تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

القفال : معناه طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده. وقال الضحاك : طغى عليهم واستطال فلم يوافقهم في أمر. ابن عباس : تجبر وتكبر عليهم ومثله عن شهر بن حوشب قال : بغيه أنه زاد عليهم في الثياب شبرا فهذا يعود إلى التكبر. الكلبي : بغيه حسده وذلك أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة له والوزارة لهارون ، وكان القربان إلى موسى فجعله إلى هارون فوجد قارون في نفسه حسدهما فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء إلى متى اصبر؟ قال موسى : هكذا حكم الله. قال : والله لا أصدقك حتى تأتي بآية ، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يأتي كل واحد بعصا فألقى مجموع العصيّ في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها فأصبحوا فإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر. واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) سأل الكلبي : ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف إيتاء مال قارون إلى نفسه؟ فأجاب بأنه لا حجة في أن ماله حرام لجواز أنه ظفر بكنز لبعض الملوك الخالية ، وكان الظفر عندهم طريق التملك ، أو لعله وصل إليه بالإرث من جهات ، أو بالكسب من جهة المضاربات وغيرها. والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به الباب ، أو جمع مفتح بالفتح وهو الخزانة. فمن الناس من طعن في القول الأول لأن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوأة من الذهب لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ولهذا قال أبو رزين : يكفي للكوفة مفتاح واحد. وأيضا الكنوز هي الأموال المدفونة في الأرض ولا يتصوّر لها مفتاح. أجاب الناصرون للقول الأول وهو اختيار ابن عباس والحسن : أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقود جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد. وأيضا ما روي أن مفاتيحه كانت من جلود الإبل وكل مفتاح إصبع ولكل خزانة مفتاح ، وكان إذا ركب حملت المفاتيح ستون بغلا غير مذكور في القرآن. فالصواب أن يفسر قوله (لَتَنُوأُ) أي تنهض مثقلا بأن تلك الخزائن يعسر ضبطها ومعرفتها على أهل القوّة في الحساب ، وقريب منه قول أبي مسلم : إن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] والمراد أن حفظها والاطلاع عليها يثقل على العصبة أولي القوّة والمتانة في الرأي. وظاهر الكنوز وإن كان من جهة العرف هو المال المدفون إلا أنه قد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق. وأيضا لا استبعاد في أن يكون موضع المال المدفون بيتا تحت الأرض له غلق ومفتاح معه.

و (لا تَفْرَحْ) كقوله (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] وذلك أنه لا يفرح بالدنيا

٣٦١

إلا من اطمأن ورضي بها. قال ابن عباس : كان حبه ذلك شركا لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى. (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) من المال والثروة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) يعني أسباب حصول سعاداتها من أصناف الخيرات والمبرات الواجبة والمندوبة فإن ذلك هو نصيب المؤمن من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب ، وإلى هذا أشار بقوله (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ويحتمل أن يراد به اللذات المباحة. وحين أمروه بالإحسان المالي أمروه بالإحسان مطلقا ويدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن الغيبة والحضور. وفي قوله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) إشارة إلى قوله تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] وإلى ما قال الحكماء : المكافأة في الطبيعة واجبة. و (الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي. وهذا القائل موسى عليه‌السلام أو مؤمنو قومه وهو ظاهر اللفظ. وكيف كان فقد جمع في هذه الألفاظ من الوعظ ما لو قبل لم يكن عليه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل تلقى النصح بكفران النعمة قائلا (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) قال قتادة ومقاتل والكلبي : كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال : إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك. وقال سعيد بن المسيب والضحاك : إن موسى أنزل عليه الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وطالوت ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. وقيل : أراد علمه بوجوه المكاسب والتجارات. وقيل : أراد إن الله أعطاني ذلك على علم له تعالى بحالي وباستئهالي لذلك. وقوله (عِنْدِي) الأمر كذلك أي في اعتقادي وفي ظني فأجابه الله تعالى بقوله (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) الآية. قال علماء المعاني : يجوز أن يكون المعنى بالاستفهام إثباتا لعلمه لأنه قد قرأ في التوراة أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية وحفظها من موسى وغيره فكأنه قيل : إنه قد علم ذلك فلم اغتر بكثرة ماله وأعوانه؟ ويجوز أن يراد به نفي العلم لأنه لما تحدّى بكونه من أهل العلم حيث قال (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) وبخه الله تعالى أنه لم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهلكى. ووجه اتصال قوله (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) بما قبله أنه تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالم بكل المعلومات. وقال أبو مسلم : أراد أنهم لا يسألون سؤال استيقان وإنما يسألون سؤال تقريع ومحاسبة (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) عن الحسن : في الحمرة والصفرة. وقيل : خرج على بغلة شهباء عليه ثوب أحمر أرجواني ، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الفاخرة. وقيل : في تسعين ألفا عليهم الثياب

٣٦٢

الصفر. قال الراغبون في الحياة العاجلة (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) والحظ الجد والبخت. عن قتادة : كانوا مسلمين تمنوا ذلك رغبة في الإنفاق في سبيل الخير. وقال آخرون : كانوا كفارا وقد مر في سورة النساء تحقيق الغبطة والحسد في قوله (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٢٢] (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بأحوال الدنيا وأنها عند الآخرة كلا شيء (وَيْلَكُمْ) وأصله الدعاء بالهلاك إلا أنه قد يستعمل في الردع والزجر بطريق النصح والإشفاق ، والضمير في قوله (وَلا يُلَقَّاها) عائد إلى الكلمة المذكورة وهي قوله (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أو إلى الصواب بمعنى المثوبة. أو بتأويل الجنة ، أو إلى السيرة والطريقة أي لا يلزم هذه السيرة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله وحكم به من الغنى وضده ، وظاهر حال قارون ينبىء عن أنه كان ذا أشر وبطر واستخفاف بحقوق الله واستهانة بنبيه وكتابه ، فلا جرم خسف الله به وبداره الأرض. إلا أن المفسرين فصلوا فقالوا : كان يؤذي نبي الله موسى وهو يداريه للقرابة التي كانت بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، فحسبه فاستكثر فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمر بما شئت. فقال : ائتوا إلى فلانة البغي حتى ترميه بنفسها في جمع بني إسرائيل فجعل لها ألف دينار أو طستا مملوءا من ذهب. فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه. فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا. قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت : كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجدا يبكي وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك. فقال : يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط. ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه. ثم قال : خذيهم فانطبقت عليهم. فأوحى الله إلى موسى ما أفظك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا. قلت : لعل استغاثته كانت مقرونة بالتوبة وإلا فالعتاب بعيد. ثم إن بني إسرائيل أصبحوا يتناجون بينهم إنما دعا موسى على

٣٦٣

قارون ليستفيد داره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومعنى (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من المنتقمين من موسى ، أو من الممتنعين من عذاب الله (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) أي منزلته من الدنيا وأسبابها (بِالْأَمْسِ) أي بالزمان المتقدم (يَقُولُونَ) راغبين في طاعة الله والرضا بقضائه وقسمته (وَيْكَأَنَّ اللهَ) من قرأ وي مفصولة عن كأن وهو مذهب الخليل وسيبويه فهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم كأنهم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا ثم قالوا (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح نظير هذا الاستعمال قول الشاعر :

ويكأن من يكن له نشب يح

بب ومن يفتقر يعيش عيش ضر

وعند الكوفيين : ويك بمعنى ويلك أي ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. حكى هذا القول قطرب عن يونس ، وجوّز جار الله أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي واللام مقدر قبل أن لبيان المقول لأجله هذا القول والتعليل أي لأنه لا يفلح الكفار كان ذلك الخسف.

قال في الكشاف قوله (تِلْكَ) تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها. قلت : يحتمل أن يكون للتبعيد حقيقة. وفي قوله (لا يُرِيدُونَ) دون أن يقول «يتركون» زجر عظيم ووعظ بليغ كقوله (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود : ١١٣] حيث علق الوعيد بالركون عن علي أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحته. ومن الناس من رد العلو إلى فرعون والفساد إلى قارون لقوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] وقال في قصة قارون (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) وضعف هذا التخصيص بيّن لقوله في خاتمة الآية (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) الآية ، قد مر تفسير مثله في آخر «الأنعام» وفي آخر «النمل». وقوله (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من وضع الظاهر موضع المضمر إذ كان يكفي أن يقال «فلا تجزون» إلا أنه أراد فضل تهجين لحالهم بإسناد عمل السيئات إليهم مكررا ، وفي ذلك لطف للسامعين في زيادة تبغيض السيئة إلى قلوبهم. ثم أراد أن يسلي رسوله في خاتمة السورة فقال (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) وأي معاد فتنكير المعاد للتعظيم وأنه ليس لغيره من البشر مثله يعني أن الذي حملك صعوبة تكليف التبليغ وما يتصل به لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. وقيل : أراد عوده إلى مكة يوم الفتح ، ووجه التنكير ظاهر لأن مكة

٣٦٤

يومئذ كانت معادا له شأن لغلبة المسلمين وظهور عز الإسلام وأهله وذل أهل الشرك وحزبه والسورة مكية. فقيل : وعده وهو بمكة في أذى من أهلها أنه مهاجر بالنبي منها ويعيده إليها في ظفر ودولة. وقيل : نزلت عليه هذه الآية حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى وطنه. وفي الآية إخبار عن الغيب وقد وقع كما أخبر فيكون فيه إعجاز دال على نبوّته. وحين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال (قُلْ) لأهل الشرك (رَبِّي أَعْلَمُ) يعني نفسه وإياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده ، ولا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه وحقيته. ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً) قال أهل العربية : هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل : وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة ، أو «إلا» بمعنى «لكن» أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك. ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك وقد مرّ مرارا أن مثل هذا النهي من باب التهييج له ولأمته. ثم إن مرجع الكل إليه فقال (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شيء سواه ، والوجه يعبر به عن الذات ، ومنهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعا به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء كما يقال «هلك الثوب وهلك المتاع» وقال أهل التحقيق : معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود ولا للعدم من عند ذاته ، وإن سميت المعدوم شيئا فممتنع الوجود أحق كل شيء بأن يسمى هالكا. استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة والنار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفناء بحكم الآية ، وهذا يناقض قوله (أُكُلُها دائِمٌ) [الرعد : ٣٥] وعورض بقوله (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] و (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ويحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر ومن هناك قال الضحاك : كل شيء هالك إلا الله والعرش والجنة والنار. وقيل : إلا العلماء فإن علمهم باق. ويمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلا بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه ومن فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال والله أعلم.

التأويل : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ) ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية (سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) نهار الوصل والتجلي (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ) نهار الوصل بطلوع شمس التجلي (سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ) سر تسكنون فيه عن وعثاء سطوة التجلي (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ) ليل السر ونهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كاد يستهلك وجوده ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إنه ليغان على قلبي» وقال لعائشة : كلميني يا حميراء. وذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب. وليس هذا السر من قبيل الحجاب وإنما هو من جملة الرحمة واللطف

٣٦٥

نظيره الشمس في عالم الصورة فإنها في خط الاستواء تحرق ، وفي الآفاق الرحوية لا تؤثر ، وفي الآفاق الحملية يعتدل الحر والبرد فتكثر العمارة وتسهل ويعيش الحيوان (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من أرباب النفوس (شَهِيداً) هو القلب الحاضر (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) وهو حقيقة التوحيد التي لا تحصل بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق لله (إِنَّ قارُونَ) النفس (كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) القلب لأن الله تعالى جعل النفس تبعا للقلب وجعل سعادتها في متابعته (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) المودعة في صفاتها قد أهلك من قبله من القرون كإبليس فإنه أكثر علما وطاعة (فِي زِينَتِهِ) هي التي زين حبها للناس من النساء والبنين وغير ذلك (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) وهم صفات النفس. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم صفات الروح (فَخَسَفْنا بِهِ) الأرض دركات السفل (وَبِدارِهِ) وهي قالبه أرض جهنم يتغلغل فيها إلى يوم القيامة بل إلى الأبد (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ) كما قال في بعض الكتب المنزلة : عبدي أنا ملك حي لا أموت أبدا ، أطعني أجعلك ملكا حيا لا تموت أبدا. عبدي أنا ملك إذا قلت لشيء كن فيكون ، أطعني أجعلك ملكا إذا قلت لشيء كن فيكون. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت» (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ) أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) هو مقام الفناء في الله والبقاء به (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) وهو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن والله المستعان.

٣٦٦

(سورة العنكبوت وهي مكية حروفها ٤٥٩٥ كلمها ١٩٨١ آياتها ٦٩ آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

الوقوف : (الم) كوفي. (لا يُفْتَنُونَ) ه (الْكاذِبِينَ) ه (يَسْبِقُونا) ط (يَحْكُمُونَ) ه ج (لَآتٍ) ط (الْعَلِيمُ) ه (لِنَفْسِهِ) ط (الْعالَمِينَ) ه (يَعْمَلُونَ) ه (حُسْناً) ط (فَلا تُطِعْهُما) ط (تَعْمَلُونَ) ه (الصَّالِحِينَ) ه (كَعَذابِ اللهِ) ط (مَعَكُمْ) ط (الْعالَمِينَ) ه (الْمُنافِقِينَ) ه (خَطاياكُمْ) ط (شَيْءٍ) ط (لَكاذِبُونَ) ه (مَعَ أَثْقالِهِمْ) ط فصلا بين

٣٦٧

الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين. (يَفْتَرُونَ) ه (عاماً) ط لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأخذهم (الطُّوفانُ) ط (ظالِمُونَ) ه (لِلْعالَمِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] أي إلى مكة ظاهرا ظافرا ، وكان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده (الم أَحَسِبَ النَّاسُ) إلى قوله (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) بالجهاد أو نقول : لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) [القصص : ٨٧] وكان دونه من المتاعب وأعباء الرسالة ما لا يخفى ، بدأ السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك. وأيضا لما بين أن كل هالك له رجوع إليه ، ردّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ما حسبوه ولكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء والحساب. قال أهل البرهان : وقوع الاستفهام بعد «ألم» يدل على استقلالها وانقطاعها عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها من السور. وفي تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب وإيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل : اسمع وكن لي. ولا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن وبالخطاب اهتمام ، ولهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه والاهتمام بشأنه كقوله (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١] (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) [آل عمران : ١] (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١] (يس وَالْقُرْآنِ) [يس : ١] (ص وَالْقُرْآنِ) [ص : ١] (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) [السجدة : ١] إلا ثلاث سور (كهيعص) [مريم : ١] (الم أَحَسِبَ النَّاسُ) (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ١] ولا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله وعبؤه بما فيه من التكاليف ، وبيانه في سورة مريم ظاهر ، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر معجز. وكذا الإخبار عن غلبة الروم قبل وقوعها. ومعنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف. واختلفوا في سبب نزولها فقيل : نزلت في عمار بن ياسر والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة. وقيل : نزلت في أقوام هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون. وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين ، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة. قال جار الله : مفعولا الحسبان الترك وعلته والتقدير : أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال : والترك بمعنى التصيير. فقوله (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه. وقال آخرون : تقديره

٣٦٨

أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن قالوا آمنا وأقول : إن من خواص «أن» مع الفعل و «أن» مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب ، والحكم بأن الترك هاهنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرنا من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) [التوبة : ١٦] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس. والتحقيق أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله. فإذا قال باللسان : آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلا بدّ له من شهود وهو الإتيان بالأركان ، وإذا حصل الشهود فلا بد له من مزك وهو بذل النفس والمال في سبيل الرحمن. فمعنى الآية : أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلا (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم «آمنا» ، بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات. وقوله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) كقوله (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) [الآية : ١٤٠] وقد مر تحقيقه في «آل عمران». والحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم ، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل : فليرين الله وليظهرن الله. وقيل : فليميزن ، وجوز جار الله أن يكون وعدا ووعيدا كأنه قال : وليبينن الذين صدقوا وليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي : في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه ، فقال في حق الأوّلين (الَّذِينَ صَدَقُوا) بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد ، وقال في حق الآخرين (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) بالصيغة المنبئة عن الثبات. وإنما قال (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإسلام. ثم بين بقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) إلخ. أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا [الأنفال : ٥٩] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال ، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لو لا الاستعجال. ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) والمخصوص محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة والتقدير : بئس الذي يحكمون حكمهم هذا ، وبئس حكما يحكمونه حكمهم هذا. وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف

٣٦٩

إرشادات وإلا يعاد عليها ترغيب وترهيب ولا يوجب من الله تعذيب. واعلم أن أصول الدين ثلاثة : معرفة المبدأ وأشار إليه بقوله (آمَنَّا) ، ومعرفة الوسط وهو إرسال الرسل. وإيضاح السبل وإليه أشار بقوله (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا) ومعرفة المعاد إما للأشقياء وهو قوله (الم أَحَسِبَ) الآية وإما للسعداء وهو قوله (مَنْ كانَ يَرْجُوا) أي يأمل (لِقاءَ) جزاء (اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن ، فلو لا البقاء لما حصل اللقاء كقولك : من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل. فإنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله. ومثله : من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب. إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. ويحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر. وقيل : يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي :

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها

(وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا (الْعَلِيمُ) بنياتهم وطوياتهم وبسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت ، وبالمرئي ما لا عين رأت وبالنيات ما لا خطر على قلب بشر.

ثم بين بقوله (وَمَنْ جاهَدَ) الآية. أن فائدة التكاليف والمجاهدات إنما ترجع إلى المكلف والله غني عن كل ذلك. قال المتكلمون من الأشاعرة : في الآية دلالة على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله وإلا كان مستكملا بذلك ، وأن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني ، وأنه ليس في مكان وإلا لزم افتقاره ، وأنه ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم لأن القدرة والعلم غيره فيلزم افتقاره. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال. وعن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد. وعن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه. وعن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات الله مع صفاته. وفي الآية بشارة من وجه وإنذار من وجه آخر ، وذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح ولا شيء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية وقد مر مرارا أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال الله تعالى وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفصيلا فيما علم وإجمالا فيما لم يعلم ، والعمل الصالح هو الذي ندب الله ورسوله إليه ، والفاسد ما نهى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه. وعند المعتزلة الأمر والنهي مترتب على الحسن والقبح. ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف. يقال :

٣٧٠

فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع. ولكن العمل عرض لا يبقى بنفسه ولا بالعامل لأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه الله. ومنه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة وهي كونها لله تعالى. وخالف زفر في نية الصوم وأبو حنيفة في نية الوضوء ، وقد مر. ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان والعمل الصالح أمرين : تكفير السيئات والجزاء بالأحسن. فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، ومنه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة ، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها. وهاهنا بحث وهو أن قوله (لَنُكَفِّرَنَ) يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ، فالمراد بالذين آمنوا وعملوا إما قوم مسلمون مذنبون ، وإما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله. أو يقال : إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء ، نظيره قول الملك لقوم : إذا أطعتموني أكرم آباءكم وأحترم أبناءكم. وهذا لا يقتضي أن يكرم آباء من توفي أبوه ويحترم ابن من لم يولد له ابن ، ولكن مفهومه أنه يكرم آباء من له أب ويحترم ابن من له ابن. أو يقال : ما من مكلف إلا وله سيئة حتى الأنبياء ، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين. وحين بين حسن التكاليف ووقوعها وذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها أشار بقوله (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة ولا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ، ومع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيرهم؟ ومنه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومعنى (وَصَّيْنَا) أمرنا كما مر في قوله (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ) [البقرة : ١٣٢] وقوله (بِوالِدَيْهِ) أي بتعهدهما ورعاية حقوقهما ، وعلى هذا ينتصب (حُسْناً) بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسنا أو افعل بهما حسنا كأنه قال : قلنا له ذلك وقلنا له (وَإِنْ جاهَداكَ) إلى آخره فلو وقف على قوله (بِوالِدَيْهِ) حسن ويجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والديه حسنا وقلنا له (وَإِنْ جاهَداكَ) وقوله (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) كقوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) [الأنعام : ٨١] أي لا معلوم ليتعلق العلم به. وإذا كان التقليد في الإيمان قبيحا فكيف يكون حال التقليد في الكفر. وعلى وجوب ترك طاعة الوالدين إذا أرادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي ، وذلك أن طاعتهما وجبت بأمر الله فإذا نفيا طاعة الله في الإشراك به فقد أبطلا طاعة الله مطلقا ، ويلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر الله ، وكل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل. فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك بالله من الممتنعات. وفي قوله

٣٧١

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ترغيب في رعاية حقوق الوالدين وترهيب عن عقوقهما وإن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك. وفيه أن المجازي للمؤمن والمشرك إذا كان هو الله وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما. وفي قوله (فَأُنَبِّئُكُمْ) دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شيء. يروى أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين أسلم قالت أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان : يا سعد بلغني أنك قد صبأت ، فو الله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد. وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعدا أن يداريها ويرضيها بالإحسان. ثم أكد جزاء من آمن وعمل صالحا بتكرير قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في زمرتهم (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩] قال الحكماء : أي في المجردين الذين لا كون لهم ولا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم. ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر والوفاق فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) يعني أنا والمؤمنون حقا آمنا ادّعى أن إيمانه كإيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي في سبيله ودينه (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) قال جار الله : أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ، وهذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفا وهذا في الواقع. وقيل : جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله. وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر وقالوا : ان آمنا نتعرض للتأذي من الناس ، وذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار ، وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل ونافقوا. وإنما قال (فِتْنَةَ النَّاسِ) ولم يقل «عذاب الناس» لأن فعل العبد ابتلاء من الله. وليس في الآية منع من إظهار كلمة الكفر إكراها ، وإنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها.

ومما يؤكد تذبذبهم قوله (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) ويلزمه الغنيمة غالبا (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) يعني دأب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر ، وإن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر وأظهر المعية وادّعى التبعية. وفي تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة والرحمة هي التي أوجبت النصر. ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم ، لأنه خبير بما بأنفسهم كما هي وهم لا يعرفون نفوسهم كما هي ، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى الله شيئا لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) وفيه وعد للمؤمنين ووعيد

٣٧٢

للمنافقين. اعتبر أمر القلب هاهنا وهو في المؤمن التصديق ، وفي المنافق النفاق ، واعتبر في أول السورة أمر اللسان وهو في الكافر الكذب لأنه يقول : الله غير موجود ، أو الله أكثر من واحد. وفي المؤمن الصدق لأنه يقول : الله واحد. وحين بين أحوال الفرق الثلاثة وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة ، وبين أن عذاب الله فوقها وكان للكافر أن يقول للمؤمن لم تصبر في الذل على الإيذاء ولم لا تدفع الذل والعذاب عن نفسك بموافقتنا ، وكان جواب المؤمن أن يقول خوفا من عذاب الله خطيئة مذهبكم فقالوا : لا خطيئة فيه ، وإن كان فيه خطيئة فعلينا ، أشار إلى جميع ذلك قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أرادوا وليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا وأن نحمل خطاياكم ، نظيره «ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء» وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب ولكنه حكاية قول صناديد قريش. كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان جزاء ومعاد فإنا نتحمل عنكم الإثم. وترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول : افعل هذا وإثمه عليّ ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان. ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئا من خطاياهم ، ولا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم الله عليهم بأنهم كاذبون. ويجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا وفي قلوبهم نية الخلف. ولا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف. أما الجمع بين قوله (وَما هُمْ بِحامِلِينَ) وبين قوله (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) فهو أن النفي راجع إلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسببه ، والإثبات يرجع إلى أنهم يحملون وزر الإضلال ووزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما قال عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» (١) قال (وَلَيُسْئَلُنَ) سؤال تقريع (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنه لا حشر ، وعلى تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين. ثم أجمل قصة نوح ومن بعده تصديقا لقوله في أول السورة (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفيه تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام كأنه قيل له : إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك ، وفيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال ، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون؟

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب العلم حديث ١٥. النسائي في كتاب الزكاة باب ٦٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٥٧ ، ٣٥٩).

٣٧٣

سؤال : ما الفائدة في قوله (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) دون أن يقول : تسعمائة وخمسين. الجواب : لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز والتقريب. فإن من قال : عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريبا لا تحقيقا. فإذا قال : إلا شهرا أو إلا سنة ، زال ذلك الوهم. وأيضا المقصود تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الألف الذي هو عقد معتبر أوصل إلى هذا الغرض. وإنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفا لما في المستثنى منه تجنبا من التكرار الخالي عن الفائدة وتوسعة في الكلام. قال بعض الأطباء : العمر الطبيعي للإنسان مائة وعشرون سنة. فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه‌السلام وغيره ، وذلك أن المفسرين قالوا : عمر نوح ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة. ويمكن أن يقال : إنهم أرادوا بالطبيعي ما كان أكثريا في أعصارهم. ولا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائدا على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار والأدوار ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين»! (١) والطوفان ما عم كل المكان بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل. وفي قوله (وَهُمْ ظالِمُونَ) دليل على أن العذاب أخذهم وهم مصرون على الظلم ولو كانوا قد تركوه لما أهلكهم. والضمير في قوله (وَجَعَلْناها) إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة. وأعاجيب هذه القصة وأحوال السفينة وأهوالها قد تقدّمت مرارا ولا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها.

التأويل : أقسم بفردانيته وبآلائه ونعمائه أنه مهما يكون من العبد التقرب إليه بأصناف العبودية يكون منه التقرب إلى العبد بألطاف الربوبية يؤكده قوله (أَحَسِبَ النَّاسُ) أي الناسون من أهل البطالة (أَنْ يُتْرَكُوا) بمجرد الدعوى ولا يطالبون بالبلوى ، فالمحبة والمحنة توأمان وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان ، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه. فالبلاء للنفوس لإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في حسن العمل ، والبلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيب ، والبلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق ، والبلاء على الأسرار في اعتكافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه ، وإن أشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه نكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق لا يدري أنه من الحق ولا يقال : إنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) فيه أن موجبات عمل السيئات سواد مرآة

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٢٣. ابن ماجة في كتاب الزهد باب ٢٧.

٣٧٤

القلوب بصدأ الحسبان ورين الكفران ليتوهموا (أَنْ يَسْبِقُونا) بالعدوان عن طريق سنتنا في الانتقام من أهل الحال والإجرام. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بالنجاة عن الدركات باتباع الشهوات هيهات هيهات. (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) فإن من رجى عمره في رجاء لقائنا فهو الذي نبيح له النظر إلى جمالنا (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأنين المشتاقين العليم بطويات الصادقين. ومن جاهد بالسعي في طلبنا فإنما يجاهد لنفسه لأنها بالتخلية عن الأخلاق الذميمة وبالتحلية بالصفات الحميدة تخلص عن الأمارية وتستأهل للمطمئنية فتستحق لجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] والذين آمنت قلوبهم بمحبتنا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ببذل الوجود في طلب جودنا (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ) سيئات وجودهم المجازي (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) وجودا حقيقيا أحسن منه (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) فيه إشارة إلى أن المريد إذا تمسك بذيل شيخ كامل وتوجه إلى الحضرة بعزيمة من عزائم الرجال فإن منعه الوالدان عن ذلك فعليه أن لا يطيعهما لأنه سبب ولادته في عالم الأرواح وهما سبب ولادته في عالم الأشباح كما قال عيسى عليه‌السلام : لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين. فهو أحق برعاية الحقوق منهما. (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) فيه أن المؤمن من كف الأذى ، والولي من يتحمل من الخلق الأذى ولا تترشح عنه الشكوى من البلوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منها كل مليح. والمنافق إذا لم يكن في حماية خشية الله يفترسه خوف الخلق إذا أوذي في الله. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه أن كافر النفس وصفاته يقولون بلسان الطبيعة الإنسانية لموسى القلب والسر والروح وصفاتهم (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) في طلب الشهوات الحيوانية (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي ندفع عنكم ضرر ما يرجع إليكم في متابعة شهوات الدنيا وطيباتها (وَما هُمْ بِحامِلِينَ) شيئا (مِنْ خَطاياهُمْ) وهو العمى والصمم والبكم وسائر الصفات النفسانية ، ولكن يحملون أثقالهم هذه الأوقات مع الآفات التي تختص بها والله أعلم بالصواب.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ

٣٧٥

تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١))

٣٧٦

القراآت : أولم تروا بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل النشاءة بفتح الشين بعدها ألف ممدودة حيث كان : ابن كثير وأبو عمرو مودة بالرفع (بَيْنِكُمْ) بالجر على الإضافة : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وأبو زيد عن المفضل مودة بالرفع بينكم بالفتح : الشموني والبرجمي. (مَوَدَّةَ) بالنصب (بَيْنِكُمْ) على الإضافة : حمزة وحفص. الباقون : (مَوَدَّةَ) بالنصب (بَيْنِكُمْ) بالفتح (رَبِّي إِنَّهُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (إِنَّكُمْ) بهمز واحد أينكم بهمزة بعدها ياء : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب. زيد : مثله. بزيادة مدّة في الثانية : يزيد وقالون كلاهما مثل هذه الثانية أبو عمرو. والأولى بهمزة واحدة الثانية بهمزتين : ابن عامر وحفص هشام يدخل بينهما مدّة. الباقون بهمزتين فيهما أإنكم كنظائره. (لَنُنَجِّيَنَّهُ) بسكون النون من الإنجاء : يعقوب وحمزة وعلي وخلف (سِيءَ بِهِمْ) كما ذكر في «هود» و (مُنَجُّوكَ) من الإنجاء : ابن كثير ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل منزلون بالتشديد : ابن عامر و (ثَمُودَ) غير مصروف في الحالين : حمزة وحفص وسهل ويعقوب.

الوقوف : (وَاتَّقُوهُ) ط (تَعْلَمُونَ) ه (إِفْكاً) ط (وَاشْكُرُوا لَهُ) ط (تُرْجَعُونَ) ه (مِنْ قَبْلِكُمْ) ج للعطف مع الاختلاف بالإثبات والنفي (الْمُبِينُ) ه (يُعِيدُهُ) ط (يَسِيرٌ) ه (الْآخِرَةَ) ط (قَدِيرٌ) ه ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا (مَنْ يَشاءُ) ط لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين (تُقْلَبُونَ) ه (السَّماءِ) ز فصلا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين (نَصِيرٍ) ه (أَلِيمٌ) ه (النَّارِ) ط (يُؤْمِنُونَ) ه (أَوْثاناً) ج لمن قرأ (مَوَدَّةَ) بالرفع (الدُّنْيا) ج لاختلاف الجملتين والفصل بين تباين الدارين (بَعْضاً) ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقصود (مِنْ ناصِرِينَ) ه قيل : لا وقف لتعلق الفاء (لُوطٌ) م لأن قوله (وَقالَ) فاعله إبراهيم ولو وصل لأوهم اتحاد الفاعل (رَبِّي) ط (الْحَكِيمُ) ه (الدُّنْيا) ج للابتداء بأن مع واو العطف (الصَّالِحِينَ) ه (الْفاحِشَةَ) ز لأن ما بعده يصلح مستأنفا أو حالا أو وصفا (الْعالَمِينَ) ه (الْمُنْكَرَ) ط لانتهاء الخطاب لابتداء الجواب (الصَّادِقِينَ) ه (الْمُفْسِدِينَ) ه (بِالْبُشْرى) لا لأن (قالُوا) جواب «لما» (الْقَرْيَةِ) ج للابتداء بأن مع احتمال التعليل. (ظالِمِينَ) ه وقد يوصل دلالة على تدارك إبراهيم (لُوطاً) ط (بِمَنْ فِيها) ج لأن لام التوكيد تقتضي قسما أي والله لننجينه مع تمام المقصود في التنجية (إِلَّا امْرَأَتَهُ) ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا في النظم ولكنه حال المرأة لأن المستثنى مشبه بالمفعول أي يستثنى امرأته كائنة من الغابرين (وَلا تَحْزَنْ) ط فصلا بين

٣٧٧

البشارتين وتوفيرا للفرح (الْغابِرِينَ) ه (يَفْسُقُونَ) ه (يَعْقِلُونَ) ه (شُعَيْباً) لا لتعلق الفاء (مُفْسِدِينَ) ه (جاثِمِينَ) ه لأن (عاداً) يحتمل أن يكون منصوبا بـ (فَأَخَذَتْهُمُ) أو بمحذوف أي واذكر وهذا أوجه لأن قوله (وَقَدْ تَبَيَّنَ) حال ولا يحسن أن يكون عامله (فَأَخَذَتْهُمُ) والأوجه انتصابه بمحذوف وهو «أذكر» أو أهلكنا. (مَساكِنِهِمْ) ط لأن التقدير مقدرين وعامله فأخذتهم (مُسْتَبْصِرِينَ) ه ج للعطف (وَهامانَ) يحتمل عندي الوقف وقيل : لا بناء على أن قوله (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) حال عامله (فَأَخَذَتْهُمُ). (سابِقِينَ) ه لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين (بِذَنْبِهِ) ط وكذلك (حاصِباً) ط (أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) ط (خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) ط و (أَغْرَقْنا) ط لعطف الجمل والوقف أوجه تفصيلا لأنواع النقم وإمهالا لفرصة الاعتبار (يَظْلِمُونَ) ه (الْعَنْكَبُوتِ) ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا (بَيْتاً) ط (الْعَنْكَبُوتِ) ج لأن وهن بيت العنكبوت معلق (يَعْلَمُونَ) ه.

التفسير : قوله (وَإِبْراهِيمَ) منصوب بمضمر وهو «اذكر». وقوله (إِذْ قالَ) بدل منه بدل الاشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها أي اذكر وقت قوله لقومه ، وجوز أن يكون معطوفا على (نُوحاً) فأورد عليه أن الإرسال قبل الدعوة فكيف يكون وقت الدعوة ظرفا للإرسال؟ وأجيب بأن الإرسال أمر ممتد إلى أوان الدعوة أو المراد أرسلناه حين كان صالحا لأن يقول لقومه اعبدوا الله خصوه بالعبادة واتقوا مخالفته. (ذلِكُمْ) الإخلاص والتقوى (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أما العبادة فلأنها غاية الخضوع فلا تصلح إلا لمن هو في غاية الكمال فضلا عن الجماد ، وأما اتقاء خلافه فلأن من قدر على إهلاك الماضين فهو قادر على إهلاك الباقين وتعذيبهم إذا عصوه ، فالعاقل من يحذر خلاف القادر. ثم بين بقوله (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أن الذي يعبدونه في غاية الخسة لأنه صنم لا روح له ، ولا ظلم أشنع من وضع الأخس موضع الأشرف. وبين بقوله (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أن الذين يزعمون أنها شفعاؤهم عند الله كذب وزور ، ثم ذكرهم أنهم لا يقدرون على نفع ولا على إيصال رزق أيّ رزق كان. ثم أشار بقوله (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) إلى أن هذه الهبة والرزق الموعود في قوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] يجب أن يطلب من الله فقط ، وإذا كان الرزق منه فالشكر يجب أن يكون له. ثم بين بقوله (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أن المعاقب والمثيب هو وحده فلا رهبة إلا منه ولا رغبة إلا فيه. ثم إن قوله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلى قوله (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) إن كان اعتراضا خطابا لكفار قريش فظاهر ، وإن كان تتمة قول إبراهيم فالأمم المتقدمة عليه إما قوم نوح وقوم إدريس وقوم شيث وقوم آدم ، وإما قوم نوح وحده. وعبر عن أمته بالأمم لأنه عاش ألف سنة وأكثر فمضت عليه

٣٧٨

القرون ، وكان كل قرن يوصون من بعدهم من الأبناء أن يكذبوا نوحا. والبلاغ ذكر المسائل والإبانة وإقامة البرهان عليه ، وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلا لم يكن البلاغ مبينا. وحين بين التوحيد والرسالة شرع في بيان المعاد فإن هذه الأصول الثلاثة لا تكاد تنفصل في الذكر الإلهي فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلموا بالبرهان النير القائم مقام الرؤية (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) ثم يعيده. أما إبداء الخلق المطلق فلأن المخلوق لا بد له من خالق أوّل تنتهي إليه سلسلة المخلوقات ، وأما خلق الإنسان بل كيفيته فإنه كالمشاهد المحسوس فإنا نرى النطفة وقعت في الرحم فدارت عليها الأطوار حتى حصلت خلقا آخر. وأما الإعادة فلأنها أهون في القياس العقلي ولهذا ختم الآية بقوله (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وحين أشار إلى العلم الحدسي الحاصل من غير طلب أمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو حكى إبراهيم قول ربه له (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي إن لم يحصل لكم الحدس المذكور فسيروا في أقطار الأرض وتفكروا في كيفية تكوّن المواليد الثلاثة : المعادن والنبات والحيوان. حتى يفضى بكم النظر إلى العيان ؛ فالآية الأولى إشارة إلى ما هو كالمركوز في الأذهان ولهذا قال بطريق الاستفهام (أَوَلَمْ يَرَوْا) الآية الثانية أمر بالنظر المؤدي إلى العلم والإيقان على تقدير عدم حضور ذلك البيان والعيان. وإنما قال أوّلا (كَيْفَ يُبْدِئُ) بلفظ المستقبل وثانيا (كَيْفَ بَدَأَ) بلفظ الماضي ، لأن العلم الحدسي حاصل في كل حال ، وأما العلم الاستقرائي فلا يفيد اليقين إلا فيما شاهد وتتبع فكأنه قيل : إن لم يحصل لكم العلم بأن الله في كل حال موصوف بالإبداء والإعادة فانظروا في أصناف المخلوقات حتى تعرفوا أنه كيف بدأها ثم تستدلوا من ذلك على أنه ينشئها النشأة الثانية ، فهذا عطف على المعنى كأنه قال : وانظروا كيف بدأ هذا. وتكلف جار الله فقال : هو معطوف على جملة قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) كما قال قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) إخبار على حياله وليس بمعطوف على (يُبْدِئُ) ثم في إقامة اسم الله مقام الضمير في قوله (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ) إشارة إلى أنه لا يقدر على هذه النشأة إلا المعبود الكامل الذات المتصف بالعلم والحياة وبسائر نعوت الجلال. وحين ذكر دلائل الأنفس والآفاق صرح بالنتيجة الكلية فقال (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الإبداء والإعادة (قَدِيرٌ) وكذا على التكليف والجزاء تقريره قوله (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) يقال : قلب فلان في مكانه إذا أردى. وفي الآية لطائف منها : أنه قدم التعذيب على الرحمة مع قوله «سبقت رحمتي غضبي» (١) لأن الآية مسوقة لتهديد المكذبين ومع ذلك لم يخل الكلام عن ذكر الرحمة وإنه يؤكد قوله «سبقت رحمتي غضبي» (٢) ومنها أنه لم يقل يعذب

__________________

(١ ، ٢) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢ ، ٢٨. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦.

٣٧٩

الكافر ويرحم المؤمن إظهارا للهيبة الإلهية. ومنها أنه قال أوّلا (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ثم أعاده هاهنا لأن التعذيب والرحمة قد يكونان عاجلين وكأنه قال : وإن تأخر ثوابكم وعقابكم فإن إلينا إيابكم وعلينا حسابكم وعندنا يدّخر لكم ذلك فلا تظنوا فواته يؤكده قوله (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وفيه أن الانقلاب إليه لا منه ، وذلك أن الإعجاز إما بالهرب وإما مع الثبات وقد نفى الأول بقوله (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي لو هبطتم إلى موضع السمك في الماء أو صعدتم إلى محل السماك في السماء لم تخرجوا من قبضة قدرة الله. وقدّم الأرض على السماء لأن السماء أبعد وأفسح أي إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة أو في السماء التي هي أفسح منها وأبعد فإنكم لا تفوتون الله ، والمراد لا تعجزونه كيفما هبطتم في أعماق الأرض أو علوتم إلى البروج المشيدة الذاهبة في السماء كقوله (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨] أو أراد لا تعجزون بلاءه الظاهر في الأرض أو النازل من السماء. وجوّز بعضهم أن يراد وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا في السماء بحذف الموصول ، واقتصر في الشورى على قوله (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) [العنكبوت : ٢٢] لأنه خطاب للمؤمنين. ونفى الثاني بقوله (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لأن الركن الشديد الذي يستند إليه إما وليّ يشفع أو ناصر يدفع ، والأول أسهل الطريقين فلذلك قدم الوليّ على النصير.

ثم خص الوعيد بالكافرين بآياته أي بدلائل الوحدانية وبالكتب والمعجزات. وفي زيادة قوله (أُولئِكَ) إشارة إلى أن اليأس من الرحمة منحصر فيهم لقوله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] ونسبة اليأس إليهم إمّا على سبيل الإخبار عن حالهم يوم القيامة ، أو على سبيل وصف الحال ، فإن وصف المؤمن أن يكون راجيا خاشيا ونعت الكافر أن لا يخطر بباله خوف ولا رجاء بل يكون خائفا كما قيل : الخائن خائف. وجوز في الكشاف أن يكون على طريقة التشبيه كأنه يشبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من رحمة الله. ولعله ذهب إلى هذا التشبه لأن اليأس من رحمة الله متوقف على الاعتراف بالله وبرحمته والكافر غير معترف بواحد من الأمرين. ثم بين بتكرير أولئك في قوله (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أن كل واحد من الوعيدين لا يوجد إلا فيهم وإن كان الوعيدان متلازمين في الحقيقة. ثم حكى أن جواب قوم إبراهيم لم يكن إلا أن قالوا فيما بينهم أو قال واحد ورضي به الباقون (اقْتُلُوهُ) بالسيف ونحوه (أَوْ حَرِّقُوهُ) بالنار وهذا ليس

__________________

الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩ ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢).

٣٨٠