تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

مدة التكليف. والنذير المنذر أو الإنذار كالنكير. قالت المعتزلة : لو لم يرد الإيمان من الكل لم يكن الرسول نذيرا للكل. وعورض بنحو قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٧٩] والإنذار الموجب للخوف لا ينافي وصفه تعالى بالبركة والخير لأن النظر على السعادات الأخروية التي تحصل بالإنذار على فوات بعض اللذات العاجلة. ثم وصف ذاته بصفاته الأربع أولها (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وفيه تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وفي توابعه من البقاء وغيره. الثانية (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) وفيه رد النصارى واليهود الثالثة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) وفيه رد على سائر المشركين من الثنوية والوثنية وأرباب الشرك الخفي أيضا ، ولكنه صرح بهذا الأخير في الصفة الرابعة وهي قوله (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) قال جار الله : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية والتهيئة لما يصلح له ، أو المراد بالخلق الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق وهو ما فيه من معنى التقدير لئلا يلزم التكرار فكأنه قيل : أوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا ، أو أحدثه فقدره للبقاء إلى أمد معلوم. وعندي أن الكلام محمول على القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس أي قدره في الأزل تقديرا فخلفه في وقته موافقا لذلك التقدير. والبحث فيه بين المعتزلة والأشاعرة كما مر في قوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] ثم صرح بتزييف مذاهب عبدة الأوثان قائلا (وَاتَّخَذُوا) الآية. وحاصله أن إله العالم يجب أن يكون أقدر الأشياء وأشرفها لا أعجزها وأخسها وهو الجماد بل الملائكة والمسيح لأنه لا قدرة لهم على الإيجاد والتصرف في شيء إلا بإذن الله ، فتكون الآية ردا على الكل. وإنما قال في هذه السورة (مِنْ دُونِهِ) لتقدم الذكر مفردا وفي مريم ويس (مِنْ دُونِ اللهِ) [يس : ٧٤ ومريم : ٤٨] لأن ما قبلهما بلفظ الجمع تعظيما فلن يكن بد من التصريح.

وحين فرغ من بيان التوحيد ونفي الأنداد شرع في شبهات منكري النبوة والأجوبة عنها.

فالشبهة الأولى قولهم (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) أرادوا أنه كذب في نفسه أو أرادوا أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى. وقوله (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) نظير قوله تعالى (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي) [النحل : ١٠٣] وقد مر ما قيل في سبب نزوله في النحل فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي أتوهما فانتصب بوقوع المجيء عليه. وعن الزجاج أنه انتصب بنزع الخافض أي أتوا بالظلم والزور. فالظلم هو أنهم نسبوا هذا الفعل الشنيع وهو الافتراء على الله. إلى من هو عندهم في غاية الأمانة والصدق ، والزور وهو انحرافهم عن جادة العدل والإنصاف ، فلو أنصفوا من أنفسهم لعلموا أن العربي لا

٢٢١

يتلقن من العجمي كلاما عربيا أعجز بفصاحته دهماءهم ، ولو استعان محمد في ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم. قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول والزور كذبهم عليه.

الشبهة الثانية قولهم أنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم (اكْتَتَبَها) لنفسه كقولك «استكب الماء» أي سكبه لنفسه وأخذه وقد يظن أن في الكلام قلبا لأنه يقال «أمليت عليه فهو يكتتبها» وأجيب بأن المعنى أراد اكتتابها فهي تقرأ عليه أو كتبت له وهو أمي فهي تملى أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. قال الضحاك : ما يملى عليه بكرة يقرأ عليكم عشية ، وما يملى عليه عشية يقرأ عليكم بكرة ، وقال جار الله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي دائما أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم. فأجاب عن هذه الشبهة بقوله (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) الآية. والمعنى أن العالم بكل سر هو الذي يقدر على الإتيان بمثل هذا الكتاب لفصاحة مبانيه وبلاغة معانيه وبراءته من التناقض والاختلاف واشتماله على الغيوب وعلى مصالح العباد في المعاش والمعاد. قال أبو مسلم : أراد أنه يعلم كل سر خفي ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد والنفاق فهو يجازيكم عليه ، ولأجل هذا الوعيد ختم الآية بذكر المغفرة والرحمة فإنه لا يوصف بهما إلا القادر على العقوبة. وقيل : هو تنبيه على أنهم استحقوا بمكابرتهم العذاب العاجل ولكنه صرفه عنهم برحمته وغفرانه.

الشبهة الثالثة قولهم على سبيل الاستهانة وتصغير الشأن (ما لِهذَا) الزاعم أنه رسول أي ما باله (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد. زعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن هذا المقام فطلبوا أن يكون إنسانا معه ملك يعضده ويساعده في باب الإنذار ، ثم نزلوا فاقترحوا أن يكون مستظهرا بكنز يلقى إليه من السماء حتى لا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فقالوا : لا أقل من أن يكون كواحد من الدهاقين له بستان ينتفع هو أو ننتفع نحن بذلك على اختلاف القراءتين. وانتصب (فَيَكُونَ) لأنه جواب «لو لا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام ومحل (أُنْزِلَ) الرفع كما يقول : لو لا ينزل ولهذا عطف عليه يلقى ويكون مرفوعين (وَقالَ الظَّالِمُونَ) من وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا ، وهم كفار قريش النضر بن الحرث وأمثاله. والمسحور المغلوب على عقله ، والأمثال الأقوال النادرة ، والاقتراحات الغريبة المذكورة فبقوا متحيرين لا يجدون قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق ولا يجدون طريقا إليه. وقد مر مثل هذه الآية في أواسط سورة بني إسرائيل.

٢٢٢

وحين حكى شبههم ومطاعنهم مدح نفسه بما يلجمهم ويفحمهم وهو قوله (تَبارَكَ) أي تكاثر خبر (الَّذِي إِنْ شاءَ) وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا : ثم فسر ذلك الخير بقوله (جَنَّاتٍ) عن ابن عباس : خيرا من ذلك أي مما عيروك بفقده الجنة الواحدة. وعنه في رواية عكرمة خيرا من المشي في الأسواق لابتغاء المعاش. وفي قوله (إِنْ شاءَ) دليل على أنه لا حق لأحد من العباد عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن حصول الخيرات معلق بمحض مشيئته وعنايته. وقيل : «إن» بمعنى «إذ» أي قد جعلنا لك في الآخرة وبنينا لك قصورا. والقصر المسكن الرفيع فيحتمل أن يكون لكل جنة قصر وأن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة. وقال مجاهد : إن شاء جعل لك في الآخرة جنات وفي الدنيا قصورا. عن طاوس عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس وجبرائيل عنده قال جبرائيل : هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك. فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم وقال : إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء ولم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل يجمعها لي في الآخرة فنزلت هذه الآية. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عرض عليّ جبرائيل عليه‌السلام بطحاء مكة ذهبا فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات. وفي رواية أشبع يوما وأجوع ثلاثا فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت. قوله (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها إذ لا يرجون ثوابا ولا عقابا. ويجوز أن يراد ليس ما تعلقوا به شبهة عالية في نفس المسألة بل إنما حملهم على ذلك تكذيبهم بالساعة استثقالا للاستعداد لها. (وَأَعْتَدْنا) جعلناها عدة ومعدة لهم. وقد يستدل به على أن النار مخلوقة ويحتمل أن يقال : هو كقوله (وَنادى) [الأعراف : ٤٨] (وَسِيقَ) [الزمر : ٧٣] قالت الأشاعرة : البنية ليست شرطا في الحياة وتوابعها فأجروا قوله (إِذا رَأَتْهُمْ) على ظاهره وقالوا : لا امتناع في كون النار حية رائية مغتاظة على الكفار. والمعتزلة أوّلوا فقالوا : معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم «دورهم تتراءى وتتناظر» كأن بعضها يرى بعضا على سبيل المجاز. والمعنى إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها ، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. وقال الجبائي : ذكر النار وأراد خزنتها والمراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. قيل : التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعا فكيف قال الله سبحانه (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) وأجيب بأن المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت أي سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ. قاله الزجاج وقال قطرب : علموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا كما قال الشاعر :

٢٢٣

متقلدا سيفا ورمحا

يروى أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجثو على ركبتيه ويقول : نفسي نفسي.

وحين وصف حال الكفار إذا كانوا بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها. عن ابن عباس أنه يضيق عليهم المكان كما يضيق الزج على الرمح. وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط. قال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال جار الله : الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وجاء في الأحاديث «إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا». وقال الصوفية : المكان الضيق قلب الكافر في صدره كقوله (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] ثم إن أهل جهنم مع ما هم فيه يكونون مقرنين في السلاسل والأصفاد وقد مر في آخر سورة إبراهيم. والثبور الهلاك ودعاؤه النداء بوا ثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك وهاهنا إضمار أي يقال لهم (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) إذ هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثمة قول. ومعنى وادعوا ثبورا كبيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير. إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم ، أو لأنهم يجدون بسبب ذلك القول خفة فإن المعذب إذا صاح وبكى وجد بسببه راحة. قال الكلبي : نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات. ثم وبخهم بقوله (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي وعدوها فحذف الرابط للعلم به وليس هذا الاستفهام كقول القائل «السكر أحلى أم الصبر» ولكن الغرض منه التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فتمرد وأبى واستكبر فضربه ضربا وجيعا ويقول على سبيل التوبيخ : هذا أطيب أم ذاك؟ والإضافة في جنة الخلد للتوضيح والتأكيد لا للتمييز فإن الجنة معلوم أن نعيمها لا ينقطع. قالت الأشاعرة : في قوله (وُعِدَ) دلالة على أن الجنة إنما تستحق بحسب الوعد والفضل لا لأجل العمل. وقالت المعتزلة : في قوله (الْمُتَّقُونَ) إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بالتقوى ولذلك أكد بقوله على سبيل التخصيص بسبب تقديم الجار (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أجابت الأشاعرة بأن كونه جزاء ثبت في الأزل ولا عمل هناك. قالت المعتزلة : لا غفران لصاحب الكبيرة لأن الجنة جاءت جزاء للمتقين خاصة فلا يعطى حقهم غيرهم. أجابت الأشاعرة بأنه لم لا يجوز أن يرضى المتقون بإدخال الله أهل العفو الجنة؟ قال جار الله : ذكر

٢٢٤

المصير مع ذكر الجزاء مدحا للثواب ومكانه كقوله (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : ٣١] وفي قوله (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) دلالة على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون إلا في الجنة ، وأما في الدنيا فالراحات فيها مخلوطة بالجراحات. والضمير في (كانَ) لـ (ما يَشاؤُنَ) واستدلت المعتزلة بقوله (عَلى رَبِّكَ) أن ذلك واجب على الله حتى إنه لو لم يفعل استحق الذم. وأجيب بأنه واجب بحكم الوعد لقوله (وَعْداً مَسْؤُلاً) كأن المكلفين سألوا بلسان الحال من حيث تحملوا المشقة الشديدة في طاعته ، أو سألوه حقيقة بقولهم (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] أو سألته الملائكة في قولهم (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر : ٨] أو من حقه أن يسأل ويطلب لأنه حق واجب بحكم الاستحقاق أو بحسب الموعد على المؤمنين.

قوله يوم نحشرهم رجوع إلى قوله (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) وظاهر قوله (وَما يَعْبُدُونَ) أنها الأصنام وظاهر قوله (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ) أنه من عبد من العقلاء كالملائكة والمسيح فلأجل هذا اختلفوا فحمله قوم ومنهم الكلبي على الأوثان ثم قالوا : لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيها الحياة والنور والنطق ، أو أراد أنهم تكلموا بلسان الحال. وقال الأكثرون : إنه عام للأصنام وللمعبودين العقلاء نظيره قوله (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] ثم قالوا : إن لفظة «ما» قد تستعمل في العقلاء ، أو أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبوديهم كما إذا أردت السؤال عن صفة زيد فتقول : «ما زيد» تريد أطويل أم قصير. والسائل الله وحده أو الملائكة بإذنه. وإنما قال أنتم وهم ولم يقل «أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل» ، لأن السؤال وقع عمن تولى فعل الإضلال لا عن نفس الإضلال. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب أن يجيب المعبودون بما أجابوا به حتى يحصل لعبدتهم الإلزام والتوبيخ كما قال لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] وكان القياس أن يقال : ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل هداه إلى الطريق أو للطريق. (قالُوا سُبْحانَكَ) تعجبا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وأنطقوا بـ (سُبْحانَكَ) ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون الموسومون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له ملك أو نبي أو غيرهما ندا ، أو قصدوا تنزيهه من أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئا من الجرم بل إنما سألهم تقريعا للكفار وتوبيخا لهم.

٢٢٥

من قرأ (أَنْ نَتَّخِذَ) بفتح النون فظاهر وهو متعد إلى واحد والأصل أن نتخذ أولياء من دونك فزيدت «من» لتأكيد معنى النفي. ومن قرأ بضم النون فهو متعد إلى اثنين : الأول ضمير نحن ، والثاني من أولياء. ولا تكون «من» زائدة لأنها لا تزاد في المفعول الثاني تقول : ما اتخذت من أحد وليا ولا تقول ما اتخذت أحدا من ولي فـ «من» للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء أو تنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام ، والمعنى إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا. وفي تفسير الآية على القراءة الأولى وجوه : الأول أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك وليا فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ الثاني : ما كان يصح لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال تعالى (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) [النساء : ٧٦] يريد الكفرة عن أبي مسلم : الثالث تقدير مضاف محذوف أي ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلنا. أو قالت الملائكة : أنا وهم عبيد ولا ينبغي لعبيدك أن يدعوا من دون إذنك وليا. الرابع قالت الأصنام : لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادّعاء أنا من المعبودين. وفي الآية دلالة على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله ، والولاية المبنية على ميل النفس وشهوة الطبع مذمومة شرعا. و (الذِّكْرَ) ذكر الله والإيمان به أو القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة. قالت المعتزلة : في قوله (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ) إلخ. دليل بيّن على أن الله عزوجل لا يضل عباده على الحقيقة وإلا كان جواب العبيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم لا أن يقولوا بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وعلى آبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر. فالحاصل أنهم ضلوا بأنفسهم لا بإضلالنا. وقالت الأشاعرة : بل فيه دلالة على أن الله تعالى هو المضل حقيقة كأنهم قالوا : إلهنا أنت الذي أعطيتهم جميع مطالبهم في الدنيا حتى استغرقوا في بحر الشهوات وأعرضوا عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك. أما قوله (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) فالأكثرون على أن البور جمع بائر من البوار الهلاك كعائذ وعوذ وحائل وحول. وحكى الأخفش أنه اسم جمع يقال «رجل بور» أي فاسد هالك لا خير فيه «وامرأة بور» و «قوم بور» كما يقال «أنت بشر» و «أنتم بشر». قالت المعتزلة : صاروا إلى الهلاك بسبب اختيارهم الضلال. وقالت الأشاعرة : أراد أنهم كانوا في اللوح المحفوظ من جملة الهالكين ولو قيل : إنه فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر صح القول بالقدر أيضا.

قوله (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) التفات لأجل الإلزام والفاء فيه تدل على شرط مقدر كأنه قال :

٢٢٦

إن زعمتم أنهم آلهتكم فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة. أو بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا على اختلاف قراءتي الخطاب والغيبة. قال جار الله : الباء في الأول كقوله (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) والجار والمجرور بدل من كاف الخطاب كأنه قيل : فقد كذبوا بما تقولون. وفي الثاني كقولك «كتبت بالقلم». (فَما تَسْتَطِيعُونَ) أنتم يا كفار أو فما يستطيع آلهتكم على القراءتين صرف العذاب عنكم. وقيل : الصرف التوبة لأنها تصرف العاصي عن فعله. وقيل : الحيلة من قولهم «إنه ليتصرف» أي يحتال. ثم ذكر وعيد كل ظالم بقوله (وَمَنْ يَظْلِمْ) الآية. فاستدلت المعتزلة به على وعيد الفاسق وخلوده وذلك أن الفسق ظلم لقوله (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ١١] والإنصاف أنه لا دلالة في الآية على مطلوبهم لأن «من» ليست من صيغ العموم عند بعضهم ، ولئن سلم فلعل المراد الأكثر أو أقوام بأعيانهم لقوله (مِنْكُمْ) ولئن سلم فلعله مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط عند المعتزلة بعدم التوبة ، ولو سلم الجميع فإذاقة العذاب لا تدل على الخلود. ثم بين بقوله (وَما أَرْسَلْنا) الآية. أنه لا وجه لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام لأن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله. قال الزجاج : الجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف لأن في قوله (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دليلا عليه نظيره (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] أي وما منا أحد. وقال الفراء : المحذوف هو الموصول والتقدير : إلا من انهم. وقال ابن الأنباري : المحذوف هو الواو بعد إلا فتكون الجملة حالا كقوله (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] قوله (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) قال الكلبي والفراء والزجاج : إن هذا في رؤساء المشركين كأبي جهل وغيره وفي فقراء الصحابة كأنه إذا رأى الشريف الوضيع وقد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه دليله قوله تعالى (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] وعن ابن عباس والحسن أنه في أصحاب البلاء والعافية يقول أحدهم : لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق والعلم والعقل والرزق والأجل وغير ذلك يؤيده ما روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة وقرأ هذا الآية» وقال آخرون : إنه احتجاج عليهم في اختصاص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم لهم العداوة وأنواع الأذى ، وابتلى المرسل إليهم بالتكليف وبذل النفس والمال وصيرورتهم تابعين خادمين بعد أن كانوا متبوعين مخدومين. قالت الأشاعرة : في هذا الجعل إشارة إلى مذهبنا في القدر. وقال الجبائي : هذا

٢٢٧

الجعل بمعنى التعريف كما يقال فيمن بين أن فلانا لص إنه جعله لصا. قال في الكشاف : موقع (أَتَصْبِرُونَ) بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] قلت : أراد أن كلا من الابتلاء والفتنة يستدعي التمييز فيحسن الاستفهام بعده أي يفتنكم ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أم لا ، ولعل الأظهر أن الاستفهام غير متعلق بالفتنة وإنما هو مستأنف للوعيد كقوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] ويؤيده قوله (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) عالما بمن صبر ومن لا يصبر فيجازي كلا منهم بحسب ذلك. وقيل : في الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما عيروه به من الفقر فقد جعل الأغنياء فتنة للفقراء. وقيل : جعلناك فتنة لهم حين بعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله ، ولو كنت غنيا صاحب كنز كما اقترحوا لم يظهر الطائع من المخلص. وقالت الصوفية : أتصبرون يا معشر الأنبياء على ما يقولون ويا معشر الأمم عما يقولون والله أعلم.

تم الجزء الثامن عشر ، ويليه الجزء التاسع عشر وأوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ

لِقاءَنا ...)

٢٢٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء التاسع عشر من أجزاء القرآن الكريم

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ

٢٢٩

كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠))

القراآت : تشقق بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل وكذلك في سورة «ق» : عاصم وحمزة وعلي وخلف وأبو عمرو. والآخرون بالتشديد للإدغام. وننزل من الإنزال الملائكة بالنصب : ابن كثير. الباقون وينزل ماضيا مجهولا من التنزيل (الْمَلائِكَةُ) بالرفع. (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ) بفتح ياء المتكلم : أبو عمرو (قَوْمِي اتَّخَذُوا) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. (وَثَمُودَ) بغير تنوين في الحالين : حمزة وسهل ويعقوب وحفص. الآخرون بالتنوين للمشاكلة ، أو بتأويل الحي لا القبيلة ، أو لأنه اسم الأب الأكبر. الريح على التوحيد : ابن كثير (بُشْراً) مذكور في «الأعراف». ميتا بالتشديد : يزيد ونسقيه بفتح النون : المفضل والبرجمي الباقون بضمها.

الوقوف : (رَبَّنا) ط (كَبِيراً) ه ط (مَحْجُوراً) ه (مَنْثُوراً) ه (مَقِيلاً) ه (تَنْزِيلاً) ه (لِلرَّحْمنِ) ط (عَسِيراً) ه (سَبِيلاً) ه (خَلِيلاً) ه (إِذْ جاءَنِي) ط لأن ما بعده من أخبار الله تعالى ظاهرا ، ويحتمل أن يكون من تتمة حكاية كلام الظالم. (خَذُولاً) ه (مَهْجُوراً) ه (الْمُجْرِمِينَ) ه ط (وَنَصِيراً) ه (واحِدَةً) ج على تقدير فرقنا إنزاله كذلك أي كما ترى لنثبت وإن وصلت وقفت على (كَذلِكَ) والتقدير جملة واحدة كذلك الكتاب المنزل وهو التوراة ، ثم أضمرت فعلا أي فرقناه لنثبت. (تَرْتِيلاً) ه (تَفْسِيراً) ه ط لأن ما بعده مبتدأ (جَهَنَّمَ) لا لأن ما بعده خبر (سَبِيلاً) ه (وَزِيراً) ه ج للآية ولفاء العطف (بِآياتِنا) ط للفاء الفصيحة أي فذهبا وبلغا فعصوهما (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) ه ط لأن (قَوْمَ نُوحٍ) منصوب بمحذوف أي وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم (آيَةً) ط لأن ما بعده مستأنف (أَلِيماً) ج للآية ولاحتمال عطف (عاداً) على الضمير في (جَعَلْناهُمْ) واحتمال انتصابه بمحذوف أي وأهلكنا عادا (كَثِيراً) ه (الْأَمْثالَ) ز فصلا بين الأمرين المعظمين مع عطف الجملتين المتفقتين (تَتْبِيراً) ه (السَّوْءِ) ط (يَرَوْنَها) لا للعطف مع الإضراب. (نُشُوراً)

٢٣٠

ه (هُزُواً) ط لحق المحذوف أي يقولون أهذا الذي (رَسُولاً) ه (عَلَيْها) ط لانتهاء مقولهم (سَبِيلاً) ه (هَواهُ) ط (وَكِيلاً) ه لا للعطف (يَعْقِلُونَ) ه ج لابتداء النفي (سَبِيلاً) ه (الظِّلَ) ج لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع اتحاد المقصود (ساكِناً) ج للعدول مع العطف (دَلِيلاً) ه (يَسِيراً) ه (نُشُوراً) ه (رَحْمَتِهِ) ج للعدول (طَهُوراً) ه ج لتعلق اللام (كَثِيراً) ه (لِيَذَّكَّرُوا) ز والوصل أولى للفاء (كُفُوراً) ه.

التفسير : هذه شبهة رابعة لمنكري النبوّة وإنهم في قول الكلبي أبو جهل والوليد وأضرابهما ، وتقريرها أن الحكيم لا بد أن يختار في مقصده طريقا يكون أسهل إفضاء إليه ، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا على صدق محمد أعون على المطلوب ، فلو كان محمد صادقا لكان مؤيدا بإنزال الملائكة الشاهدين بصدقه. قال الفراء : معنى (لا يَرْجُونَ) لا يخافون ، والرجاء في لغة تهامة الخوف ، وقال غيره : الرجاء على أصله وهو الأمل إلا أن الخوف يلزمه في هذه الصورة فإن من لا يرجو الجزاء والمعاد لا يخاف العقاب أيضا. واللقاء الوصول لا بمعنى المكان والجهة فإنه تعالى منزه عن ذلك بل بمعنى الرؤية عند الأشاعرة ، أو على إرادة الجزاء والحساب عند المعتزلة ، وقد مر في أوائل البقرة في قوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] ولعل تفسيره بلقاء الجزاء أنسب في هذا المقام لئلا يناقض قوله : (أَوْ نَرى رَبَّنا) أي جهرة وعيانا فيأمرنا بتصديقه واتباعه اللهم إلا أن يراد : إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة اقترحوا رؤيتنا في الدنيا. قال جار الله : لا يخلو إما أن يكونوا عالمين بأن الله عزوجل لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء وإنه تعالى لا يصح أن يرى وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون ، وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم كما فعل قوم موسى حين قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥]. ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم بقوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. ثم نسبهم إلى الإفراط في الظلم بقوله (وَعَتَوْا) ثم وصف العتوّ بالكبر. قال جار الله : اللام جواب قسم محذوف وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفيها معنى التعجب كأنه قال : ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوّهم! وقال في التفسير الكبير : تحرير هذا الجواب من وجوه أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد تمت دلالة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح أمثال هذه الآيات إلا محض الاستكبار والاستنكار. وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ، ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك

٢٣١

وردّ الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب وتصديقه لرسوله لا يستفيدون علما أزيد من تصديق المعجزات ، لا فرق بين أن يقول النبي اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه ، وبين أن يقول إن كنت صادقا فصدّقني فتعيين أحد الطرفين محض العناد. ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على فعل مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي. وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداها واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت بأنهم ليسوا مستكبرين عاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت إنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم. وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون. واستدلت الأشاعرة بقوله : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) على أن رؤية الله مرجوّة. واستدلت المعتزلة بقوله (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا وَعَتَوْا) أن اقتراح الرؤية مستنكر ولا يخفى ضعف الاستدلالين. وانتصب (يَوْمَ يَرَوْنَ) بإضمار «اذكر» فيكون (لا بُشْرى) مستأنفا أو بما دل عليه (لا بُشْرى) أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى بالجنة وبرؤية الحق. (يَوْمَئِذٍ) للتكرير وقوله (لِلْمُجْرِمِينَ) ظاهر في موضع الضمير أو عام فيتناول هؤلاء لعمومه ، ولأجل هذا العموم استدلت المعتزلة به على القطع بوعيد كل مجرم وإن كان من أهل القبلة ، وحمل الأشاعرة الجرم على الكفر.

أما قوله : (حِجْراً مَحْجُوراً) فإنها كلمة يتلفظ بها عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة ، يضعونها موضع الاستعاذة يقول الرجل للرجل : تفعل كذا؟ فيقول : حجرا. وقد ذكره سيبويه في باب المصادر التي ترك إظهار فعلها نحو «معاذ الله وعمرك الله ومعناه منعا» أي أسأل الله أن يمنع ذلك منعا كما أن المستعيذ طالب من الله عزوجل أن يمنع المكروه. ووصفه بالمحجور للتأكيد كما يقال «شعر شاعر وجد جده». والأكثرون على أن القائلين هم الكفار إذا رأوا الملائكة عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فيقولون ما كانوا يقولونه عند نزول كل شدّة. وقيل : هم الملائكة ومعناه حراما محرّما أي جعل الله الجنة والغفران أو البشرى حراما عليكم. يروى أن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم : حجرا محجورا. وقال الكلبي : الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين : حجرا محجورا. وقال عطية : إذا كان يوم القيامة تأتي الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم : بشرونا فيقولون : حجرا محجورا. ثم أخبر عن وعيد آخر لهم وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالا لها

٢٣٢

صورة الخير من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف وأمثالها مع عدم ابتنائها على أساس الإيمان ، فمثلت حالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها بحيث لم يترك منها أثرا وإلا فلا قدوم ولا ما يشبه القدوم ، ولتنزهه سبحانه عن الجسمية وصفاتها. قال أهل المعاني : القادم إلى الشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في القدوم فأطلق اسم المسبب على السبب مجازا. وقيل : أراد قدوم الملائكة بأمره إلى موضع الحساب في الآخرة. والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وقال مقاتل : إنه الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب وفي أمثالهم أقل من الهباء شبه عملهم بالهباء في قلته وحقارته. وأكد المعنى بوصف الهباء بالتناثر لأنك تراه منتظما مع الضوء حتى إذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب. والمراد : جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ولام الهباء واو بدليل الهبوة بمعناه. ثم ميز حال الأبرار عن حال الفجار بقوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ) ووجه صحة التفضيل ما بين في قوله : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) أو التفاوت بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه ، أو هو على سبيل الفرض أي لو كان لهم مستقر كان مستقر أهل الجنة خيرا منه. والمستقر مكان الاستقرار والمقيل المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والاستمتاع بمغازلتهنّ وملامستهنّ كحال المترفين في الدنيا ، ولا نوم في الجنة وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه ، وفي اختيار لفظ الأحسن دون أن يقول «خير مقيلا» رمزا إلى التحسنات الحاصلة في مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور وغير ذلك. قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وعن سعيد بن جبير : إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم كقدر ما بين صلاة الغداة إلى نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وقال مقاتل : يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة. وحاصل الآية أن أصحاب الجنة من المكان في أطيب مكان ومن الزمان في أحسن زمان. ثم أراد أن يصف أهوال يوم القيامة فقال (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) أي واذكر يوم تتفتح السماء بسبب غمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة فينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. قال الفراء : الباء بمعنى «عن» لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام كما يقال : انشقت الأرض عن النبات أي ارتفع التراب عنه عند طلوعه ، وقال القاضي : لا يمتنع أن يجعل الله تعالى الغمام بحيث يشقق السماء باعتماده عليها. عن مقاتل : تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وكذلك تتشقق سماء

٢٣٣

سماء ، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ، ثم ينزل الرب تعالى. قال العلماء : هذا نزول الحكم والقضاء لا نزول الذات. وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وصغر حجم الأرض بالقياس إلى السماء فقالوا : لا يبعد أن يوسع الله الأرض عرضا وطولا بحيث تسع كل هؤلاء. ومن المفسرين من قال : الملائكة يكونون في الغمام وهو سترة بين السماء والأرض ، والله تعالى فوق أهل القيامة. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم. والظاهر أن اللام في الغمام للجنس. ومنهم من قال : هي للعهد والمعهود قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وقيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة كما كان لبني إسرائيل في التيه.

ومعنى (تَنْزِيلاً) توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه. قال الزجاج (الْحَقُ) صفة الملك أي الملك الثابت الذي لا يزول (لِلرَّحْمنِ) يومئذ ونظيره (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] ويجوز أن يكون يومئذ تكريرا لقوله (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) وإعرابهما واحد. والفائدة في تخصيص ذلك اليوم أن يعلم أنه لا مالك فيه سواه لا بالصورة ولا في الحقيقة فيخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل رقاب الجبابرة. قالت الأشاعرة : هاهنا لو وجب على الله يومئذ الثواب لاستحق الذم بتركه وكان خائفا أن لا يفعل فلم يكن له الملك على الإطلاق. وأيضا لو كان العبد مالكا للثواب لم يكن الله تعالى مالكا مطلقا بل يكون عبدا ضعيفا لا يقدر على أن لا يؤدي ما عليه من العوض ، أو فقيرا محتاجا إلى أن يدفع الذم عن نفسه بأداء ما عليه؟ وكان ذلك اليوم يوما عسيرا على الكافرين لا على المؤمنين. واللام في (الظَّالِمُ) ظاهر الاستغراق والشمول أو للجنس. وعن ابن عباس أنه للعهد وذلك أن الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط وكان يكثر مجالسة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتخذ ضيافة ودعا إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى يأتي بالشهادتين ففعل ، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال : صبأت يا عقبة؟ قال : لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي. فقال : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه ولم تبزق في وجهه. فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فقتل يوم بدر أمر عليا رضي‌الله‌عنه بقتله. وفي روايات الشيعة أن الظالم هو رجل بعينه وأن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلانا بدلا من اسمه وذكروا فاضلين من الصحابة وفيه بعد ، لأن تغيير القرآن كفر.

٢٣٤

والعض على اليدين كناية عن الغيظ والحسرة لأنه من لوازم الغيظ والتحسر غالبا ونظيره «سقط في يده وأكل من بنانه» وأمثال ذلك. وقال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. قال جار الله : تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب به طرق الضلالة والهوى ، أو أراد أني كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط فليتني حصلت لنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وفلان كناية عن الإعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس ، فإن أريد بالظالم عقبة فالمعنى ليتني لم أتخذ أبيا خليلا فكنى عن اسمه ، وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم فجعله كناية عنه. قلت : زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال : جاءني فلان ولكن يقال : قال زيد جاءني فلان. لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم ولذلك جاء في كلام الله تعالى : يقول يا ليتني إلخ. والذكر ذكر الله والقرآن أو موعظة الرسول أو نطقه بشهادة الحق وعزمه على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله الذي أضله كما يضله الشيطان ، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو إشارة إلى إبليس وأنه هو الذي حمله على أن صار خليلا لذلك المضل وخالف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خذله ، أو أراد الجنس فيدخل فيه كل من تشيطن من الجن والإنس.

ثم إن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكاهم إلى الله عزوجل وقال (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي) يعني قريشا (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن أبي مسلم أن المراد : وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة. روي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه». وقيل : هو من هجر إذا هذى. والجار محذوف أي جعلوه مهجورا فيه. وعلى هذا فله معنيان : أحدهما أنهم زعموا أنه كلام لا فائدة فيه. والثاني أنهم كانوا إذا سمعوه لغوا فيه. وجوز الكشاف أن يكون المهجور مصدرا بمعنى الهجر كالميسور والمجلود أي اتخذوه هجرا. سؤال : هذا النداء بمنزلة قول نوح (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٥] فكيف صارت شكاية نوح سببا لحلول العذاب بأمته ولم تصر شكاية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم سببا لذلك؟ الجواب أن الكلام بالتمام ، وكان من تمام كلام نوح (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] ولم يكن كلام رسولنا إلا مجرد الشكاية ولم يقتض الدعاء عليهم وذلك من غاية شفقته على الأمة وإن بلغ إيذاؤهم

٢٣٥

إياه الغاية «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» (١) هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا) بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) إلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيرا لك على أعدائك. ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم : هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعا. ومعنى التنزيل هاهنا التعدية فقط لقرينة قوله (جُمْلَةً) خلاف ما تقرر في أكثر المواضع من إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله (لِنُثَبِّتَ) إلخ. وتقريره من وجوه أحدها : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن قارئا كاتبا بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجما في عشرين سنة. وعن ابن جريج : في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو. وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لا بد فيه من التدرج. وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة. ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة. وخامسها أن نزوله مفرّقا يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعه ، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز. وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها. وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل.

وللترتيل معان منها : أنه قدره آية بعد آية ودفعة عقيب دفعة. ومنها التأني في القراءة ومعنى (وَرَتَّلْناهُ) أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءته : لا يسرد كسردكم. هذا لو أراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل الأسنان أي تفليجها. يقال : ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة. ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله : (وَلا

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٣٤. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ١١. أحمد في مسنده (٣ / ١٢٠) بلفظ «ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ...».

٢٣٦

يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة الذي كأنه مثل في البطلان إلا ونحن نأتي بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. قال جار الله : لما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير الكلام كيت وكيت كما قيل : معناه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يراد (وَلا يَأْتُونَكَ) بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت صفته وحاله أن ينزل معه ملك أو يلقى إليه كنز أو ينزل عليه القرآن جملة إلا أعطيناك نحن ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا وما هو أحسن بيانا لما بعثت به ، ومن جملة ذلك تنزيل القرآن مفرقا منجما فإن ذلك أدخل في الإعجاز كما مر ، ثم أوعد هؤلاء الجهلة بأنهم شر مكانا من أهل الجنة والبحث عنه نظير ما مر في صفة أهل الجنة خير مستقرا. قال جار الله : كأنه قيل لهم : إن الذي يحملكم على هذه الأسئلة هو أنكم تضللون سبيله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحتقرون مكانه ومنزلته ، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوهكم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث : ثلث على الدواب وثلث على وجوههم وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا». ثم ذكر طرفا من قصص الأولين على عادة افتنانه في الكلام تنشيطا للأذهان وتسلية لنبيه كأنه قال : لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فردّ بل آتينا موسى التوراة وقويناه بأخيه ومع ذلك كذب ورد. ومعنى الوزير تقدم في «طه». والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما (اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) إن حملناه على تكذيب آيات الإلهية فظاهر ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ ماض والمعنى على الاستقبال على عادة إخبار الله تعالى. ويجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا فدمرناهم ، وعلى هذا فلا حذف. والتدمير الإهلاك (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) بأن كذبوه وكذبوا من قبله من الرسل صريحا كأنهم لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة ، أو لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب كلهم (أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ) أي إغراقهم وقصتهم (لِلنَّاسِ آيَةً) محل اعتبار (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) وهم قوم نوح أو لكل من سلك سبيلهم في التكذيب. وقصة عاد وثمود مذكورة مرارا ، وأما الرس فعن أبي عبيدة أنه البئر غير المطوية ، والقوم كانوا من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش ، بعث الله عزوجل إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل : الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود. وقيل : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم الله بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من

٢٣٧

الطير سميت بذلك لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة. ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل : هم أصحاب الأخدود والرس عند العرب الدفن يقال : رس الميت : إذا دفن وغيب في الحفيرة. وقيل : الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وستجيء القصة في سورة يس. وعن علي رضي‌الله‌عنه أنهم قوم يعبدون شجرة الصنوبر رسوا نبيهم في الأرض. وقيل : هم قوم كانت لهم قرى على شاطىء نهر يقال له الرس من بلاد المشرق ، فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا ثم حفروا بئرا فرسوه فيها وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكان عامة قومهم يسمعون أنين نبيهم يقول : إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي فعجل قبض روحي حتى مات ، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقدا وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص. وروى ابن جرير بإسناده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا عبد أسود ، ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجرا ضخما ، فكان ذلك العبد يحتطب فيتشري له طعاما وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه وكان كذلك ما شاء الله فاحتطب يوما فلما أراد أن يحملها وجد نوما فاضطجع فضرب الله على آذانه سبع سنين. ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين ، ثم هب فاحتمل حزمته وظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته فاشترى طعاما وشرابا وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدا ، وكان قومه استخرجوه فآمنوا به وصدقوه وذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون : لا ندري حاله حتى قبض الله تعالى النبي وقبض ذلك الأسود فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة. قلت هذه الرواية إن صحت فلا مدخل لها في المقصود فإن المقام يقتضي أن يكون قوما كذبوا نبيهم فأهلكوا لأجل ذلك.

أما قوله (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ) فالمشار إليه ما ذكر من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ومثله قول الحاسب «فذلك كذا» أي فما ذكر من الأعداد مجموعها كذا (وَكُلًّا) من الأمم والقرون (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) بينا له القصص العجيبة ليعتبروا ويتعظوا (وَكُلًّا تَبَّرْنا) أهلكنا أشنع الإهلاك حين لم ينجع فيهم ضرب المثل. والتتبير التفتيت والتكسير. و (كُلًّا) الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو أنذرنا أو حذرنا (كُلًّا) الثاني منصوب بـ (تَبَّرْنا) لأنه ليس بمشتغل عنه بضميره. والضمير في (وَلَقَدْ أَتَوْا) لقريش ، والقرية سدوم من قرى قوم لوط وكانت خمسا ، ومطر السوء

٢٣٨

الحجارة. (أَفَلَمْ يَكُونُوا) في مرات مرورهم على تلك القرية في متاجرهم إلى الشام (يَرَوْنَها بَلْ كانُوا) قوما كفروا بالبعث لا يتوقعون نشورا وعاقبة فمن ثم لم ينظروا إلى آثار عذاب الله نظر عبرة وادكار. (وَ) من جملة كفرهم وعنادهم أنهم (إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا) محل هزؤ. ثم فسر ذلك الاستهزاء بأنهم يقولون مشيرين إليه على سبيل الاستحقار. هذا الذي بعثه الله حال كونه رسولا بزعمه. ويجوز أن يكون تسميته رسولا استهزاء آخر من حيث إنه تسليم وإقرار في معرض الجحود والإنكار. وفي هذا جهل عظيم لأنهم إن استحقروا صورته فإنه أحسنهم خلقا وأعدلهم مزاجا مع أنه لم يكن يدعي التميز بالصورة ، وإن استهزؤا بالمعنى فبه قد وقع التحدي بظهور المعجز عليه وقامت الحجة عليهم فهم أحق بالاستهزاء منه حين أصروا على الباطل بعد وضوح البرهان على الحق ، ولقد شهد عليهم بمضمون هذا التقرير ابن أخت خالتهم إذ قالوا (إِنْ كادَ) هي مخففة من الثقيلة واللام في (لَيُضِلُّنا) هي الفارقة كأنهم سلموا أنه لقوة العقل وسطوع الحجة شارف أن يغلبهم على دينهم ويقلبهم عن طريقتهم لو لا فرط لجاجهم وصبرهم على عبادة آلهتهم. أطلقوا المقاربة أوّلا ثم قيدوها بلو لا الامتناعية ثانيا ، وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذل قصارى مجهوده في دعوتهم حتى شارفوا على الإيمان بزعمهم. وحين وصفوه بالإضلال والمضل لا بد أن يكون ضالا في نفسه فكأنهم وصفوه بالضلال فلا جرم أوعدهم الله على ذلك بقوله (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إلى آخر الآية. وإنما يرون العذاب عند كشف الغطاء عن بصر البصيرة. ثم بين إنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع هوى النفس فقال معجبا لرسوله : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول : علمت منطلقا زيدا. ثم نفى أن يكون هو حافظا عليهم كقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ١٠٧] (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] قال الكلبي : نسختها آية القتال. عن سعيد بن جبير : كان الرجل يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخد آخر. ثم أضرب عن ذمهم باتخاذ الهوى إلها إلى نوع آخر أشنع في الظاهر قائلا : أم يحسب وهي منقطعة ومعناه «بل» أيحسب وخص أكثرهم بالذكر إما لصون الكلام عن المنع على عادة الفصحاء العقلاء ، وإما لأن منهم من كان يعرف الحق إلا أن حب الرياسة يحمله على الخلاف. وإنما نفى عنهم السماع والعقل لانتفاء فائدتهما وأثرهما. وباقي الآية تفسيرها مذكور في آخر الأعراف في قوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأنعام : ١٧٩] قال جار الله : جعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها التي تعلفها وتعرف المحسن من المسيء وتجذب المنافع وتجتنب المضارّ وتهتدي للمراعي والمشارب ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون أعظم المنافع وهو الثواب ، ولا يتقون أشد المضارّ وهو العقاب ، ولا يهتدون للحق الذي هو

٢٣٩

المرتع الهنيّ والمشرب الرويّ ، قلت : ويحسن أيضا أن يذكر في وجه التفضيل أن جهل الأنعام بسيط غير مضر وجهل هؤلاء مركب مضر. ومنهم من قال : إن الأنعام تسبح لله تعالى بخلاف الكفار.

ثم ذكر طرفا من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الأنعام فأولها الاستدلال من أحوال الظل والرؤية إما بمعنى البصر فالمراد : ألم تر إلى صنع ربك أو ألم تر إلى الظل كيف مده ربك. وإما بمعنى العلم وهو ظاهر وذلك أن الظل متغير ولكل متغير موجد وصانع. والخطاب لكل من له أهلية النظر والاستدلال. وللكلام في تفسير الآية مجال إلا أن ملخص الأقوال فيه اثنان : الأول أن الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة كالكيفيات الحاصلة داخل السقوف الكاملة وأفنية الجدران وهو أعدل الأحوال ، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوّته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين ، ولذلك وصف الجنة به في قوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] ثم إن الناظر في الظل إلى الجسم الملون كأنه لا يشاهد شيئا سوى الجسم واللون ، فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم زال ظله فيظهر للعقول أنه كيفية زائدة على ما شاهده أوّلا. فمعنى الآية : ألم تر إلى عجيب صنع ربك (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) أي جعله ممتدا منبسطا على الأجسام. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) لاصقا بكل مظل. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ) على وجوده (دَلِيلاً) فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودا ، لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها : (ثُمَّ قَبَضْناهُ) أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيرا فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الإظلال في جانب المغرب شيئا بعد شيء ، وفي القبض على هذا الوجه منافع جمة. الثاني أنه سبحانه لما خلق السماء والأرض ألقت السماء ظلها على الأرض ممدودا منبسطا ، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس وجعلها دليلا على ذلك الظل ، لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من حيث إنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص ، ثم لقبض الظل معنيان : أحدهما : انتهاء الإظلال إلى غاية ما من النقصان بالتدريج ، وثانيهما قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة. وقوله (إِلَيْنا) يؤكد هذا المعنى الثاني فيكون قوله (يَسِيراً) كما قال (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤] الاستدلال الثاني من أحوال الليل والنهار شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر ، والسبات الراحة قاله أبو مسلم. وذلك أن النوم سبب الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه عند طائفة ، وعلى هذا فالنشور بمعنى الانتشار والحركة. قال جار الله : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة ، وعلى هذا

٢٤٠