تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الوقوف : (أَيُّوبَ) م إلا إذا جعل «إذ» بدلا (وَعَذابٍ) ه ط لتقدير القول أي فأرسلنا إليه جبريل فقال له اركض (بِرِجْلِكَ) ج لأن هذا مبتدأ مع أنه من تمام القول (وَشَرابٌ) ه (الْأَلْبابِ) ه (وَلا تَحْنَثْ) ط (صابِراً) ط (الْعَبْدُ) ط (أَوَّابٌ) ه (وَالْأَبْصارِ) ه (الدَّارِ) ه ج للاية مع العطف (الْأَخْيارِ) ه (وَذَا الْكِفْلِ) ط (مِنَ الْأَخْيارِ) ه (ذِكْرٌ) ه ط (مَآبٍ) ه لا لأن (جَنَّاتِ) بدل أو عطف بيان. (الْأَبْوابُ) ه ج لاحتمال أن عامل (مُتَّكِئِينَ) محذوف أي يتنعمون متكئين وإن جعل حالا من (مُفَتَّحَةً) فهي مقدّرة لأن الاتكاء لا يكون في حال فتح الأبواب (وَشَرابٍ) ه (أَتْرابٌ) ه (الْحِسابِ) ه (مِنْ نَفادٍ) ه ج (هذا) ط أي هذا بيان جزاء المتقين أو الأمر هذا (مَآبٍ) ه لا (جَهَنَّمَ) ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا (يَصْلَوْنَها) ج (الْمِهادُ) ه (هذا) لا لأن خبره (حَمِيمٌ) فقوله (فَلْيَذُوقُوهُ) اعتراض (وَغَسَّاقٌ) ه لا للعطف (أَزْواجٌ) ه ط (مَعَكُمْ) ج لاتصال المعنى مع الابتداء بما في معنى الدعاء (بِهِمْ) ه (النَّارِ) ط (بِكُمْ) ط (لَنا) ج (الْقَرارُ) ه (النَّارِ) ه (الْأَشْرارِ) ه ط لمن قرأ بكسر الهمزة لاحتمال إضمار همزة الاستفهام واحتمال كونها خبرية صفة أو حالا ومن صرح بالاستفهام فوقفه مطلق (الْأَبْصارُ) ه (النَّارِ) ه (الْقَهَّارُ) ه ج لأن ما بعده يصلح بدلا وخبرا لمحذوف أي هو الغفار (عَظِيمٌ) ه لا لأن ما بعده وصف (مُعْرِضُونَ) ه (يَخْتَصِمُونَ) ه (مُبِينٌ) ه (طِينٍ) ه (ساجِدِينَ) ه (أَجْمَعُونَ) ه لا (إِبْلِيسَ) ط (الْكافِرِينَ) ه (بِيَدَيَ) ط للاستفهام (الْعالِينَ) ه (مِنْهُ) ط لأن ما بعده جواب سؤال كأنه علل الخيرية (طِينٍ) ه (رَجِيمٌ) ه ج والوصل أولى لاتصال لعنتي به (الدِّينِ) ه (يُبْعَثُونَ) ه (الْمُنْظَرِينَ) ه لا لتعلق إلى (الْمَعْلُومِ) ه (أَجْمَعِينَ) ه لا للاستثناء (الْمُخْلَصِينَ) ه (فَالْحَقُ) ز على قراءة الرفع أي فهذا الحق مع اتحاد المقول (أَقُولُ) ج لاحتمال أن ما بعده قسم مستأنف أو بدل من قوله (وَالْحَقَ). (أَجْمَعِينَ) ه ج (الْمُتَكَلِّفِينَ) ه (لِلْعالَمِينَ) ه (حِينٍ) ه.

التفسير : وجه النظم كأنه تعالى يقول : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر مالا أو جاها من داود وسليمان ، ولم يكن أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، ومع ذلك لم يبق حالهما وحاله على نسق واحد ، فالصبر مفتاح الفرج. و (أَيُّوبَ) عطف بيان و «إذ» معمول فعل آخر أو بدل اشتمال من أيوب أي زمان بلائه وكان معاصرا ليعقوب ، وامرأته ليا بنت يعقوب ، ونداؤه دعاؤه والجار محذوف أي دعاه بأني مسني على الحكاية وإلا لقال بأنه مسه والنصب والنصيب كالرشد والرشد ، والنصب بالفتح والسكون على أصل المصدر ، وضمة الصاد لا تباع النون كقفل وقفل. ومعنى الكل التعب والمشقة. قيل : الضر

٦٠١

في البدن والعذاب في ذهاب المال والأهل وللناس في بلائه قولان : الأول أن الذي نزل به كان من الشيطان وقد مرّ تقريره في «الأنبياء» ومجمله ما روي أن إبليس سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال : نعم ، عبدي أيوب. قال : فسلطني على ماله فكان يجيئه ويقول : هلك من مالك كذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله. فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده. فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاء وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال : يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده فأذن فيه ، فنفخ في جلد أيوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سبع سنين أو ثمان عشرة ، وصار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال : إن استعاذ بي زوجك خلصته من هذا البلاء فأشارت إلى أيوب بذلك فغضب لذلك ـ أو لوجوه أخر سبق ذكرها في سورة الأنبياء ـ وحلف إن عافه الله ليجلدنها مائة جلدة وعند ذلك دعا ربه شاكيا إليه لامنه كقول يعقوب (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف : ٨٦] فأجاب دعاءه وأوحى إليه (ارْكُضْ) أي اضرب (بِرِجْلِكَ) الأرض. عن قتادة : هي أرض الجابية من قرى الشام. فأظهر الله تعالى من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه وردّ عليه أهله وماله.

القول الثاني : إن الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآفات وإلا لوقع في العالم مفاسد ولم يدع صالحا إلا نكبه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة. فالمراد بمس الشيطان هو الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب وساوسه من تعظيم ما نزل به من البلاء وإغرائه على الجزع والقنوط من روح الله إلى غير ذلك مما مر ذكره في سورة الأنبياء. ولناصر القول الأول أن يقول : سلمنا أن الشيطان باستقلاله لا يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر بعد الالتماس والتسليط؟. ولنعد إلى تفسير ما يختص بالمقام. قوله (مُغْتَسَلٌ بارِدٌ) أي هذا مكان يغتسل فيه أي بمائه ويشرب منه ، والظاهر أنها كانت عينا واحدة عذبة باردة ، وروى بعضهم أنه نبعت عينان ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها فبرأ ظاهره ، وضرب رجله اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها فزال ما في بطنه من القروح. وزعم أن تقدير الكلام هذا مغتسل وشراب بارد. وقوله (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قيل : أحياهم الله بأعيانهم وزاده مثلهم من أولاده. وقيل : من أولاد أولاده. وقيل : كانوا قد غابوا عنه وتفرقوا فجمع الله شملهم. وقيل : كانوا مرضى فشفاهم الله والأول أصح. وقوله (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى)

٦٠٢

مفعول لهما فكانت الهبة رحمة له وتذكيرا لذوي العقول حتى لو ابتلوا بما ابتلي به صبروا كما صبر فيفوزوا كما فاز. وإنما لم يقل هاهنا (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) [الأنبياء : ٨٤] مع أنه أبلغ اكتفاء بما مر في سورة الأنبياء وفي قوله (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) مع قوله في «الأنبياء» (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) [الآية : ٨٤] إشارة إلى أن ذا اللب هو الذي يعبد الله. وتخصص كل من السورتين بما خص لرعاية الفاصلة قوله (وَخُذْ) معطوف على (ارْكُضْ) والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو سنبلة. قال مجاهد : هو لأيوب خاصة. وعن قتادة : هو عام في هذه الأمة. والصحيح أنه باق في المريض والمعذور لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال : خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها. ومعنى (وَجَدْناهُ صابِراً) علمنا منه الصبر.

وهاهنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ) تارة وفي حق أيوب أخرى ، اغتم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه ، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه ، فكيف السبيل الى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى ، فإن كان منك الفضول فمني الفضل ، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق. قلت : وصف أنبياء سائر الأمم بقوله (نِعْمَ الْعَبْدُ) ووصف هذه الأمة بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء. ومعنى (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر ، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والعرفان فهم في حكم الزمنى والعميان ، ولو لا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة. قوله (أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة ، والدار ظرف فهي الدنيا ، أو مفعول به فهي الآخرة. والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا ، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها ، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة ، أو بما خلص من ذكراها ، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. و (الْمُصْطَفَيْنَ) جمع مصطفى وأصله مصطفيين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء

٦٠٣

المتحركة ألفا ثم حذفت ، أراد اخترناهم من بين أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في ميت أو موت و (إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) وقد مر ذكرهم في سورة الأنبياء. وحين تمم ذكر الصالحين وما لقي كل منهم من أنواع الابتلاء تثبيتا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواع القرآن ، أراد أن يذكر على عقيبه بابا آخر وهو ذكر جزاء المتقين والطاغين قال (هذا ذِكْرٌ) ثم قال (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) كما يقول المصنف : إذا فرغ من فصل من كتابه هذا باب ثم يشرع في باب آخر. ويحتمل أن يكون من تتمة صفات الأنبياء أي هذا الذي قصصنا عليك من أحوال هؤلاء الأنبياء شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا. قوله (مُفَتَّحَةً) حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. قال الزجاج (الْأَبْوابُ) فاعل (مُفَتَّحَةً) والعائد محذوف أي الأبواب منها. وقال غيره : في (مُفَتَّحَةً) ضمير الجنات و (الْأَبْوابُ) بدل الاشتمال من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب نظيره في بدل البعض «ضرب زيد اليد والرجل» فكان اللام عوضا من الضمير الراجع. والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح. وقيل : أراد به وصف تلك المساكن بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل. وقوله (مُتَّكِئِينَ) حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو (يَدْعُونَ) أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم. وقيل : يتمنون وقيل : يسألون. قال المفسرون : أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول. وحين بين أمر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح. وقاصرات الطرف قد مر في «الصافات» أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن. والأتراب جمع ترب وهي اللدة. واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب ، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد. والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل : هن وأزواجهن واحدة في الأسنان. وقيل : أراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية. ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين. ومعنى (لِيَوْمِ الْحِسابِ) قيل : لأجل الحساب لأن الحساب علة الوصول إلى جزاء العمل. والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب. (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها. ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان هاهنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخريا ، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزوا لأن الطاغي اسم ذم ، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر ، ويؤيده قول ابن عباس : المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير. وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم

٦٠٤

لأن كل من تجاوز عن تكاليف الله فقد طغا ، ومنه قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦] والمهاد الفراش وقد مر مرارا. وقوله (هذا) قد مر بعض إعرابه في الوقوف ، ويحتمل أن يراد العذاب هذا ثم ابتدأ فقال هو حميم أو منه (حَمِيمٌ) ومنه (غَسَّاقٌ) أو (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) معناه ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل : ٥١] وقيل : (حَمِيمٌ) مبتدأ و (هذا) خبره. والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار. يقال : غسقت العين إذا سال دمعها. وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل لليل الغاسق لأنه أبرد من النهار. فالحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده. وقال الزجاج : إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر : هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه. وقال كعب : هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية. وعن الحسن : هو عذاب لا يعلمه إلا الله. إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق. و (أَزْواجٌ) أي أجناس أو مقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله ، والمجموع خبر هذا أو خبر هو.

وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم. أما الأوّل فقوله (هذا) أي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون. والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع. وقيل : الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا (فَوْجٌ) أي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم. والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال. وقوله (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء منهم على أتباعهم و (مَرْحَباً) نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحبا لا ضيقا ، أو رحبت بلادك رحبا فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عليهم. وقوله (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) تعليل لاستيجابهم اللعن. قيل : إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم ، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم. وقيل : هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا موردا لا رحب فيه ولا سعة. وقيل (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم. وقيل : هذا كله كلام الخزنة (قالُوا) أي الأتباع. (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم

٦٠٥

(أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) والضمير لما هم فيه من العذاب أو الصلي أي كنتم السبب في العمل الذي هذا جزاؤه فجمعوا بين مجازين ، لأن الأتباع هم الذين عملوا عمل السوء لا رؤساؤهم والعمل هو المقدّم لا جزاؤه. ومن جعل قوله (لا مَرْحَباً) بهم من كلام الخزنة ، زعم أن تقدير الكلام هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم لما نحن فيه. (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي المستقر النار (قالُوا) أي الفوج وهو كالبدل من (قالُوا) الأوّل والضعف المضاعف كما مر في «الأعراف» وأما الثاني فقوله (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) أي في اعتقادنا لأن دينهم على خلاف ديننا ، أو أرادوا أنهم أراذل لا خير فيهم يعنون فقراء المسلمين. وعن بعضهم أن القائلين صناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وبلال وصهيب وأمثالهم. من قرأ (أَتَّخَذْناهُمْ) بفتح الهمزة فعلى أنه إنكار منهم على أنفسهم وتأنيب لها بالاستسخار منهم ، وكذا فيمن قرأ (أَتَّخَذْناهُمْ) بكسر الهمزة ويقدر همزة الاستفهام محذوفة ، ومن جعلها صفة أو حالا فلا إشكال وحينئذ يتصل (أَمْ زاغَتْ) بقوله (ما لَنا لا نَرى) أي الرجال الموصوفين في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا وخفي علينا مكانهم فلا نراهم وهم فيها. فأم منقطعة وكذا إن اتصل بقوله (أَتَّخَذْناهُمْ) على الاستفهام لأن الأول للإنكار ، والثاني للاستخبار. ويجوز أن يكون «أم» متصلة وكلاهما للإنكار. ومعنى زيغ الأبصار ازدراؤهم وتحقيرهم يؤيده قول الحسن ، كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم واللام في الأبصار عوض من الضمير أي أبصارنا (إِنَّ ذلِكَ) الذي حكينا عنهم (لَحَقٌ) لا بد لهم وقوعه لأنهم مالوا إلى عالم التضاد فيحشرون ، كذلك. ثم بين ما هو فقال هو (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) لأن التلاعن والتشاتم نوع من أنواع الخصومة.

واعلم أنه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمدا يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى. ثم ذكر طرفا من قصص الأنبياء عليهم‌السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء. ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار ، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) من جميع الوجوه (الْقَهَّارُ) لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلا (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار. قوله (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر

٦٠٦

والقيامة ، وذلك لأن هذه المطالب كانت مذكورة في أوّل السورة ولأجلها سيق الكلام منجرا إلى هاهنا. ويحتمل أن يراد كتاب أنزلناه فيه نبأ عظيم وهؤلاء الأقوام أعرضوا عن كل من هذه الأمور. ثم بين أنه حاصل من قبل الوحي بقوله (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) وهم الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي يتقاولون فيما بينهم بالوحي. والظرف متعلق بمحذوف أي بكلامهم وقت اختصامهم ، شبه التقاول بالتخاصم من حيث إن في كل منهما سؤالا وجوابا والمشابهة علة لجواز المجاز. ثم صرح بما عليه مدار الوحي قائلا (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إليّ إلا هذا وهو إني نذير كامل في باب التبليغ ، ويؤيده قراءة كسر (أَنَّما). وقيل : إن الجار محذوف أي لم يوح إليّ إلا لأن أنذر ولا أقصر. روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتاني الليل آت من ربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد. قلت : لبيك ربي وسعديك. قال : هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم. قال : فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض. قال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : نعم ، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (١) الحديث. قال : والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام.

واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد آدم واستكبر ليصير سماع القصة زاجرا للمكلفين عن هاتين الخصلتين ، فعلى هذا يكون (إِذْ قالَ) معمولا لمحذوف أي اذكر وقت قول ربك للملائكة. وقيل : النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما يذكره عما قريب. والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي. وقوله (إِذْ قالَ) بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) والملأ الأعلى أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] كأنهم قالوا : هؤلاء فيما بينهم. ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أن يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان. أو نقول : المراد علو الرتبة والشرف فيشمل تقاول الله وملائكته. وقال جار الله : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط. وقصة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٩ باب ١٥. الدارمي في كتاب الرؤيا باب ١٢. أحمد في مسنده (١ / ٣٦٨) (٤ / ٨٨) (٥ / ٢٤٣).

٦٠٧

آدم مذكورة في «البقرة» وفي غيرها مشروحة. والتي في هذه السورة يوافق أكثرها ما في الحجر فلا فائدة في إعادتها فلنذكر ما يختص بالمقام قوله (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) كلام المجسمة فيه ظاهر وغيرهم حملوه على وجوه منها : أن اليد عبارة عن القدرة يقال مالي بهذا الأمر يد أي قوّة وطاقة. ومنها أنها النعمة. ومنها أنها للتأكيد وليدل على عدم الواسطة كما مر في قوله (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] وقد يقال في حق من جنى بلسانه وإن لم يكن له هذا مما كسبت يداك. والحق فيه أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيديه إلا إذا كانت عنايته مصروفة إلى ذلك العمل ، فحيث كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازا عنها. ومنها قول أرباب التأويل إنه إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وهما يشملان جميع الصفات فلا مخلوق إلا وهو مظهر لإحدى الصفتين ، كالملك فإنه مظهر اللطف ، وكالشيطان فإنه مظهر القهر إلا الإنسان فإنه مظهر لكلتيهما وبذلك استحق الخلافة ومسجودية الملائكة ولهذا جاء في الأحاديث القدسية «لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان» قوله (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وفقت؟ فأجاب بأنه من العالين حيث (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وقيل : استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين. ومعنى الهمزة التقرير. قوله (فَالْحَقُ) من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل (لَعَمْرُكَ) [الحجر : ٧٢] أي فالحق قسمي لأملان والحق أقوله وهو اعتراض. ومن نصبهما فعلى أن الثاني تأكيد للأوّل ، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه ، أو الحق الذي هو نقيض الباطل. وقوله (مِنْكَ) أي من جنسك وهم الشياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من ذريّة آدم. و (أَجْمَعِينَ) تأكيد للتابعين والمتبوعين. ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه. أما الداعي فلا يسأل أجرا على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال البتة. وأما المدعو إليه فقوله (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده ، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلا ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانيا ، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثا ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد ، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعا ، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامسا ، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادسا (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «للمتكلف

٦٠٨

ثلاث علامات : ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم» (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وقيل : هو القيامة. وقيل : هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد.

٦٠٩

(سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات نزلت في وحشي بن حرب

وأصحابه (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلى آخرهن حروفها أربعة

آلاف وسبعمائة وثمانية وكلمها ألف ومائة وسبعون آياتها ٧٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي

٦١٠

أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

القراآت : (يَرْضَهُ) بالإشباع : ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف (يَرْضَهُ) باختلاس ضمة الهاء : يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون (يَرْضَهُ) بسكون الهاء ليضل بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون : بالضم (أَمَّنْ هُوَ) بتخفيف الميم : نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد يا عبادي الذين بفتح الياء. الشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أمرت فبشر عبادي بفتح ياء المتكلم فيهما : شجاع وأبو شعيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أخاف بالفتح :

٦١١

أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. سالما بالألف : ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون : بفتح السين واللام من غير ألف.

الوقوف : (الْحَكِيمِ) ه (لَهُ الدِّينَ) ه ط (الْخالِصُ) ط (أَوْلِياءَ) ه التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي. وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره (زُلْفى) ج لاحتمال أن خبر المبتدأ هو ما بعده (يَخْتَلِفُونَ) ه ط (كَفَّارٌ) ه (ما يَشاءُ) ز لتعجيل التنزيه (سُبْحانَهُ) ط (الْقَهَّارُ) ه ز (بِالْحَقِ) ج لاحتمال كون ما بعده حالا والاستئناف أفضل (وَالْقَمَرَ) ط (مُسَمًّى) ط (الْغَفَّارُ) ه (أَزْواجٍ) ط (ثَلاثٍ) ط (الْمُلْكُ) ط (تُصْرَفُونَ) ه (الْكُفْرَ) ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض (لَكُمْ) ط (أُخْرى) ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار (تَعْمَلُونَ) ه (الصُّدُورِ) ه (سَبِيلِهِ) ط (قَلِيلاً) ز ص والأولى الوصل أو التقدير فإنك (النَّارِ) ه (رَحْمَةَ رَبِّهِ) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (الْأَلْبابِ) ه (رَبَّكُمْ) ط (حَسَنَةٌ) ط (واسِعَةٌ) ط (حِسابٍ) ه (لَهُ الدِّينَ) ه ط (الْمُسْلِمِينَ) ه (عَظِيمٍ) ه (دِينِي) ه لا (دُونِهِ) ط (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ط (الْمُبِينُ) ه (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) ط (عِبادَهُ) ط (فَاتَّقُونِ) ه (الْبُشْرى) ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب (عِبادِ) ه لا (أَحْسَنَهُ) ط (الْأَلْبابِ) ه (الْعَذابِ) ه (فِي النَّارِ) ه ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف (الْأَنْهارُ) ط (وَعْدَ اللهِ) ط (الْمِيعادَ) ه (حُطاماً) ط (الْأَلْبابِ) ه (مِنْ رَبِّهِ) ط لحذف جواب الاستفهام من (ذِكْرِ اللهِ) ط (مُبِينٍ) ه (رَبَّهُمْ) ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف (ذِكْرِ اللهِ) ط (مَنْ يَشاءُ) ط (هادٍ) ه (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ط لحق الحذف كما مر (تَكْسِبُونَ) ه (لا يَشْعُرُونَ) ه (الدُّنْيا) ج للام الابتداء مع العطف (أَكْبَرُ) ه (يَعْلَمُونَ) ه (يَتَذَكَّرُونَ) ه ج لاحتمال كون (قُرْآناً) نصبا على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء (يَتَّقُونَ) ه (مُتَشاكِسُونَ) ه (لِرَجُلٍ) ط (مَثَلاً) ط (اللهُ) ج للإضراب مع اتفاق الجملتين (لا يَعْلَمُونَ) ه (مَيِّتُونَ) ه (تَخْتَصِمُونَ) ه.

التفسير : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ وخبره (مِنَ اللهِ) وقيل : أصله هذا تنزيل الكتاب والجار صلة ، والأولى أقوى لأن الإضمار خلاف الأصل ، ولأنه يلزم مجاز آخر وهو كون التنزيل بمعنى المنزل فإن هذا إشارة إلى القرآن أو إلى جزء منه وهو هذه السورة. وفيه إبطال ما يقوله المشركون من أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه. وفي قوله (مِنَ اللهِ) إشارة إلى الذات المستحق للعبادة والطاعة كقولك : هذا كتاب من فلان. تعظم به شأن الكتاب : وفي قوله (الْعَزِيزِ) إشارة إلى أن هذا الكتاب يحق قبوله فكتاب العزيز عزيز ، وفيه أنه غني عن

٦١٢

إرسال الكتاب والاستكمال به وإنما ينتفع به المرسل إليهم. وفي قوله (الْحَكِيمِ) إشارة إلى أنه مشتمل على الفوائد الدينية والدنيوية لا على العبث والباطل. وقوله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ليس تكرارا من وجهين : أحدهما أن التنزيل للتدريج والإنزال دفعي كما مر مرارا. والثاني أن الأول كعنوان الكتاب ، والثاني يقرر ما في الكتاب. وقوله (بِالْحَقِ) يعني أن كل ما أودعنا فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق مؤيد بالبرهان العقلي وهو مطابقته للعقول الصحيحة ، وبالدليل الحسي وهو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته. ثم اشتغل ببيان بعض ما فيه من الحق وهو الإقبال على عبادته بالإخلاص والالتفات عما سواه بالكلية. أما الأول فهو قوله (فَاعْبُدِ اللهَ) أي أنت أو أمتك (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وآية الإخلاص أن يكون الداعي إلى العبادة هو مجرد الأمر لا طلب مرغوب أو هرب مكروه. وأما الثاني فذلك قوله (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي واجب اختصاصه بالطاعة من غير أن يشوب ذلك دعاء أو شرك ظاهر وخفي. وخصصه قتادة فقال : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وحين حث على التوحيد والإخلاص ذم طريقة الشرك والتقليد فقال (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) الضمير للمشركين ولكن الموصول يحتمل أن يكون عبارة عن المشركين والخبر ما أضمر من القول ، أو قوله (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) والقول المضمر حال أو بدل فلا يكون له محل كالمبدل ، وأن يكون عبارة عن الشركاء والخبر (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) والقول المضمر للحال أو بدل. وتقدير الكلام على الأول : والمشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا ، أو المشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين أو يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم. وعلى الثاني : والشركاء الذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين أو يقولون كذا إن الله يحكم بينهم. وإذا عرفت التقادير فنقول : المراد بالأولياء هاهنا الملائكة وعيسى واللات والعزى. قال ابن عباس : كانوا يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله أما الملائكة وعيسى فظاهر ، وأما الأصنام فلأنهم اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب والأرواح السماوية أو الصالحين. ومعنى حكم الله بينهم أنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة ، ويدخلهم مع الأصنام النار. واختلافهم أن الملائكة وعيسى موحدون وهم مشركون والأصنام يكفرون يوم القيامة بشركهم وهم يرجون نفعهم وشفاعتهم. ويجوز أن يرجع الضمير في (بَيْنَهُمْ) إلى الفريقين المؤمن والمشرك. ولا يخفى ما في الآية من التهديد. ثم سجل عليهم بالخذلان والحرمان فقال (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) فكذبهم هو زعمهم شفاعة الأصنام وكفرانهم أنهم تركوا عبادة المنعم الحق وأقبلوا على عبادة من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. ومن جملة كذبهم قولهم الملائكة

٦١٣

بنات الله فلذلك نعبد صورها فاحتج على إبطال معتقدهم بقوله (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وهو الأفضل يعني البنين لا الأنقص وهن البنات. وقال جار الله : معناه لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه وهم الملائكة ، لأن اتخاذ الولد ممتنع ، وفيه توبيخ لهم على أنهم حسبوا الاصطفاء اتخاذ الأولاد بل البنات. وأقول : إنه تعالى أراد إبطال قولهم بطريق برهان وهو صورة قياس استثنائي كقوله (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى) لأجل الاتخاذ مما يخلق ما يشاء لكنه ما اصطفى ينتج أنه لم يرد أما الشرطية فظاهرة بعد تسليم كمال قدرته ، وأما الثانية فأشار إليها بقوله (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فقوله (سُبْحانَهُ) إشارة إلى استحالة اصطفائه شيئا لأجل اتخاذ الولد. وقوله (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) إشارة إلى البرهان على استحالة ذلك وتقريره من ثلاثة أوجه : الأول أنه هو الله وهو اسم للمعبود الواجب الذات الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال واتخاذ الولد يدل على الحاجة والفقر حتى يقوم الولد بعده مقامه ، أو على الاستئناس والالتذاذ بوجوده أو لغير ذلك من الأغراض ، وكل ذلك ينافي الوجوب الذاتي والاستغناء المطلق. الثاني أنه هو الواحد الحقيقي كما مر ذكره مرارا. والولد إنما يحصل من جزء من أجزاء الوالد ، ومن شرطه أن يكون مماثلا لوالده في تمام الماهية حتى تكون حقيقة الوالد حقيقة نوعية محمولة على شخصين ، ويكون تعين كل منهما معلوما لسبب منفصل وكل ذلك ينافي التعين الذاتي والوحدة المطلقة. وأيضا إن حصول الولد من الزوج يتوقف على الزوجة عادة وهي لا بد أن تكون من جنس الزوج فلا يكون الزوج مما ينحصر نوعه في شخصه. الثالث أنه هو القهار والمحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيقوم الولد مقامه والميت مقهور لا قاهر ، فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما اصطفى شيئا لأن يتخذه ولدا فصح أنه لم يرد ذلك ، ونفي إرادة الاتخاذ أبلغ من نفي الاتخاذ فقد يراد ولا يتخذ لمانع كعجزه ونحوه. هذا ما وصل إليه فهمي في تفسير هذه الآية والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.

وحين طعن في إلهية الأصنام عدد الصفات التي بها يستدل على الإلهية الحقة وهي أصناف : أولها قوله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي متلبسا بالغاية الصحيحة وقد مر مرارا. الثاني. (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها. وفي التشبيه أوجه منها : أن الليل والنهار متعاقبان إذا غشي أحدهما مكان الآخر فكأنما ألبسه ولف عليه. ومنها أنه شبه كل منهما إذا غيب صاحبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الأبصار. ومنها أن كلا منهما يكر على الآخر كرورا متتابعا كتتابع أكوار العمامة. وقيل : أراد أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعوذ بالله من

٦١٤

الحور بعد الكور» (١) أي من الإدبار بعد الإقبال. الثالث قوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) وقد مر مثله في «فاطر» وغيره. وحيث كان الأجل المسمى شاملا للقيامة عقبه بقوله (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) وفيه ترهيب مع ترغيب. الرابع والخامس قوله (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وهما آيتان أوّلهما تشعيب الخلق الفائت للحصر من نفس آدم ، والثانية خلق حوّاء من ضلعه. ومعنى «ثم» ترتيب الأخبار لأن الأولى عادة مستمرة دون الثانية إذ لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع. وقيل : هو متعلق بواحدة في المعنى كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة ثم شفعها الله بزوج منها. وقيل : إنه خلق آدم وأخرج ذريته من ظهره ثم ردهم إلى مكانهم ، ثم خلق بعد ذلك حوّاء. وقيل : «ثم» قد يأتي مع الجملة دالا على التقدّم كقوله (ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢] (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير» السادس قوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أما الأزواج فهي المذكورة في سورة الأنعام من الضأن اثنين الذكر والأنثى ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين. وأما وصفها بالإنزال فقيل : أنزلها من الجنة. وقيل : أراد إنزال ما هو سبب في وجودها وهو المطر الذي به قوام النبات الذي به يعيش الحيوان. وقيل : أنزل بمعنى قضى وقسم لأن قضاياه وقسمه مكتوبة في اللوح ومن هناك ينزل. وفي هذه العبارة نوع فخامة وتعظيم لإفادتها معنى الرفعة والاعتلاء ولهذا يقال : رفعت القضية إلى الأمير وإن كان الأمير في سرب. وخصت هذه الأزواج بالذكر لكثرة منافعها من اللبن واللحم والجلد والشعر والوبر والركوب والحمل والحرث وغير ذلك. السابع قوله (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) والمقصود ذكر تخليق الحيوان على الإطلاق بعد ذكر تخليق الإنسان والأنعام ، إلا أنه غلب أولي العقل لشرفهم. ويحتمل أن يكون ذكر الإنعام اعتراضا حسن موقعه ذكر الأزواج بعد قوله (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ليعلم أن كل حيوان ذو زوج وترتيب التخليق مذكور مرارا كقوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلى قوله (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن. (ذلِكُمُ) الذي هذه أفعاله (رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) وقد مر إعرابه في «فاطر». (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا موصوف بهذه الصفات إلا هو (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الدعاء باب ٢٠. مسلم في كتاب الحج حديث ٤٢٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٤١. النسائي في كتاب الاستعاذة باب ٤١ ، ٤٢. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ٤٢. أحمد في مسنده (٥ / ٨٢ ، ٨٣).

٦١٥

أي كيف يعدل بكم عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ ثم بين أنه غني عن طاعات المطيعين وأنها لا تفيد إلا أنفسهم فقال (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) قال المعتزلة : في قوله (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) دليل على أن الكفر ليس بقضائه وإلا لكان راضيا به. وأجاب الأشاعرة بأنه قد علم من اصطلاح القرآن أن العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ) [الفرقان : ٦٣] (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الدهر : ٦] فمعنى الآية : ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر. وهذا مما لا نزاع فيه. أو نقول : سلمنا أن كفر الكافر ليس برضا الله بمعنى أنه لا يمدحه عليه ولا يترك اللوم والاعتراض إلا أنا ندعي أنه بإرادته ، وليس في الآية دليل على إبطاله. ثم بين غاية كرمه بقوله (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) والسبب في كلا الحكمين ما جاء في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» وباقي الآية مذكور مرارا مع وضوحه. ثم حكى نهاية ضعف الإنسان وتناقض آرائه بقوله (وَإِذا مَسَ) إلى آخره. وقد مر نظيره أيضا. وقيل : إن الإنسان هو الكافر الذي تقدّم ذكره. وقيل : أريد أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره. ومعنى خوّله أعطاه لا لاستجرار العوض. قال جار الله : في حقيقته وجهان : أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة أي يتعهد ويتكفل أحوالهم إن رأى منهم نشاطا في الوعظ وعظهم. والثاني أنه جعله يخول أي يفتخر كما قيل :

إن الغني طويل الذيل مياس

ومعنى (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ، أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه و «ما» بمعنى «من». والمراد أنه نسي أن لا مفزع ولا إله سواه وعاد إلى اتخاذ الأنداد مع الله. واللام في (لِيُضِلَ) لام العاقبة. ثم هدّده بقوله (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وفيه أن الكافر لا يتمتع بالدنيا إلا قليلا ثم يؤل إلى النار.

ثم أردفه بشرح حال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى الله ولا اعتماد لهم إلا على فضله فقال (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) قال ابن عباس : القنوت الطاعة. وقال ابن عمر : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام. والمشهور أنه الدعاء في الصلاة والقيام بما يجب عليه من الطاعة. وعن قتادة (آناءَ اللَّيْلِ) أوّله ووسطه وآخره. وفيه تنبيه على فضل قيام الليل ولا يخفى أنه كذلك لبعده عن الرياء ولمزيد الحضور وفراغ الحواس من الشواغل

٦١٦

الخارجية ، ولأن الليل وقت الراحة فالعبادة فيه أشق على النفس فيكون ثوابه أكثر. والواو في قوله (ساجِداً وَقائِماً) للجمع بين الصفتين. وفي قوله (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي عذابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) إشارة إلى أن العابد يتقلب بين طوري القهر واللطف ، ويتردّد بين حالي القبض والبسط ولا يخفى أن في الكلام حذفا فمن قرأ (أَمَّنْ) بالتخفيف فالخبر محذوف والمعنى أمن هو مطيع كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جري ذكر الكافر قبله وبيان عدم الاستواء بين العالم والجاهل بعده. ومن قرأ بالتشديد فالمحذوف جملة استفهامية والمذكور معطوف على المبتدأ والمعنى : هذا أفضل أمن هو قانت. وقيل : الهمزة على قراءة التخفيف للنداء كما تقول : فلان لا يصلي ولا يصوم فيا من تصلي وتصوم أبشر. وقيل : المنادي هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل قوله (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) الآية. قال جار الله : أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون فكأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها ثم يفتنون بالدنيا. ويجوز أن يراد على وجه التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. قيل : نزلت في عمار بن ياسر وأمثاله ، والظاهر العموم. وفي قوله (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) إشارة إلى أن هذا التفات العظيم بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول كما قيل :

إنما نعرف ذا الفضل من الناس ذووه

وقيل لبعض العلماء : إنكم تزعمون أن العلم أفضل من المال ونحن نرى العلماء مجتمعين على أبواب الملوك دون العكس؟ فأجاب بأن هذا أيضا من فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. وحين بين عدم الاستواء بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام. النوع الأوّل. قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم قال أهل السنة : أمر المؤمنين أن يضموا إلى الإيمان التقوى ، وفيه دلالة على أن الإيمان يبقى مع المعصية. وقالت المعتزلة : أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم بارتكاب الكبائر بل يزيدوا في الإيمان حتى يتصفوا بصفة الاتقاء. ثم بين للمؤمنين فائدة الاتقاء قائلا (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الآية. وقوله (فِي هذِهِ الدُّنْيا) إما أن يكون صلة لما قبله أو صلة لما بعده وهو قول السدي. ومعناه على الأوّل : الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة. والتنكير للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنهها. وعلى الثاني : الذين أحسنوا فلهم في هذه

٦١٧

الدنيا حسنة. قال جار الله : فالظرف بيان لمكان الحسنة. ويحتمل أن يقال : إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها. والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية. ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي. وقيل : هي الثناء الجميل. وقيل : الظفر والغنيمة. وقيل : نور القلب وبهاء الوجه. وفي قوله (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم يتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧] وعن أبي مسلم : هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيبا فيها كما قال (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي لا يحاسبون أو بغير حصر. قال جار الله : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا» ثم تلا الآية وقال : حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل. النوع الثاني (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله هذه الآية. وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وقوله (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى : أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول : فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد. وقيل : اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي. ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة ، وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه. وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال (قُلْ إِنِّي أَخافُ) الآية. وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب ، وإذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جلالة قدره خائفا من العصيان فغيره أولى. قيل : المراد به أمته. وقيل : نزلت قبل أن يغفر الله له. وقالت الأشاعرة : فيه دليل على أن صاحب الكبيرة

٦١٨

قد يعفى عنه لأنه بين أن اللازم عند حصول المعصية خوف العقاب لا نفس العقاب. النوع الثالث (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) وليس بتكرار لما قبله وذلك أن الأوّل للإخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة الخالصة عن الشرك الجلي والخفي ، وهذا إخبار بأن الذي أمر به فإنه قد أتى به على أكمل الوجوه ، ولهذا أخر الفعل وضم إلى مضمونه التهديد بقوله (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) النوع الرابع (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لوقوعها في هلكة الإخلاد بعذابها (وَ) خسروا (أَهْلِيهِمْ) لأن أهلهم وأولادهم إن كانوا في النار فلا فائدة لهم منهم لأنهم محجوبون عنهم ، أو لأن كلا منهم مشغول بهمه وإن كانوا من أهل الجنة فما أبعد ما بينهم. وقيل : أهلوهم الحور العين في الجنة لو آمنوا.

قال أهل البيان : في قوله (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) تفظيع لشأنهم حيث استأنف الجملة وصدّرها بحرف التنبيه ووسط الفصل وعرف الخسران ووصفه بالمبين. قلت : التحقيق فيه أن للإنسان قوّتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا. والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالبديهيات وترتيبها على الوجه المؤدّي إلى النتائج وهو بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء ، والآلة في القسم العملي هي القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها ، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله العقل والصحة والتمكين. ثم إنه لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات فقد فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد ، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار إلى هذا بقوله (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي أطباق من النار من ظلل الآخرين فإن لجهنم دركات كما أن للجنة درجات. وقال المفسرون : سمى النار ظلة بغلظها وكثافتها فصارت محيطة بهم من جميع الجوانب حائلة من النظر إلى شيء آخر. قلت : إن كانوا في كرة النار فوجهه ظاهر ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة نار الجهل والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان وقد مرّ في قوله (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت : ٥٥] وقيل : الظلة ما علا الإنسان فسمى ما تحتهم بالظلة إطلاقا لأحد الضدين على الآخر ، أو لأن التحتانية مشابهة للفوقانية في الحرارة والإحراق و (ذلِكَ) العذاب المعد للكفار (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) المؤمنين وقد مر أن العباد في القرآن إذا كان مضافا إلى ضمير الله اختص بأهل الإيمان عند أهل السنة. وعندي أنه لا مانع من

٦١٩

التعميم هاهنا. ثم عقب الوعيد بالوعد قائلا (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي. وقوله (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال منه (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه ، فالأول تخلية ، والثاني تحلية ، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره. (لَهُمُ الْبُشْرى) أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [النحل : ٣٢] وعند دخول الجنة (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٤] وعند لقاء الله (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال. وقيل : هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها. قال ابن زيد : نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله : زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي. وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله فبشر عبادي الذين يستمعون القول أي من أبي بكر (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وهو لا إله إلا الله. وقال أهل النظم : لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهارا للرحمة فقال : كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلا للبشارة. وقال جار الله : أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك ، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب ، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب ، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين. مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعا حيا قديما عليما قادرا متصفا بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام ، أولى وأحوط من إنكاره. وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار ، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها. وقال العارفون : يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات ، ومن الشيطان قول الباطل

٦٢٠