تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هر وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا. وثالثها في كيفية خروجها ؛ عن علي رضي‌الله‌عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. ورابعها مكان خروجها ، سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أين تخرج الدابة؟ فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله يعني المسجد الحرام. وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية. وخامسها في عدد خروجها ؛ روي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ، ثم تكمن دهرا طويلا فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وسادسها فيما يصدر عنها من الآثار والعجائب فظاهر الآية أنها تكلم الناس ، وفحوى الكلام (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) قال جار الله : معناه أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات. ومن قرأ (إن) مكسورة فقولها حكاية قول الله فلذلك قالت (بِآياتِنا) أو المعنى بآيات ربنا فحذف المضاف أو سبب الإضافة اختصاصها بالله كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا. وإنما هي خيل مولاه وبلاده. عن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. روي بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون وإذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ويكتب بين عينيه «مؤمن» وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه ويكتب بين عينيه «كافر». وروي أنها تقول لهم : يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار. وقيل : تكلمهم من الكلم على معنى التبكيت والمراد به الجرح وهو الوسم بالعصا والخاتم.

ثم ذكر طرفا مجملا من أهوال يوم القيامة قائلا (وَيَوْمَ) أي واذكر يوم (نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) أي جماعة كثيرة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ) هذه للتبيين والأولى للتبعيض وقوله (بِآياتِنا) يحتمل معجزات جميع الرسل أو القرآن خاصة. وقد مر معنى قوله (فَهُمْ يُوزَعُونَ) في وصف جنود سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وعن ابن عباس : الفوج أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. والواو في قوله (وَلَمْ

٣٢١

تُحِيطُوا) للحال كأنه قيل : أكذبتم بآياتي بادي الرأي من غير الوقوف على حقيقتها وأنها جديرة بالتصديق أو بالتكذيب. ويجوز أن تكون الواو للعطف والمعنى أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتفهمها ، فقد يجحد المكتوب إليه كون الكتاب من عند من كتبه ومع ذلك لا يدع تفهم مضمونه وأن يحيط بمعانيه. قال جار الله : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) للتبكيت لا غير لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب ولم يشتهر من حالهم إلا ذلك. وجوّز أن يراد ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك كأنكم لم تخلقوا إلا لأجله. وقال غيره : أراد لما لم يشتغلوا بذلك العمل المهم وهو التصديق فأيّ شيء يعملونه بعد ذلك؟ لأن كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل. قال المفسرون : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها وذلك قوله (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار. ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة وأحوالها ذكر ما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال (أَلَمْ يَرَوْا) الآية. ووجه دلالته على التوحيد أن التقليب من النور إلى الظلمة وبالعكس لا يتم إلا بقدرة قاهرة ، ودلالته على الحشر أن النوم يشبه الموت والانتباه يشبه الحياة ، ودلالته على النبوّة أن كل هذا لمنافع المكلفين وفي بعثة الرسل إلى الخلق أيضا منافع جمة ، فما المانع لمفيض الخيرات من إيصال بعض المنافع دون البعض ، أو من رعاية بعض المصالح دون البعض؟ ووصف النهار بالإبصار إنما هو باعتبار صاحبه وقد مر في «يونس». والتقابل مراعى في الآية من حيث المعنى كأنه قيل : ليسكنوا فيه وليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب. ثم عاد إلى ذكر علامة أخرى للقيامة فقال (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وقد تقدم تفسيره في «طه» و «المؤمنين». وقوله (فَفَزِعَ) كقوله (وَنادى) [الأعراف : ٤٨] (وَسِيقَ) [الزمر : ٧٣] والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قال أهل التفسير : إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة. وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل : هم الشهداء. وعن الضحاك : الحور وخزنة النار وحملة العرش. وعن جابر أن منهم موسى لأنه صعق مرة. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة (فَفَزِعَ) موافقة لقوله (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) وفي «الزمر» قال (فَصَعِقَ) [الزمر : ٦٨] لأن معناه فمات وقد سبق (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠].

ومعنى (داخِرِينَ) صاغرين أذلاء. وقيل : معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. وجوّز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. قال أهل المناظرة : إن الأجسام

٣٢٢

الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر أنها واقفة مع أنها تمر مرا حثيثا ، فأخبر الله سبحانه أن حال الجبال يوم القيامة كذلك تجمع فتسير كما تسير الريح السحاب ، فإذا نظر الناظر حسبها جامدة أي واقفة في مكان واحد. (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) قال جار الله (صُنْعَ اللهِ) من المصادر المؤكدة كقوله «وعد الله» إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب لـ (يَوْمَ يُنْفَخُ) والمعنى يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين صنع الله ، فجعل الإثابة والمعاقبة من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب. قلت : لا يبعد أن يكون الناصب لـ (يَوْمَ يُنْفَخُ) هو «اذكر» مقدرا ، ويكون (صُنْعَ اللهِ) مصدرا مؤكدا لنفسه أي صنع تسيير الجبال ومرها صنع الله. قال القاضي عبد الجبار : في قوله (أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه. وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض فإن الأعراض لا يمكن وصفها بالإتقان وهو الإحكام لأنه من أوصاف المركبات. قلت : ولو سلم وصف الأعراض بالإتقان فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ، ولو سلم فالإجماع المذكور لعله ممنوع يؤيده قوله (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) وإذا كان خبيرا بكل أفعال العباد على كل نحو يصدر عنهم وخلاف معلومه يمتنع أن يقع فقد صحت معارضة الأشعري ، وعلى مذهب الحكيم وقاعدته صدور الشر القليل من الحكيم لأجل الخير الكثير لا ينافي الإتقان والله أعلم. ثم فصل أعمال العباد وجزاءها بقوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) إلى آخر الآيتين. وبيان الخيرية بالأضعاف وبأن العمل منقض والثواب دائم ، وبأن فعل السيد بينه وبين فعل العبد بون بعيد على أن الأكل والشرب إنما هو جزاء الأعمال البدنية ، وأما الأعمال القلبية من المعرفة والإخلاص فلا جزاء لها سوى الالتذاذ بلقاء الله والاستغراق في بحار الجمال والجلال جعلنا الله أهلا لذلك. وقيل : المراد فله خير حاصل منها. وعن ابن عباس : أن الحسنة كلمة الشهادة التي هي أعلى درجات الإيمان. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يعاقب مسلم. وأجيب بأنه يكفي في الخيرية أن لا يكون عقابه مخلدا. ثم وعد المحسنين أمرا آخر وهو قوله (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) وآمن يعدّى بالجار وبنفسه. والتنوين في فزع في إحدى القراءتين إما للنوع وهو فزع نوع العقاب فإن فزع الهيبة والجلال يلحق كل مكلف وهو الذي أثبته في قوله (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وإما للتعظيم أي من فزع شديد لا يكتنهه الواصف وهو خوف النار آمنون. وأما حال العصاة فأن تكب في النار فعبر عن الجملة بالوجه لأنه أشرف أو لأنهم يلقون في الجحيم منكوسين. وقوله (هَلْ

٣٢٣

تُجْزَوْنَ) الخطاب فيه إما على طريقة الالتفات وإما على سبيل الحكاية بإضمار القول أي يقال لهم عند الكب هذا القول. ثم ختم السورة بخلاصة ما أمر به رسوله وذلك أشياء منها : عبادة الرب سبحانه. ثم وصف الرب بأمرين احترازا من أرباب أهل الشرك أولهما كونه ربا لما هو أقرب في نظر قريش وهو بلدة مكة حرسها الله. وفيه نوع منة عليهم كقوله (حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] وثانيهما عام وهو قوله (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) ومنها أمره بالإسلام وهو الإذعان الكلي لأوامر الله بجميع أعضائه وجوارحه. ومنها أمره بتلاوة القرآن أي بتلوّه أي أتباعه وقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكل ما أمر به أتم قيام حتى خوطب بقوله (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ٢] ثم لما بين سيرته ذكر أن نفع الاهتداء ووبال الضلال لا يعود إلا إلى المكلف أو عليه وليس على الرسول إلا البلاغ والإنذار. ثم جعل ختم الخاتمة الأمر بالحمد كما هو صفة أهل الجنة وبعد أمره بالحمد على نعمة النبوة والرسالة هدّد أعداءه بما سيريهم في الآخرة من الآيات الملجئة إلى الإقرار وذلك حين لا ينفعهم الإيمان. قاله الحسن. وعن الكلبي : هي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من العقوبات في الدنيا. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ولكنه من وراء جزاء العاملين.

التأويل : (قُلْ سِيرُوا) في أرض البشرية (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) لأن خواص نفوسهم أنموذج من جهنم كما أن خواص أهل القلوب أنموذج من الجنة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) لأنه خمر طينة آدم بيديه أربعين صباحا ونفخ فيه من روحه فهو مطلع على قالبه وعلى قلبه ولهذا قال (وَما مِنْ غائِبَةٍ) من الخواص في سماء القلب وأرض القالب (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو علم الله تعالى أن هذا القرآن يقص لأن كل كتاب كان مشتملا على شرح مقام ذلك النبي ولم يكن لنبي مقام في القرب مثل نبينا ، فلا جرم لم يكن في كتبهم من الحقائق مثل ما في القرآن ولهذا قال (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي بحكمه أي بحكمته بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم ويبلغ متابعي نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مقام المحبة. فاتبعوني يحببكم الله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لعزته لا يهدي كل مثمن إلى مقام حبيبه (الْعَلِيمُ) بمن يستحق هذا المقام. (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) في دعوة الخلق إلى الله (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) وذلك بعد البلوغ ومضى زمان الرعي في مراتع البهيمية (أَخْرَجْنا لَهُمْ) من تحت أرض البشرية (دَابَّةً تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) وهي النفس الناطقة فإنها إلى الآن كانت موصوفة بصفة الصمم والبكم بتبعية النفس الأمارة التي لا توقن هي وصفاتها بالدلائل. (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ

٣٢٤

كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) من كلامه وهي صفات الروح والقلب وذلك بعد التصفية والمداومة على الذكر والفكر ، حتى إذا رجعوا إلى الحضرة (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بعد أن كنتم مصدقيها عند خطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] وهذا خطاب فيه استبطاء وعتاب وقع قول يحبهم عليه بدل ما ظلموا فهم لا ينطقون كقوله «من عرف الله كل لسانه» (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) جعلنا ليل البشرية سببا لاستجمام القلب ونهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مبصرا يبصر به الحق من الباطل. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ) إسرافيل المحبة في صور القلب (فَفَزِعَ) من في سموات الروح من الصفات الروحانية ومن في أرض البشرية من الصفات النفسانية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من أهل البقاء الذين أحيوا بحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحب. وفزع الصفات هيجانها للطلب بتهييج أنوار المحبة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهو الخفي وهي لطيفة في الروح بالقوة وإنما تصير بالفعل عند طلوع شموع الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية (وَتَرَى) جبال الأشخاص (جامِدَةً) على حالها (وَهِيَ تَمُرُّ) بالسير في الصفات وتبديل الأخلاق (مَرَّ السَّحابِ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) وهي القلب والرب هو الله كما أن رب بلدة القالب هو النفس الأمارة وأنه تعالى حرم بلدة القلب على الشيطان كما قال (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس : ٥] دون أن يقول «في قلوب الناس» (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) فيه إذا لم ير الآيات لم يمكن عرفانها اللهم اجعلنا من العارفين واكشف عنا غطاءنا بحق محمد وآله صلى الله وسلم عليهم.

٣٢٥

سورة القصص مكية سوى آية

نزلت بجحفة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ) إلخ

حروفها ٥٨٠٠ كلمها ١٤٤١ آياتها ٨٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ

٣٢٦

فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

القراآت : ويرى بفتح الياء وإمالة الراء فرعون وهامان وجنودهما مرفوعات : حمزة وعلي وخلف وهكذا قرؤا قوله وحزنا بضم الحاء وسكون الزاي الباقون بفتحها.

الوقوف : (طسم) كوفي. (الْمُبِينِ) ه (يُؤْمِنُونَ) ه (نِساءَهُمْ) ط (الْمُفْسِدِينَ) ه (الْوارِثِينَ) ه لا للعطف (يَحْذَرُونَ) ه (أَرْضِعِيهِ) ج للفاء مع احتمال الابتداء بإذا الشرطية (وَلا تَحْزَنِي) ج للابتداء بإن مع أن التقدير فإنا. (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ه (وَحَزَناً) ط (خاطِئِينَ) ه (وَلَكَ) ط (لا تَقْتُلُوهُ) ق والوجه الوصل لأن الرجاء بعده تعليل للنهي. (لا يَشْعُرُونَ) ه (فارِغاً) ط (الْمُؤْمِنِينَ) ه (قُصِّيهِ) ز بناء على أن التقدير فتبعته فبصرت (لا يَشْعُرُونَ) ه لا بناء على أن الواو للحال أي وقد حرمنا وقوله (فَقالَتْ) عطف على قوله (فَبَصُرَتْ) والحال معترض (ناصِحُونَ) ه (لا يَعْلَمُونَ) ه (وَعِلْماً) ه (الْمُحْسِنِينَ) ه (يَقْتَتِلانِ) لا لأن ما بعده صفة الرجلين ظاهرا ولكن مع إضمار أي يقال لهما هذا من شيعته وهذا من عدوّه ، وليس ببعيد أن يكون مستأنفا من (عَدُوِّهِ) الأول ج لأن ما يتلوه معطوف على قوله فوجد مع اعتراض عارض من (عَدُوِّهِ) الثاني لا للعطف عليه مع عدم اتحاد القائل (الشَّيْطانِ) ط (مُبِينٌ) ه (فَغَفَرَ لَهُ) ط (الرَّحِيمُ) ه (لِلْمُجْرِمِينَ) ه (يَسْتَصْرِخُهُ) ط (مُبِينٌ) ط (لَهُما) لا لأن ما بعده جواب «لما» (بِالْأَمْسِ) ط للابتداء بالنفي والوصل أوجه لاتحاد القائل (الْمُصْلِحِينَ) ه (يَسْعى) ز لعدم العاطف مع اتحاد القول (مِنَ النَّاصِحِينَ) ه (يَتَرَقَّبُ) ز لما قلنا في (يَسْعى الظَّالِمِينَ) ه.

التفسير : فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة الشعراء. (نَتْلُوا عَلَيْكَ) على لسان جبرائيل (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي طرفا من خبرهما متلبسا (بِالْحَقِ) أو محقين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء. ثم شرع في تفصيل هذا المجمل وفي تفسيره كأن سائلا سأل : وكيف كان نبؤهما؟ فقال مستأنفا (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي طغى وتكبر في أرض مملكته (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه أو جعلهم أصنافا في استخدامه فمن بان وحارث وغير ذلك ، أو فرقا مختلفة بينهم عداوة ليكونوا له أطوع وهم

٣٢٧

بنو إسرائيل والقبط. وقوله (يَسْتَضْعِفُ) حال من الضمير في (جَعَلَ) أو صفة (شِيَعاً) أو مستأنف. و (يُذَبِّحُ) بدل منه. وقوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) بيان أن القتل من فعل أهل الفساد لا غير لأن الكهنة إن صدقوا فلا فائدة في القتل ، وإن كذبوا فلا وجه للقتل اللهم إلا أن يقال : إن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا ، وضعفه ظاهر لأن المقدر كائن البتة (وَنُرِيدُ) حكاية حال ماضية معطوفة على قوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا) فهذه أيضا تفسير للنبأ. وجوز أن يكون حالا من الضمير في (يَسْتَضْعِفُ) أي يستضعفهم هو ونحن نريد أن نمنّ عليهم في المآل ، فجعلت إرادة الوقوع كالوقوع. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقدمين في أمور الدين والدنيا. وعن ابن عباس : قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد : دعاة إلى الخير وعن قتادة : ولاة أي ملوكا. ومعنى الوراثة والتمكين في أرض مصر والشام هو أن يرثوا ملك فرعون وينفذ فيه أمرهم ، والذي كانوا يحذرون منه هو ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. يروى أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد. قال ابن عباس : إن أم موسى لما قربت ولادتها أرسلت إلى قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بالحبالى وكانت مصافية لأم موسى وقالت لها : قد نزل بي ما نزل ولينفعني حبك ، فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك هذا حبا شديدا فاحفظيه. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها نفر من بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعقل ما تصنع لما طاش من عقلها. فدخلوا فإذا التنور مسجور وإذا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا : لم دخلت القابلة عليك؟ قالت : إنها حبيبة لي دخلت للزيارة. فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت : يا أخت موسى أين الصبي؟ فقالت : لا أدري سمعت بكاءه في التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما. فلما ألح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها أن يذبح فألهمها الله تعالى أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في النيل. فجاءت إلى النجار وأمرته بنجر تابوت طوله خمسة أشبار في عرض خمسة فعلم النجار بذلك فجاء إلى موكل بذبح الأبناء فاعتقل لسانه فرجع ثم عاد مرات فعلم أنه من الله فأقبل على النجر. وقيل : لما فرغ من صنعة التابوت ثم أتى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينيه وقلبه بألم فلم يعرف الطريق ، وأيقن أنه من الله وأنه هو المولود الذي يخافه فرعون فآمن في الوقت وهو مؤمن آل فرعون. وانطلقت أم موسى وألقته في النيل ، وكانت لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها ، وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا : يا أيها الملك لا تبرأ

٣٢٨

هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبيه الإنس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك في يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس. فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومع آسية زوجته ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأرياح والأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون : ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا هو صبي صغير في مهده يمص إبهامه لبنا ، وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم ، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها. فقال الأعزة من قوم فرعون : إنا نظن أن هذا هو الذي تحذر منه ، فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله.

قال علماء البيان : اللام في قوله (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) لام العاقبة وأصلها التعليل إلا أنه وارد هنا على سبيل المجاز استعيرت لما يشبه التعليل من حيث إن العداوة والحزن كان نتيجة التقاطهم كما أن الإكرام مثلا نتيجة المجيء في قولك «جئتك لتكرمني» وبعبارة أخرى ، إن مقصود الشيء والغرض منه هو الذي يؤل إليه أمره فاستعملوه هذه اللام فيما يؤل إليه الأمر على سبيل التشبيه وإن لم يكن غرضا. ومعنى كونهم خاطئين هو أنهم أخطؤا في التدبير حيث ربوا عدوّهم في حجرهم أو أنهم أذنبوا وأجرموا ، وكان عاقبة ذلك أن يجعل الله في تربيتهم من على يديه هلاكهم. قال النحويون (قُرَّتُ عَيْنٍ) خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولا يقوى أن يجعل مبتدأ و (لا تَقْتُلُوهُ) خبرا لأن الطلب لا يقع خبرا إلا بتأويل ، ولو نصب لكان أقوى لأن الطلب من مظان النصب. روي في حديث أن آسية حين قالت (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) قال فرعون : لك لا لي ، ولو قال هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. ثم إنها رأت فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وتوسمت فيه أمارات النجابة فقالت (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) فإنه أهل للتبني وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء. قال في الكشاف (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال من آل فرعون. وقوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ) الآية. جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم والتقدير : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا. وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. قلت : لا يبعد أن تكون الجملة حالا من فاعل (قالَتْ) أي قالت كذا وكذا في حال عدم شعورهم بالمئال وهو أن هلاكهم على يده وبسببه. وقال الكلبي : أي لا يشعرون بنو إسرائيل وأهل مصر أنا التقطناه.

٣٢٩

قوله سبحانه (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) قال الحسن : أي فارغا من كل هم إلا من هم موسى. وقال أبو مسلم : فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) [إبراهيم : ٤٣] أي جوف لا عقول فيها وذلك أنها حين سمعت بوقوعه عند فرعون طار عقلها جزعا ودهشا. وقال محمد بن إسحاق والحسن في رواية : أي فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها وذلك قولنا (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي) الغرق وسائر المخاوف (وَلا تَحْزَنِي) والخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع ، والحزن غم يلحقه لواقع فنهيت عنهما جميعا ، فجاءها الشيطان وقال لها : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه. ولما أتاها خبر موسى أنه وقع إلى يد فرعون أنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة : فارغا من الخوف فالله تعالى يقول (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ أما من فسر الفراغ بحصول الخوف فعنده معنى قوله (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) هو أنها كادت تحدث بأن الذي وجدتموه ابني قاله ابن عباس. وفي رواية عكرمة كادت تقول وابناه من شدة وجدها به ، وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع. وقال الكلبي : ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون. ثم قال (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين بوعد الله وهو قوله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ). وأما من فسره بعدم الخوف فالمعنى عنده أنها صارت مبتهجة مسرورة حين سمعت أن فرعون تبناه وعطف عليه ، وأن الشأن أنها قاربت أن تظهر أنه ولدها لو لا أن ألهمناها الصبر لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لتبني فرعون وتعطفه. والأول أظهر بدليل قوله (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي اقتفي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار ، وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم (فَبَصُرَتْ بِهِ) أي أبصرته (عَنْ جُنُبٍ) عن بعد أي نظرت إليه مزورّة متجانفة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بحالها وغرضها. والتحريم هاهنا لا يمكن حمله على النهي والتعبد ظاهرا فلذلك قيل : إنه مستعار للمنع لأن من حرم عليه شيء فقد منعه. وكان لا يقبل ثدي مرضع إما لأنه تعالى منع حاجته إلى اللبن وأحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء ، وإما لأنه أحدث في ألبانهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه. وعن الضحاك : أن أمه أرضعته ثلاثة أشهر فعرف ريحها. و (الْمَراضِعَ) جمع مرضعة وهي المرأة التي تصلح للإرضاع ، أو جمع مرضع وهو الثدي ، أو الرضاع ، فالأول مكان والثاني مصدر و (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل قصصها أثره ، أو من قبل أن رددناه إلى أمه ، أو من قبل ولادته في حكمنا وقضائنا. روي أنها لما قالت (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون. والنصح إخلاص العمل من شائبة

٣٣٠

الفساد. والمراد أنهم يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه ولا يمنعون ما ينفعه في تربيته وغذائه. فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي يعلله فرعون شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها. فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وعين أجرها. قال في الكشاف : إنما أخذت الأجر على إرضاع ولدها لأنه مال حربي استطابته على وجه الاستباحة. قلت : ولعل ذلك لدفع التهمة فإن مال الحربي لم يكن مستطابا بدليل قوله وأحلت لي الغنائم قالوا : كانت عالمة بأن الله تعالى سينجز وعده ولكن ليس الخبر كالعيان فلهذا قال سبحانه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَعْلَمُونَ) حقية وعده في ذلك العهد وبعده لإعراضهم عن النظر في آيات الله. وقال الضحاك ومقاتل : يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعد رده إليها. قلت : ويؤيد هذا القول أنه اقتصر على الضمير دون أن يقول «ولكن أكثر الناس» كما قال في سورة يوسف (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف : ٢١] وقيل : هذا تعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت وأصبح فؤادها فارغا ، وعلى هذا يحتمل أن يكون قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) من جملة ما يعلمها أي ولتعلم حقية وعد الله وهذا الاستدراك. وجوز في الكشاف أن يتعلق الاستدراك بقوله (وَلِتَعْلَمَ) المقصود أن الرد به إنما كان لهذا الغرض الديني وهو العلم بصدق وعد الله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرة العين وذهاب الحزن.

ثم بين سبحانه كمال عنايته في حقه كما بين في قصة يوسف قائلا : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وزاد هاهنا قوله (وَاسْتَوى) فقيل : بلوغ الأشد والاستواء بمعنى واحد. والأصح أنهما متغايران. والأشد عبارة عن البلوغ ، والاستواء إشارة إلى كمال الخلقة. وعن ابن عباس : الأشد ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين ، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين. وهو عند الأطباء سن الوقوف. فلعل يوسف أعطى النبوة في سن النمو وأعطى موسى إياها في سن الوقوف. والعلم التوراة ، والحكم السنة ، وحكمة الأنبياء سنتهم ـ قيل : ليس في الآية دلالة على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) لا تفيد الترتيب. قلت : يشبه أن يستدل على أن النبوة كانت بعد قتل القبطي بأنها كانت بعد تزوجه بنت شعيب ، والتزوج كان بعد فراره منهم إلى مدين كما قرره تعالى في هذه السورة. وقد أجمل ذلك في الشعراء حيث قال حكاية عن موسى (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) [الشعراء : ٢١] وعلى هذا يمكن أن يراد بالواو

٣٣١

الترتيب ويكون المعنى : آتيناه سيرة الحكماء والعلماء قبل البعث فكان لا يفعل فعلا يستجهل فيه. أما المدينة فالجمهور على أنها القرية التي كان يسكنها فرعون عن فرسخين من مصر. وقال الضحاك : هي عين شمس. وقيل : هي مصر. وحين غفلتهم بين العشاءين أو وقت القائلة أو يوم عيد اشتغلوا فيه باللهو. وقيل : أراد غفلتهم عن ذكر موسى وأمره ، وذلك أنه حين ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته في الصغر أمر فرعون بقتله فجيء بجمر فأخذه في فيه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره. قاله السدي. وقيل : إن الغفلة لموسى من أهلها وذلك أنه لما بلغ أشده وآتاه الله الرشد علم أن فرعون وقومه على الباطل فكان يتكلم بالحق ويعيب دينهم وينكر عليهم ، فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل وتستر. قال الزجاج : قوله (هذا وَهذا) وهما غائبان على جهة الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه. عن مقاتل : أن الرجلين كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط. واحتج عليه بأن موسى قال له (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلما كأنه قال ممن شايعه على دينه. وإنما وصفه بالغي لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر على أن بني إسرائيل فيهم غلظة الطباع فيمكن أن ينسبوا إلى الغواية بذلك الاعتبار ، ألا ترى أنهم قالوا بعد مشاهدة الآيات : اجعل لنا إلها. يروى أن القبطي أراد أن يتسخر الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون. وقيل : إن الإسرائيلي هو السامري (فَاسْتَغاثَهُ) سأله أن يخلصه منه (فَوَكَزَهُ) أي دفعه بأطراف الأصابع أو بجمع الكف (فَقَضى عَلَيْهِ) أي أماته وقتله. الطاعنون في عصمة الأنبياء قالوا : إن كان القبطي مستحق القتل فلم قال (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وقال (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) وإن لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنبا؟ وأيضا قوله (هذا مِنْ عَدُوِّهِ) يدل على أنه كان كافرا حربيا وكان دمه مباحا والاستغفار من القتل المباح غير جائز. وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر. فقوله (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان ، أو هذا إشارة إلى عمل المقتول وهو كونه مخالفا الله ، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه ، والاستغفار من ترك الأولى سنة المرسلين ، أو أراد أني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به (فَاغْفِرْ لِي) فاستره على هذا كله. إذا سلم أنه كان نبيا في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة : في قوله (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله. ولقائل أن يقول : الشيطان من خلق الله فضلا عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئا آخر كما قررنا.

٣٣٢

قوله (بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) قيل : أراد به القوة وأنه لن يستعملها إلا في مظاهرة أولياء الله وعلى هذا يكون ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي طاعة ، إذ لو كانت معصية لصار حاصل الكلام بما أنعمت عليّ بقبول توبتي فإني أكون مواظبا على مثل تلك المعصية. وقال القفال : الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرما. وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى. وقال الكسائي والفراء : إنه خبر ومعناه الدعاء كأنه قال : فلا تجعلني ظهيرا والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها. وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة. عن ابن عباس : أنه لم يستثن أي لم يقل. فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى. وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية ، ولئن صحت فلعله أراد أنه جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه ، وبعد موت القبطي من الوكز (فَأَصْبَحَ) موسى من غد ذلك اليوم (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) الأخبار وما يقال فيه (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية ، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد. فغويّ بمعنى غاو. وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغو لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء. قال بعضهم : لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف. وقال آخرون : بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) لا يليق إلا أن يكون قولا للكافر. قال جار الله : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقيل : هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عزوجل. وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي من أبعد مسافاتها إليه. وقوله (يَسْعى) صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف ، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفا. قال العلماء : الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفا وفي «يس» أن يكون صلة ، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل ، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلا. والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمره ومعنى (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يتشاورون بسببك. وقوله (لَكَ مِنَ

٣٣٣

النَّاصِحِينَ) كقوله (فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف : ٢٠] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة. (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) المكروه من جهتهم وأن يلحق به (قالَ) ملتجئا إلى الله (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنبا وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص.

التأويل : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) النفس الأمارة استولى على من في الأرض الإنسانية (وَجَعَلَ أَهْلَها) وهم الروح والسر والعقل أصنافا في الاستخدام لاستيفاء الشهوات (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً) وهم صفات القلب ، الأبناء الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب ، والنساء الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) للاستعداد الفطري. (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ) النفس (وَهامانَ) الهوى (وَجُنُودَهُما) من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. (أُمِّ مُوسى) السر لأن القلب تولد من ازدواج الروح والسر (أَنْ أَرْضِعِيهِ) من لبن الروحانية فقد حرم عليه مراضع الحيوانية أو الدنيوية. (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) في الدنيا في تابوت القالب (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي من القلوب المحدّثين كما قال بعضهم : حدثني قلبي عن ربي (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) وهم صفات النفس والقوى البشرية من الجاذبة والماسكة والهاضمة وغيرها فإنها أسباب لتربية الطفل (لِيَكُونَ لَهُمْ) في العاقبة (عَدُوًّا) يجادلهم بطريق الرياضات والمخالفات. (وَحَزَناً) بترك الشهوات واللذات وبالدعوة إلى ما لا يلائم هواهم من طاعة الله. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) النفس وهي الجثة لا تقتلوا القلب بسيف الشهوات والانهماك في أسباب اللذات الحسيات. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) بأن ينجينا من النار. قال أهل التحقيق : لما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب أنه يكون قرة عينها وولدها فلا جرم نفعها الله بالنجاة ورفع الدرجات ، وحين لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الاعتقاد بل كان يتوقع الهلاك منه كان هلاكه على يده بسيف الصدق وسم الذكر. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم. (فُؤادُ أُمِّ مُوسى) هو سر السر ، أخت موسى القلب هو العقل. ودخل مدينة القالب (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) وهم الصفات النفسانية (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ) صفتين. إحداهما من صفات القلب والأخرى من صفات النفس. وفي قوله (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) إشارة إلى أن قتل كافر صفات النفس بالجهاد معها إن لم يكن بأمر الحق وعلى سبيل المتابعة لم يعتدّ به (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع كالفلاسفة والبراهمة (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) لأنك تنازع ذا سلطان قويّ قبل أوانه وهو فرعون النفس. (وَجاءَ رَجُلٌ) هو العقل (مِنْ أَقْصَى) مدينة الإنسانية أي من أعلى مرتبة

٣٣٤

الروحانية (يَسْعى) في طلب نجاة موسى القلب فأخرج من مدينة البشرية إلى صحراء الروحانية (خائِفاً) من سطوات فرعون النفس (يَتَرَقَّبُ) مكايدهم.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ

٣٣٥

عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢))

القراآت : (رَبِّي أَنْ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ويصدر بفتح الياء وضم الدال : ابن عامر ويزيد وأبو عمرو وأبو أيوب. الآخرون بضم الياء وكسر الدال (إِنِّي أُرِيدُ سَتَجِدُنِي إِنْ) بفتح ياء المتكلم فيهما : أبو جعفر ونافع (إِنِّي آنَسْتُ إِنِّي أَنَا اللهُ) و (إِنِّي أَخافُ) بفتح ياء المتكلم في الكل : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وو لعلي آتيكم بفتح الياء : هم وابن عامر (جَذْوَةٍ) بفتح الجيم : عاصم وبضمها حمزة وخلف. الباقون بكسرها. (مِنَ الرَّهْبِ) بفتح الراء وسكون الهاء : حفص ، وبفتحهما أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وسكون الهاء (فَذانِكَ) بتشديد النون : ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو (مَعِي) بالفتح : حفص ردا بغير همز : أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وهمزة في الوقف (يُصَدِّقُنِي) بالرفع : حمزة وعاصم (يُكَذِّبُونِ) بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل قال موسى بغير واو : ابن كثير (رَبِّي أَعْلَمُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ومن يكون على التذكير : حمزة وعلي وخلف والمفضل لا يرجعون بفتح الياء وكسر الجيم : نافع ويعقوب وعلي وخلف.

الوقوف : (السَّبِيلِ) ه (يَسْقُونَ) ه لأنه رأس آية عند الأكثرين مع عطف المتفقتين (تَذُودانِ) ج لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد الفاعل (خَطْبُكُما) ط (الرِّعاءُ) ز لأن ما بعده منقطع لفظا ومعنى كأنه قال : فلم خرجتما فقالتا تعريضا بالاستقامة وأبونا شيخ (كَبِيرٌ) ط (فَقِيرٌ) ه (عَلَى اسْتِحْياءٍ) ز لعدم العاطف مع اتحاد القائل ، ومن وقف على (تَمْشِي) ويجعل على استحياء حالا مقدما أي قالت مستحيية فلا وجه له في الوقف (لَنا) ط لأن جواب «لما» منتظر وقبله حذف أي فذهب معها فلما جاءه فكأن الفاء لاستئناف القصص لأن قال جواب «لما». (لا تَخَفْ) ز لأن قوله (نَجَوْتَ) غير متصل به نظما وليفصل بين البشارتين أي لا تخف ضيما وقد نجوت من ظلم فرعون (الظَّالِمِينَ) ه (اسْتَأْجِرْهُ) ج للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل (الْأَمِينُ) ه (حِجَجٍ) ج للشرط مع الفاء (عِنْدِكَ) ج لابتداء النفي مع الواو (عَلَيْكَ) ج (الصَّالِحِينَ) ه (وَبَيْنَكَ) ج لابتداء الشرط (عَلَيَ) ط (وَكِيلٌ) ه (ناراً) ه لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد القائل (تَصْطَلُونَ) ه (الْعالَمِينَ) ه لا (عَصاكَ) ط لحق الحذف أي فألقاها

٣٣٦

فحييت فلما رآها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ط (لا تَخَفْ) ج لمثل ما مر أي لا تخف بأس العصا إنك أمنت بها بأس فرعون (الْآمِنِينَ) ه (سُوءٍ) ز لعطف الجملتين المتفقتين مع طول الكلام ه (وَمَلَائِهِ) ط (فاسِقِينَ) ه (يَقْتُلُونِ) ه (يُصَدِّقُنِي) ز للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل (يُكَذِّبُونِ) ه (بِآياتِنا) ج أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وعلى (إِلَيْكُما) أوجه أي أنتم الغالبون بآياتنا (الْغالِبُونَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (الدَّارِ) ط (الظَّالِمُونَ) ه (غَيْرِي) ج لتنويع الكلام (إِلى إِلهِ مُوسى) لا لأن ما بعده مقوله أيضا (الْكاذِبِينَ) ه لا (يُرْجَعُونَ) ه (فِي الْيَمِ) ج للابتداء بأمر الاعتبار واختلاف الجملتين مع فاء التعقيب (الظَّالِمِينَ) ه (إِلَى النَّارِ) ج لعطف الجملتين المختلفتين (لا يُنْصَرُونَ) ه (لَعْنَةً) ط لمثل ذلك (الْمَقْبُوحِينَ) ه.

التفسير : ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة طريق فأوصله الله إلى مدين. وقد يؤيد هذا التفسير ما روي عن ابن عباس أنه خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه ، ويحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس أنه لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينه وبينهم قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى. أما أنه قصد مدين فلقوله سبحانه (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي قصد نحو هذه القرية ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان. وأما أنه اعتمد على فضل الله فلقوله. (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي وسطه وجادّته نظيره قول جده إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] وكذا الخلف الصدق يقتدي بالسلف الصالح فيهتدي. قال السدي : لما أخذ في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال : لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين. عن ابن جريج أنه خرج بغير زاد ولا ظهر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وكان بئرا فيما روي وورود الماء مجيئه والوصول إليه ضدّ الصدور. (وَجَدَ عَلَيْهِ) أي على شفيره ومستقاه (أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) جماعة كثيرة العدد أصنافا (يَسْقُونَ) مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أي في مكان أسفل من مكانهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تدفعان وتطردان أغنامهما لأن على الماء من هو أقوى منهما فلم يتمكنا من السقي ، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واختلاط أغنامهما بأغنامهم أو اختلاطهما بالرجال. وقيل : تذودان الناس عن غنمهما. وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر. وبالجملة حذف مفعول (تَذُودانِ) لأن الغرض تقرير الذود لا المذود. وكذا في (يَسْقُونَ) و (لا نَسْقِي) المقصود هو ذكر السقي لا المسقي ، وكذا في قراءة من

٣٣٧

قرأ (حَتَّى يُصْدِرَ) من الإصدار أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم الغرض بيان الإصدار. (قالَ ما خَطْبُكُما) هو مصدر بمعنى المفعول أي ما مخطو بكما من الذياد (قالَتا لا نَسْقِي) الآية. سألهما عن سبب الذود فذكرتا أنا ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وما لنا رجل يقوم بذلك. (وَأَبُونا شَيْخٌ) قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به ، وهذه الضرورة هي التي سوغت لنبي الله شعيب أن رضي لابنتيه بسقي الماشية على أن الأمر في نفسه ليس بمحظور ، ولعل العرب وخصوصا أهل البدو منهم لا يعدّونه قادحا للمروءة. وزعم بعضهم أن أباهما هو ثيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعد ما عمي وهو اختيار أبي عبيد ينميه إلى ابن عباس. وعن الحسن أنه رجل مسلم قبل الدين من شعيب. أما قوله (فَسَقى لَهُما) فمعناه فسقى غنمهما لأجلهما وفيه قولان : أحدهما أنه سأل القوم فسمحوا وكان لهم دلو يجتمع عليها أربعون رجلا فيخرجونها من البئر فاستقى موسى بها وحده وصب الماء في الحوض ودعا بالبركة ، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. والثاني أنه عمد إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون أو مائة ـ أقوال ـ فأقلها وحده وسقى أغنامهما ، كل ذلك في شمس وحر. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) ظل شجرة (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ذهب أكثر المفسرين الظاهريين ومنهم ابن عباس إلى أنه طلب من الله طعاما يأكله. وعدي (فَقِيرٌ) باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. وعن الضحاك أنه مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاما إلا بقل الأرض وإن خضرته تتراءى في بطنه من الهزال ، وفيه دليل على أنه نزع الدلو وأقل الصخرة بقوة ربانية. وقال بعض أهل التحقيق : أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين ، وذلك أنه كان عند فرعون في ملك وثروة فأظهر الرضا بهذا الذل شكرا لله. يروى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي وذلك قوله سبحانه (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) قيل : من جملة حيائها أنها قد استترت بكم درعها ثم (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) عن عطاء بن السائب أنه حين قال (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) رفع صوته بدعائه ليسمعهما فلذلك قيل له (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) وضعفت الرواية بأن هذا نوع من الدناءة وضعف اليقين بالله فلا يليق بالنبي. وقد روي أنها حين قالت : ليجزيك كره ذلك. ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمنا حتى قال شعيب هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا.

٣٣٨

سؤال : كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية؟ الجواب : العمل بقول الواحد حرا أو عبدا ذكرا كان أو أنثى سائغ في الأخبار ، والمشي مع الأجنبية لا بأس به في حال الاضطرار مع التورع والعفاف ، ويؤيده ما روي أن موسى تبعها فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق. قال الضحاك : لما دخل عليه قال له : من أنت يا عبد الله؟ قال : أنا موسى بن عمران بن يصهر ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب. (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي المقصوص من لدن ولادته إلى قتل القبطيّ وفراره خوفا من فرعون وملئه فـ (قالَ) له شعيب (لا تَخَفْ) من فرعون أو ضيما (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا سلطان لفرعون بأرضنا (قالَتْ إِحْداهُما) وهي كبراهما اسمها صفراء وكانت الصغرى صفيراء (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) قال النحويون : جعل القوي الأمين اسما لكونه معرفة صريحة أولى من جعل «أفعل» التفضيل المضاف اسما لكونه قريبا من المعرفة ، ولكن كمال العناية صار سببا للتقديم. وورود الفعل وهو (اسْتَأْجَرْتَ) بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وقال المحققون : إن قولها هذا كلام حكيم جامع لا مزيد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة اللتين هما ثمرتا الكياسة والديانة في الذي يقوم بأمرك ، فقد حصل مرادك وكمل فراغك. عن ابن عباس أن شعيبا أحفظته الغيرة فقال : وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوّب رأسه أي خفضه حين بلغته رسالته ، وأنه أمرها بالمشي خلفه فلذلك قال (أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَ) وليس هذا عقدا حتى تلزم الجهالة في المعقود عليها ولكنه حكاية عزم وتقرير وعد ولو كان عقدا لقال أنكحتك ابنتي فلانة. وفي قوله (هاتَيْنِ) دليل على أنه كانت له غيرهما. قال أهل اللغة : (تَأْجُرَنِي) من أجرته إذا كنت له أجيرا فيكون (ثَمانِيَ) حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه فيكون الثماني مفعولا به ثانيا ومعناه رعية ثماني حجج (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) أي عمل عشر حجج (فَمِنْ عِنْدِكَ) أي فإتمامه من عندك لا من عندي إذ هو تفضل منك وتبرع (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) الزام أتم الأجلين أو بالتكاليف الشاقة في مدة الرعي ، وإنما أعامل معك معاملة الأنبياء يأخذون بالأسمح ـ بالحاء لا بالجيم ـ قال أهل الاشتقاق : حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين يقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه. ثم أكد وعد المسامحة بقوله (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) عموما أو في باب حسن المعاملة. وقوله (إِنْ شاءَ اللهُ) أدب جميل كقول إسماعيل (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢] أي على الذبح. وفيه أن الاعتماد في جميع الأمور على معونة الله والأمر موكول إلى مشيئته. استدل الفقهاء بالآية على أن العمل قد يكون مهرا كالمال ،

٣٣٩

وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ، وعلى أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. ويمكن أن يقال : إنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا. وجوّز في الكشاف أن يكون استأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ووفاه إياه ثم أنكحه ابنته. وجعل قوله (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) عبارة عما جرى بينهما (قالَ) موسى (ذلِكَ) الذي شارطتني عليه قائم (بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) و «ما» مؤكدة لإبهام أيّ زائدة في شيوعها (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة فإن قضيت الثماني فلا أطالب بالزيادة وإن قضيت العشر باختياري فلم أطالب بالزيادة أيضا. وقيل : أراد أيهما قضيت فلا أكون متعديا. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تزوّج كبراهما وقيل صغراهما ولا خلاف في أنه قضى أوفى الأجلين.

قال القاضي في قوله (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ) دليل على أنه لم يزد على العشرة وفيه نظر لأنه لا يفهم من هذا التركيب إلا أن الإيناس حاصل على عقيب مجموع الأمرين ، ولا يدل على أن ذلك حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ويؤيده ما روي عن مجاهد أنه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر. قال أهل اللغة : الجذوة بحركات الجم العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن ، وشاطىء الوادي جانبه ، و «من» الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة ، فالثانية بدل من الأولى بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكليم. احتجت المعتزلة على مذهبهم أن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله (مِنَ الشَّجَرَةِ) وقال أهل السنة : مما وراء النهر إن الكلام القديم القائم بذات الله غير مسموع والمسموع من الشجرة وهو الصوت والحرف دال على كلام الله. وذهب الأشعري إلى أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعا كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية. روي أن شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل : ادخل البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفا فشعر بها فقال : غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا. وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ، ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ هناك أكثر لأن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على منعها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى موسى دامية فارتاح لذلك. وحين رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة

٣٤٠