيانا تعبدون (وَلا يُنَبِّئُكَ) أي لا يطلعك على حقيقة الحال أيها النبيّ أو أيها السامع (مِثْلُ خَبِيرٍ) ببواطن الأمور. والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل عالم به. وفيه أنه الخبير بالأمر وحده ، وفيه أن هذا الخبر مما لا يعرف بمجرد المعقول لو لا إخبار الله سبحانه.

ثم بين أن نفع العبادة إنما يعود على المكلفين فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) ومعنى تعريف الخبر القصد إلى أنهم جنس الفقراء مبالغة ، وذلك أن افتقار الإنسان إلى الله عاجلا لأمور المعاش وآجلا لنعيم الآخرة أبين من افتقار سائر المخلوقين إليه. وقيل : إن كون الناس فقراء أمر ظاهر لا يخفى على أحد فلهذا عرف كقول القائل : الله ربنا ومحمد نبينا. ثم بين أن فقرهم ليس إلا إلى الله فقابل الفقراء بقوله (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) وقابل قوله (إِلَى اللهِ) بقوله (الْحَمِيدُ) لأنه إذا أنعم عليهم استحق الحمد منهم. ثم ذكر أنه غني عن وجودهم أيضا لا يفتقر في ظهور أثر قدرته إليهم فقال (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) وقد مرّ في «النساء» وفي «إبراهيم». وحين بين الحق بالدلائل الباهرة أراد أن يذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) يعني أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها لا وزر

٥١١

غيرها. ولا ينافي في هذا قوله (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] لأن وزر الإضلال هو وزر النفس الوزارة أيضا ، وفيه أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها. ثم زاد في التهويل بقوله (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي نفس ذات حمل (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) فإن عدم قضاء الحاجة بعد السؤال أفظع. ثم زاد التأكيد بقوله (وَلَوْ كانَ) أي المدعوّ (ذا قُرْبى) فإن عدم القضاء بعد السؤال من القريب من أب وولد أدل على شدّة الأمر فيعلم منه أن لا غياث يومئذ أصلا. ثم بين أن هذه الإنذارات إنما تفيد أهل الخشية والطاعة حال كونهم غائبين عن العذاب أو حال كون العذاب غائبا عنهم. ثم لما بيّن أن الوزر لا يتعدى إلى الغير بيّن أن التطهر عن الذنوب لا يفيد إلا نفس المتزكي (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) لكل فيجزيهم على حسب ذلك. ثم ضرب للكافر والمؤمن مثلا فقال (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) وقيل : إنه مثل للصنم وللمعبود الحق. ثم ذكر للكفر والإيمان مثلا قائلا (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) وإذا كان الإيمان نورا والمؤمن بصيرا فلا يخفى عليه النور ، وإذا كان الكفر ظلمة والكافر أعمى فله صادّ فوق صادّ. ثم بيّن لمآلهما ومرجعهما مثلا وهو الظل والحرور. قال أهل اللغة : السموم يكون بالنهار والحرور أعم. وقال بعضهم : الحرور يكون بالليل فالمؤمن بإيمانه كمن هو في ظل وراحة ، والكافر في كفره كمن هو حرّ وتعب.

وهاهنا مسائل. الأولى : ضرب أوّلا مثلا للكافر والمؤمن ثم أعاد مثلهما بقوله (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) وهذا أبلغ لأن الأعمى والبصير قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت ولمكان هذه المبالغة أعاد الفعل. الثانية : كرر «لا» النافية في الأمثال الأخيرة دون الأوّل ، لأن المنافاة بين العمى والبصر ليست ذاتية كما في سائرهما وقد يكون شخص واحد بصيرا بإحدى العينين أعمى بالأخرى. الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحيّ ، وأخره في الآخرين فهم أهل الظاهر أن ذلك لرعاية الفواصل. والمحققون قالوا : إنهم كانوا قبل البعث في ظلمة الضلال فصاروا إلى نور الإيمان في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلهذا الترتيب قدّم مثل الكافر وكفره على مثل المؤمن وإيمانه. ولما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لأن رحمته سبقت غضبه. ثم إن الكافر المصرّ بعد البعثة صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) أي المؤمن الذي آمن بما أنزل الله. والأموات الذين تليت عليهم الآيات ولم تنجع فيهم البينات فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياتهم قبل ممات الكافرين المعاندين. الرابعة : إنما وحد الأعمى والبصير لأن المراد أن أحد الجنسين لا يساوي جنس الآخر من جهة العمى والبصر ، ولعل فردا من أحدهما قد يساوي الفرد الآخر من جهة أخرى

٥١٢

وكذا الكلام في إفراد الظل والحرور. وإنما جمع الظلمات ووحّد النور لما مرّ في أوّل «الأنعام» من تحقيق أن الحق واحد والشبهات كثيرة. وإنما جمع الأحياء والأموات لأن المراد أن أحد الصنفين لا يساوي الآخر سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد. الخامسة : لا يخفي أن هذه الواوات بعضها ضمت شفعا إلى شفع وبعضها ضمت وترا إلى وتر. ثم سلى ورسوله بقوله (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ) الآية. فقد مرّ نظيره في قوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠] وإنما اقتصر على قوله (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) وكذا في قوله (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) لأن الكلام في معرض التهديد مع أن ذكر البشير يدل عليه بل ذكر النذير يدل على مقابله. والمراد بالنذارة آثارها لثبوت زمان الفترة. ثم زاد في التسلية بقوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) وقد مر مثله في آخر «آل عمران». وإنما حذف الفاعل هناك لبناء الكلام هنالك على الاقتصار دليله أنه قال (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ) فاقتصر على لفظ المضيّ ولم يسم الفاعل ، ويحتمل أن يكون لفظ الماضي إشارة إلى وقوع التكذيب منهم فإن تلك السورة مدنية والله أعلم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ

٥١٣

وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

القراآت : يدخلونها مجهولا : أبو عمرو ويجزي مجهولا غائبا كل بالرفع : أبو عمرو. الباقون : بالنون مبينا للفاعل كل بالنصب و (الْمَكْرُ السَّيِّئُ) بهمزة ساكنة : حمزة استثقالا للحركات ، وحمله النحويون على الاختلاس ، وإذا وقف يبدل من الهمزة ياء ساكنة.

الوقوف : (ماءً) ج للعدول (أَلْوانُها) الأولى ج (سُودٌ) ه (كَذلِكَ) ط (الْعُلَماءُ) ط (غَفُورٌ) ه (لَنْ تَبُورَ) ه (فَضْلِهِ) ط (شَكُورٌ) ه (يَدَيْهِ) ط (بَصِيرٌ) ه (عِبادِنا) ج (لِنَفْسِهِ) ج (مُقْتَصِدٌ) ج تفصيلا بين الجمل مع النسق (بِإِذْنِ اللهِ) ط (الْكَبِيرُ) ه ط لأن ما بعده مبتدأ لا بدل (وَلُؤْلُؤاً) ج لاختلاف الجملتين (حَرِيرٌ) ه (الْحَزَنَ) ط (شَكُورٌ) ه (فَضْلِهِ) ج لاحتمال الاستئناف والحال (لُغُوبٌ) ه (جَهَنَّمَ) ج لمثل ما قلنا (عَذابِها) ط (كَفُورٍ) ه ج لاحتمال الواو الحال (فِيها) ج للقول المحذوف (كُنَّا نَعْمَلُ) ط (النَّذِيرُ) ه (نَصِيرٍ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (الصُّدُورِ) ه (فِي الْأَرْضِ) ط (كُفْرُهُ) ط (مَقْتاً) ج وان اتفقت الجملتان ولكن لتكرار الفعل وتصريح الفاعل والمفعول في الثانية (خَساراً) ه (دُونِ اللهِ) ط (السَّماواتِ) ج لاحتمال أن «أم» منقطعة (مِنْهُ) ج (غُرُوراً) ه (تَزُولا) ج لابتداء ما في معنى القسم مع الواو (مِنْ بَعْدِهِ) ط (غَفُوراً) ه (الْأُمَمِ) ج (نُفُوراً) ه لا (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) ط (بِأَهْلِهِ) ط (الْأَوَّلِينَ) ج لانتهاء الاستفهام مع اتصال الفاء (تَبْدِيلاً) ه

٥١٤

ج (تَحْوِيلاً) ه (قُوَّةً) ط (فِي الْأَرْضِ) ط (قَدِيراً) ه (مُسَمًّى) ج (بَصِيراً) ه.

التفسير : لما بين دلائل الوحدانية بطريق الإخبار ذكر دليلا آخر بطريق الاستخبار لأن الشيء إذا كان خفيا ولا يراه من بحضرتك كان معذورا ، أما إذا كان بارزا مكشوفا فإنك تقول : أما تراه. والمخاطب إما كل أحد أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن السيد إذا نصح بعض العباد ولم ينفعهم الإرشاد قال لغيره. اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر معه ما ذكره مع الأول. والالتفات في (فَأَخْرَجْنا) لأن نزول الماء يمكن أن يقال : إنه بالطبع ولكن الإخراج لا يمكن إلا بإرادة الله. وأيضا الإخراج أتم نعمة من الإنزال لأن إنزال المطر لفائدة الإخراج. واختلاف ألوان الثمرات اختلاف أصنافها أو هيئاتها ، والجدد الخطط ، والطرائق «فعلة» بمعنى «مفعول» والجد القطع. قال جار الله : لا بدّ من تقدير مضاف أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر مختلف ألوانها في البياض والحمرة ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص وقد يكون أدنى من ذلك ، وكذلك الحمرة. والغرابيب تأكيد للسود إلا أنه أضمر المؤكد أوّلا ثم أظهر ثانيا على طريقة قوله :

والمؤمن العائذات الطير

وإنما لم يتصوّر اختلاف الألوان هاهنا لأن السواد إذا كان في الغاية لم يكن بعدها لون. يقال : أسود غربيب للذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب. ويمكن أن يقال : إن المختلف صفة الحمر فقط. وحين فرغ من دلائل النبات وما يشبه المعادن شرع في الاستدلال بالحيوان ، وقدّم الإنسان لشرفه ، ثم ذكر الدواب على العموم ، ثم خصص الأنعام ، أو أراد بالدابة الفرس فجعله لشرفه رديف الإنسان. وقوله (مُخْتَلِفٌ) أي بعض مختلف (أَلْوانُهُ) وذكر الضمير تغليبا للإنسان أو نظرا إلى البعض. وقوله (كَذلِكَ) أي كاختلاف الجبال والثمرات ، وفيه أن هذه الأجناس كما أنها في أنفسها دلائل فهي باختلافها أيضا دلائل. وحين خاطب نبيه بقوله (أَلَمْ تَرَ) بمعنى ألم تعلم أتبعه قوله (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن نظر في دلائله فعرفه ق معرفته ، أو أراد أن يعرّفه كنه معرفته لأن الخشية على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله. وفي الحديث «أعلمكم بالله أشدّكم خشية له» وفائدة تقديم المفعول أن يعلم أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، ولو أخر المفعول كان معنى صحيحا وهو أنهم لا يخشون أحدا إلا الله إلا أن ذلك غير مراد هاهنا. وعن عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة أنهما قرءا برفع الله ونصب العلماء فتكون الخشية مستعارة

٥١٥

للتعظيم أي لا يعظم الله ولا يجل من الرجال إلا العلماء به. ثم بين السبب الباعث على الخشية بقوله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فالعزة توجب الخوف من أليم عقابه والمغفرة توجب الطمع في نعيمه وثوابه ، وفيه أن خوف المؤمن ينبغي أن يكون مخلوطا برجائه. ثم مدح العالمين العاملين بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ) الآية. قال أهل التحقيق : قوله (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) إشارة إلى عمل القلب ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ) أي يداومون على التلاوة إشارة إلى عمل اللسان. وقوله (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إشارة إلى عمل الجوارح ، والكل أقسام التعظيم لأمر الله.

ثم أشار إلى الشفقة على خلق الله بقوله (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) وقوله (يَرْجُونَ) وهو خبر «إن» إشارة إلى الإخلاص في العقائد والأعمال أي ينفقون من الأموال لا ليقال إنه كريم أو لغرض آخر بل لتجارة لا كساد فيها ولا بوار وهي طلب مرضاة الله. وقوله (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق بـ (لَنْ تَبُورَ) أي تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أجورهم. وجوّز جار الله أن يجعل (يَرْجُونَ) في موضع الحال واللام متعلق بالأفعال المتقدّمة أي فعلوا جميع ما ذكر من التلاوة والإقامة والإنفاق لغرض التوفية. وخبر «إن» قوله (إِنَّهُ غَفُورٌ) لهم (شَكُورٌ) لأعمالهم. وحين ذكر دلائل الوحدانية أتبعه بيان الرسالة وذكر حقيقة الكتاب المتلوّ والكتاب للجنس فـ «من» للتبعيض أو هو القرآن ، و «من» للتبيين أو هو اللوح المحفوظ و «من» للابتداء وقد مرّ في البقرة أن قوله (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة. وفي قوله (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) تقرير لكونه حقا لأن الذي يكون عالما بالبواطن والظواهر لم يمكن أن يكون في كلامه شوب باطل. وفيه لم يختر محمدا للرسالة جزافا وعلى سبيل الاتفاق ولكنه أعلم حيث يجعل رسالته. قوله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) زعم جمع من المفسرين أن الكتاب للجنس بدليل قوله فيما قبل (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ) والإيراث الإعطاء ، والمصطفون من عبيده هم الأنبياء كأنه قال : علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر فاصطفينا عبادا ثم أورثناهم الكتاب. وعلى هذا فالمراد بالظلم على النفس وضع الشيء في غير موضعه وإن كان بترك الأولى ومنه قول أبينا آدم (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] وقول يونس (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] وإذا كان الظلم بهذا المعنى جائزا عليهم فالاقتصاد أولى. ويجوز أن يعود الضمير في قوله (فَمِنْهُمْ) إلى الأمة كأنه قيل : إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا ، وآتيناهم كتبا فمن قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ، ومقتصد آمن به ولم يأت بجميع ما أمر به ، وسابق آمن وعمل صالحا. وقال أكثرهم : إنه القرآن والإيراث الحكم بالتوريث أو هو على عادة إخبار الله في التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه أي نريد أن نورثه. والمصطفون هم الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة كقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ

٥١٦

أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١] (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] وعلى هذا ففي تفسير المراتب الثلاثة أقوال أحدها : الظالم الراجح السيئات ، والمقتصد المتساوي الحسنات والسيئات ، والسابق راجح الحسنات. ثانيها الظالم من ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد المتساوي ، والسابق من باطنه خير. ثالثها : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم. رابعها : عن علي رضي‌الله‌عنه : الظالم أنا ، والمقتصد أنا ، والسابق أنا. فقيل له : كيف ذاك؟ قال : أنا ظالم بمعصيتي ، ومقتصد بتوبتي ، وسابق بمحبتي. خامسها : الظالم التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه ، والمقتصد التالي العالم غير العامل ، والسابق التالي العامل. سادسها : الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم ، والسابق العالم. سابعها : الظالم من يحاسب فيدخل النار وهو أصحاب المشأمة ، والمقتصد من يحاسب فيدخل الجنة وهو أصحاب الميمنة ، والسابق من يدخل الجنة بغير حساب. ثامنها : الظالم من خالف أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للتكليف في غير موضعه ، والمقتصد هو المجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك فإنه قصد الحق واجتهد ، والسابق هو الذي لم يخالف تكاليف الله بتوفيقه دليله قوله في الأخير (بِإِذْنِ اللهِ) وذلك أنه إذا وقع الخير في نفسه سبق إليه قبل تسويل النفس ، والمقتصد يقع في قلبه فتردّده النفس ، والظالم تغلبه النفس. وبعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ، ومن جاهد نفسه فغلبته تارة وغلب أخرى فهو المقتصد صاحب النفس اللوامة ، ومن قهر نفسه فهو السابق. وفي تقديم الظالم ثم المقتصد إيذان بأن المقتصدين أكثر من السابقين والظالمون أكثر الأقسام كما قال (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] (ذلِكَ) الذي ذكر من التوفيق أو من السبق بالخيرات أو من الإيراث (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) قال جار الله : أبدل قوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) من الفضل لأنها مسببة عنه وكأنها هو. قلت : ويمكن أن يقال (جَنَّاتُ عَدْنٍ) مبتدأ لأنها معرفة بدليل قوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) [مريم : ٦١] ولئن سلم أنها نكرة فليكن (يَدْخُلُونَها) صفة له وخبرها (يُحَلَّوْنَ) ثم إن ضمير (يَدْخُلُونَها) إن عاد إلى التالين لكتاب الله أو إلى السابقين فلا إشكال ؛ فالظالم يدخل النار والمقتصد يكون أمره موقوفا كقوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) [التوبة : ١٠٦] أو كقوله (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) وإن عاد إلى الفرق الثلاث فبشرط العفو أو بشرط التوبة ، وقد يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وفي تقديم (جَنَّاتُ عَدْنٍ) وبناء الكلام عليها دون أن يقول «يدخلون جنات عدن» إيذان بأن الاهتمام بشأنها أكثر فإن نظر السامع على المدخول فيه لا على نفس الدخول. وقد مرت العبارة الأصلية في سورة الحج في قوله (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) إلى قوله (حَرِيرٌ) [الآية : ٢٣] وتغيير

٥١٧

العبارة في هذا المقام لمزيد هذه الفائدة والله أعلم. وفي قوله (يُحَلَّوْنَ فِيها) إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيرا للدخول. وفي تحليتهم بالسوار إشارة إلى أمرين : أحدهما الترفه والتنعم ، الثاني أنهم لا يحتاجون فيها إلى عمل من الطبخ وتهيئة سائر الأسباب. قال جار الله : أي يحلون بعض أساور من ذهب كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسوّرون به غيرهم ، والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحليّ. وقيل : إن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ ، والحزن للجنس فيعم كل حزن من أحزان الدنيا والدين كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وقد خصه جمع من المفسرين بخوف سوء العاقبة أو بحزن الآفات أو بحزن الموت أو بهمّ المعاش حتى قال بعضهم : كراء الدار والتعميم أولى. والمقامة بمعنى الإقامة والفضل التفضل. وعند المعتزلة العطاء لأن الثواب أجر مستحق واجب عندهم. والنصب التعب والمشقة التي تصيب المزاول للأمر المنتصب له. واللغوب ما يلحقه من الفتور والكلال بعد ذلك قاله جار الله. وقال غيره : إن الذي يباشر عملا من الأعمال لا يظهر عليه الإعياء إلا بعد أن يستريح ، فالمراد أنهم لا يخرجون من الجنة إلى موضع يتعبون بسبب ذلك ثم يلحقهم الإعياء بعد الرجوع.

ثم عطف قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) على قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ) وقوله (فَيَمُوتُوا) جواب للنفي والتقدير لا يقضي عليهم بالموت فيستريحوا و (يَصْطَرِخُونَ) يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة كشأن المستغيث. وفائدة قوله (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح ، أو المراد نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون. وفيه إشارة إلى أنهم في الآخرة أيضا ضالون لم يهدهم الله في الآخرة كما لم يهدهم في الدنيا ، ولو كانوا مهتدين لقالوا : ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظرا إلى فضلك ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظرا إلى عدلك ، وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة. وهذا بخلاف حال المؤمن هداه في العقبى كما هداه في الدنيا حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة ، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وقالوا (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) اعترافا بتقصيرهم (شَكُورٌ) إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وأحالوا الكل إلى فضله تصريحا بأنه لا عمل لهم بالنسبة إلى بحار نعمه. قوله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) استفهام فيه توبيخ وإفحام وهو متناول لكل عمر

٥١٨

تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه إلا أن التوبيخ في العمر الطويل أعظم. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة» وروي «من جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار» وعن مجاهد : ما بين العشرين إلى الستين. وقيل : ثماني عشرة وسبع عشرة. وقوله (وَجاءَكُمُ) معطوف على المعنى كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم (النَّذِيرُ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : الشيب. فبين بالجملتين أن القابل موجود والفاعل حاصل ، فالعذر غير مقبول (فَذُوقُوا) العذاب (فَما لِلظَّالِمِينَ) الذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها (مِنْ نَصِيرٍ) نفى الأنصار والناصرين في آخر «آل عمران» وفي «الروم» ووحد هاهنا كأنهم في النار قد أيسوا من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة إلّا من نصير واحد وهو الله سبحانه. ثم كان لسائل أن يسأل : ما بال الكافر يعذب أبدا وإنه ما كفر إلا أياما معدودة فلا جرم قال (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكان يعلم من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده. وذات الصدور صواحباتها من الظنون والعقائد فذو موضوع لمعنى الصحبة ، فالصدور ذات العقائد والعقائد ذات الصدور باعتبار أنها تصحبها. وحين ذكرهم بما مر من أنه سوف يوبخهم بالتعمير وإيتاء العقول وإرسال من يؤيد المعقول بالمنقول وعظهم بأنه (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ) وفقد العاطف هنا خلاف ما في آخر «الأنعام» للعدول عن خطاب أهل الآخرة إلى خطاب أهل الدنيا. وقال هاهنا (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) بزيادة «في» المفيدة لتمكن المظروف في الظرف لأجل المبالغة والترقي من الأدنى إلى الأعلى كأنه قيل : أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلفاء الهالكين الماضين فأصبحتم بحالهم راضين (فَمَنْ كَفَرَ) بعد هذا كله (فَعَلَيْهِ) وبال (كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) لأن الكافر السابق ممقوت واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت لأنه رأى عذاب من تقدّمه ولم يتنبه (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر. ثم وبخ أهل الشرك بقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) وأبدل منه (أَرُونِي) كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء ، أروني أيّ جزء من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه (أَمْ لَهُمْ) مع الله (شِرْكٌ فِي) خلق (السَّماواتِ) أم معهم أو مع عابديهم كتاب من عند الله فهم على برهان من ذلك الكتاب. والإضافة في (شُرَكاءَكُمُ) لملابسة العبادة ، أو المراد كونهم شركاءهم في النار كقوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ) وهم الرؤساء (بَعْضاً) وهم الأتباع (إِلَّا غُرُوراً) [يونس : ١٨] وهو قولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) وحين بين عجز الأصنام أراد أن يبين كمال القدرة فقال (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي يمنعهما من (أَنْ

٥١٩

تَزُولا) أو كراهة زوالهما عن مقرهما ومركزهما ، ولو فرض زوالهما بأمر الله فلن يمسكهما أحد من بعد زوالهما أو من بعد الله. وقيل : أراد أنهما كانتا جديرتين بأن تهدّ هدّا لعظم كلمة الشرك كقوله (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم : ٩٠] يؤيد هذا الوجه قوله (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) غير معاجل بالعقوبة (غَفُوراً) لمن تاب من الشرك. قال المفسرون : بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوا فو الله لئن أتانا رسول لكنا أهدى. وزيف هذا النقل بأن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر فكيف اعترفوا بأن اليهود والنصارى جاءهم رسل. سلمنا لكنهم كيف عرفوا تكذيب اليهود وتحريفهم ولم يأتهم رسول ولا كتاب؟ فالوجه الصحيح في سبب النزول أنهم كانوا يقولون : لو جاءنا رسول لم ننكره وإنما ينكرون كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا لأنه كاذب ، ولو صح كونه رسولا لآمنا. وقوله (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ليس للتفضيل بل المراد أنا نكون أهدى مما نحن عليه ونكون من إحدى الأمم كقولك : زيد من المسلمين. أو هو للتفضيل والأمم لتعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى عليهم‌السلام ، أو للعموم أي أهدى من أيّ أمة تفرض ويقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي صح لهم نذارته بالمعجزات الباهرة (ما زادَهُمْ) هو أو مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) كأنه صار سببا في نفارهم عن الحق عنادا وكبرا فانتصب (اسْتِكْباراً) على أنه مفعول لأجله أو حال ويجوز أن يكون بدلا من (نُفُوراً) وقوله (وَمَكْرَ) من إضافة المصدر إلى صفة معموله أصله وأن مكروا السيء أي المكر السيء ، والمكر هو مكرهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهمّ بالقتل والإخراج وقد حاق بهم يوم بدر ، أو هو عام وعاقبة الماكر وخيمة يصل إليه جزاؤه عاجلا أو آجلا. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله». وفي أمثالهم «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا». وفي قوله (بِأَهْلِهِ) دون أن يقول «إلا بالماكر إشارة إلى أن الرضا بالمكر والإعانة عليه كهو فيندرج مصاحبه في زمرة أهل المكر. وقوله (سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) من إضافة المصدر إلى المفعول. وقوله (لِسُنَّتِ اللهِ) من إضافته إلى الفاعل والمراد بها إنزال العذاب على أمثالهم من مكذبي الرسل ، جعل استقبالهم لذلك واستعجالهم إياه انتظارا له منهم. والتبديل تغيير الصورة مع بقاء المادة ، والتحويل نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر. خص هذه السورة بالجمع بين الوصفين لأن كثيرا من أحوال الكفرة جاءت هاهنا مثناة كقوله (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ) إلى قوله (إِلَّا خَساراً) وكقوله (إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) ويحتمل أن يريد بسنة الأوّلين استمرارهم على الإنكار كأنه قال : أنتم تريدون

٥٢٠