تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احتجبا منه. فقالت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال : أعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ وإن كان محرما لها فعورته معها ما بين السرة والركبة ، وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها. ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فقال : الله أحق أن يستحي منه. وعنه «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله» (١) ولما كان النظر بريد الزنا ورائد الفجور أمر بغض الأبصار أولا ثم بحفظ الفروج عن الزنا والفجور ثانيا. وعن أبي العالية أن كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا هذا فإنه أراد الاستثناء وأن لا ينظر إلى الفروج أحد ، وعلى هذا ففائدة التخصيص بعد التعميم أن يعلم أن أمر الفرج أضيق. وحين خص الخطاب في أول الآية بالمؤمنين ذكر أن ذلك الذي أمر به من غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم لأنهم يتطهرون بذلك من دنس الآثام ، ويستحقون الثناء والمدح ، وهذا لا يليق بالكافر. وفي قوله (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) ولا ثاني له في القرآن إشارة إلى وجوب الحذر في كل حركة وسكون. وتفسير قوله (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) يعلم من التفصيل المتقدم. أما قوله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) فمن الأحكام التي تختص بالنساء في الأغلب. وقد يحرم على الرجل إبداء زينته للنساء الأجنبيات إذا كان هناك فتنة. قال أكثر المفسرين : الزينة هاهنا أريد بها أمور ثلاثة : أحدها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والحمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها. وثانيها الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلائد والإكليل والوشاح والقرط. وثالثها الثياب.

وقال : آخرون : الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلي وغير ذلك. يدل على ذلك أن كثيرا من النساء يتفردن بخلقهن عن سائر ما يعدّ زينة. وفي قوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) إشارة إلى ذلك وكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار. قال القفال : بناء على هذا القول معنى قوله (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) إلا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية وذلك في النساء الحرائر الوجه والكفان ، وفي الإماء كل ما يبدو عند المهنة. وفي صوتها خلاف ، الأصح أنه ليس بعورة لأن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كن يروين الأخبار للرجال. وأما الذين

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب ٤٢.

١٨١

حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فذهبوا إلى أنه تعالى إنما حرم النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة لأجل المبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة إلا ما ظهر من هذه الزينة كالثياب مطلقا إذا لم تصف البدن لرقتها ، وكالحمرة والوسمة في الوجه ، وكالخضاب والخواتيم في اليدين ، وما سوى ذلك يحرم النظر إليه. ولهذا قال (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) والخمر جمع الخمار وهي كالمقنعة. قال المفسرون : إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمر أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستتر بذلك أعناقهن ونحورهن وما حواليها من شعر وزينة. وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء شبيه الإلصاق. وعن عائشة : ما رأيت نساء خيرا من نساء الأنصار ، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان.

ثم بين أن الزينة الخفية يحل إبداؤها لاثنتي عشرة فرقة : الأولى بعولتهن أي أزواجهن والتاء لتأكيد الجمع كصقورة. الثانية : آباؤهن وإن علوا من جهة الأب والأم. الثالثة : آباء بعولتهن وإن علوا. الرابعة : أبناؤهن وإن سفلوا الخامسة : أبناء بعولتهن وإن سفلوا أيضا. السادسة : إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما. السابعة : بنو إخوانهن. الثامنة : بنو أخواتهن وحكم أولاد الأولاد حكم الأولاد فيهما. وهؤلاء كلهم محارم وترك من المحارم العم والخال ، فعن الحسن البصري أنهما كسائر المحارم في جواز النظر. وقد يذكر البعض لينبه على الجملة ولهذا لم يذكر المحارم من الرضاع في هذه الآية ، وكذا في سورة الأحزاب قال (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) [الآية : ٥٥] إلى آخر الآية. ولم يذكر البعولة ولا أبناءهم. وقال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله تعالى لئلا يصفها العم عند ابنه والخال عند ابنه ، وذلك أن العم والخال يفارقان سائر المحارم في أوان أبناءهما ليسوا من المحارم ، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم ومعرفة الوصف قريب من النظر ، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط في التستر. وإنما أبيح إبداء الزينة الخفية لهؤلاء المذكورين لاحتياجهن إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولا سيما في الأسفار للنزول والركوب. وأيضا لقلة وقوع الفتنة من جهاتهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب الأقارب. التاسعة : قوله (أَوْ نِسائِهِنَ) فذهب أكثر السلف إلى أن المراد أهل أديانهن ومن هنا قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها. وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقال آخرون : والعمل عليه إن المراد جميع النساء وقول

١٨٢

السلف محمول على الأولى والأحب. العاشرة : قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء ويؤيده ما روى أنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ، وعن عائشة أنها قالت لذكوان : إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر. وعنها أنها كانت تمشط والعبد ينظر إليها. وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة إذ ليس ملكها للعبد كملكه للأمة فلا خلاف أنها لا تستبيح بملك العبد شيئا من التمتع منه كما يملك الرجل من الأمة. وتحريم تزوج العبد لمولاته عارض غير مؤبد كمن عنده أربع نسوة لا يجوز له التزوج بغيرهن ، فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب خصيا كان العبد أو فحلا. وأورد على هذا القول لزوم التكرار ضرورة أن الإماء من حملة نسائهن. وأجيب بأنه أراد بالنساء الحرائر كما أراد بالرجال الأحرار في قوله (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] الحادية عشرة قوله (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) وهي الحاجة وهم البله. وأهل العنة الذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء إنما يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم أو شيوخ صلحاء لا حاجة بهم إلى النساء لعفة أو عنانة. عن زينب بنت أم سلمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة وقال : يا عبد الله إن فتح الله لكم الطائف أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان عنى عكن بطنها. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يدخلن عليكم هذا. فأباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه.

الثانية عشر قوله (أَوِ الطِّفْلِ) وهو جنس يقع على الواحد والجمع وهو المراد هاهنا. قال ابن قتيبة معنى (لَمْ يَظْهَرُوا) لم يطلعوا (عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) والعورة سوأة الإنسان وكل ما يستحيا منه. وقال الفراء والزجاج : هو من قولهم «ظهر على كذا» إذا قوي عليه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. فعلى الأول يجب الاحتجاب ممن ظهر فيه داعية الحكاية ، وعلى الثاني إنما يجب الاحتجاب من المراهق الذي ظهرت فيه مبادي الشهوة ، قال الحسن : هؤلاء الفرق وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الظاهرة فهم على أقسام ثلاثة : فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها ، والثاني الأب والابن والأخ والجد وأبو الزوج وكل محرم من الرضاع أو النسب كل يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك. والثالث التابعون غير أولي الإربة ، وكذا المملوك لا

١٨٣

بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة ، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعرا ولا بشرا ولا يصح للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب. فهذا ضبط هذه المراتب ثم علمهن أدبا آخر جميلا بقوله (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) قال ابن عباس : كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل : كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وفي النهي عن إظهار صوت الحلي بعد نهيهن عن إظهار الحلي مبالغة فوق مبالغة ليعلم أن كل ما يجر إلى الفتنة يجب الاحتراز عنه ، فإن الرجل الذي تغلب عليه الشهوة إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعيا له إلى مشاهدتهن ، ومنه يعلم وجوب إخفاء صوتهن إذا لم يؤمن الفتنة ولهذا كرهوا أذان النساء. ثم ختم الآية بالأمر بالدوام على التوبة والاستغفار لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يكاد يقدر على رعاية الأوامر والنواهي كما يجب. قال العلماء : إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكر أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه عزوجل. وعن ابن عباس : أراد توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. قال جار الله : من قرأ أيه المؤمنون بضم الهاء فوجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.

الحكم السادس : النكاح وذلك أنه حين أمر بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى طريق الحل فيما تدعو إليه الشهوة. وأصل الأيامى أيايم فقلب الواحد أيم بتشديد الياء ، ويشمل الرجل والمرأة. قال النضر بن شميل : الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك يقول : زوّجوا أياماكم بعضهم من بعض. وقد آم وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال : فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم. وظاهر الأمر الوجوب إلا أن الجمهور حملوه على الندب لأنه لو كان واجبا لشاع في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتشر ، ولو انتشر لنقل لعموم الحاجة إليه. وقد ورد في الأخبار التصريح بكونه سنة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «النكاح سنتي» (١) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحب فطرتي فليستسن بسنتي وهي النكاح» وقد أجمعوا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه. واتفقوا على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده أو أمته. نعم قد يجب في بعض الصور كما إذا التمست التزويج من الولي فعليه الإجابة إذا كان الخاطب كفؤا. استدل الشافعي بعموم الآية على جواز تزويج البكر البالغة

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١.

١٨٤

بدون رضاها واعترض أبوبكر الرازي بأن الأيامى شامل للرجال والنساء وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ويؤيده ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها» (١) وأجيب بأن تخصيص النص لا يقدح في كونه حجة في الباقي. والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها أظهر ، على أنا لا نسلم أن لفظ الأيامى عند الإطلاق يتناول الرجال ، وفي تخصيص الآية بخبر الواحد أيضا نزاع. واستدل أبو حنيفة بعموم الآية أيضا على أن العم والأخ يليان تزويج الثيب الصغيرة ونوقش فيه. قال الشافعي : من تاقت نفسه إلى النكاح استحب له أن ينكح إذا وجد أهبة النكاح وإلا فليكسر شهوته بالصوم لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فإن الصوم له وجاء» (٢) والذي لا تتوق نفسه إلى النكاح لكبر أو مرض أو عجز أو كان غير قادر على النفقة يكره له أن ينكح لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه ، وإن لم يكن به عجز وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له أن ينكح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى. وقال أبو حنيفة : النكاح أفضل. حجة الشافعي أنه تعالى مدح يحيى بقوله (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) [آل عمران : ٣٩] والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفضل أعمالكم الصلاة» (٣) وقال «أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن» وقال «أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح» والمباح ما استوى طرفاه ، والمندوب ما ترجح فعله ولو كان النكاح عبادة لم يصح من الكافر. والنكاح فيه شهوة النفس والعبادة فيها مشقة النفس والإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر! ولو كان النكاح مساويا للنوافل في الثواب لم تكن النوافل مشروعة لأن الطريق المؤدي إلى المطلوب مع بقاء اللذة وعدم التعب أولى بالسلوك ، وإن كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لأنه سبب لبقاء الأشخاص ونظام العالم. فالاشتغال بالزراعة أيضا أولى من النافلة للعلة المذكورة. وقد وقع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الحيل باب ١١. أبو داود في كتاب النكاح باب ٢٣ ـ ٢٥. الترمذي في كتاب النكاح باب ١٨. ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١١. الدارمي في كتاب النكاح باب ١٣. أحمد في مسنده (١ / ٢١٩ ، ٢٦١) (٢ / ٢٢٩ ، ٢٥٠).

(٢) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ١٠. مسلم في كتاب النكاح حديث ١. النسائي في كتاب الصيام باب ٤٣. ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١. الدارمي في كتاب النكاح باب ٢. أحمد في مسنده (١ / ٥٧).

(٣) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة باب ٤. الدارمي في كتاب الوضوء باب ٢. الموطأ في كتاب الطهارة حديث ٣٦. أحمد في مسنده (٥ / ٢٧٧ ، ٢٨٠).

١٨٥

الإجماع على أن واجب العبادة مقدم على واجب النكاح ، فكذا مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة» حجة أبي حنيفة أن النكاح يتضمن صون النفس من ضرر الزنا ودفع الضرر أهم من جلب النفع. وأيضا النكاح يتضمن العدل. وقد ورد في الحديث «لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «النكاح سنتي» (١) وقال في الصلاة «إنها خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل» ثم إن الأيامى جمع مستغرق لكنهم أجمعوا على أنه لا بد من شروط ذكرنا بعضها في سورة النساء في قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ومعنى (مِنْكُمْ) أي من حرائركم قاله كثير من المفسرين لأن حكم العبيد والإماء يعقب ذلك. ومنهم من قال : أراد من يكون تحت ولاية المأمور من الولد والقريب. ومنهم من قال : الإضافة لا تفيد الحرية والإسلام.

ثم أمر السادة أن يزوجوا أرقاءهم الصالحين. واتفقوا على أنه للإباحة والترغيب لأن في تزويج العبد التزام مؤنة زوجته وتعطل خدمته واستفادة المهر وسقوط النفقة في تزويج الأمة ليس قبوله بلازم على السيد أيضا ، وتخصيص الصالحين بالذكر عناية من الله بحالهم ليتحصن دينهم ويتحفظ عليهم صلاحهم. وأيضا الصالحون من الأرقاء هم الذين يشفق عليهم مواليهم ويهتمون بشأنهم حتى ينزلوهم منزلة الأولاد. ويجوز أن يراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح ، ومن جملة ذلك أن لا يكون في غاية الصغر بحيث لا يحتاج إلى النكاح. وإذن السيد لهم أن يزوجوا أنفسهم ينوب عن تزويج السيد. أما قوله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) فالأصح أن هذا ليس وعدا من الله تعالى بإغناء من يتزوج حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف ، فرب غني يفقره النكاح ولكن المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح. على أن مثل هذا الوعد قد جاء مشروطا بالمشيئة في قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) [التوبة : ٢٨] فالمطلق محمول على المقيد. وقيل : أراد بالغنى نفس العفاف بتملك البضع الذي يغنيه عن الوقوع في الزنا. وعن طائفة من الصحابة أن هذا وعد. وعن أبي بكر قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وعن ابن عباس : التمسوا الرزق بالنكاح. وشكا رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحاجة فقال : عليك بالباءة. وقد يستدل بالآية على أن العبد والأمة يملكان وإلا لم

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب ١.

١٨٦

يتصور فقرهما وغناهما. والمفسرون قالوا : الضمير عائد إلى الأحرار خاصة وهم الأيامى ، وإن فسر الغني بالعفاف فلا بد في رجوعه إلى الكل (وَاللهُ واسِعٌ) إفضاله ولكنه (عَلِيمٌ) يبسط الرزق كما يريد وعلى ما ينبغي. وفيه إشارة إلى قيد المشيئة في الوعد المذكور. ثم ذكر حال العاجزين عن القيام بمؤن النكاح بقوله (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي ليطلب العفة من نفسه والمضاف محذوف أي لا يجدون استطاعة نكاح ولا يقدرون عليه ، أو النكاح يراد به ما ينكح بوساطته وهو المال ولا محذوف. وفي قوله (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ) نوع تأميل للمستعففين. وفيه أن فضله من أهل الصلاح والعفاف قريب.

الحكم السابع : المكاتبة : وحين رغب السادة في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشدهم إلى الطريق الذي به ينخرط العبيد في سلك الأحرار مع عدم الإضرار بالسادة فقال (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ) ومحله إما رفع والخبر (فَكاتِبُوهُمْ) والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وإما نصب بفعل مضمر تفسيره (فَكاتِبُوهُمْ) والفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها كقوله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، والتركيب يدل على الضم والجمع لما فيه من ضم النجوم بعضها إلى بعض. وقال الأزهري : هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت المال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق ، وقيل : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل واجبا عند الشافعي وندبا عند أبي حنيفة كما يجيء. والأجل يستدعي الكتابة لقوله (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة : ٢٨٢] قال محي السنة : الكتابة أن تقول لمملوكك كاتبتك على كذا ويسمى ما لا يؤديه في نجمين أو أكثر ويعين عدد النجوم ، وما يؤدى في كل نجم ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر وينوي ذلك بقلبه. ويقول العبد : قبلت وفي هذا الضبط أبحاث : الأول قال الشافعي : إن لم يقل بلسانه إذا أديت ذلك المال فأنت حر ولم ينور بقلبه ذلك لم يعتق لأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، فإن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بعين ملكه. فقوله «كاتبتك» كناية في العتق فلا بد فيه من لفظ العتق ونيته. وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر : لا حاجة إلى ذلك لإطلاق قوله (فَكاتِبُوهُمْ) وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. الثاني : لا تجوز الكتابة عند الشافعي إلا مؤجلة لأن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال. وجوز أبو حنيفة الحلول لإطلاق الآية ، ولأنه يجوز العتق على مال في الحال بالاتفاق ، فالكتابة أيضا مثله. الثالث : قال الشافعي : لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين. روي ذلك عن علي عليه‌السلام وعمر وعثمان وابن عمر. وذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام

١٨٧

الإرفاق التنجيم. وجوز أبو حنيفة على نجم واحد لإطلاق الآية وللقياس على سائر العقود. الرابع : جوز أبو حنيفة كتابة الصبي قال : ويقبل عنه المولى. وذهب الشافعي إلى أنه يجب أن يكون عاقلا بالغا لأنه تعالى قال (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ) والصبي لا يتصور منه الطلب. الخامس : جوز أبو حنيفة أن يكاتب الصبي بإذن الولي وشرط الشافعي كونه مكلفا مطلقا ، لأن قوله (فَكاتِبُوهُمْ) خطاب فلا يتناول إلا العاقل هذا وللمفسرين خلاف في أن قوله (فَكاتِبُوهُمْ) أمر إيجاب أو استحباب ، فقال قائلون ومنهم عمرو بن دينار وعطاء وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى وجوب الكتابة إذا طلبها المملوك بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيرا ، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه وأكدوه بما روي في سبب النزول أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت. ويروى أن عمر أمر إنسانا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين ، فأبى فضربه بالدرة ولم ينكر أحد من الصحابة عليه. وذهب أكثر العلماء منهم ابن عباس والحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري إلى أنه ندب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من قلبه» ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فلا تجب الإجابة ، وهذه طريقة المعاوضات أجمع. قال العلماء : إذا أدى مال الكتابة عتق وكان ولاؤه لمولاه لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له ، ومن هنا يكسب مولاه الثواب.

أما قوله (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) قال عطاء : الخير هو المال كقوله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠] قال : بلغني ذلك عن ابن عباس. وضعف بأنه لا يقال في فلان مال وإنما يقال له أو عنده مال ، وبأن العبد لا مال له بل المال لسيده ، وعن ابن سيرين : أراد إذا صلى. وعن النخعي : وفاء وصدقا. وقال الحسن : صلاحا في الدين. والأقرب أنه شيء يتعلق بالكتابة هكذا فسره الشافعي بالأمانة والقوة على الكسب. ويروى مثله مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذلك أن مقصود الكتابة لا يحصل إلا بالكسب ثم بالأمانة كيلا يضيع ما يكسبه. واختلفوا أيضا في المخاطب بقوله (وَآتُوهُمْ) فعن الحسن والنخعي وابن عباس في رواية عطاء وهو مذهب أبي حنيفة ، أنهم المسلمون والمراد أعطوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال ، ولا بعد في كون المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر للإيجاب. والسهم الذي يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض كما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» (١) وعن كثير من الصحابة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٦١ ، ٦٢. مسلم في كتاب الزكاة حديث ١٧٠ ـ ١٧٢. أبو داود

١٨٨

وهو مذهب الشافعي أن المخاطب هو الموالي والأمر أمر إيجاب فيجب عليهم أن يبذلوا للمكاتبين شيئا من أموالهم ، أو يحطوا عنهم جزءا من مال الكتابة. ثم اختلفوا في قدرهفعن علي عليه‌السلام أنه كان يحط الربع ومثله ما روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له فترك ربع مكاتبته وعن ابن عمر أنه كاتب عبدا له بخمسة وثلاثين ألفا ووضع عنه خمسة آلاف وهو السبع. والأكثرون على أنه غير مقدر ويحصل الامتثال بأقل متمول. عن ابن عباس : يضع له من كتابته شيئا. وعن عمر أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام ، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمرو وقال : استعن به على مكاتبتك. فقال : لو أخرته إلى آخر نجم ، فقال : أخاف أن لا أدرك ذلك ، وهذا الحط عند الأولين على وجه الندب فلا يجبر المولى عليه وأكدوه بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلّا عشر أواق فهو عبد» (١) فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه بقدره ، ومثله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأيضا لو كان الحط واجبا فإن كان معلوما لزم عتقه إذا بقي ذلك القدر وليس ذلك بالاتفاق ، ولو كان مجهولا لكان ما بقي وهو مال الكتابة مجهولا فلا تصح الكتابة. وأيضا أمر بالإيتاء من مال الله الذي أتاهم ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه يصدر العجز عنه فلا يستحق ذلك المال هذا الوصف فصح أن هذا أمر من الله تعالى بذلك للناس ، أولهم وللسادة أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أعان مكاتبا في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه». الحكم الثامن : المنع من إكراه الإماء على الزنا : كان لعبد الله بن أبيّ رأس النفاق ست جوار : معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، يكرههن على البغاء ـ أي الزنا ـ فشكت ثنتان منهن معاذة ومسيكة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحد الإكراه قد مر في سورة النحل في قوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] والنص وإن كان مختصا بالإماء إلا أنهم أجمعوا على أن حال الحرائر أيضا كذلك.

والسؤال المشهور في الآية هو أن المعلق بكلمة أن على الشيء يفهم منه عدمه عند عدم ذلك الشيء فتدل الآية على جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن. والجواب

__________________

في كتاب الزكاة باب ٣٠. النسائي في كتاب الزكاة باب ٩٩. ابن ماجة في كتاب الطلاق باب ٢٩. الدارمي في كتاب الطلاق باب ١٥. الموطأ في كتاب الطلاق حديث ٢٥. أحمد في مسنده (١ / ٢٨١ ، ٣٦١).

(١) رواه أبو داود في كتاب العتاق باب ١. ابن ماجة في كتاب العتق باب ٣. أحمد في مسنده (٢ / ١٧٨ ، ١٨٤).

١٨٩

بعد تسليم أن مفهوم الخطاب حجة هو أن الإكراه مع عدم إرادة التحصن والتعفف مما لا يجتمعان ، فهذا المفهوم قد خرج عن كونه دليلا لامتناعه في ذاته. وقد يقال : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما مر في قوله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١] وقيل : «إن» بمعنى «إذ» لأن سبب النزول وارد على ذلك. قال جار الله : أوثرت كلمة «أن» على «إذ» إيذانا بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من قبيل الشاذ والنادر. وللآية مفهوم آخر وهو أن للسادة إكراههن على النكاح وليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها. و (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كسبهن وأولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لهم على الإطلاق أو بشرط التوبة على أصل الأشاعرة والمعتزلة ، أو غفور لهن لأن الإكراه قد لا يكون على حد المعتبر في الشرع من التخويف الشديد فتكون آثمة حينئذ. وحين فرغ من الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث : الأولى الآيات المبينات أي الموضحات أو الواضحات في معاني الحدود والأحكام وغيرها ولا سيما الآيات التي ثبتت في هذه السورة. الثانية كونه مثلا من الذين خلوا أي قصة عجيبة من قصصهم فإن العجب في قصة عائشة ليس بأقل من العجب في قصة يوسف ومريم وما اتهما به. وعن الضحاك أنه أراد بالمثل شبه ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود. وعن مقاتل : أراد شبيه ما حل بهم من العقاب إذا عصوا. الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة.

التأويل : لا تدخلوا بيوت عالم القرار التي هي غير بيوتكم من دار القرار حتى تتعرفوا أحوالها (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) سلام توديع ومتاركة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) فإن صرتم بحيث فتنتم عن حظوظ الدنيا وشهواتها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بالتصرف فيها بالحق للحق (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا) بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (فَارْجِعُوا) ثم أشار إلى أن التصرف في الدنيا لأجل البلاغ وبحسب الضرورة جائز إذا لم تكن النفس تطمئن إليها فقال (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) الآية. ثم أمر بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا ، وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة ، بصر السر عن الدرجات والقربات ، وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله ، وبصر الهمة عن العلل بأن لا يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له وإجلالا ، ولهذا أمر بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه. ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال تنبيها على أن النساء بالصورة قد يكن رجالا في المعنى. ثم نهى عن إظهار ما زين الله به سرائرهم وأحوالهم إلا ما ظهر على صفحات أحوالهم من

١٩٠

غير تكلف منهم. ثم أباح لهم إظهار بعض الأسرار إلى شيوخهن أو إخوانهن في الدين والحال ، أو المريدين الذين هم تحت تربيتهم وتصرفهم بمنزلة النساء والمماليك ومن لا خبر عندهم من عالم المعنى كالبله والأطفال ، ففيه نفثة مصدور من غير ضرب. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتوبة المبتدئ من الحرام وتوبة المتوسط من الحلال وتوبة المنتهي مما سوى الله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) فيه أمر بطلب شيخ كامل يودع في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الأعلى وهو الولادة الثانية المستدعية للولوج في ملكوت السماء والأرض ، وقد أشار إلى إفاضة هذا الاستعداد بقوله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَلْيَسْتَعْفِفِ) ليحفظ الذين لا يجدون شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حتى يدلهم الله على شيخ كامل كما دل موسى على الخضر عليه‌السلام ، أو يخصهم بجذبة (اللهُ يَجْتَبِي) [الشورى : ١٣] (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ) فيه أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الصلاح ووجب أن يؤتى بعض ما خص الله الشيخ به من المواهب (وَلا تُكْرِهُوا) فيه أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا وإن كان بالحق لم تكره عليه فإن أصحاب الخلوة غير أرباب الجلوة.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ

١٩١

يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠))

القراآت : نور السماوات على الفعل : يزيد من طريق ابن أبي عبلة وابن مشيا (كَمِشْكاةٍ) ممالة : أبو عمرو عن الكسائي درئ بكسرتين وبالهمز : أبو عمرو وعلي والمفضل مثله بضم الدال : حمزة وأبوبكر وحماد والخزاز. الباقون بضم الدال وتشديد الياء توقد بضم التاء وفتح القاف : حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد مثله ولكن بياء الغيبة على أن الضمير للمصباح : ابن عامر ونافع وحفص وأبو زيد عن المفضل. الباقون وجبلة توقد بالفتحات وتشديد القاف يسبح بفتح الباء : ابن عامر وأبوبكر وحماد : سحاب ظلمات على الإضافة : البزي (سَحابٌ) بالتنوين ظلمات بالكسر على أنه نصب على الحال : القواس وابن فليح. الباقون بالرفع والتنوين فيهما. ينزل من الإنزال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب يذهب من الإذهاب يزيد على أن الباء زائدة خالق كل شىء على الإضافة : حمزة وعلي وخلف. الآخرون (خَلَقَ) على لفظ الماضي (كُلَ) منصوبا.

الوقوف : (وَالْأَرْضِ) ط (مِصْباحٌ) ط (زُجاجَةٍ) ط (غَرْبِيَّةٍ) ط لأن ما بعدها صفة شجرة (نارٌ) ط (نُورُ) ط (يَشاءُ) ط (لِلنَّاسِ) ط (عَلِيمٌ) ه لا بناء على أن الظرف يتعلق بما قبله وهو (كَمِشْكاةٍ) أي مثل مشكاة في بعض بيوت الله عزوجل والأولى تعلقه بـ (يُسَبِّحُ) وفيها تكرار كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف وهو سبحوا اسمه لا لأن ما بعده صفة بيوت أو لأن الظرف يتعلق بـ (يُسَبِّحُ وَالْآصالِ) ط لمن قرأ (يُسَبِّحُ) بفتح الباء كأنه قيل : من يسبح؟ فقيل : (رِجالٌ) أي يسبحه رجال. ومن قرأ بالكسر لم يقف لأنه فاعل الفعل الظاهر (رِجالٌ) لا لأن ما بعده صفة (الزَّكاةِ) لا لأن ما بعده أيضا صفة (وَالْأَبْصارُ) ه لا لتعلق اللام. أبو حاتم يقف ويجعل اللام لام القسم على تقدير ليجزين قال : فلما سقطت النون انكسرت اللام. (مِنْ فَضْلِهِ) ط (حِسابٍ) ه (ماءً) ط (حِسابَهُ)

١٩٢

ط (الْحِسابِ) ه لا للعطف (سَحابٌ) ط لمن قرأ (ظُلُماتٌ) بالرفع ولم يجعلها بدلا (فَوْقَ بَعْضٍ) ط (يَراها) ط (مِنْ نُورٍ) ه (صَافَّاتٍ) ط (وَتَسْبِيحَهُ) ط (يَفْعَلُونَ) ه (وَالْأَرْضِ) ج فصلا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين (الْمَصِيرُ) ه (مِنْ خِلالِهِ) ج لما قلنا (عَنْ مَنْ يَشاءُ) ط (بِالْأَبْصارِ) ه ط (وَالنَّهارَ) ط (الْأَبْصارِ) ج (مِنْ ماءٍ) ج للفاء مع التفصيل (بَطْنِهِ) ج (رِجْلَيْنِ) ج لمثل ما قلنا (أَرْبَعٍ) ط (ما يَشاءُ) ط (قَدِيرٌ) ه (مُبَيِّناتٍ) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (ذلِكَ) ط (بِالْمُؤْمِنِينَ) ه (مُعْرِضُونَ) ه (مُذْعِنِينَ) ه ط (وَرَسُولُهُ) ط (الظَّالِمُونَ) ه.

التفسير : أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور ، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة. أما الأول فهو قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يحاذيها من الأجرام ، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلها لأنه إن كان عرضا فظاهر ، وإن كان جسما فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا منتقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار ، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوها : الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين ، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السموات والأرض لأنه قال (مَثَلُ نُورِهِ) و (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) والمضاف مغاير للمضاف إليه. فنظير الآية قولك «زيد كرم وجود» للمبالغة. الثاني أن معناه منور السموات كقراءة من قرأ (نُورُ) بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق كما قال في آخر الآية (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) شبهه بالنور في ظهوره وبيانه. وأضافه إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض ، أو على حذف المضاف أي نور أهل السموات والأرض وقيل : نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وأبي العالية. وقيل : هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيرا حسنا ، فهو لهم كالنور الذي يهتدى به في المضايق والمزالق. وهذا القول اختيار الأصم والزجاج. وقيل : هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح. وقد يعبر بالنور عن النظام. يقال : ما أرى لهذه الأمور نورا. الثالث : ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار : أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور ، إلا هو بيانه أن للإنسان بصرا يدرك به النور المحسوس

١٩٣

الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة ، وبصيرة هي القوة العاقلة. ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين ، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ ، والإدراك الحسي غير منتج لأنه لا يصير سببا لإحساس آخر ، والإدراك العقلي يصير سببا لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة ، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلا بعد سماع الصوت الشديد ، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها ، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن ، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن ، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد ، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة ، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أنه منزه عن القرب والبعد والجهة ، والحس لا يدرك من الأشياء إلا ظواهرها ، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها ، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات ، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى. وإدراك العقل قد يكون مقدما على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي ، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نورا فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نورا ، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلا ، فنور البصيرة أيضا يحتاج في إدراكه إلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نورا (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن : ٨] والنبي نورا (وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٦] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام. ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) [النحل : ١٠٢] فكل الأنوار تنتهي إلى ما لا نور أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه. والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مرارا وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات. وأيضا الوجود نور والعدم ظلمة ، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله ، فهو نور الأنوار. وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار ، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره ، واحتجب عنهم بإشراق نوره ، ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره»

١٩٤

وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفا. قال العلماء : الحجب ثلاثة أقسام : حجب ظلمانية محضة ، وحجب ممزوجة من نور وظلمة ، وحجب نورانية صرفة ، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع. وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر ، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى ، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة ، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات ، فعرف من هذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا انحصار للسلوب والإضافات ، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير.

ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير. وقيل : هي بلغة الحبشة ، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي ، ومثله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة. وقال الضحاك : هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر أي أبيض متلألىء ، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت ، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه. وقال أبو عبيد : إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز لأنه ليس في كلام العرب «فعيل». ومن همزه من القراء فإنما أراد «فعول» على سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر. والدراري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول. ومعنى (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور» (١) وقيل : سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين ، أو بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه‌السلام فقوله (زَيْتُونَةٍ) بدل من (شَجَرَةٍ) ومعنى (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٣٦٩ ، ٣٧٢) بلفظ «أن يتداووا ... بالعود الهندي والزيت».

١٩٥

الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه ، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية. وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة ، وقيل : أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب. وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة ، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج : المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط ، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا لأنها في موضع مكشوف ، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت. ومنهم من قال : لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى.» ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء.

فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير ، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول : إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلى أنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء ، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء. وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل ، وهذا المقصود لا يحصل من ضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلا. والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح. زعم بعضهم أن في الكلام قلبا والمراد كمصباح في مشكاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب ، ولهذا قال جار الله : أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة ، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية ، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نورا. ومنها كون المصباح متقدا بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس. ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كمال نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها. وأما الإمام الغزالي رضي‌الله‌عنه فإنه يقول : المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية. فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان ، وأوفق مثال لها من

١٩٦

عالم الأجسام المشكاة لأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم. وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزونا عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه ، وأنت لا تجد شيئا في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة. كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ ، ولكنه إذا صفي وهذب صار موازيا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها ، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك ، وبالقمر على الوزير ، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح. وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجا. وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي كالمقدمة للعقل قيل : إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح. ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة ، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون ، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان. وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهي ثمرته إلى حد محدود أولى أن يسمى مباركا. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) وخامسها القوة القدسية النبوية التي (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ).

وأما الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة. فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض ، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات. ثم إن كان الانتقال ضعيفا فهي الشجرة وتسمى فكرا وإن كان قويا فهي الزيت ويسمى حدسا ، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلا بالفعل ، وغايته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلا مستفادا. أما الأول فلأن الملكة

١٩٧

نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر ، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل. وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء ، وعبر عنه في الآية بالنار. وعن مقاتل أنه قال (مَثَلُ نُورِهِ) أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله ، والزجاجة نظير جسد محمد ، والشجرة النبوة والرسالة. وقيل : المشكاة نظير إبراهيم عليه‌السلام ، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ مثل نور من آمن به ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي‌الله‌عنه مرفوعا للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : على وجه السموات (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين. وقيل : المشكاة صدر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والزجاجة قلبه ، والمصباح ما في قلبه من الدين ، والشجرة إبراهيم عليه‌السلام ، و (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ) كقوله و (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٥] ومعنى (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب. وقال الضحاك : يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة :

لو لم يكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تنبيك بالخبر

وقال يحيى بن سلام : قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» وقيل : يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نورا على نور. قال أبي بن كعب : المؤمن بين أربع خلال : إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل. فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين أموات يتقلب في خمس من النور : كلامه نور ، وعلمه نور ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة. قال الربيع : سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال : سره وعلانيته.

قالت الأشاعرة في قوله (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه ، وقالت المعتزلة : أراد يهدي الله لطريق الجنة ، أو أراد بقوله (مَنْ يَشاءُ) الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على

١٩٨

زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف : معناه يوفق. لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف ، وجانب جانب المراء والاعتساف ، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا : إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة.

ثم زاد التأكيد بقوله (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر. قوله (فِي بُيُوتٍ) اعترض أبو مسلم على قول من قال إنه يتعلق بـ (كَمِشْكاةٍ) وب توقد لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة. وأيضا الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله (فِي بُيُوتٍ) أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة ، وكذا لو جعل (فِي بُيُوتٍ) صفة (مِصْباحٌ) و (زُجاجَةٍ) أو (كَوْكَبٌ) وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالبا في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل. وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل : «الذي يصلح لخدمتي رجل» يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد. وذهب أبو مسلم إلى أنه راجع إلى قوله (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا) أي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة. واعترض عليه بتفكك النظم إذ ذاك وبأن الذين خلوا هم المكذبون. والأكثرون على أن البيوت هي المساجد ، والإذن الأمر ، والرفع التعظيم أو البناء. وعن عكرمة هي البيوت كلها ، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر. وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه. وقيل : لا يتكلم فيها بما لا ينبغي. والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. وقيل : الصلوات الخمس وقيل : صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما. وعن ابن عباس : إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية. والأولى العموم. قيل : خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء. ويحتمل أن يقال : لأنهم أصل والنساء تبع. واختلفوا في (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) فقيل : نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله :

ولا ترى الضب فيها ينجحر

وقيل : أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين. وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها

١٩٩

شيء. وما الفرق بين التجارة والبيع؟ قيل : الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء ، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون ، فالبيع أدخل في الإلهاء. وقيل : أراد بالتجارة الشراء ، إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب يقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده. وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل : هو الصلاة. ومن هنا قال ابن عباس : أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها ، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له. والتاء في (فَأَقامَهُ) عوض من العين الساقطة للإعلال ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت. ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة. وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع ، وتقلب الأبصار شخوصها ، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها ، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة إلى اليقين والمعاينة. وقال الضحاك : إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والأبصار تصير زرقا. وقال الجبائي : يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار ، ومرة بهيئة ما أحرق ، وقيل : إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة إلى الخوف من الهلاك ، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن أي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل.

قوله (لِيَجْزِيَهُمُ) متعلق بما قبله لفظا أو معنى أي يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر إلى سبعمائة وأكثر. وقيل : أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن تنبيها على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي : أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال. وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة. ومعنى (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) كقوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقوله (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) قد مر تفسيره في «البقرة». وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكا بالعمل الصالح وفي الآخرة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات ، وضرب لكل من حاليه مثلا ، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) قال الأزهري : هو ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبها

٢٠٠