تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

فالنشور بمعنى البعث وتكون الآية نظير قوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠] عن لقمان أنه قال لابنه : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر. الاستدلال الثالث قوله (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام المطر وقد مر تفسيره في «الأعراف» وأنه لم قال هاهنا (أَرْسَلَ) بلفظ الماضي وهناك (يُرْسِلُ) أما قوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) فهو علم بين الفقهاء في الاستدلال به على طهارة الماء في نفسه وعلى مطهريته لغيره حتى فسر الطهور بعضهم ـ ومنهم أحمد بن يحيى ـ بأنه الذي يكون طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. واعترض عليهم صاحب الكشاف بأن الذي قالوه إن كان شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا وإلا فليس «فعول» من «التفعيل» في شيء وأقول : إن الزمخشري سلم أن الطهور في العربية على وجهين : صفة كقولك «ماء طهور» أي طاهر ، واسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضأ به وتوقد به النار ، وعلى هذا فالنزاع مدفوع لأن الماء مما يتطهر به هو كونه مطهرا لغيره فكأنه سبحانه قال : وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهرا في نفسه. ومما يؤكد هذا التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الأنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل ، ولا يخفى أن المطهر أكمل من الطاهر نظيره (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١].

ولا ضير أن نذكر بعض أحكام المياه المستنبطة من الآية فنقول : هاهنا نظران : الأول أن عين الماء هو طهور أم لا؟ مذهب الأصم والأوزاعي أنه يجوز الوضوء بجميع المائعات ، وقال أبو حنيفة : يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وتجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات المزيلة لأعيان النجاسات. وقال الشافعي وغيره من الأئمة : إن الطهورية مختصة بالماء لما مر في أول المائدة من إيجاب التيمم عند عدم الماء ولو شارك الماء مائع آخر لما أمر بالتيمم إلا بعد إعوازه أيضا ودليله في الخبث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثم اغسليه بالماء». النظر الثاني في الماء وفيه بحثان : الأول في الماء المستعمل وإنه طاهر عند الشافعي وليس بمطهر في قوله الجديد. أما الأول فلإطلاق الآية (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) والأصل بقاؤه وللحديث «خلق الماء طهورا» ولأن السلف كانوا لا يحترزون عن تقاطر ماء الوضوء على ثيابهم وأبدانهم ، ولأنه ماء طاهر لقي جسما طاهرا فأشبه ما إذا لاقى حجارة. وأما الثاني فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» (١) ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث ٩٧. النسائي في كتاب الطهارة باب ٣٨. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب ١٠٩.

٢٤١

لما كان للمنع منه معنى ، وكانت الصحابة لا يعتنون بحفظه ليستعملوه ثانيا ولو كان طهورا لحفظوا ما يغنيهم عن التيمم. وقال مالك والسدي : إنه طاهر مطهر لإطلاق الآية والحديث ، والأصل بقاء صفته على ما كان عليه. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده. وعن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ، ولقياس ما انفصل من العضو على ما لم ينفصل منه. وقال أبو حنيفة : إنه نجس قياسا للنجاسة الحكمية على النجاسة الحقيقية. والمراد باستعمال الماء في المسألة تأدى عبادة الطهارة به أو انتقال المنع إليه فيه وجهان لأصحاب الشافعي ، ويتفرع عليه أن المستعمل في الكرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء والأغسال المسنونة ليس بطهور على الأول طهور على الثاني. والماء المستعمل في الحدث لا يجوز استعماله في الخبث على الأصح لأنه مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث كسائر المائعات. البحث الثاني الماء المتغير إن تغير بنفسه لطول المكث جاز الوضوء به لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة ، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء. وإن تغير بغيره ولم يتصل به كما لو وقع بقرب الماء جيفة فأنتن الماء فهو أيضا مطهر ، وإن اتصل به وكان طاهرا ولم يخالطه كما لو تغير بدهن أو عود أو كافور صلب فهو أيضا مطهر ، وإن خالطه فإن لم يمكن صون الماء عنه كالمتغير بالتراب والحمأة والورق المتناثر والطحلب فلا بأس بذلك دفعا للحرج ، وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل وإن أمكن بأن يكون الماء مستغنيا عن جنس ذلك الخليط فإن كان التغير قليلا بحيث لا يضاف الماء إليه أو لا يستحدث اسما جديدا جاز التوضؤ به وإلا فلا خلافا لأبي حنيفة. حجة الشافعي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ثم قال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، فذلك الوضوء إن كان بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وليس كذلك بالاتفاق بماء غير متغير وهو المطلوب. ولقائل أن يقول : إن هذا إشارة إلى كيفية الوضوء لا إلى كيفية الماء ، والمراد أنه تعالى لا يقبل الصلاة بما دون ذلك ، وأما الكمال فلا كلام فيه. قال : وأيضا إذا اختلط ماء الورد بالماء فتوضأ الإنسان به يحتمل أن ينغسل بعض الأعضاء بماء الورد لا بالماء فيكون الحدث يقينا والطهر مشكوكا فيه والشك لا يرفع اليقين ، وهذا بخلاف ما إذا كان قليلا لا يظهر أثره فإنه كالمعدوم. وأيضا الوضوء تعبد لا يعقل معناه ولهذا لو توضأ بماء الورد لم يصح وضوءه ، ولو توضأ بالماء الكدر والمتعفن صح وضوءه وما لا يعقل معناه وجب الاعتماد فيه على مورد النص. حجة أبي حنيفة إطلاق الآية وقوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] وقوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) [النساء : ٤٣] وهذا الشخص غسل ووجد الماء ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن

٢٤٢

خالطهما شيء من لعابهما ، ولأنه لا خلاف في جواز الوضوء بماء السيول وإن تغير لونها إلى ألوان ما تمر عليها في الصحاري من الحشائش وغيرها. هذا كله إذا كان الخليط طاهرا ، فإن كان نجسا فمذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه الغزالي في الإحياء أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة ، سواء كان الماء كثيرا أو قليلا. ومذهب أبي حنيفة أن الماء ينجس باستعماله في البدن لأداء عبادة. وتيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن سواء تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. قال أبو بكر الرازي : ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري. قال : وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في وجه يغلب على الظن عدم بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر ، وليس كلاما في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله.

ومن الناس من فرق بين القليل والكثير ثم اختلفوا في حد الكثير : فعن عبد الله بن عمر : إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير : الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال. وقال الشافعي : إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه. وقد ينصر من المذاهب قول مالك لوجوه منها : قوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه ، ولقوله «خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» (١) فبقي ما عداه على الأصل. ومنها قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا) والمتوضئ بهذا الماء قد غسل أعضاءه ولا سيما إذا كانت النجاسة مستهلكة فيه لا يظهر عليه آثارها وخواصها من الطعم أو اللون أو الريح. ومنها أن عمر توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أوانيهم غالبة على الظن ، فدل ذلك على أنه لم يعول إلا على عدم التغير. ومنها أن تقدير الماء بمقدار معلوم لو كان معتبرا كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة ، لكان أولى المواضع بذلك مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هنالك لا الجارية ولا الراكدة ، ولم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظها ، وكانت أوانيهم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات ، وكانوا لا يمنعون الهرة من شرب الماء وقد أصغى لها الإناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن كانوا يرون أنها تأكل الفأرة ، ولم يكن في بلادهم حياض تكرع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ٦٧. بلفظ «لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح».

٢٤٣

السنانير فيها. ومنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير بنجس ، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه ، وأي معنى لقول القائل : إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة؟ ومنها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة. وقال الشافعي : إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير جاز الوضوء به. وأيّ فرق بين الجاري والراكد؟ والتعويل على قوة الماء بسبب الجريان ليس أولى من التعويل على عدم التغير. ومنها أنه لو وقعت نجاسة في قلتين فكل كوز يؤخذ منه فهو طاهر عنده ، ومعلوم أن البول ينتشر فيه وهو قليل فأي فرق بينه إذا وقع ذلك البول في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به؟. ومنها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ منها المتقشفون مع علمهم بأن الأيدي والأواني الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها ، ولو كان التقدير بالقلتين وغير ذلك معتبرا لاشتهر وتواتر. ومنها أن النصوص في التقدير متخالفة ؛ أما تقدير أبي حنيفة بالعشر في العشر فمجرد تحكم ، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» (١) فضعيف. لأن راويه مجهول ، فإن الشافعي لما روى هذا الخبر قال : أخبرني رجل. فيكون الحديث مرسلا والمرسل عنده ليس بحجة. سلمناه ولكن القلة مجهولة فإنها تصلح للكوز وللجرة ولكل ما يقل باليد وهي أيضا اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل. سلمنا لكن في متن الخبر اضطراب ، فقد روي «إذا بلغ الماء قلتين» (٢) وروي «إذا بلغ قلة» وروي «أربعين» «وإذا بلغ كرين» سلمنا صحة المتن لكنه متروك الظاهر لأن قوله «لم يحمل خبثا» لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله. سلمنا إجراءه على الظاهر لكن الخبث لغوي وشرعي وحمله على اللغوي لكونه حقيقة أولى ، فمعنى الحديث أن لا يصير مستقذرا طبعا. ونحن نقول : بموجبه لكن لم قلتم : إنه لا ينجس شرعا؟ سلمنا أن المراد هو الخبث الشرعي لكن لم لا يجوز أن يكون معنى قوله «لم يحمل خبثا» أنه يضعف عن حمله أي يتأثر به؟ أجاب بعض الشافعية عن هذه المنوع بأن كثيرا من المحدثين عينوا اسم الراوي في حديث القلتين ، فإن يحيى بن معين قال : إنه جيد الإسناد. فقيل له : إن ابن علية وقفه على ابن عمر. فقال : إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه. وقوله «القلة مجهولة» غير مسلم لأن ابن جريج قال في روايته : بقلال هجر. ثم قال : وقد شاهدت

__________________

(١ ، ٢) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٣٣. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٥٠. النسائي في كتاب الطهارة باب ٤٣. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب ٧٥. الدارمي في كتاب الوضوء باب ٥٥. أحمد في مسنده (٢ / ٢٣ ، ٢٧).

٢٤٤

قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئا. وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن الحديث اضطراب ، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح في بعض الروايات «إذا كان الماء قلتين لم ينجس» (١) ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين أيضا بتلك المثابة ، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل. حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] وقوله (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [النحل : ١١٥] وقال في الخمر (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠] حرم هذه الأشياء مطلقا ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء ، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءا من النجاسة. وأيضا الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة» (٢) أطلق من غير فرق بين القليل والكثير. أجاب مالك بأنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات ، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم.

واعلم أنه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١] ففي وصفه هاهنا بكونه طهورا إشارة إلى ذلك. ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين. أولاهما تتعلق بالنبات ، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق. وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف ، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم. قال (مَيْتاً) مع قوله (بَلْدَةً) بالتأنيث لأن «فيعلا» غير جار على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به ، أو بتأويل البلد والمكان. والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء. و «فعيل» قد يستوي فيه الواحد

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ٦٨. مسلم في كتاب الطهارة حديث ٩٥ ، ٩٦. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٥١. النسائي في كتاب الطهارة باب ٤٥. الدارمي في كتاب الوضوء باب ٤٥. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٩ ، ٢٦٥).

٢٤٥

والجمع فلهذا لم يقل وأناسي كثيرين ومثله (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً). أسئلة أوردها جار الله مع أجوبتها : الأول : أن إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة الإحياء والسقي كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد به الوحش. الجواب لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراما لهم وتتميما للمنة عليهم وإشارة إلى أن من حق استعمال الماء في الباطن والظاهر أن يكون طاهرا غير مخالط لشيء من القاذورات. قلت : قد قررنا فائدة هذا الوصف بوجه آخر آنفا. السؤال الثاني : لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان المنتفع بالماء؟ الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، ولأنها قنية الإنسان وعامة منافعه متعلقة بها فسقيها إنعام عليه. الثالث : ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهم بالكثرة؟ الجواب لأن بعض الأنعام والأناسي الذين هم بقرب الأودية والأنهار العظام لا يحتاجون إلى ماء السماء احتياجا بينا ، ولمثل هذا نكر البلدة في قوله (بَلْدَةً مَيْتاً) قوله سبحانه (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) الأكثرون على أن الضمير عائد إلى ما ذكر من الدلائل أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها. وقال آخرون : إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتباينة من وابل وطل وغير ذلك فأبوا إلا كفورا وأن يقولوا : مطرنا بنوء كذا استقلالا. فإن جعلوا الأنواء كالوسائط والأمارات فلا بأس. والنوء سقوط نجم من المنازل الثمانية والعشرين للقمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه وهو نجم آخر في المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما وهو أكثر ، أو إلى أربعة عشر وهو أقل. والعرب تضيف الأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع. فإذا مضت مدة النوء ولم يحدث شيء من مطر وغيره يقال : خوى نجم كذا أي سقط ولم يكن عنده أثر علوي. عن ابن عباس : ما من عام أقل مطرا من عام ولكن الله عزوجل قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويؤيد هذا التفسير تنكير البلدة والأنعام والأناسي. قال الجبائي : في قوله (لِيَذَّكَّرُوا) دليل على أنه تعالى أراد من الكل التذكر والإيمان. وفي قوله (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) دلالة على أن المكلف له قدرة على الفعل والترك إذ لا يقال للزمن مثلا إنه أبى أن يسعى. وقال الكعبي : الضمير في (بَيْنَهُمْ) لكل الناس فيكون الأكثر داخلا في ذلك العام إذ لا يجوز أن يقال : أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفورا. وعند هذا يظهر أنه أراد من جميع المكلفين أن يؤمنوا ويعتبروا ومعارضة الأشاعرة معلومة.

٢٤٦

التأويل : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) سماء القلب عن غمام البشرية وهو يوم سعادة الطالبين الصادقين ، ونزل ملائكة الصفات الروحانية (الْمُلْكُ) الحقيقي (يَوْمَئِذٍ لِلرَّحْمنِ) إذ لم يبق غيره ورجع الكل إليه وذلك مقام الوحدة والفناء في الله والبقاء به : (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) إذ لم يبق من صفات النفوس الكافرة وحظوظها أثر ولا عين : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) نفسه وهو المشرك شركا ظاهرا أو خفيا (عَلى يَدَيْهِ) والآية حكمها عام في كل متحابين اجتمعا على معصية الله تعالى. وعن مالك بن دينار : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل كل الخبيص مع الفجار. (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) بأن نخلق قلبك بقلب القرآن وكان بذر التوحيد أوقع في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سر (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] وكان يتربى بما أنزل عليه بل على قلبه منجما ، فلما أورق كان ورقه (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١] فلما أزهر كان زهره (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] فلما أثمر كانت ثمرته (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] (يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) لأن توجههم إلى أسفل سافلي الطبيعة فيحشرون منكوسين إلى جهنم البعد عن الحضرة (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) فيه أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه وقد قال لموسى (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] وذلك لبقاء أنانيته (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) عالم الأجسام (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) في كتم العدم (ثُمَّ جَعَلْنَا) شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غاياتها المخلوقة هي لأجلها ، فعرف من ذلك أنه لو لا الأرواح لم تخلق الأجساد ولم تتكون بالأجسام. وفي قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) إشارة إلى أن كل مركب فإنه سيحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير. وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود وهذا شأن الذاهبين من غيره إليه. وفي قوله (ثُمَّ جَعَلْنَا) إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به على غيره كقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] وهذه مرتبة الصديقين. وقوله (ثُمَّ قَبَضْناهُ) كقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) [القصص : ٨٨] (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وبوجه آخر الظل هو حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس التجلي المعروفة من أفق العناية عند صباح الهداية : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ) دائما لا يزول وإنما يستدل على الذهول بالعرفان. وفي قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ) إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف. ثم بين حكمة الإظلال بقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) ليلة البشرية (لِباساً) كيلا تحترقوا بدوام شمس تجلي الربوبية ، وجعل ليوم الغفلة راحة بعد سطوة التجلي ، وجعل نهار العرفان نشورا أي حياة بنور الربوبية (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ) رياح الإشراق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات عند الستر فلا تستقر إلا بالكشف والتجلي (وَأَنْزَلْنا) من سماء

٢٤٧

الكرم (ماءً) حياة العرفان الذي يطهر قلوب المشتاقين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأوقات من الغفلات (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً) القلوب الميتة عن نور الله بنور الله (وَنُسْقِيَهُ) من جملة مخلوقاتنا من هو على طبع الأنعام لغلبة الصفات الحيوانية عليه فيسقي زرع إيمانه بماء الرحمة والذكر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا إله إلا الله تنبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقلة» ونسقيه من الأنس من سكن إلى رياض الأنس يفطمه به عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية ، ويطهره عن وصمة الملاحظات ويذيقه طعم المكاشفات. (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) الذي هو ماء حياة القلوب بينهم (لِيَذَّكَّرُوا) به أيام جوار الحق وأوطانهم الحقيقية (فَأَبى أَكْثَرُ) الناسين تلك المعاهدة والمشاهدة (إِلَّا كُفُوراً) بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها والله المستعان وإليه المآب.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا

٢٤٨

بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

القراآت : ملح بفتح الميم وكسر اللام كحذر أو لأنه مقصور مالح وكذلك في «فاطر» : قتيبة يأمرنا على الغيبة : حمزة وعلي سرجا بضمتين : حمزة وعلي وخلف. (أَنْ يَذَّكَّرَ) من الذكر : حمزة وخلف. (يَقْتُرُوا) بضم التاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى المفضل ، وبضم الياء وكسر التاء من الإقتار : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل. الباقون بفتح الياء وكسر التاء. (يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ) بالرفع فيهما من المضاعفة ومن الخلود : أبو بكر وحماد مثله ، ولكن يخلد مجهولا من الإخلاد : المفضل يضاعف بالتشديد والرفع (وَيَخْلُدْ) بالرفع من الخلود : ابن عامر مثله ولكن بالجزم فيهما : ابن كثير ويعقوب وزيد. الآخرون كالأول ولكن بالجزم فيهما. فيهي بإشباع الكسرة : ابن كثير وحفص : يبدل من الإبدال : البرجمي وذريتنا على التوحيد : أبو عمرو وعلي وخلف وعاصم والمفضل : (وَيُلَقَّوْنَ) بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من اللقاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من باب التفعيل.

الوقوف : (نَذِيراً) ه والوصل أولى للفاء (كَبِيراً) ه (أُجاجٌ) ج لعطف الجملتين المتفقتين مع العارض (مَحْجُوراً) ه (وَصِهْراً) ه (قَدِيراً) ه (وَلا يَضُرُّهُمْ) ط (ظَهِيراً) ه (وَنَذِيراً) ه (سَبِيلاً) ه (بِحَمْدِهِ) ط (خَبِيراً) ه ج لأن الذي يصلح صفة للحي والوقف على العرش على تقدير هو الرحمن إذ لا وقف عليه أيضا بناء على أن (الرَّحْمنُ) بدل من المستتر في (اسْتَوى) ويصلح أن يكون (الَّذِي) مبتدأ و (الرَّحْمنُ) خبره (خَبِيراً) ه (وَمَا الرَّحْمنُ) ه قد قيل : ولا وجه له لأن الكل مقول قالوا (نُفُوراً) ه سجدة (مُنِيراً) ه (شُكُوراً) ه (سَلاماً) ه (وَقِياماً) ه (جَهَنَّمَ) ق قد قيل : والوصل أولى لاتحاد القائل (غَراماً) ه كذلك (وَمُقاماً) ه (قَواماً) ه (وَلا يَزْنُونَ) ج للشرط مع واو العطف (أَثاماً) ه لمن قرأ (يُضاعَفْ) بالرفع على الاستئناف دون الجزم على إبدال الجملة من الجملة لتقارب معنييهما (مُهاناً) ه لا وقد يوقف على جعل إلا بمعنى «لكن»

٢٤٩

والوصل أولى لأن «لكن» تقتضي الوصل أيضا (حَسَناتٍ) ط (رَحِيماً) ه (مَتاباً) ه (الزُّورَ) ه لا (كِراماً) ه (وَعُمْياناً) ه (إِماماً) ه (وَسَلاماً) ه لا لاتصال الحال (فِيها) ط (وَمُقاماً) ه (دُعاؤُكُمْ) ج لاختلاف الجملتين (لِزاماً) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما قرر سيرة القوم من كفران النعمة وإيذاء النبي أراد تهييج نبيه على استمرار الدعوة. وفي الآية لطف ممزوج بنوع تأديب وإرشاد وفحواه ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى ، وبعثنا في كل قرية نبيا ، ولكن خصصناك برسالة الثقلين إجلالا وتعظيما ، فقابل هذا التفضل بالتشدد في الدين ففي أول الآية بيان كمال الاقتدار وأنه لا حاجة به إلى نبي محمدا كان أو غيره ، ولكن في مفهوم «لو» دلالة على أنه لم يفعل ذلك بل خصه بهذا المنصب الشريف لكمال العناية به وبأمته ، فعليه أن يترك طاعة الكافرين فيما يريدونه عليه مما يوافق أهواءهم. النهي كقولك للمتحرك «لا تسكن» لا كقولك للساكن «لا تسكن» فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يترك طاعة الله طرفة عين. ثم بالغ في النهي بأن أمره بضدّه قائلا (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن أو بترك طاعتهم أو بسبب كونك نذير القرى كلها لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة قريته. وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا جرم اجتمع عليه تلك المجاهدات كلها فكبر جهاده وعظم وصار جامعا لكل مجاهدة ، ثم ذكر دليلا رابعا على التوحيد فقال (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي خلاهما وأرسلهما متجاورين متلاصقين. يقال : مرجت الدابة أي خليتها لترعى. وسمى الماءين الكثيرين بحرين. والفرات البليغ العذوبة ، والتركيب يدل على كسره العطش بخلاف الأجاج وهو الملح فإنه يدل على الشدة والتوهج. وقوله (هذا) إشارة إلى ما ارتسم في الذهن بعد ذكر البحرين والبرزخ الحائل الذي جعل الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج (وَحِجْراً مَحْجُوراً) كلمة يقولها المتعوّذ كما قلنا في السورة كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له هذا القول ، ونظيره في سورة الرحمن (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن : ٢٠] فانتفاء البغي ثمة كالتعوّذ هاهنا وكل منهما مجاز في غاية الحسن. سؤال : لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى؟ والجواب من وجهين : أحدهما أن في البحار مواضع فيها مياه عذبة يعرفها الملاحون يحمل منها الماء إلى حين الوصول إلى الموضع الآخر. وثانيهما لعل المراد من البحر العذب الأودية العظام كالنيل والفرات وجيحون ، ومن البحر الأجاج البحار المشهورة ، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض ووجه الاستدلال على هذا الوجه أن يقال : العذوبة والملوحة إن كانتا بسبب طبيعة

٢٥٠

الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وإلا فلا بد من قادر مختار يخص كل واحد من الماءين بصفة مخصوصة. الاستدلال الخامس : من أحوال خلقة الإنسان والماء إما العنصر كقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أو النطفة. ومعنى (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أنه قسم البشر قسمين ذوي نسب وذوات صهر ، والأول الذكور الذين ينسب إليهم فيقال : فلان وفلانة بنت فلان ومنه أخذ الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

والثاني الإناث التي يصاهر بهن ونحوه قوله عز من قائل (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩] والأصهار أهل بيت المرأة عن الخليل. قال : ومن العرب من يجعل الصهر من الأحماء والأختان. يقال : صاهرت إليهم إذا تزوّجت فيهم. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حين خلق من ماء واحد صنفين مختلفين بل أشخاصا متباينة لا تكاد تنحصر.

ثم عاد إلى تهجين سيرة عبدة الأوثان فقال (وَيَعْبُدُونَ) الآية. يروى أنها نزلت في أبي جهل المراد بالكافر والأولى حمله على العموم. والظهير المظاهر أي المعاون أي هذا الجنس يظاهر الشيطان على ربه بالشرك والعداوة. والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه ، ويجوز أن يكون الظهير جمعا كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] والمعنى أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله جل وعلا. وقال أبو مسلم : هو من قولهم «ظهر فلان بحاجتي». إذا نبذها وراء ظهره. والمراد أن الكافر وكفره هين على ربه غير ملتفت إليه. قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ) إلى قوله (سَبِيلاً) وجه تعلقه بما قبله أن الكفار يطلبون العون على الله وعلى رسوله ولا أجهل ممن استفرغ جهده في إيذاء من يبذل وسعه في إصلاح مهماته دينا ودنيا حتى يبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية ولا يسألهم على ذلك أجرا إلا أن يشاؤا التقرب بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلا إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه. ومعنى الاستثناء عن الأجر والتقدير إلا فعل من شاء هو معنى قولك لمن سعيت له في تحصيل مال ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ، فيكون في تسمية حفظ المال ثوابا. فائدتان : إحداهما قلع شبهة الطمع في شيء من الثواب ، والثانية إظهار الشفقة وأنه إن حفظ ماله رضي الساعي به كما يرضى المثاب بالثواب هذا ما قاله جار الله. وقال القاضي : معناه لا أسألكم أجرا لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم بالإيمان والطاعة. ولما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجرا البتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع

٢٥١

المضارّ وجلب المنافع ويتمسك بقاعدة التنزيه والتحميد. وفي وصفه ذاته بالحي الذي لا يموت إشارة إلى أن الذي يوثق به في المصالح يجب أن يكون موصوفا بهذه الصفة وليس إلا الله وحده. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وإلا صار ضائعا إذا مات ذلك المخلوق. ثم ختم الآية بما لا مزيد عليه في الوعيد أي لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مجازاتهم. ومعنى كفى به أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك «كفى بالعلم جمالا وكفى بالأدب مالا». ثم زاد لعلمه وقدرته مبالغة وبيانا فقال : (الَّذِي خَلَقَ) إلخ. وقد سبق تفسيره في «الأعراف» وأما قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ففيه وجوه. قال الكلبي : الضمير في (بِهِ) يعود إلى ما ذكر من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش. والباء من صلة الخبير قدمت لرعاية الفاصلة وذلك الخبير هو الله عزوجل لأن كيفية ذلك الخلق والاستواء لا يعلمها إلا الله سبحانه. وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبرائيل. وقال الأخفش والزجاج : الباء بمعنى «عن» فسأل به مثل «اهتم به» واشتغل به وسأل عنه كقولك «بحث عنه وفتش عنه». قال تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١]. وقال ابن جرير : الباء زائدة والمعنى فاسأله حال كونه عالما بكل شيء. وجوز جار الله أن تكون الباء تجريدية كقولك «رأيت به أسدا» أي برؤيته. والمراد فاسأل بسؤاله خبيرا أي إن سألته وجدته عالما به. وقيل : الباء للقسم ولعل الوجه الأول أقرب إلى المراد نظيره (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤].

ثم أخبر عن قوم أنهم (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) والواو عاطفة وقعت في كلام فحكي كما هو فاحتمل أنهم جهلوا الله سبحانه ، واحتمل أنهم عرفوه لكن جحدوه ، واحتمل أنهم عرفوه بغير هذا الاسم فلهذا سألوا عنه ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى تفسير آخر لقوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) وهو أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه فقيل : فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره وكانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة. قال القاضي : والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم يعلمون أنها تفيد المبالغة في «الأنعام». ثم إن قلنا : إنهم كانوا منكرين لله فالسؤال عن الحقيقة كقول فرعون (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣] وإن قلنا : إنهم كانوا مقرين لكنهم جهلوا أنه تعالى سمي بهذا الاسم فالسؤال عن الاسم. ومعنى (لِما تَأْمُرُنا) للذي تأمرنا بمعنى تأمرنا بسجوده مثل «أمرتك الخير» فاتسع أولا ثم حذف ثانيا. ويجوز أن تكون «ما» مصدرية أي لأمرك لنا ومن قرأ على الغيبة فالضمير لمحمد أو للمسمى بالرحمن كأنهم قالوا هذا القول فيما بينهم.

٢٥٢

والضمير في (زادَهُمْ) للمقول وهو اسجدوا للرحمن أي وزادهم أمره (نُفُوراً) ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول. قال الضحاك : لما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين ، فمعنى الآية وزادهم سجودهم نفورا. ومن السنة أن يقول الساجد والقارئ إذا بلغ هذا الموضع زادنا الله خضوعا ما زاد للأعداء نفورا. ثم ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن فقال (تَبارَكَ) إلخ. فالبروج هي الأقسام الاثنا عشر للفلك وأساميها مشهورة : الحمل والثور والجوزاء إلخ. شبهت بالقصور العالية. واشتقاق البروج لظهوره والسراج الشمس. ومن جمع أراد الشمس والكواكب الكبار والخلفة للهيئة من الخلافة يريد الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر أي جعلهما ذوي خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ومثله قوله (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [البقرة : ١٦٤] في أحد تفاسيره. وعن ابن عباس جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل ، فمن فاته شيء من وظائف العبادة في أحدهما قضاه في الآخر. وعن مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل مختلفين «هما خلفتان» فالمعنى أن أحدهما أسود والآخر أبيض أو هذا طويل وهذا قصير. ثم بين أن هذه النعمة سبب للتذكر لمن أراد ذلك أو للشكر لمن أراده. أما التذكر فلدلالة الانتقال والتغير على الناقل والمغير ، وأما الشكر فلأن الليل سبب الراحة والسكون والنهار سبب لسهولة التصرف في المعايش. قال بعضهم : معنى «أو» الفاصلة أنه إن كان كافرا تذكر وإن كان مؤمنا شكر. وقيل : أراد ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. والشكور مصدر كالكفور. ثم أراد أن يختم السورة بوصف عباده المخلصين فقال (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) وهو مبتدأ خبره في آخر السورة (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أو خبره (الَّذِينَ يَمْشُونَ) والإضافة إلى الرحمن للتخصيص والتشريف. وقرىء (وَعِبادُ) جمع عابد وصف سيرتهم مع الخلق بالنهار أوّلا ، ثم وصف معاملتهم مع الحق بالليل ثانيا ، ثم قسم الوصف الأول إلى نوعين : أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد بقوله (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) مصدر وضع للمبالغة موضع الحال أو الصفة للمشي بمعنى هينين أو مشيا هينا والمعنى أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا ، ولذلك كره بعضهم الركوب في الأسواق والمشي في الأسواق دون الركوب سيرة المرسلين قال عز من قائل (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] وثانيهما تحمل الإيذاء وإليه الإشارة بقوله (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) يعني السفهاء وقليلي الأدب (قالُوا سَلاماً) يعني سلام توديع ومتاركة كسلام إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لأبيه (سَلامٌ عَلَيْكَ) [مريم : ٤٧] ولا نسخ في الآية على ما زعم الكلبي وأبو العالية من أنها نسخت بآية القتال ، فإن الإغضاء عن السفهاء وترك

٢٥٣

مقابلتهم بسوء الأدب مستحسن عقلا وشرعا ، والبيتوتة هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ، وصفهم بإحياء الليل أو أكثره. وقوله (لِرَبِّهِمْ) إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده أي يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون خدودهم ويعفرون جباههم. وقيل : من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدا وقائما. وقيل : هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء قاله ابن عباس.

ثم وصفهم بأنهم يقولون في سجودهم وقيامهم (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا) الآية. وقال الحسن : خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل خوفا من عذاب جهنم. وقوله : (غَراماً) أي هلاكا وخسرانا ملحا لازما ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ، وفلان مغرم بالنساء إذا كان مولعا بهن. وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال : هو الموجع. وعن محمد بن كعب في (غَراماً) إنه سأل الكفار عن نعمه فما أدّوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار. و (ساءَتْ) إما بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم إن ومستقر حال أو تمييز ، وإما بمعنى بئست وفيها ضمير مبهم يفسره (مُسْتَقَرًّا) والمخصوص بالذم وهو الرابط أيضا محذوف أي ساءت مستقرا ومقاما هي. والظاهر أن الجملتين من قول الداعين. وجوز جار الله أن يكون من كلام الله ، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين بأن يكون قوله (إِنَّها ساءَتْ) تعليلا لقوله (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) وأن يكونا مترادفين كل منهما تعليل لقوله : (رَبَّنَا اصْرِفْ) قال المتكلمون : التعليل الأول إشارة إلى أن عقاب أهل النار مضرة خالصة ، والتعليل الثاني إشارة إلى كونها دائمة وقد يفرق بين المستقر والمقام بأن المستقر للعصاة من أهل الإيمان والمقام للكفار الذين لا خلاص لهم منها. ثم وصفهم بالتوسط في الإنفاق والقتر. والإقتار التضييق نقيض الإسراف ، وكان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ولا يلبسون ثيابا للجمال والزينة ، ولكن ما يسد جوعتهم ويستر عورتهم ويكنهم من الحر والقر. عن عمر : كفى شرها أن لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله. ثم بالغ في نسبة إنفاقهم إلى الاعتدال بقوله (وَكانَ) أي الإنفاق (بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) والمنصوبان يجوز أن يكونا خبرين وأن يكون الظرف خبرا و (قَواماً) حالا مؤكدة. وقال في الكشاف : يجوز أن يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا. ولعل معناه أنه يقوم مقام لفظ المستقر إذا كان متعلقا به في قولك الإنفاق بين ذلك. وقد ذكر مثله في أول «الشعراء» في قوله (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) [الشعراء : ١٥] والقوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء. وقرىء بكسر القاف وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل ولا ينقص. وأجاز الفراء أن يكون (بَيْنَ ذلِكَ) اسم (كانَ) على أنه مبني لإضافته إلى غير متمكن كما يقال : كان

٢٥٤

دون هذا كافيا يريد أقل من ذلك ، فيكون المعنى وكان الوسط بين ذلك قواما. وضعفه في الكشاف بأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. وأقول : إذا أريد بالقوام حاق الوسط وبقوله (بَيْنَ ذلِكَ) أعم منه لم يلزم التكرار. وعن ابن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت : ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت : ثم أي؟ قال : أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله عزوجل تصديقه (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) إلى قوله (وَلا يَزْنُونَ) قال جار الله : نفى هذه الأمور الشنيعة عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين تعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم كأنه قيل : والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقيل : إن الموصوف بالصفات المذكورة قد يرتكب هذه الأمور تدينا فبين الله تعالى أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر ، والقتل بغير حق يشمل الوأد وغيره كما مر في سبب النزول (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي المذكور فترك المأمورات أو ارتكب المنهيات. والأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال ومعناهما. وقيل : هو الإثم والمضاف محذوف أي يلق جزاء الإثم ، وقرأ ابن مسعود أياما بتشديد الياء التحتانية يعني أيام الشدة. ومعنى مضاعفة العذاب لمن ارتكب مخالفة المذكورات أن يعذب على الشرك وعلى المعاصي الأخر جميعا. هذا عند من يرى تعذيب الكفار بفروع الشرائع ، والمخالف يدعي أن المشار إليه بقوله (ذلِكَ) هو قوله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) قال القاضي : قوله (وَيَخْلُدْ فِيهِ) أي في ذلك التضعيف أو المضعف ففيه دليل على أن حال الزيادة كحال الأصل في الدوام فيكون عقاب المعصية دائما ، وإذا كان كذلك في حق الكافر لزم أن يكون كذلك في حق المؤمن. وأجيب بأن الشيئين قد يكون كل واحد منهما قبيحا ويكون الجمع بينهما أقبح فلا يلزم أن يكون للانفراد حكم الاجتماع. وفي قوله (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) إشارة إلى أن العقاب هو المضرة الخالصة الدائمة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم.

وقوله (إِلَّا مَنْ تابَ) لا يفهم منه إلا أن التائب لا يضاعف له العذاب ولا يلزم منه أن يكون مثابا فلذلك قال : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أن هذا التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدلهم بالشرك إيمانا ، وبقتل المسلمين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصانا ، يبشرهم الله تعالى بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة إذا تابوا وآمنوا وعملوا سائر الأعمال الصالحة. وإنما أفرد التوبة والإيمان بالذكر أوّلا لعلو شأنهما. وقال الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن السيئة تمحى

٢٥٥

بالتوبة ، وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات. وذهب سعيد بن المسيب ومكحول إلى ظاهر الآية وهو أنه تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة ، وأكدوا هذا الظاهر بما روي عن أبي هريرة مرفوعا «ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل : من هم يا رسول الله؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات». وقال القاضي والقفال : إنه تعالى يبدل بالعقاب الثواب فذكر السبب وأراد المسبب. ثم عمم الحكم فذكر أن جميع الذنوب بمنزلة الخصال المذكورة أي ومن يترك المعاصي كلها ويندم عليها وأتى بالعمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله عزوجل متابا مرضيا مكفرا للخطايا. ويجوز أن ترجع الفائدة إلى تخصيص اسم الله أي فإنه تائب متابا إلى الله الذي هو المفيض لكل الخيرات يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يليق بكرمه ، ويحتمل أن ترجع الفائدة إلى تنكير متابا. والمتاب المرجع أي يرجع إلى الله مرجعا حسنا أي مرجع ، وقيل : هو وعد للتائبين المخلصين فيما مضى بأنه سيوفقهم للتوبة في المستقبل. ثم وصفهم بأنهم لا يشهدون الزور. فإن كان من الشهادة فالمضاف محذوف أي لا يشهدون شهادة الزور ، وإن كان من الشهود الحضور فللمفسرين أقوال : فعن قتادة : هي مجالس الباطل. وعن أبي حنيفة : اللهو والغناء. وعن مجاهد : أعياد المشركين. وعن ابن عباس : هي المجالس التي يقال فيها الزور والكذب على الله تعالى وعلى رسوله. والتحقيق أنه يدخل فيه حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي كمحاضر الكذابين ومجالس الخطائين وكالنظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة ، لأن الحضور والنظر إلى تلك المجالس دليل الإهانة وبعث لفاعله عليه لا زجر له عنه. وفي مواعظ عيسى بن مريم «إياكم ومجالسة الخطائين» (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) وهو كل ما ينبغي أن يلغي ويطرح (مَرُّوا كِراماً) مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه مع المشتغلين به. وأصل الكلمة من قولهم «ناقة كريمة» إذا كانت لا تبالي بما يحلب منها للغزارة ، فاستعير للصفح عن الذنب. ويقال : تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عن ذلك. وقيل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا. وقيل : إذا ذكروا النكاح كفوا عنه. قال جار الله : قوله (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) ليس نفيا للخرور ولكنه إثبات له ونفي للصمم والعمى كما تقول : لا يلقاني زيد مسلما هو نفي للسلام لا للقاء. والمراد أنهم إذا ذكروا بآيات الله أي وعظوا بها ونبهوا حرصوا على استماعها بآذان واعية وعيون باكية لا كالمنافقين الذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان لا يعونها ولا يبصرون ما فيها فهم متساقطون عليها غير منتفعين بها. قوله (مِنْ أَزْواجِنا) «من» للبيان وتسمى في علم البيان تجريدية كأنه قيل : هب لنا قرة أعين ، ثم فسرت القرة بالأزواج والذرية كقولهم «رأيت منك

٢٥٦

أسدا» أي أنت أسد. ويجوز أن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا لا في الأمور الدنيوية من الجاه والمال والجمال بل في الأمور الأخروية من الطاعة والصلاح. عن محمد بن كعب : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل : سألوا أن يلحق الله عزوجل بهم أولادهم وأزواجهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. وتنكير أعين إما لأنه أراد أعينا مخصوصة هي أعين المتقين ولهذا اختير جمع القلة لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وإما لأجل تنكير القرة فإن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه أي هب لنا منهم سرورا وفرحا. قال الزجاج : يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها : برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك كما أن حره دليل الحزن والغم. والثاني قرتها أن تكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضا. وقوله (إِماماً) في معنى الجمع اكتفى به لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كما قال : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أو أريد كل واحد منا أو اجعلنا إماما واحدا لاتحاد كلمتنا ، أو هو جمع آمّ كصائم وصيام وصاحب وصحاب. وقيل : في الآية دلالة على أن الرياسة يجب أن تطلب ويرغب فيها والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم. ومن هنا فسره القفال بأن المراد اجعلنا حجة للمتقين. قالت الاشاعرة : الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل ذلك على أن العلم والعمل بل جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة : إنهم سألوا من الألطاف ما بها يختارون أفعال الخير إلى أن يصيروا أئمة. وأجيب بأن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثا. ثم بين جزاء عبادة العباد بقوله (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أي الغرفات وهي العلاليّ في الجنة فوحد اكتفاء بالجنس. وقيل : الغرفة اسم للجنة. وقوله (بِما صَبَرُوا) أي بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات أو على أذى الكفار وضر الفقر وغير ذلك ولهذا أطلق إطلاقا ليشمل كل مصبور عليه. ثم بين بقوله (وَيُلَقَّوْنَ) أن تلك المنافع مقرونة بالتعظيم والتحية والدعاء بالتعمير ، والسلام دعاء بالسلامة من الآفات وهما من الملائكة أو من الله أو من بعضهم لبعض. ثم ذكر أنه غني عن طاعة الكل وأنه إنما كلفهم لينتفعوا بذلك. قال الخليل : ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ويدعي أن وجوده وعدمه سواء. وقال الزجاج : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) يريد أيّ وزن يكون لكم عنده؟ والعبء الثقل ، و «ما» استفهامية أو نافية ، والدعاء إما مضاف إلى المفعول أي لو لا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة ، وإما إلى

٢٥٧

الفاعل أي لو لا إيمانكم أو لو لا عبادتكم أو لو لا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ) [العنكبوت : ٦٥] أو لو لا شكركم له على إحسانه كقوله (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) [النساء : ١٤٧] أو ما يصنع بعذابكم لو لا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم أو تستغفروني فأغفر لكم. قوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أي إذا أعلمتكم أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي. (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) وهو عقاب الآخرة نظيره قول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى عقوبتي. والخطاب لجنس الإنس وإذا وجد في جنسهم التكذيب فقد صح الخطاب ، والأوجه أن يترك اسم «كان» غير منطوق به ليذهب الوهم كل مذهب من أنواع الإيعاد. وقيل : يكون العقاب لزاما. وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر وقد لوزم إذ ذاك بين القتلى لزاما والله تعالى أعلم.

التأويل : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا) فيه كمال القدرة وإن أمر النبوة ليس يتعلق بالقربات والمزاجات بل بمحض المشيئة الأزلية. ويروى أن موسى عليه‌السلام سئم الرسالة وتبرم في بعض الأيام فأوحى الله تعالى : في ليلة واحدة إلى ألف من بني إسرائيل فأصبحوا أنبياء ، فضاق قلب موسى وغار وقال : يا رب إني لا أطيق ذلك. فقبض الله أرواحهم في ذلك اليوم. وفيه كمال الحكمة فإن العزة في القلة ومنه تظهر فائدة الخاتمة وعموم رسالته ، وفيه تأديب الخواص وعصمتهم عن رؤية الأعمال. فلا تطع كفار النفس وسائر القوى البدنية (وَجاهِدْهُمْ) بهذا الخلاق (جِهاداً كَبِيراً) لا تواسيهم بالرخص ولكن يحملهم على العزائم (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ) بحر الروح وبحر النفس (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) من الأخلاق الحميدة الربانية (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) من الصفات الذميمة الحيوانية. والبرزخ هو القلب. وفائدة مرج الأجاج هو احتياج الإنسان إلى الأخلاق الذميمة لدفع المضرات الدنيوية والأخروية في مقامها. وحرام على الروح أن تكون منشأ الأخلاق الذميمة ، وعلى النفس أن تكون معدن الأخلاق الحميدة (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أهل النسب هم الذين صحت نسبتهم إلى عالم الأمر وهو قوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] وأهل الصهر هم الذين بقوا في عالم الخلق واختلطوا بالصفات البشرية من الحرص والشهوة والغضب ، وأشار إلى هذا الصنف بقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [يونس : ١٨] الآية وكان كافر النفس على ربه ظهيرا في إظهار صفة قهره لأنه مظهرها (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) لأهل النسب (وَنَذِيراً) لأهل الصهر إلا من شاء إلا أجر من شاء أن يتوسل إلى الرب بطاعته إياي وبخدمته لي. ومن هاهنا قال المشايخ : يصل المريد بالطاعة إلى الجنة وبتعظيم الشيخ وإجلاله إلى الله. (وَتَوَكَّلْ) أصل التوكل أن

٢٥٨

يعلم العبد أن الحادثات بأسرها مستندة إلى تكوين الله وتخليقه وهذا القدر من أصول الإيمان (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٢٣] وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فإنه مقام أرباب الأحوال وأصحاب الكمال. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي بما حمد به نفسه كقوله «أنت كما أثنيت على نفسك» (١) والقديم لا يليق به إلا الحمد القديم (وَزادَهُمْ نُفُوراً) لأن الرحمن أقبل عليهم بقهره ولو كان أقبل عليهم بلطفه لخضعوا واستكانوا. (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ) في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر : التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء. وهو الذي جعل ليل السر ونهار التجلي خلفة رعاية لحقوق القلب وحظوظ النفس ، إن أراد أن يتعظ عند السر أو أراد شكورا عند التجلي (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) دون الشيطان والدنيا والهوى والنفس يمشون في أرض الوجود عند السير إلى الله هونا لئلا يتأذى بإثارة غبار صفات بشريتهم أحد (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) وهم كل ما سوى الله من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم (قالُوا سَلاماً) سلام مودّع (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ) لا لحظ أنفسهم في الرواح ساجدون وفي الصباح واجدون. وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود وباطن في الوجود مزين ، ومع هذه الأحوال والمقامات يقفون في موقف الاعتذار والتذلل قائلين (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) القطيعة والبعد إذا أفنوا وجودهم في ذات الله وصفاته لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن (وَلَمْ يَقْتُرُوا) في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات (لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بأن لا يرفعوا حوائجهم إلى الأغيار ، ولا يشوبون أعمالهم بالرياء والسمعة ولا يحبون مع الله غيره (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها بكثرة المجاهدة إلا بسطوات تجلي صفات الحق في مثل هذا القتل حياة أبدية (وَلا يَزْنُونَ) بالتصرف في عجوز الدنيا بغير إذن الله (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) وهو عذاب النيران وعذاب الحرمان عن نعيم الجنان ومن قرب الرحمن (إِلَّا مَنْ تابَ) من عبادة الدنيا وهوى النفس. (وَآمَنَ) بكرامات الأولياء ومقامات الأصفياء (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) هو الإعراض عن غير الله وهو الإكسير الأعظم الذي لو طرح ذرة منه على ملء الأرض سيئة يبدلها إبريز الحسنات. (وَمَنْ تابَ)

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٢٢٢. أبو داود في كتاب الصلاة باب ١٤٨. النسائي في كتاب قيام الليل باب ٥١. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٧٥. ابن ماجة في كتاب الدعاء باب ٣. الموطأ في كتاب مسّ القرآن حديث ٣١. أحمد في مسنده (١ / ٩٦ ، ١١٨).

٢٥٩

رجع عن إنانيته إلى هوية الحق (وَعَمِلَ صالِحاً) بالدوام على هذه الحالة (فَإِنَّهُ يَتُوبُ) يرجع (إِلَى اللهِ مَتاباً) لا مزيد عليه وهو جذبة (ارْجِعِي) [الفجر : ٢٨] وحينئذ لا يشهد الزور أي لا يساكن غير الحق. (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) وهو ما سوى الحق لا يلتفت إليه. وإذا ذكر بآيات ربه تأمل فيها حق التأمل ودعا الله بأن يهب له من ازدواج الروح والجسد ومتولداتهما من القلب والنفس وملكات الأعمال الصالحة ما تقر به عين القلب وعين السر وعين الروح أي يتنور بنورها ، ويصير إذ ذاك مقتدى للمتقين لمتقي الجسد من مخالفات الشريعة ، ولمتقي النفس من الأوصاف الذميمة ، ولمتقي الروح عما سوى الله ، فيجزى الغرفة في مقام العندية بما صبر في البداية على التكاليف الشرعية ، وفي الوسط على تبديل الأخلاق الحميدة بالذميمة ، وفي النهاية بإفناء الوجود. ثم أخبر عن استغنائه عن وجود الخلق وعدمهم لو لا دعاؤهم إياه بلسان الحاجة في حس العدم ، أو لو لا دعاؤه إياهم في الأزل بلسان القدرة (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) حين ادعيتم الغنى عن الصانع (فَسَوْفَ يَكُونُ) خسران السعادة الأبدية لازما لكم أعاذنا الله منه.

٢٦٠