تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

ذلك ، إن هذا الحيوان الضعيف الذي لا قدرة لهم على خلقه لو سلب منهم شيئا لم يقدروا أيضا على استخلاص ذلك الشيء منه. عن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وقيل : سمي الذباب ذبابا لأنه كلما ذب آب. ثم عجب من ضعف الأصنام والذباب بقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه. وقيل : الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم أو عبادته ، ويجوز أن يكون الطالب هو السالب والمطلوب المسلوب منه.

ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في «الأنعام». (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) قادر غالب فكيف يسوّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم. وذلك أنهم لو اعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى ، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل. وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوّات وهي أن الرسول لا يكون بشرا فقال (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل. هاهنا سؤالان : الأول أن «من» للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضا لقوله (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية ، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى بني آدم وهم أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلا إلى بعض آخر منهم. وثانيهما أنه قال في موضع آخر (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [الزمر : ٤] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولدا. والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولكن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا ، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر ، وأن

١٠١

مرجع الأمور كلها إليه ، وفي كل ذلك زجر عن الإقدام على المعصية وبعث على الجد في الطاعة فلا جرم صرح بالمقصود قائلا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والظاهر أنه خطاب مختص بالمؤمنين ويؤكده قوله بعد ذلك (هُوَ اجْتَباكُمْ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) وقيل : عام لكل المكلفين لأن المأمورات بعده لا تختص ببعض الناس دون بعض والتخصيص بالذكر للتشريف فإنهم الذين قبلوا الخطاب. ودل بالركوع والسجود على الصلاة لأنهما ركنان معتبران. وقيل : كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ذكره ابن عباس. قال جار الله : عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال : نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما. وعن عبد الله بن عمر : فضلت سورة الحج بسجدتين. وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فلا يرى هذه سجدة لأنه قرن الركوع بالسجود قال : فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة ، قدم الصلاة لأنها أشرف العبادات ثم عمم فأمر بالعبادة مطلقا ، ثم جعل الأمر أعم وهو فعل الخيرات الشامل للنوعين التعظيم لأمر الله والشفعة على خلق الله كأنه قال : كلفتكم الصلاة بل كلفتكم ما هو أعم منها وهو العبادة ، بل كلفتكم أعم وهو فعل الخيرات على الإطلاق. وقيل : معناه واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله عزوجل. وعن ابن عباس أن فعل الخير صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. ومعنى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) افعلوا كل ذلك راجين الفلاح وهو الظفر بنعيم الآخرة لا متيقنين ذلك فإن الإنسان قلما يخلو في أداء فرائضه من تقصير والعواقب أيضا مستورة. ثم أمره بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي في ذاته ومن أجله (حَقَّ جِهادِهِ) أي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه. وقيل : هو أمر بالغزو ، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر. وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ فقال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. قال العلماء : لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست من نفس القرآن وإلا لتواترت. وأما عبارات المفسرين فعن ابن عباس : حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال الضحاك : اعملوا لله حق عمله. وقال آخرون : استفرغوا ما في وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل. وعن

١٠٢

مقاتل والكلبي : أن الآية منسوخة بقوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] كما أن قوله (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] منسوخ بذلك. وضعف بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم عظم شأن المكلفين بقوله (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي اختاركم لدينه ونصرته وفيه تشريف كقوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ثم كان لقائل أن يقول : التكليف وإن كان تشريفا إلا أن فيه مشقة على النفس فقال (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق وشدة وذلك بأنه فتح باب التوبة ووسع على المكلفين بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. يروى أن أبا هريرة قال : كيف قال سبحانه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) مع أنا منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس : بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم. قالت المعتزلة : لو خلق الله فيه الكفر ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج. وعورض بأنه نهاه عن الكفر مع أنه علم ذلك منه ، وكأنه أمره بقلب علم الله جهلا وهو أعظم الحرج.

ثم أثنى على هذه الأمة بقوله (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) أي أعني الدين ملة أبيكم ، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل نبي أبو أمته. والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم. (هُوَ) أي الله أو إبراهيم (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي في سائر الكتب أو في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] (وَفِي هذا) القرآن أما إن كان المسمى هو الله فظاهر ، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن. وقوله (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) متعلق بقوله (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا) [الآية : ١٤٣] والأصل تقديم الأمة كما في «البقرة» لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته. قال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال آخرون : اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصر. استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه : الأول أنه أراد أن يكونوا شهداء ولن يكونوا كذلك إلا إذا آمنوا ، الثاني أنه لا يمكن الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر البتة. الثالث أنه لو خلق في عباده الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى. وأجيب بعد تسليم إرادة الإيمان من الكل أن إرادة الشيء إن كانت مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريدا

١٠٣

لجهل نفسه. وإن لم تستلزم فقد سقط السؤال وأيضا الاعتصام به إنما يكون منه كقوله «أعوذ بك منك.» (١) وأيضا إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن ، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضا مقتضيا لذلك.

التأويل : (سَخَّرَ لَكُمْ ما) في أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية ، وسخر فلك الواردات المغيبة تجري في بحر القلب ، ويمسك سماء القلب أن تقع على أرض النفس بأن تتصف بصفاتها (إِلَّا بِإِذْنِهِ) بقدر ما أباحه الشرع من ضروريات المأكول والملبوس وغيرهما (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بازدواج الروح إلى القالب (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن صفات البشرية (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بنور الصفات الرحمانية (فَلا يُنازِعُنَّكَ) في أمرك فإن لك مع الله وقتا لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكل قوم رتبة لا يتجاوزونها إن الذين يدعون من دون الله كالأصنام الظاهرة والباطنة لن يطلعوا على كيفية خلق الذباب ، وإن يسلبهم ذباب هواجس النفس شيئا من صفاء القلب وجمعية الوقت (ضَعُفَ الطَّالِبُ) وهو القلب غير المؤيد بنور الإيمان (وَالْمَطْلُوبُ) وهو النفس والشيطان (ارْكَعُوا) بالنزول عن مرتبة الإنسانية إلى خضوع الحيوانية : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] (وَاسْجُدُوا) بالنزول إلى مرتبة الحيوانية (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بجعل الطاعة خالصة له (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) بمراقبة الله في جميع أحوالكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالوصال. (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) فجهاد النفس بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين ، وجهاد الروح بتحليته بإفناء الوجود في وجوده (هُوَ اجْتَباكُمْ) لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولو لا أنه اجتباكم ما اهتديتم إليه كما قيل :

فلولاكم ما عرفنا الهوى

وما جعل عليكم في دين العشاق. وهو السير إلى الله من ضيق «من تقرّب إلي شبرا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٢٢٢. أبو داود في كتاب الصلاة باب ١٤٨ الترمذي في كتاب الدعوات باب ١١٢. النسائي في كتاب الطهارة باب ١١٩. ابن ماجة في كتاب الدعاء باب ٣. أحمد في مسنده (١ / ٩٦).

١٠٤

تقربت إليه ذراعا» (١) والسير إلى الله من سنة إبراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) في الأزل وهو في هذا الطور. وإنما قدم الرسول لأن روحه في طرف الأزل مقدم «أول ما خلق الله روحي» فهو مشرف وقتئذ على أرواح أمته وبعد ذلك خلقت أرواح أمته مشرفين على أرواح غيرهم. وفي سورة البقرة اعتبر طرف الأبد فوقع الختم على الرسول وعلى شهادته (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بدوام السير والعروج إلى الله والتعظيم لأمره (وَآتُوا الزَّكاةَ) بدعوة الخلق إلى الله والشفقة عليهم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) حتى تصلوا إليه هو متولي أفنائكم عنكم (فَنِعْمَ الْمَوْلى) في إفناء وجودكم (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) في إبقائكم بربكم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين وذرياته وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين.

تم الجزء السابع عشر ، ويليه الجزء الثامن عشر وأوله تفسير سورة المؤمنون

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥. مسلم في كتاب الذكر حديث ٢٠ ، ٢١. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١٣١. ابن ماجة في كتاب الأدب باب ٥٨. أحمد في مسنده (٢ / ٤١٣).

١٠٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الجزء الثامن عشر من أجزاء القرآن الكريم

سورة المؤمنون مكية

وحروفها ٤٨٤٠

كلمها ١٨٤٠

آياتها ١١٨

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ

١٠٦

وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

القراآت : لأمانتهم على التوحيد : ابن كثير على صلاتهم موحدة : حمزة وعلي وخلف. و (عِظاماً) العظم موحدين على إرادة الجنس أو على وضع الواحد مكان الجمع لعدم اللبس : ابن عامر وأبو بكر وحماد وجبلة الأول موحدا والثاني مجموعا : زيد عن يعقوب. وروى القطعي عن أبي زيد بالعكس فيهما. الباقون مجموعين (سَيْناءَ) بكسر السين : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بفتحها. (تَنْبُتُ) من الإنبات : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. الآخرون بفتح التاء وضم الباء من النبات. تسقيكم بفتح النون : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. بالتاء الفوقانية : يزيد : الباقون بضم النون. (مُنْزَلاً) بفتح الميم وكسر الزاء : أبو بكر وحماد. الآخرون بضم الميم وفتح الزاء.

الوقوف : (الْمُؤْمِنُونَ) ه لا (خاشِعُونَ) ه لا (مُعْرِضُونَ) ه لا (فاعِلُونَ) ه لا (حافِظُونَ) ه (مَلُومِينَ) ه لاعتراض الاستثناء بين الأوصاف ولاستحقاق الشرط الابتداء ولطول الكلام وإلا فالآيتان من أوصاف المؤمنين أيضا (العادُونَ) ه ج (راعُونَ) ه لا (يُحافِظُونَ) ه وإلا لأوهم تخصيص الإرث بالمذكورين في الآيتين فقط (الْوارِثُونَ) ه لا (الْفِرْدَوْسَ) ط (خالِدُونَ) ه (طِينٍ) ج ه للعدول عن المظهر إلى كناية عن غير مذكور فإن المراد من الإنسان آدم ، ومن الهاء في جعلناه جنس ولده مع عطف ظاهر (مَكِينٍ) ه ج للعطف (لَحْماً) صلى وقد قيل للابتداء بإنشاء نفخ الروح تعظيما (آخَرَ) ط (الْخالِقِينَ) ه ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار فإن بين الإحياء والإفناء مهلة (لَمَيِّتُونَ) ه ط لذلك (لَقادِرُونَ) ه للآية مع اتصال المعنى بلفظ الفاء (وَأَعْنابٍ) لئلا يوهم أن الجار والمجرور وصف أعناب (تَأْكُلُونَ) ه لا لأن شجرة مفعول (فَأَنْشَأْنا لِلْآكِلِينَ) ه (لَعِبْرَةً) ط لأن الجملة بعدها ليست بصفة لها (تَأْكُلُونَ) ه لا (تُحْمَلُونَ) ه ط (غَيْرُهُ) ط (تَتَّقُونَ) ه (مِثْلُكُمْ) لا لأن قوله (يُرِيدُ) صفة (بَشَرٌ عَلَيْكُمْ) ط (مَلائِكَةً) ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول (الْأَوَّلِينَ) ج ه للآية مع اجتناب الابتداء بقول الكفار مع اتحاد مقصود الكلام (حِينٍ) ه (كَذَّبُونِ) ه (التَّنُّورُ) ه لا لأن ما بعده جواب فإذا (مِنْهُمْ) ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الاستثناء (ظَلَمُوا) ج للابتداء بأن مع احتمال

١٠٧

إضمار اللام والفاء للتعليل (مُغْرَقُونَ) ه (الظَّالِمِينَ) ه (الْمُنْزِلِينَ) ه (لَمُبْتَلِينَ) ه.

التفسير : لما انجر الكلام في السورة المتقدمة إلى الختم بالصلاة والزكاة بدأ في هذه السورة بذكر فضائلهما وفضائل ما ينخرط في سلكهما من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. «وقد» نقيضة «لما» لأنها تثبت المتوقع و «لما» تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي إخبار بثبوت الفلاح لهم. وقد مر معنى الإيمان والاختلاف فيه بين الأقوام في أول «البقرة». وأما الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون ، وترك الالتفات ، والنظر إلى موضع السجود ، والتوقي عن كف الثوب أي جمعه ، والعبث بجسده وثيابه ، والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم ، والسدل بأن يضع وسط الثوب على رأسه أو على عاتقه ويرسل طرفيه ، والاحتراز عن الفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى ، والاختصار وهو أن يمسك بيده عصا أو سوطا ونحوهما. قال الحسن وابن سيرين : كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك ، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه ، وهذا الخشوع واجب عند المحققين. نقل الإمام الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي : من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن : كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وعن معاذ بن جبل : من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي عنه مرفوعا : إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها وعشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها. وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته. ومما يدل على صحة هذا القول قوله سبحانه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢] والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى ، وكذا قوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) [الأعراف : ٢٠٥] وقوله (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء : ٤٣] نهي للسكران إلا أن المستغرق في هموم الدنيا بمنزلته. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المصلي يناجي ربه» ولا مناجاة مع الغفلة أصلا بخلاف سائر أركان الإسلام فإن المقصود منها يحصل مع الغفلة ، فإن الغرض من الزكاة كسر الحرص وإغناء الفقير ، وكذا الصوم قاهر للقوي كاسر لسطوة النفس التي هي عدوّ الله ، وكذا الحج فإن أفعاله شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء وإن لم يكن القلب حاضرا. والمتكلمون أيضا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع قالوا : لأن السجود لله تعالى طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه ، فلا بد من مميز وما ذاك إلا القصد والإرادة ولا بد فيهما من الحضور.

١٠٨

وأما الفقهاء فالأكثرون منهم لا يوجبون ذلك فيقال لهم : هبوا أنه ليس من شرط الإجزاء وهو عدم وجوب القضاء ، أليس هو من شرط القبول الذي يترتب عليه الثواب؟ فمن استعار ثوبا ثم ردّه على أحسن الوجوه فقد خرج عن العهدة ، وكذا إن ردّه على وجه الإهانة والاستخفاف إلا أنه يستحق المدح في الصورة الأولى والذم في الصورة الثانية. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول : اللهم زوّجني الحور العين. فقال : بئس الخاطب أنت قلت : لا ريب أن الاحتياط إنما هو في رعاية جانب الخشوع كما حكي عن بعض العلماء أنه اختار الإمامة فقيل له في ذلك؟ فقال : أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي. وإن قرأت مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة ، فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن هذا الخلاف. قال علماء المعاني : سبب إضافة الصلاة إليهم هو أن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى لأجله ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته ، وأما المصلى له فمتعال عن ذلك. ولما كان اللغو هو الساقط من القول أو الفعل احتمل أن يقع في الصلاة ، وأيضا كان الإعراض عنه من باب التروك كما أن الخشوع وهو استعمال الآداب وما لا يصح ولا تكمل الصلاة إلا به كان من باب الأفعال وعلى الفعل والترك بناء قاعدة التكليف فلا جرم جعلهما قرينين فقال (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) واللغو على ما قلنا يشمل كل ما كان حراما أو مكروها أو مباحا لا ضرورة إليه ولا حاجة قولا أو فعلا. فمن الحرام قوله تعالى حكاية عن الكفار (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] فإن ذلك اللغو كفر والكفر حرام. ومن المباح قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] ولو لم يكن مباحا لم يناسبه عدم المؤاخذة. والإعراض عن اللغو هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال عز من قائل (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] ثم وصفهم بفعل الزكاة وهو مناسب للصلاة. وليس المراد بالزكاة هاهنا عين القدر المخرج من النصاب لأن الخلق لا قدرة لهم على فعلها فلا يصح المعنى إلا بتقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون ، بل المراد فعل المزكي الذي هو التزكية. فقوله للمزكي فاعل الزكاة كقولك للضارب فاعل الضرب. وعن أبي مسلم أنه حمل الزكاة هاهنا على كل فعل محمود مرضي كقوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى : ١٤] والأول أقرب لأنه مناسب لعرف الشرع. الصفة الرابعة قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) قال الفراء : «على» بمعنى «عن» وقال غيره : هو في موضع الحال أي إلا والين أو قوامين على أزواجهم نظيره قولهم «كان زياد على البصرة» أي واليا عليها ، والمعنى أنهم

١٠٩

مستمرون على حفظ الفروج في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم. أو تعلق الجار بمحذوف يدل عليه (غَيْرُ مَلُومِينَ) كأنه قيل : يلامون على كل من يباشرونه إلا على أزواجهم فإنهم غير ملومين عليهن. وجوّز في الكشاف أن يكون صلة لحافظين من قولهم «احفظ عليّ عنان فرسي» على تضمينه معنى النفي أي لا تسلط علي فرسي. وإنما لم يقل «أو من ملكت» لأنه اجتمع في السرية وصفان : الأنوثة التي هي سبب نقصان العقل وكونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع (فَمَنِ ابْتَغى) حدا (وَراءَ ذلِكَ) الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما شاء من الإماء وكفى به حدا فسيحا (فَأُولئِكَ هُمُ) الكاملون في العدوان المتناهون فيه.

قيل : لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح. ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) [النساء : ١٢] ولورثت منه لقوله (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ) [النساء : ١٢] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع حرث ، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة : الاستثناء من النفي ليس بإثبات فقوله «لا صلاة إلا بطهور» «ولا نكاح إلا بولي» لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي ، ولا تخصيص عنده في الآية. والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات ، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره. الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما ، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية. ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها ، وقد مر في تفسير قوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] وقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم. الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨] وذلك في «البقرة» وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمداومة عليها وبمراقبة أعدادها وأوقاتها فرائض كانت أو سننا ، رواتب أو غيرها. فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل ، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان. (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن

١١٠

يسموا ورّاثا دون من عداهم ممن يرث مالا فانيا أو متاعا قليلا أو ممن يدخل الجنة سواهم كالاطفال والمجانين والفساق بعد العفو وكالولدان والحور. ثم بين الموروث بقوله (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) وقد سبق معنى هذه الوراثة في «الأعراف» في قوله (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) [الأعراف : ٤٣] قال الفقهاء : لا فرق في الميراث بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر ملكه فيه ولذلك قالوا للدية إنها ميراث المقتول. وكل من في الجنة فله مسكن مفروض في النار على تقدير كفره ، وكل من في النار فله مسكن مفروض في الجنة على تقدير إيمانه كما ورد في الحديث ، فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنة وارثين ، ولكن كل الفردوس لا يكون ميراثا بل بعضه ميراث وبعضه بالاستحقاق إلا أنه يصدق بالجملة أنهم ورثوا الفردوس أي الجنة ولهذا أنث الضمير في قوله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقيل : إن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه‌السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان شبيها بالميراث. والفردوس بلسان الحبشة أو الروم هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روي أن الله عزوجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر. وروى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار» وعن أبي أمامة مرفوعا «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها : تكلمي. فقالت : قد أفلح المؤمنون» ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت : حفظك الله كما حافظت علي وتشفع لصاحبها. فإذا أضاعها قالت : ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها» قالت العلماء : أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وكذا الكلام في كلام «طوبى». وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة. وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك «إن إحسانك إليّ ينطق بالشكر».

ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع : الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد آدم لأنه استل من الطين ، والكناية في (جَعَلْناهُ) راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون :

١١١

الإنسان هاهنا هو ولد آدم والطين اسم آدم والسلالة هي الأجزاء الكلية المبثوثة في أعضائه التي تجتمع منيا في أوعيته ، ويحتمل أن يقال : إن كل نسل آدم حاله كذلك لأن غذاءه ينتهي إلى النبات المتولد من صفو الأرض والماء المسمى بالسلالة. ثم إن تلك السلالة تصير منيا وعلى هذا فكلتا لفظي «من» للابتداء. قال في الكشاف : الأولى للابتداء والثانية للبيان وهو موجه على التفسير الأول فقط. والقرار المستقر أراد به الرحم. وإنما وصفت بالمكين لمكانتها في نفسها فإنها مكنت حيث هي وأحرزت ، أو على الإسناد المجازي باعتبار المستقر فيها كقولك «طريق سائر». وترتيب الأطوار كما مر في أول الحج. ومعنى «ثم» في بعض هذه المعطوفات تراخي الرتبة ولا سيما في قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي خلقا مباينا للخلق الأول حيث جعله حيوانا وكان جمادا إلى غير ذلك من دقائق اللطف وغرائب الصنع وذلك بعد استكماله ثلاثة أربعينات. ومن هنا ذهب أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده إلى أنه يضمن البيضة ولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة. وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف الله في أطواره بعد الولادة من الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل فيه يؤيده قوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) ويروى هذا القول أيضا عن مجاهد وابن عمر (فَتَبارَكَ اللهُ) كثر خيره وبركته أو هو وصف له بالدوام والبقاء أو بالتعالي لأن البركة يرجع معناها إلى الامتداد وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ومعنى (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أحسن المقدّرين تقديرا فحذف المميز للعلم به. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقا للكفر والمعاصي. وأجيب بأن الحسن هاهنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه. قالوا : لو لا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله. وعورض بقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم. وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين. والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات. روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتب هكذا نزلت. فقال عبد الله : إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فلحق بمكة كافرا ثم أسلم يوم الفتح. وروي عن عمر أيضا سبق لسانه بقوله (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) قبل أن ينزل. واعلم أن هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به.

١١٢

سؤال : ما الحكمة في الموت وهلا وصل تعيم الدنيا بنعيم الآخرة ليكون في الأنعام أبلغ؟ جواب لو كان كذلك لكان الآتي بالطاعة آتيا بها لمحض الجنة والثواب فلا جرم أوقع الله تعالى الإماتة والإعادة في البين لتكون الطاعات أدخل في الإخلاص وأبعد عن صورة المبايعة. وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر فتعرف تلك بدليل آخر. ويمكن إن يقال : بل الآية تتضمنها فإنها أيضا من جنس الإعادة. النوع الثاني : الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج : سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. وقال علي بن عيسى : لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم. وقيل : لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة. وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا (غافِلِينَ) عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها. ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر. ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه نظيره (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] النوع الثالث : الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات. ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء ، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا : إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر ، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك. ومعنى (بِقَدَرٍ) بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع ، أو بمقدار يوافق حاجاتهم. ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مددا للينابيع والآبار. وقيل : أراد إثباته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة : سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض. (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه. ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على أيّ وجه أراد ، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه إذا لم يشكر.

ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء بين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعا ، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين : التفكه والتطعم. وجوز في الكشاف أن يكون قوله (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من

١١٣

قولهم «فلان يأكل من حرفة كذا» كأنه قال : ومن هذه الجنان وجوه أرزاقكم ومعايشكم. ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. قال جار الله : طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافا إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإما أن يكون المجموع اسما للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ (سَيْناءَ) بفتح السين فهو كصحراء ، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون ألفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف (بِالدُّهْنِ) في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية ، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا ، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت : لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت ، وكذا يحتمل أن تكون الباء في (بِالدُّهْنِ) للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعديا. قال المفسرون : إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) قد مر في «النحل». ولعل القصد بالأنعام هاهنا الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة. (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) بالجمع بخلاف ما في «الزخرف» لتناسب قوله هنا (مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) ولتناسب قوله (جَنَّاتٍ) كما قال هنالك (فاكِهَةٌ) [الرحمن : ١١] على التوحيد لتناسب قوله (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) [مريم : ٦٣] وإنما قال هنا في الموضعين (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الآية : منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها ، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. واعلم أنه لما انجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من ألهم صنعتها ، وفيه أيضا تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية.

ثم حكى الله سبحانه عنهم شبها : الأولى قولهم (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار كونه مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٧٨] ويتأكد الاحتمال الأول بالشبهة الثالثة

١١٤

وهي قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) لعلو شأنهم ووفور علمهم وكمال قوتهم. وقد حكى هذه الشبهة عن أقوام آخرين في «حم السجدة» (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) [فصلت : ٩] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقادا وإما استهزاء. الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة ، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهرا بأنه أرجح الناس عقلا ورزانة. قال جار الله : الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه ، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن. ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل. وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه‌السلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم. وكان رؤساؤهم يقولون للعوام : إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره. ويحتمل أن يكون هذا كلاما مستأنفا وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه ، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥] (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) [القصص : ٦٦] (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعا يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف. ثم حكى أن نوحا عليه‌السلام لما علم إصرارهم على الكفر (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم ، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك «هذا بذاك» والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ٥٩] وباقي القصة إلى قوله (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) قد مر تفسير مثلها في سورة هود. ومعنى (فَاسْلُكْ) أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) [الآية : ١٢] و (سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) نقيض (سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] لأن «على»

١١٥

تستعمل في الضار كما أن اللام تستعمل في النافع. وقد جاء زيادة منهم هاهنا على الأصل وحذفت في «هود» ليحسن عطف (وَمَنْ آمَنَ) من غير التباس وبشاعة. قيل : في قوله (بِأَعْيُنِنا) على الجمع فساد قول المشبهة إن الله خلق آدم على صورته. أما قوله (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) أي ركبت واستوليت (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ) لم يقل «فقولوا» لأن أول الكلام مبني على خطاب نوح ، ولأن قول النبي قول الأمة مع ما فيه من الإشعار بفضله ومن إظهار الكبرياء وأن كل أحد لا يليق لخطاب رب العزة. وفي الأمر بالحمد على هلاكهم تقبيح صورة الظلمة كقوله (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٤٥] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزما لأنه كان عرفه أن ذلك سبب نجاتهم من الاشتراك مع الظلمة في حكم الإهلاك. ثم أمره أن يسأل ما هو أهم وأنفع أن ينزله في السفينة بدليل عطف (فَقُلِ) على جزاء (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) أو ينزله في الأرض عند خروجه من السفينة لأنه لا يبعد أن يدعو عند ركوب السفينة بما يتعلق بالخروج منها (مُنْزَلاً) أي إنزالا أو موضع إنزال يبارك له فيه بزيادة إعطاء خير الدارين وقد أمره أن يشفع بالدعاء الثناء المطابق للمسألة وهو قوله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي إنزالا وذلك أنه أقدر على الحفظ وأعلم بحال النازل بل كل منزل فإنه لا يقدر على إيصال الخير إلى النازل إلا بإقداره وتمكينه وإلقاء تلك الداعية في قلبه (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من القصة (لَآياتٍ) لعبرا ودلالات لمن اعتبر وادّكر فإن إظهار تلك المياه العظيمة والذهاب بها إلى مقارّها لا يقدر عليها إلا القدير الخبير (وَإِنْ كُنَّا) هي المخففة من الثقيلة واللام في (لَمُبْتَلِينَ) هي الفارقة. والمعنى وإن الشأن والقصة كما مبتلين أي مصيبين قوم نوح ببلاء الغرق أو مختبرين بهذه الآيات من يخلفهم لننظر من يعتبر كقوله (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٥] وقيل : المراد كما يعاقب بالغرق من كفر فقد يمتحن به من لم يكفر على وجه المصلحة لا التعذيب ، فليس الغرق كله على وجه واحد.

التأويل : الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله ، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوا به بعد أن فنوا فيه. الخشوع في الظاهر انتكاس الرأس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد ، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين. والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات ، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال. واللغو كل ما يشغلك عن الله. والزكاة تزكية

١١٦

النفس عن الأخلاق الذميمة بل عن حب الدنيا لأنه رأس كل خطيئة (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) في كلمة «على» دلالة على أنهم يجب أن يستولوا على الأزواج لا بالعكس وإلا كن عدوّا لهم كقوله (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ١٤] وعلامة الاستيلاء على الأزواج أن يبتغي بالنكاح النسل ورعاية السنة في أوانها لا حظ النفس وإلا كان متجاوزا طريق الكمال لأمانتهم يعني التي حملها الإنسان (وَعَهْدِهِمْ) هو عهد الميثاق في الأزل يحافظون الفرق بين المحافظة والخشوع ، أن الخشوع معتبر في نفس الصلاة ، والمحافظة معتبرة فيها وفيما قبلها من الشرائط وفيما بعدها وهو أن لا يفعل ما يحبطها ويضيعها الوارثون لأنهم أحياء القلوب وقد نالوا من المراتب ما خلفتها أموات القلوب (مِنْ سُلالَةٍ) لأنه سل من جميع أجزاء الأرض فجاء مختلف الألوان والأخلاق حسب اختلاف أجزاء الطين. بل بحسب اختلاف المركبات من الطين. ففيه حرص الفأرة والنملة ، وشهوة الحمار والعصفور ، وغضب الفهد والأسد ، وكبر النمر ، وبخل الكلب ، وشره الخنزير ، وحقد الحية ، وغير ذلك من الصفات الذميمة. وفيه شجاعة الأسد ، وسخاوة الديك ، وقناعة البوم ، وحلم الجمل ، وتواضع الهرة ، ووفاء الكلب ، وبكور الغراب ، وهمة البازي ونحوها من الأخلاق الحميدة (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) لأنه خلق أحسن المخلوقين. أما من حيث الصورة فلأنه تعالى خلق من نطفة متشابهة الأجزاء بدنا مختلف الأبعاض والأعضاء كاللحم والشحم والعظم والعروق والشعر والظفر والعصب والعروق والمخ والأنف والفم واليد والرجل وغيرها مما يشهد لبعضها علم التشريح. وأما من حيث المعنى فلأنه خلق الإنسان مستعدا لحمل الأمانة التي أبى حملها السموات والأرض والجبال وسيجيء تحقيق ذلك في موضعه (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) إلى قوله (تُبْعَثُونَ) فيه أن الإنسان قابل لموت القلب ولموت النفس ولحشرهما. وفي موت أحدهما حياة الآخر وحشره. وموت القلب عبارة عن انغماسه وتستره في حجب الغواشي الآتية عليه من طرق الحواس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال فلذلك قال (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) هي الأغشية والحجب من الجهات المذكورة (وَما كُنَّا عَنِ) مصالح (الْخَلْقِ غافِلِينَ) فلا نترك العبد في تلك الحجب بدليل قوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) سماء العناية (ماءً) الرحمة (بِقَدَرٍ) استعداد السالك (فَأَسْكَنَّاهُ) في أرض وجوده (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ) المعارف (وَأَعْنابٍ) الكشوف وشجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات (تَنْبُتُ) بدهن حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة لأنه سر بين الله وبين الروح. (وَصِبْغٍ) لآكل الكونين بقوة الهمة. ثم أخبر عن نعم الغالب أن فيها منافع

١١٧

لأنها آلة تحصيل الكمال (وَعَلَيْها وَعَلَى) فلك الشريعة في سفر السير إلى الله (تُحْمَلُونَ) وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

القراآت : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) بكسر التاء فيهما : يزيد والوقف بالتاء لا غير وهو الصحيح عنه. وروى ابن وردان عنه بالكسر والتنوين فيهما. الباقون بفتح التاء فيهما في الحالين إلا الكسائي فإنه يقف بالهاء (تَتْرا) بالتنوين : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد والوقف بالألف لا غير. الباقون بالياء في الحالين وأن هذه بفتح الهمزة وسكون النون : ابن عامر (وَإِنَ) بالكسر والتشديد : عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون وأن بالفتح والتشديد زبرا بفتح الباء : عباس. الآخرون بضمها.

الوقوف : (آخَرِينَ) ه ج للآية مع الفاء واتصال المعنى (غَيْرُهُ) ط (تَتَّقُونَ) ه (الدُّنْيا) لا لأن ما بعده مقول القول (مِثْلُكُمْ) لا لأن ما بعده صفة بشر (تَشْرَبُونَ) ه

١١٨

(لَخاسِرُونَ) ه (مُخْرَجُونَ) ه (لِما تُوعَدُونَ) ه (بِمَبْعُوثِينَ) ه لأن الكل مقول الكفار وباب رخصة الضرورة وجواز إتيان الآية مفتوح (بِمُؤْمِنِينَ) ه ط (بِما كَذَّبُونِ) ه (نادِمِينَ) ج ه للآية مع حسن الوصل تصديقا لقوله (عَمَّا غُثاءً) ط تفخيما للكلمة التبعيدية بالابتداء مع فاء التعقيب. (الظَّالِمِينَ) ه (آخَرِينَ) ه ط لأن الجملة ليست بصفة لها لأن العجز عن سبق الأجل لا يختص بهم (يَسْتَأْخِرُونَ) ه ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار. (تَتْرا) ط منونا قرىء أولا للابتداء بكلما (أَحادِيثَ) ج لما ذكر في (غُثاءً لا يُؤْمِنُونَ) ه (مُبِينٍ) ه لا لتعلق الجار (عالِينَ) ه ج للآية مع الفاء (عابِدُونَ) ه ج لذلك (الْمُهْلَكِينَ) ه (يَهْتَدُونَ) ه (وَمَعِينٍ) ه (صالِحاً) ط (عَلِيمٌ) ه ط لمن قرأ (وَإِنَ) بالكسر (فَاتَّقُونِ) ه (زُبُراً) ط (فَرِحُونَ) ه (حِينٍ) ه (وَبَنِينَ) ه لا لأن (نُسارِعُ) مفعول ثان للحسبان (الْخَيْراتِ) ط (لا يَشْعُرُونَ) ه.

التفسير : عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن هذه القرون هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على أثر قصة نوح في غير هذا الموضع ولقوله تعالى في الأعراف (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الآية : ٦٩] وقيل : إنهم ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة وقد قال الله تعالى في هذه القصة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) ومعنى (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ) جعلناهم موضع إرسال وإلا فلفظة أرسل لا تعدى إلا «بإلى» وضمن الإرسال معنى القول ولهذا جيء بأن المفسرة أي قلنا لهم على لسان الرسول (اعْبُدُوا اللهَ) قال بعضهم : قوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) غير موصول بما قبله وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردّوا عليه الحجة. والجمهور على أنه موصول لأنه دعاهم إلى الله وحذرهم عقابه إن لم يقبلوا قوله ولم يتركوا عبادة الأوثان. قال جار الله : إنما قال في هذه السورة (وَقالَ الْمَلَأُ) بالواو وفي الأعراف (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) [الآية : ٦٦] بغير واو ومثله في سورة هود (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [الآية : ٥٣] لأنه بنى الأمر في ذينك الموضعين على تقدير سؤال سائل ، وفي هذه السورة أراد أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل فعطف قولهم على قوله. وقال السكاكي صاحب المفتاح : إنما قدم الجار والمجرور أعني قوله (مِنْ قَوْمِهِ) على وصف الملا وهم الذين كفروا لطول الصلة بالمعطوفات ، ولأنه لو أخر لأوهم أن قوله (مِنْ قَوْمِهِ) متعلق بالدنيا. ومعنى لقاء الآخرة لقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب. (وَ) معنى (أَتْرَفْناهُمْ) أنعمناهم بحيث شغلوا بالدنيا عن الأخرى. وقوله (مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي من الذي تشربونه فحذف الضمير أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه. ثم أكدوا شبهتهم أن الرسول لا يكون من جنس البشر بقولهم (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ) «واذن» واقع في جزاء الشرط وجواب لقومهم

١١٩

أي إنكم إذا قبلتم قول مثلكم وأطعتموه خسرتم عقولكم وأبطلتم آراءكم إذ لا ترجيح لبعض البشر على بعض في معنى الدعوة إلى طريق مخصوص هذا بيان كفرهم. ثم بين تكذيبهم بلقاء الآخرة وطعنهم في الحشر بقوله (أَيَعِدُكُمْ) الآية. قال جار الله : ثني «أنكم» للتوكيد وحسن ذلك الفصل بالظرف و (مُخْرَجُونَ) خبر الأول أو (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبتدأ معناه إخراجكم وخبره (إِذا مِتُّمْ) والجملة خبر الأول أو (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) في تقدير وقع إخراجكم وهذه الجملة الفعلية جواب «إذا» والجملة الشرطية خبر الأول وفي حرف ابن مسعود (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) ثم أكدوا الاستفهام الإنكاري بقولهم (هَيْهاتَ) ومعناه بعد وهو اسم هذا الفعل ، وفي التكرير تأكيد آخر وكذا في إضمار الفاعل وتبيينه بقوله (لِما تُوعَدُونَ) قال جار الله : اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] لبيان المهيت به. وقال الزجاج : هو في تقدير المصدر أي البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نون. ثم بين إترافهم بأنهم قالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا) أي إلا هذه الحياة لأن «إن» النافية دخلت على «هي» العائدة إلى الحقيقة الذهنية فنفت ما بعدها نفي الجنس ، وقد مر في «الأنعام». وإنما زيد في هذه السورة قوله (نَمُوتُ وَنَحْيا) لأن هذه الزيادة لعلها وقعت في كلام هؤلاء دون كلام أولئك ولم يريدوا بهذا الكلام أنفس المتكلمين وحدهم بل أرادوا أنه يموت بعض ويولد بعض وينقرض قرن ويأتي قرن آخر ، ولو أنهم اعتقدوا أنهم يحيون بعد الموت لم يتوجه عليهم ذم ولناقضه قولهم (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). ثم حكى أنهم زعموا أن كل ما يدعيه هود من الاستنباء وحديث البعث وغيره افتراء على الله وأنهم لا يصدقونه البتة فلا جرم (قالَ) هو داعيا عليهم كما دعا نوح على قومه (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) قال الله مجيبا له أي عما زمان قليل قصير (لَيُصْبِحُنَ) جعل صيرورتهم (نادِمِينَ) دليلا على إهلاكهم لأنه علم أنهم لا يندمون إلا عند ظهور سلطان العذاب ووقوع أماراته وذلك وقت إيمان اليأس. وزيادة «ما» لتوكيد قصر المدة و (الصَّيْحَةُ) صيحة جبريل كما سلف في الأعراف وفي «هود» ومعنى (بِالْحَقِ) بالعدل كقولك «فلان يقضي بالحق» وعلى أصول الاعتزال بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك. والغثاء حميل السيل مما بلي واسودّ من الأوراق والعيدان وغيرها ، شبههم بذلك في دمارهم أو في احتقارهم أو في قلة الاعتناء بهم ، وفي ضمن ذلك تشبيه استيلاء العذاب عليهم باستيلاء السيل على الغثاء يقلبه كيف يشاء. ثم دعا عليهم بالهلاك في الدارين بقوله (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) كما مر في سورة هود. وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وعرف الظالمين لكونهم مذكورين صريحا بخلاف ما يجيء من قوله (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم غير مذكورين إلا بطريق الإجمال وذلك قوله (ثُمَّ أَنْشَأْنا

١٢٠