تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة : إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة. حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد. وأيضا قوله (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب ، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الآية إلا حد القذف ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله. وللمرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقا فحدّوني وإن كان كاذبا فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله. حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره.

الثانية : الجمهور على أنه إذا قال «يا زانية» وجب اللعان لعموم قوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) وقال مالك : لا يلاعن إلا أن يقول : رأيتك تزني وينفي حملا بها أو ولدا منها.

الثالثة : قال الشافعي : من صح رميه صح لعانه فلا يشترط إلا التكليف ، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين. وذهب أبو حنيفة إلى أن الزوج ينبغي أن يكون مسلما حرا عاقلا بالغا غير محدود في القذف ، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة. فإذا كان الزوج عبدا أو محدودا في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات. دليل الشافعي عموم قوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) والإجماع. على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة ، فكذا القول في غيرهما ، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار. دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي : من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرّة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر. وأيضا اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي. وأيضا اللعان شهادة لقوله تعالى (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) وقد جاء مثله في أحاديث اللعان. وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر. أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين ، ومما يدل على أنه يمين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهلال بن أمية : احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق. وقوله : لو لا الإيمان لكان لي ولها شأن. وأيضا لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة. لا يقال : الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول : العبد أيضا قد يعتق ، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال ، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار. ثم ألزم

١٦١

الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية. ثم قال الشافعي بعد ذلك : وتختلف الحدود لمن وقعت له ، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه ، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها.

الرابعة : اختلف المجتهدون في نتائج اللعان ، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلا لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه وهذا لا يوجب تحريما كما لو قامت البينة عليها. وأيضا إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم. وأيضا إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد. وأيضا إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان. وأما تفريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان. وعن أبي حنيفة وأصحابه إلّا زفر ، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبدا ، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا ، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها. وقال مالك والليث وزفر : إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم ، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما. وقال الشافعي : إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج : درء الحد عنه ، ونفي الولد ، والفرقة ، والتحريم المؤبد ، ووجوب الحد عليها. ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق بينهما محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما. وزعم أبوبكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية ، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية ، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين ، وأيضا اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات. وأيضا اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم. وأيضا اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم. ولقائل أن يقول : سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق ، ولا نسلم أن اللعان شهادة محضة. ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ) ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب. وأيضا أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها ، ألا ترى أنها في

١٦٢

لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه ، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلا لقوله «الولد للفراش».

الخامسة : مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق ، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وهو قول علي وابن مسعود. ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد ، ولما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمتلاعنين بعد اللعان لا سبيل لك عليها. ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة ، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] وقوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤].

السادسة : اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان. وخالف بعضهم مستدلا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الولد للفراش» وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها.

السابعة : لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم.

الثامنة : كيفية اللعان كالصريحة في الآية وأن الحديث قد زادها بيانا كما مر. وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس : اتق الله فإنها موجبة. وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب. ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح ، التغليظ بالزمان. وهو ما بعد صلاة العصر ولا سيما عصر يوم الجمعة ، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام ، وبالمدينة بين المنبر والمدفن ، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع أيضا وهو المقصورة ، وفي بيت المقدس في المسجد الأقصى عند الصخرة ، ولليهود في الكنيسة ، وللنصارى في البيعة ، وللمجوس في بيت نارهم ، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام. ولا بد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة ، ولا بد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة.

التاسعة : قال جار الله : إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد.

١٦٣

العاشرة : في فوائد متعلقة بالآية منها : إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر ، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف ، فلا بد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان. ومنها إبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج إياها اعتراف منه بزناها بل بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان. ومنها أن المعتزلة قالوا : المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار. أجابت الأشاعرة بأن كونه مغضوبا عليه بفسقه لا ينافي كونه مرضيا عنه بجهة إيمانه فلا بد أن يحصل له بعد العقاب ثواب. ثم أخبر عن كمال رأفته بقوله (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة. وجواب «لو لا» محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد. وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.

التأويل : النفس الزانية المستسلمة لتصرفات الشيطان والدنيا فيها ، والروح الزاني بتصرفه في الدنيا وشهواتها المنهية عنها (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) من الجوع وترك الشهوات والمرادات ، ومن حملهما على المخالفات. ولعل السر في تخصيص هذا العدد هو أن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون منها : أربع ساعات لأجل النوم (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) [المزمل : ٢٠] والباقية يجب فيها مراقبة الحواس الخمس وتأديبهن بآداب الشرع والعقل ، فيكون المجموع مائة تأديبة يحصل نتائجها وكمالها للنفس والروح والله تعالى أعلم. (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) ولتكن هذه التزكية والتأديبات بمحضر شيخ واصل كامل يحفظه من طرفي الإفراط والتفريط (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) فيه أن الطبع يسرق والجنس إلى الجنس يميل ، فأهل الفساد لا ترغب إلا في صحبة أمثالهم من أهل الفساد كما أن أرباب السداد لا تطمح إلا إلى صحبة أمثالهم من أرباب السداد. (وَحُرِّمَ ذلِكَ) الذي قلنا من اختلاط الأشرار (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي الأرواح الذين ينسبون إلى نقصان النفوس المستعدات للكمالات (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي لم يكن خواص العناصر الأربعة ظاهرة على صفحات أحوالهن كما مر تقريره في أول النساء في قوله (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء : ١٥] ولم تبلغ الملكات الذميمة منهن مرتبتها. الرابعة كالكاتب يكتب بالفعل (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) مر وهم بالخلوة أربعين يوما وأربعين ليلة حتى يظهر لهم كمال حال النفوس في الموافقة لهم ولا تقبلوا لهم بعد ذلك شهادة عليهن ، وأولئك هم الذين يريدون أن يخرجوا عن طاعة الله بقدر نسبة النقصان إلى

١٦٤

النفوس المستعدة. (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) وهن القوالب المزدوجة بالأرواح (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) لأنه لا يطلع على أحوال القالب إلا الروح (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) هي الأسنان الأربعة التي فيها تحصل التربية والاستكمال. (وَالْخامِسَةُ) وهي حالة حلول الأجل اللعنة والغضب والعذاب الأبدي وما تولد منهما من الصفات الذميمة ينسبها الروح إلى ثالث هو الشيطان ، وينسبها القالب إلى الروح الذي يدبره ويتصرف فيه. والافتراق الذي يحصل بينهما ليس بالصورة بل بالمعنى لأن الروح يميل إلى العالم العلوي والقالب إلى العالم السفلي لعدم الموافقة بينهما وهو سبحانه أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))

القراآت : كبره بضم الكاف : يعقوب. (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) وبابه مدغما : أبو عمرو

١٦٥

وعلي وهشام وحمزة غير خلف ورجاء والعجلي (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) بالإظهار وتشديد التاء : البزي وابن فليح ولا يتأل من التألي : يزيد (ما زَكى) بالتشديد والإمالة : روح وقرأ قتيبة ممالة مخففة. يوم يشهد على التذكير : حمزة وعلي وخلف. والباقون بتاء التأنيث.

الوقوف : (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) ط (شَرًّا لَكُمْ) ط (خَيْرٌ لَكُمْ) ط (مِنَ الْإِثْمِ) ج لنوع عدول من إجمال حكم الكل إلى بيان حكم البعض مع اتفاق الجملتين (عَظِيمٌ) ه (خَيْراً) لا للعطف (مُبِينٌ) ه (شُهَداءَ) ج للشرط معنى مع الفاء (الْكاذِبُونَ) ه (عَظِيمٌ) ج لاحتمال أن يكون «إذ» ظرف قوله (لَمَسَّكُمْ) أو (أَفَضْتُمْ) واحتمال كونه منصوبا باذكر وبهذا قد قيل : الوصل ألزم لأن قوله (سُبْحانَكَ) من جملة مفعول (قُلْتُمْ عَظِيمٌ) ه (مُؤْمِنِينَ) ه ج لاتفاق الجملتين مع تكرار اسم الله دون الاكتفاء بالضمير وأنها آية (الْآياتِ) ط (حَكِيمٌ) ه (أَلِيمٌ) ه لا لتعلق الظرف (وَالْآخِرَةِ) ط (لا تَعْلَمُونَ) ه (رَحِيمٌ) ه (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ط (وَالْمُنْكَرِ) ط (أَبَداً) لا لتعلق لكن (مَنْ يَشاءُ) ط (عَلِيمٌ) ه (فِي سَبِيلِ اللهِ) ط والوصل أولى للعطف (وَلْيَصْفَحُوا) ط (لَكُمْ) ط (رَحِيمٌ) ه (وَالْآخِرَةِ) ص (عَظِيمٌ) ه لا لتعلق الظرف (يَعْمَلُونَ) ه (الْمُبِينُ) ه (لِلْخَبِيثاتِ) ج للعطف مع التضاد (لِلطَّيِّباتِ) ه ج لاتحاد المعنى مع فقدان العاطف (يَقُولُونَ) ط (كَرِيمٌ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق. روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وكلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة. قال الزهري : هي غزوة المريسيع. وذكره البخاري في غزوة بني المصطلق من خزاعة. قال : وهي غزوة المريسيع أيضا. فخرج اسمي فخرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما انصرف وقرب من المدينة نزل منزلا ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي لمست صدري فإذا عقد لي من حزع أظفار قد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه. وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديثة السن وذهبوا بالبعير ، فلما رجعت إلى مكاني وليس به أحد جلست وقلت : يعودون في طلبي فنمت. وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في المعسكر يتتبع أمتعة الناس فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء ، فلما رآني عرفني وقال : ما خلفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت ، ثم قاد البعير

١٦٦

وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري. فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ومكثت شهرا أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ١٨] إلى أن نزل فيّ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) إلى آخر الآيات. وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول. وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل : هو البهتان. والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة. قال المفسرون : هم عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. ومعنى (مِنْكُمْ) أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهرا. أما الخطاب في قوله (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعائشة وصفوان. ومعنى كونه خيرا لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء ، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاعنين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية. وقيل : الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها. وقيل : الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك ، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة. وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع امرأة من قريش ، والأشهر أنه عبد الله رأس النفاق. ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة. فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. ويروى أن عائشة ذكرت حسانا وقالت : أرجو له الجنة. فقيل : أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت : إذا سمعت شعره في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجوت له الجنة. وفي رواية أخرى قالت : وأي عذاب أشد من العمى.

ثم علم أدبا حسنا في مثل هذه الواقعة فقال (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَ) فصل بين «لو لا» التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف ما لا يتسع في غيره تنزيلا للظرف منزلة المظروف نفسه ، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف. والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم

١٦٧

ومثله (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) [النور : ١٦] ثم لا يخفى أن أصل المعنى أن يقال : لو لا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم هذا إفك. ومعنى بأنفسكم بالذين منكم من المؤمنين والمؤمنات ، فعدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، ولينبه لفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا عاتب بل يقول بملء فيه بناء على ظن الخير مصرحا ببراءة ساحته (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) وذلك أن المؤمن معه من العقل والذين ما يهديه إلى الأصلح ويؤخره عن الأقبح ، ولم يوجد هذا الداعي والصارف معارض بتساويهما كما قيل : كلام العدى ضرب من الهذيان. فوجب أن لا يلتفت المؤمن إلى قول الطاعن في حق أخيه ويبقى على حسن ظنه به وهذا أدب حسن قل العامل به ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يزيد فيه. روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : أما ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا؟ قال : لا. قلت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك. وفي الآية دلالة على قول أبي حنيفة أن المسلمين عدول بعضهم على بعض ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة. ومن هنا قال أيضا : إذا باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بظن الخير فوجب حمله على ما يجوز. ومثله إذا باع سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف. وإذا وجدنا امرأة أجنبية مع رجل فاعترفا بالتزويج تصدقهما حملا لعقود المسلمين وتصرفاتهم على الجواز والصحة. وزعم مالك أنهما يحدان إن لم يقيما بينة على النكاح. وقيل : إن الآية مختصة بعائشة لأن كونها زوجة النبي كالدليل القاطع على أن الذي قيل فيها إفك صريح. قال العلماء : يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات البتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة. قال : وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. قيل : في تفسيره الكشخان الذي تحبب امرأته الرجال إلى نفسها. ويقال : كشخنته أي قلت له يا كشخان. ثم بالغ في زجرهم عن حديث الإفك بقوله (لَوْ لا جاؤُ) وهي أيضا تحضيضية والمراد التفصيل بين الرمي الصادق والكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ولكن هذا العدد وكل فرد منه منتف في حق عائشة فهم في حكم الله وشريعته كاذبون. وهذا القدر كاف في إلزام أولئك الطاعنين وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلى هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفا. ثم زاد في التهديد والزجر بقوله (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) هي «لو لا» الامتناعية. قال جمهور المفسرين : لو لا أني قضيت أن أتفضل عليكم في هذه الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن

١٦٨

أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وعن مقاتل أن في الآية تقديما وتأخيرا والمعنى : ولو لا فضل الله عليكم ورحمته بالحلم عنكم والحكم عليكم بالتوبة (لَمَسَّكُمْ فِيما) اندفعتم (فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا والآخرة معا. وتلقي الإفك أخذه من أفواه القالة وقوله ، والأصل تتلقونه بتاءين وقد قرىء به. كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى طار وانتشر. وفي زيادة قوله (بِأَفْواهِكُمْ) إشارة إلى أنه قول لا وجود له إلا في العبارة ولا حقيقة لمؤداه في الواقع. والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لا سيما قذف زوجة النبي وخاصة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلهذا قال (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) عن بعضهم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال : أخاف ذنبا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. وفي النصائح الكبار لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم في الآية بارتكاب ثلاثة آثام : تلقي الإفك والتكلم بما لا حقيقة له ولا علم به واستهانة عظيمة من العظائم ، وفيه أن عظم المعصية لا يتعلق بظن فاعله بل جهله بعظمه ربما يصير مؤكدا لعظمه. وفيه أن الواجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرم إذ لا يأمن أن يكون عند الله من الكبائر.

ثم علمهم أدبا آخر ومعنى (ما يَكُونُ لَنا) لا ينبغي ولا يصح لنا. ومعنى (سُبْحانَكَ) تنزيه الله من أن تكون زوجة نبينا الذي هو أحب خلقه إليه فاجرة ، أو تنزيهه من أن يرضى بقذف هؤلاء المقربين ولا يعاقبهم ، أو هو للتعجب من عظم الأمر وذلك أنه يسبح الله عند رؤية كل أمر عجيب من صنائعه فكثر حتى استعمل في كل متعجب منه. والفرق بين هذه الآية وبين قوله (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) هو أن تلك تميل إلى العموم وهذه إلى الخصوص فكأنه بين أن هذا القذف خاصة مما ليس لهم أن يتفوهوا به لما فيه من إيذاء نبيه وإيذاء زوجته التي هي حبيبته (يَعِظُكُمُ اللهُ) بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب كراهة (أَنْ تَعُودُوا) أو في شأن أن تعودوا (لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي مدة حياتكم. ولا دلالة للمعتزلة في قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) على أن ترك القذف من الإيمان لاحتمال أنه للتهيج والانزجار (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ) أي لانتفاعكم (الْآياتِ) الدالات على علمه وحكمته وما ينبغي أن يتمسك المكلف به في أبواب صلاح معاشه ومعاده (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) هما صفتان مختلفتان عند المعتزلة ثانيتهما أخص من الأولى ، وعند الأشاعرة الثانية للتأكيد المحض. والمراد أنه يجب قبول تكاليفه وبياناته لأنه عالم بما أمر وبما يستحقه كل مأمور ، وليس في تكليفه عيب ولا عبث. ومن كان هذه صفته وجب طاعته ليثيب ولا يعاقب. استدلت المعتزلة بالآية في أنه يريد الإيمان من الكل وإلا لم يكن واعظا ولا مبينا آياته لانتفاعهم ولا

١٦٩

حكيما لا يفعل القبائح. ولا جواب للأشاعرة إلا أنه يشاء ما يشاء ولا اعتراض عليه. ثم بين بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) أن أهل الإفك يشاركهم في عذاب الدارين من رضي بقولهم ، وأنهم كما هم مؤاخذون بما أظهروه فهم معاقبون على ما أضمروه من محبة إشاعة الفاحشة والفحشاء في المؤمنين ، لأنها تدل على الدغل والنفاق وعدم سلامة القلب. والفاحشة والفحشاء ما أفرط قبحه ، وشيوعها انتشارها وظهورها بحيث يطلع عليها كل أحد وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم ، فهذا الوعيد شامل لكل من أراد بواحد من المؤمنين أو المؤمنات شيئا من المضار والأذيات. وبعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص من يحب شيوع الفاحشة بعبد الله بن أبي. وخصص الذين آمنوا بعائشة وصفوان ، ولا يخفى ما فيه من ضيق العطن إلا أن يساعده نقل صحيح. وعذاب الدنيا الحد واللعن والذم وما على أهل النفاق من صنوف البلاء ، ولقد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا ، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. وعذاب الآخرة في القبر وفي القيامة هو النار. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأعرف قوما يضربون صدورهم ضربا يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم» وعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (١) من الخير وأما قوله (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ففي نهاية حسن الموقع لأن الأعمال القلبية محبة الشر أو الخير لا يطلع عليها أحد كما هي إلا الله سبحانه. وإنما نعرف نحن شيئا منها بالقرائن والإمارات وفيه زجر عظيم لمن لا يجتهد في أن يكون قلبه سليما من النفاق والغل ، وحصول هذا الغل في القلب غير العزم على الذنب فإن الأول ملكة والثاني حال ، ولا يلزم من ترتب العقاب على الملكات ترتبه على الأحوال فافهم. قال أبو حنيفة : المغتابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وإنها ممنوع عنها. وقالت المعتزلة : في الآية دليل على أنه تعالى غير خالق للكفر ولا مريد وإلا كان ممن يحب أن تشيع الفاحشة. ولقائل أن يقول : قياس الغائب على الشاهد فاسد. ثم كرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب والتمكين من التلافي وبالغ فيها بذكر الرؤوف والرحيم. وجواب «لو لا» محذوف على نسق ما مر. وقيل : جوابه ما يدل على ذلك في قوله (ما زَكى مِنْكُمْ) وهو بعيد. عن ابن عباس أن الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والأقرب العموم. ثم نهى عن اتباع

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧١ ، ٧٢. البخاري في كتاب الإيمان باب ٧. الترمذي في كتاب القيامة باب ٥٩. النسائي في كتاب الإيمان باب ١٩.

١٧٠

آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب ما تنكره العقول وتأباه. وقوله (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل. قالت الأشاعرة : في قوله (ما زَكى) بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله ، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار. وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة ، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه ، وبأن قوله (مَنْ يَشاءُ) ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عليه.

ثم علم أدبا آخر جميلا بقوله (وَلا يَأْتَلِ) وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان ، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيرا فهي كقراءة من قرأ ولا يتأل وقيل : هو من قولهم «ما ألوت جهدا» إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئا أي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين. قالوا : نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق فقيرا من فقراء المهاجرين ، وكان أبوبكر ينفق عليه. فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي بكر ، فلما وصل إلى قوله (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) قال أبو بكر : بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال : والله لا أنزعها أبدا. قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الآية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه ، وذلك أن الفضل المذكور في الآية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق. تركنا العمل به في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاتفاق فيبقى في الغير معمولا به. وأيضا ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم. وأيضا قد قيل :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد أمره الله تعالى بالصفح عنه ، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسب ذلك. وأيضا في تسميته أولى الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له : أنت أفضل من أن تقابل إنسانا بسوء وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن أساء إليك. وأيضا أمره الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) [المائدة : ١٣] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق. وأيضا علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة البتة في الحال وفي الاستقبال لقوله (أَنْ يَغْفِرَ) فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه (لِيَغْفِرَ لَكَ

١٧١

اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصيا والعاصي في النار. وليس النهي في قوله (وَلا يَأْتَلِ) نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل أخلاق المسلمين العفو وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه» واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحا كان مذنبا لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس ، ولهذا حده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأجمعوا أيضا على أنه من البدريين وقد ورد فيهم الخبر الصحيح «لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (١) فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله «اعملوا ما شئتم» أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلا أو كثيرا فقد أعطيتكم الدرجات العاليات في الجنة ، أو أراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال : قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة. قالت الأشاعرة : في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجرا لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلا. استدل جمهور الفقهاء بالآية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه. ثم قالوا : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة : ٨٩] وهو عام في جانب الخير وفي غيره. ومثله ما ورد في قصة أيوب (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ) [ص : ٤٤] ولو كان الحنث كفارة لم يؤمر بضرب الضغث عليها. وقال بعض العلماء : إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث آخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته» (٢) ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال ، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقا للحديث الآخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٦٠ باب ١. أبو داود في كتاب السنة باب ٨. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٦٠ باب ١.

(٢) رواه البخاري في كتاب الخمس باب ١٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧ ، ٩. النسائي في كتاب الأيمان باب ١٥ ، ١٦. ابن ماجة في كتاب الكفارات باب ٧ ، ٨. الدارمي في كتاب النذور باب ٩. أحمد في مسنده (٢ / ١٨٥) (٣ / ٧٦) (٤ / ٢٥٦).

١٧٢

خير وليكفر عن يمينه» وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة. قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) قد مر تفسير المحصنة. وأما الغافلات فهن السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر بحسب الغريزة أو لقلة التجارب ، وقد يعين على ذلك صغر السن وغير ذلك من الأحوال. قال الأصوليون : خصوص السبب لا يمنع العموم فيدخل في الآية قذفة عائشة وقذفة غيرها ، وخصصه بعض المفسرين فمنهم من قال : المراد عائشة وحدها والجمع للتعظيم. ومنهم من قال : عائشة مع سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنهم من قال : هي أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة المشاكلة لها في الإحصان والغفلة والإيمان. وذكروا في سبب التخصيص أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) وأما القذف المذكور في هذه الآية فوعيده مطلق من غير استثناء. وأجيب بأنه طوى ذكر التوبة في هذه الآية لكونها معلومة. وقد يحتج للمخصص بما روي عن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة فسئل عن تفسير هذه الآية فقال : من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. ومنهم من قال : نزلت الآية في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : إنما خرجت لتفجر. أما شهادة الجوارح فلا إشكال فيها عند الأشاعرة لأنهم يقولون : البنية ليست شرطا في الحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما وقدرة وكلاما. وقالت المعتزلة : المتكلم هو فاعل الكلام فيكون الكلام المضاف إلى الجوارح هو في الحقيقة من الله تعالى. ويجوز أن يبني الله هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها إلى أن تشهد على الإنسان وتخبر عن أعماله. ومعنى (دِينَهُمُ الْحَقَ) الجزاء المستحق. وقال في الكشاف : معنى قوله (هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) العادل الظاهر العدل. وقال غيره : سمي حقا لأنه تحق عبادته أو لأنه الموجود بالحقيقة وما سواه فوجوده مستعار زائل. والمبين ذو البيان الصحيح أو المظهر للموجودات. فالحاصل أنه واجب الوجود لذاته مفيد الوجود لغيره. ثم ختم الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة وهي قوله (الْخَبِيثاتُ) يعني الكلمات التي تخبث مواردها ويستقذرها من يخاطب بها ويمجها سمعه ككلمات أهل الإفك ، ويجوز أن يراد بالخبيثات مضمون الآيات الواردة في وعيد القذفة لأن مضمونها ذم ولعن وهو يستكره طبعا وإن كان نفس الكلمة التي هي من قبل الله سبحانه طيبا. وعلى الوجهين يراد بالخبيثين الرجال والنساء جميعا إلا أنه غلب الرجال. والحاصل أن الخبيثات من القول تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء ، والخبيثون من الصنفين معرضون للخبيثات من القول وكذلك الطيبات

١٧٣

والطيبون (أُولئِكَ) الطيبون (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا) يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. قال جار الله : هو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب ، وجوز بقرينة الحال أن يكون (أُولئِكَ) إشارة إلى أهل البيت عليهم‌السلام وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك. وفي الآية قول آخر وهو أن يراد بالخبيثات النساء الخبائث ، وبالخبيثين الرجال الذين هم أشكال لهن فيكون أول الآية نظير قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) وكذلك الكلام في أهل الطيب ولا أطيب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون أزواجه مثله فلذلك أخبر عن حالهن بقوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وقد مر تفسير الرزق الكريم في «الحج» نظيره قوله في الأحزاب (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) [الآية : ٣١] وفي الآية دلالة على أن عائشة من أهله الجنة. وقال بعض الشيعة : هذا الوعد مشروط باجتناب الكبائر وقد فعلت عائشة من البغي يوم الجمل ما فعلت ، والصحيح عند العلماء إنها رجعت عن ذلك الاجتهاد وتابت. عن عائشة : لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة : لقد نزل جبريل عليه‌السلام بصورتي في راحته حين أمر النبي أن يتزوجني ، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفته الملائكة في بيتي ، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وإني لابنة خليفته وصدّيقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما. وعن بعضهم : برأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦] وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إلى عبد الله ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات ، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة سيد الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين.

التأويل : إذا حصل لأهل الله مسألة إلى غيره قيض الله له ما يرده إليه ، وأن النبي عليه‌السلام لما قيل له : أي الناس أحب إليك؟ قال : عائشة فساكنها وقال : يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة. وقالت عائشة : إني أحبك وأحب قربك فالله تعالى حل عقدة الحب عن قلبه لحديث الإفك ورد قلب عائشة إلى حضرته حتى قالت حين ظهرت براءة ساحتها «بحمد الله لا بحمدك». وقيل : الملامة مفتاح باب حبس الوجود بها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وبالحقيقة هي في الدنيا معجلة كقوله (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) [البقرة : ٢٧٣] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقال الشاعر :

عيناك قد حكتا مبيتك

كيف كنت وكيف كانا

ولرب عين قد أرتك

مبيت صاحبها عيانا

١٧٤

وإذا كانت الإمارة في الدنيا ظاهرة فهي في القيامة أولى فاللسان يشهد بالإقرار بقراءة القرآن ، واليد تشهد بأخذ المصحف ، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد ، والعين تشهد بالبكاء ، والأذن تشهد باستماع كلام الله. وعند الحكماء تظهر أنوار الملكات الحميدة على النفس من البدن وبالعكس كما تتعاكس أنوار المرايا المتقابلة ، ويعلمون أهل الوصول والوصال أن الله هو الحق المبين لا شيء في الوجود غيره لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وحينئذ يحق أن يقال : (الْخَبِيثاتُ) وهن الملوثات بلوث الوجود المجازي (لِلْخَبِيثِينَ) وهم أمثالهن (وَالطَّيِّباتُ) من لوث الحدوث (لِلطَّيِّبِينَ) وهم أشكالهن ولا طيب إلا الله وحده

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

القراآت : وليضربن بكسر اللام على الأصل : عياش (جُيُوبِهِنَ) بضم الجيم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وهشام وعاصم غير الأعشى والبزي

١٧٥

والعواس من طريق الهاشمي. وفي رواية خلف عن حمزة بإشمام الجيم الضم ثم يشير إلى الكسر وبضم الياء. الآخرون : بالكسر الخالص. غير بالنصب على الاستثناء أو الحال : ابن عامر ويزيد وأبوبكر وحماد. الباقون : بالكسر على الوصف أيه المؤمنون بضم الهاء في الحالين : ابن عامر. وقرأ أبو عمرو وعلي وابن كثير بألف في الوقف. الباقون بفتح الهاء بغير ألف في الوقف وبألف في الوصل.

الوقوف : (أَهْلِها) ط (تَذَكَّرُونَ) ه (يُؤْذَنَ لَكُمْ) ج للشرط مع العطف (أَزْكى لَكُمْ) ط (عَلِيمٌ) ه (مَتاعٌ لَكُمْ) ط (تَكْتُمُونَ) ه (فُرُوجَهُمْ) ط (لَهُمْ) ط (بِما يَصْنَعُونَ) ه (جُيُوبِهِنَ) صل (عَوْراتِ النِّساءِ) ص (زِينَتَهُنَ) ط (تُفْلِحُونَ) ه (وَإِمائِكُمْ) ط (فَضْلِهِ) ط (عَلِيمٌ) ه (فَضْلِهِ) ط (خَيْراً) ق قد قيل : والوصل أوجه للعطف. (آتاكُمْ) ط للعدول إلى حكم آخر الدنيا ط (رَحِيمٌ) ه (لِلْمُتَّقِينَ) ه.

التفسير : الحكم الرابع الاستئذان : لما كانت الخلوة طريقا إلى التهمة ولذلك وجد أهل الإفك سبيلا إلى إفكهم شرع أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان. وفي الآية أسئلة : الأول الاستئناس هو الأنس الحاصل بعد المجانسة قال الله تعالى (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) [الأحزاب : ٥٣] ولا يكون ذلك في الأغلب إلا بعد الدخول والسلام ، فلم عكس هذا الترتيب في الآية؟ جوابه بعد تسليم أن الواو للترتيب ، هو أن الاستئناس طلب الأنس وأنه مقدم على السلام. وقال جار الله : هو من باب الكفاية والإرداف لأن الأنس الذي هو خلاف الوحشة يردف الإذن فوضع موضع الإذن كأنه قيل : حتى يؤذن لكم. أو هو استفعال من آنس إذا أبصر ، فالمراد حتى تستكشفوا الحال ويبين هل يراد دخولكم أم لا. أو هو من الإنس بالكسر وهو أن يتعرف هل ثمّ إنسان لأنه لا معنى للسلام ما لم يعلم أفي البيت إنسان أم لا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما هو «حتى تستأذنوا» فأخطأ الكاتب ولا يخفى ضعف هذه الرواية لأنها توجب الطعن في المتواتر وتفتح باب القدح في القرآن كله نعوذ بالله منه. الثاني : ما الحكمة في شرع الاستئذان؟ الجواب : كيلا يطلع الداخل على عورات ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه ، ولئلا يوقف على الأحوال التي تخفيها الناس في العادة ، ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ولذلك قال سبحانه (ذلِكُمْ) يعني الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور أي الدخول من غير إذن. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر» واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي أنزل عليكم. أو قيل لكم : هذا إرادة أن تتعظوا أو تعملوا به. الثالث : كيف يكون الاستئذان؟ جوابه : استأذن رجل على رسول الله فقال : ألج. فقال : لامرأة يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعلميه فإنه

١٧٦

لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول «السلام عليكم أدخل» فسمع الرجل فقالها فقال : ادخل. ويؤيده قراءة عبد الله حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته : حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فمنع الله تعالى عن ذلك وعلم الأدب الأحسن. وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح ونحوه. وقال عكرمة : هو التسبيح والتكبير وقرع الباب بعنف والتصبيح بصاحب الدار منهي عنه وكذا كل ما يؤدي إلى الكراهية وينبىء عن الثقل. الرابع : كم عدد الاستئذان؟ الجواب روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون» ومثله عن أبي موسى الأشعري وقصته مع عمر مشهورة في ذلك. وعن قتادة الاستئذان ثلاثة : الأول يسمع الحي. الثاني ليتهيأ. والثالث إن شاؤا أذنوا وإن شاؤا ردوا. وينبغي أن يكون بين المرات فاصلة وإلا كان الكل في حكم واحد. الخامس : كيف يقف على الباب؟ جوابه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكنه يقف من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فإن كان للباب ستر كانت الكراهية أخف. السادس : قوله (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) يدل على أنه يجوز الدخول بعد الاستئذان والتسليم وإن لم يكن ثمة إذن أو من يأذن ، لأن «حتى» للغاية والحكم بعد الغاية يكون خلاف ما قبلها جوابه. سلمنا المخالفة لكن لا نسلم المناقضة ، وذلك أنه قبل الاستئذان لا يجوز الدخول مطلقا وبعده فيه تفصيل ، وهو أنه إن لم يجد فيها أحدا من الآذنين مطلقا أو من يعتبر إذنه شرعا فليس له الدخول وذلك قوله (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) أي على الإطلاق أو ممن له الإذن (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي حتى تجدوا من يأذن لكم أو من يعتبر إذنه ، وإن وجد فيها من له الإذن فإن أذن دخل وإن لم يأذن وقال ارجع رجع وهو قوله (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى) أي الرجوع أطيب لكم وأطهر لما فيه من سلامة الصدر والبعد من الريبة. وفي قوله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) نوع زجر للمكلف فعليه أن يحتاط كيف يدخل ولأي غرض يدخل وكيف يخرج. وهل يقوم غير الإذن مقام الإذن؟ عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «رسول الرجل إلى الرجل إذنه» وفي رواية أخرى «إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن» وقيل : إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان. والجمهور على أن إذن الصبي والعبد والمرأة معتبر وكذلك في الهدايا لأجل الضرورة. وهل يعتبر الاستئذان على المحارم؟ روي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أستأذن على أمي؟ قال : نعم. قال : إنها ليس لها خادم غيري أستأذن عليها كلما دخلت

١٧٧

عليها. قال : أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل : لا. قال : فأستأذن. قال العلماء : إن كان المنع من الهجوم على الغير لأجل أنه لا يراه منكشف الأعضاء فتستثنى منه الزوجة وملك اليمين ، وإن كان لأجل أنه لا يراه مشغولا بما يكره الاطلاع عليه فالمنع عام إلا إذا عرض ما يبيح هتك الستر كحريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره. التاسع : ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه؟ الجواب : قال الشافعي : لو فقأ عينه فهي هدر وتمسك بما روى سهل بن سعد أنه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع النبي مدرى يحك بها رأسه فقال : لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك ، إنما الاستئذان من النظر. وعن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه» (١) قال أبو بكر الرازي : هذا الخبر مردود لوروده على خلاف الأصول ، فلا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه ضامنا وعليه القصاص إن كان عامدا ، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع. فمعنى الحديث لو صح أنه من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم ثم منع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر ، وأجيب بالفرق فإنه إذا علم القوم دخوله عليهم احترزوا عنه وتستروا فأما إذا نظر على حين غفلة منهم اطلع على ما لا يراد الاطلاع عليه فلا يبعد في حكمة الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسما لمادة هذه المفسدة. جميع هذه الأحكام فيما إذا كانت الدار مسكونة فإن لم تكن مسكونة فذلك قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) الآية.

وللمفسرين فيه أقوال : الأول : قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرجال والسلع والبيع والشراء. يروى أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت. وقيل : هي الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز. وقيل : الأسواق. والأولى العموم. وإنما لم يحتج إلى الإذن دفعا للحرج ، ولأنها مأذون في دخولها من جهة العرف. ثم ختم الآية بوعيد مثل ما تقدم الحكم الخامس ، غض البصر وحفظ الفرج عما لا يحل. وتخصيص المؤمنين بهذا التكليف عند من لا يجعل الكفار مكلفين بفروع الإسلام ظاهر ، وأما عند من يجعلهم مكلفين بالفروع أيضا فالتخصيص للتشريف ، أو نزل فقدان مقدمة التكليف منزلة فقدان التكليف وإن كان حالهم في الحقيقة كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها. قال أكثر النحويين :

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الآداب حديث ٤٣ ـ ٤٤. أبو داود في كتاب الآداب باب ١٢٧. النسائي في كتاب القسامة باب ٤٨. الدارمي في كتاب الديات باب ٢٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٣).

١٧٨

«من» للتبعيض والمراد غض شيء من البصر لأن غض كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق. وجوز الأخفش أن تكون «من» مزيدة. وقيل : صلة للغض أي ينقصوا من نظرهم. يقال : غضضت من فلان إذا انقضت من قدره. فالنظر إذا لم يكن من عمله فهو معفو موضوع عنه. وإعراب قوله (يَغُضُّوا) كما مر في سورة إبراهيم في قوله (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا) [الآية : ٣١] قال الفقهاء : العورات على أربعة أقسام : عورة الرجل مع الرجل ، وعورة المرأة مع المرأة ، وعورة المرأة مع الرجل ، وبالعكس. أما الرجل مع الرجل فيجوز أن ينظر إلى جميع بدنه إلا إلى عورته ، وعورته ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليستا بعورة. وعند أبي حنيفة : الركبة عورة. قال مالك : الفخذ ليست بعورة وهو خلاف ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي وميت. فإن كان في نظره إلى وجه الرجل أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه. ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان واحد منهما في جانب الفراش لرواية أبي سعيد الخدري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» (١) ويكره المعانقة وتقبيل الوجه. إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة ، ولا يجوز عند خوف الفتنة ، ولا تجوز المضاجعة أيضا لما مر في الحديث. والأصح أن الذمية لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول (أَوْ نِسائِهِنَ) أما عورة المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة فجميع بدنها عورة لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والإعطاء. ويعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين. وقيل : ظهر الكف عورة. وفي هذا المقام تفصيل : قال العلماء : لا يجوز أن يعمد النظر إلى وجه الأجنبية بغير غرض فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» (٢) فإن كان هناك غرض ولا شهوة ولا فتنة فذاك والغرض أمور منها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفها. روى أبو هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا. ومنها إذا أراد شراء جارية فله

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث ٧٤. الترمذي في الكتاب الأدب باب ٣٨.

(٢) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ٤٣. الترمذي في كتاب الأدب باب ٢٨. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٣. أحمد في مسنده (٥ / ٣٥١ ، ٣٥٣).

١٧٩

أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها. ومنها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملا حتى يعرفها عند الحاجة. ومنها أنه ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. ومنها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إلى بدن الأجنبية للمعالجة كما يجوز للخاتن أن ينظر إلى فرج المختون لأنه محل ضرورة. وكما يجوز أن ينظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة ، وإلى فرجها لتحمل شهادة الولادة إذا لم تكن نسوة ، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. فإن كان هناك شهوة وفتنة فالنظر محظور قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «العينان تزنيان» (١) وقيل : مكتوب في التوراة : النظر يزرع الشهوة في القلب ورب شهوة أورثت حزنا طويلا. ويستثنى منه ما لو وقعت في حرق أو غرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها. وإن كانت الأجنبية أمة فالأصح أن عورتها ما بين السرة والركبة لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الرجل يشتري الأمة «لا بأس أن ينظر إليها إلا إلى العورة وعورتها ما بين معقد إزارها إلى ركبتها» وقيل : إلا ما تبدي المهنة فيخرج منه أن رأسها وعنقها وساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة ، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف. وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة ولا يجوز لمسها ولا لها مسه لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطر.

وقال أبو حنيفة : يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه ، وأما إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وعند أبي حنيفة : عورتها ما لا يبدو عند المهنة ، فإن كانت مستمتعا له كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها جاز له أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج ، وكذا إلى فرج نفسه لما روي أنه يورث الطمس. وقيل : لا يجوز النظر إلى فرجها ، فإن كانت الأمة مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو مزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية. روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» (٢) وأما عورة الرجل مع المرأة فإن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل : جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه. والأصح هو الأول لأن بدن المرأة في نفسه عورة بدليل أنه لا يصح صلاتها مكشوفة البدن ، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٤٢ ، ٣٤٤).

(٢) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب ٣٤.

١٨٠